كتبت
في مقال سابق أنه لن تكون للحرب ضد الارهاب،
التي يزمع المجتمع الدولي تشكيل تحالف
دولي بشأنها، نتائج تذكر، وربما ستكون
لها نتائج عكسية، إن لم تترافق بمواجهة
المشاكل العالقة الخطيرة التي تزعزع حياة
واستقرار المنطقة منذ عقود، والتي لا
يشكل الارهاب إلا أحد طفراتها وطفوحاتها
الخارجية.
وأخطر
هذه المشاكل على الإطلاق هي إخراج الشعوب
كليا من الحلبة وتهميشها الشامل في حلقة
القرار، وحرمانها من أي مشاركة في تقرير
مصيرها.
وقد
كان لهذه العملية آثار كارثية على كل
المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية
والوطنية الامنية والاقتصادية، هي التي
تشكل اليوم البيئة المولدة، وليس الحاضنة
فقط، لكل ما نشهده اليوم من اختلاجات
وتوترات وعنف.
وفي
كل ذلك لم يكن نصيب السياسات الغربية
ضيئلا من المسؤولية.
فليس
هناك شك في أن امراء الحرب في سورية
والعراق، من دون حصر، قد نجحوا في اختطاف
الدول بمقدار ما نجحوا في تجنيده من مرتزقة
في الداخل، من بين أؤلئك المستعدين لبيع
ولائهم بمقابل، لكن أيضا بمقدار ما سمح
لهم الغرب باستخدامه من القسوة والعنف
ضد شعوبهم.
ومع
ذلك لا ينبغي أن ننخدع بالمظاهر.
إن
عملية إخضاع الشعوب وتقييدها من قبل
عصابات محلية معززة اقليميا ودوليا لم
تتم في الفراغ، أو كردة فعل، وانما جاءت
في اطار خطة هدفت إلى دحر الحركات
الشعبية التي بدت في بعض مراحل التاريخ
الحديث حاملة لتهديدات كبيرة لنفوذ الغرب
ومواقعه، وسحقها إلى أطول فترة ممكنه،
لدرء اي مخاطر في المستقبل، وتامين اسرائيل
وابار النفط والنظم الدموية المتعاونة
والتابعة.
ولا
نبالغ عندما نقول إن ما نعيشه اليوم هو
نتائج فشل سياسات الغرب وإدارته لشؤون
المنطقة الشرق أوسطية منذ نهاية الامبرطورية
العثمانية، عندما قضى على المملكة العربية
وقسم المنطقة إلى مناطق نفوذ علنية، ورفض
أي مشروع لتعاون دولها وشعوبها، ثم قرر
القضاء بأي ثمن على الحركة العربية
الشعبيىة التي نشطت في الخمسينات والستينات،
خشية أن تهدد التغيرات السياسية المحتملة،
بما في ذلك نوعا من الاتحاد العربي، مواقع
الهيمنة الغربية وأمن اسرائيل، وعمد إلى
تشجيع قيام نظم عسكرية مهمتها الرئيسية
ضبط الأوضاع وكبح جماح الشعوب وتعقيمها
ضد أي نزوع للتحرر أو التمرد أو الاحتجاج.
هذا
ماحصل في مصر وسورية والعراق، ومتأخرا
في فلسطين، وما انعكس في تراجع كبير لنزعات
الاصلاح السياسي والاجتماعي في بلدان
الخليج، والانكفاء على القيم والتقاليد
والابقاء على أنماط الحكم القرسطوية.
وفي
أثناء هذه الحقبة الطويلة التي وضعت فيها
الشعوب العربية في القفص وأغلقت عليها
الأبواب وأوكل إلى نظم القمع البوليسية
العنيفة أمر ترويضها وتسييرها بالعصا،
نشطت شعوب أخرى، وبرزت بقوة إلى الساحة
الشرق اوسطية، التي كادت أن تخلو تماما
من أي قوة هيمنة محلية غير القوة الاسرائيلية.
ومن
النافل القول إن أهم هذه الشعوب كانت
الشعوب الايرانية، التي نجحت في نهاية
المطاف، وبالرغم مما وضع أمامها من حواجز
وعقبات، في كسر دفاعات النظام الاقليمي
الغربي القائم.
ومن
خلال العمل الدعائي الثوري أولا ثم
الايديولوجي والسياسي ومنه تبني التضامن
مع القضية الفلسطينية، ثانيا، و تشكيل
الأذرع العسكرية التابعة لطهران، والمستندة
إلى تعبئة الإرث المذهبي والطائفي، وفي
ما وراء ذلك، استغلال القرابة الايديولوجية
مع الحركات الاسلامية السنية ثالثا،
استطاعت طهران أن تخلق نظاما نقيضا من
داخل النظام الاقليمي الشرق أوسطي هذا،
وتتحكم بأجزاء رئيسية منه وتهدد بتقويضه
في أي وقت.
ولأن
الغرب الوصي على النظام الاقليمي الشرق
أوسطي لم يعرف أن يرد بطريقة عقلانية،
وتغلبت أجندة حماية اسرائيل وحدها على
أي أجندة أخرى في دفاع الغرب عن الأوضاع
الشرق أوسطية القائمة، ارتكب المسؤولون
الغربيون والامريكيون بشكل خاص أكبر
خطيئة في تاريخ السياسة المحلية والاقليمية،
عندما قرروا، بمناسبة التدخل لاسقاط نظام
صدام حسين، تدمير الدولة العراقية،
مقدمين بذلك أكبر هدية لخروج طوفان الثورة
الخمينية، ومعه كل تراث الثقافة الشيعية
وأحلامها وطموحاتها ومظلومياتها، وهي
الثورة التي تقودها بالاصل النخبة الدينية،
عن حدوده، ونقل المعركة إلى داخل الساحات
العربية نفسها وتحقيق انتصارات ومكاسب
استثنائية.
ولأن
النخب الحاكمة في البلاد العربية نسيت
مع الزمن مسؤولياتها تجاه شعوبها ودولها،
وأصبحت، مستقوية بحماية الغرب أو روسية
أو ايران، وبالتحالف مع أي منها أو كلها
لافرق، تتصرف تصرف الأسر الحاكمة الملكية
في القرون الوسطى، وتعامل الشعوب كإقطاعات
خاصة، وتتعامل مع مجتمعاتها بوصفها حشدا
من العبيد والأقنان التابعين لها، وجدت
الثورة الايرانية ظروفا لم تكن تحلم بها
لتقوم بطفرة غيرت مسارها الأول تماما،
فتحولت من ثورة تحرر للشعب الايراني من
النظم الدموية، وتضامن مع الشعوب العربية
المقموعة، وفي مقدمها الشعب الفلسطيني،
إلى مشروع امبرطورية أو خلافة جديدة تقاتل
من أجل أن تضم تحت جناحها أطراف الشرق
الأوسط الاسلامي أو المسلم كله.
وكانت
أهم أداة أرادت أن تستخدمها لتحقيق هدفها
هي تعبئة الأقليات الشيعية المنتشرة في
معظم بلاد المشرق والحاقها بها لتشكيل
مجموعات ضغط وتهديد وتقويض للنظم العربية
التي تقف في طريق طموحها.
وعلى
ضوء هذه الطفرة، تراجعت حظوظ التيارات
الديمقراطية والمعتدلة في طهران، تلك
التي مثلها الرئيس الخاتمي واصحابه من
الاصلاحيين أو المعتدلين، لصالح الفريق
الأكثر تطرفا من الناحية السياسية والأكثر
انغلاقا من الناحية الدينية.
ومما
ساعد على هذه الطفرة أن طهران النجادية
لم تلق صعوبة تذكر في تجنيد النخبة العراقية
الجديدة أو جزء كبير منها في مشروعها
الامبرطوري الإقليمي، ولا في استتباع
نخبة الحكم السورية التي وجدت نفسها من
دون وكيل ولا كفيل، بعد أزمة اغتيال رئيس
وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، في
قطيعة كاملة مع المجتمع العربي والدولي،
في الوقت الذي كانت تعاني فيه من أزمة
سياسية عميقة في الداخل أجبرتها على إعادة
تشغيل آلة القمع والاعتقال والتعذيب إلى
عهدها الأول، على أثر انتعاش حركة المعارضة
الديمقراطية الداخلية والانتفاضة السياسية
والفكرية التي مثلها ربيع دمشق.
كان
من الطبيعي أن يترافق
صعود نجم ايران الامبرطورية بصعود
نجم المذهبية الشيعية وبروزها، وارتفاع
نسبة نشاطيتها ونفوذها الاقليميين، خاصة
وأن الخامنئية استخدمت الورقة الطائفية
كجزء أساسي من استراتيجية التوسع والتمدد
وكسب النفوذ.
وكان
لاستخدام ورقة القضية الفلسطينية دور لا
يقل عن ذلك في تحييد المقاومة العربية
لتمدد نفوذ طهران.
تماما
كما كان من الطبيعي أن يترجم انحسار النفوذ
العربي في الإقليم الشرق أوسطي وتحييد
بلدانه في المعادلة الاقليمية بتراجع
مماثل لاشعاع ونفوذ المسلمين السنة الذين
وجدوا انفسهم، وهم الأبعد عن استبطان
ثقافة الطائفة بسبب تاريخهم الامبرطوري
الطويل، مجردين من أي قوة قادرة على حماية
وجودهم ومصالحهم.
وليس
هناك مثال أوضح على انقلاب التوازن الطائفي
أو المذهبي بموازاة انقلاب التوازن
الجيوستراتيجي بين العرب من جهة وايران
الخامنئية من جهة ثانية مما يجري في العراق
وسورية، اليوم، لكن في مصر وبلاد المغرب
العربي أيضا تشعر الحكومات لأول مرة بوجود
تحد مذهبي حقيقي إلى جانب الاسلام السني
الذي لم يكن هناك ما ينافسه منذ قرون
طويلة.
وعلى
العموم، ادى انحسار الحركات العربية
المدنية وتراجع مكانة الدولة الوطنية في
الثلاثين سنة الماضية، لصالح ما ينبغي
تسميته إمارات الحرب والاستيلاء، إلى
تراجع مكانة العرب ووزنهم، وفي سياقه إلى
انحسار دور المسلمين السنة ومكانتهم في
السياسات الداخلية والإقليمية، وهم
الأكثرية بين العرب، وإلى تقدم مضطرد في
دور الطوائف والأقليات الأخرى وصعودها
إلى مقدمة المسرح.
وفاقمت
الثورات التي قامت ضد النظم الديكتاتورية
في العراق وسورية من هذا التراجع والانحسار،
في مقابل تقدم الشيعة، وهم الأكثرية
المذهبية في ايران، وتنامي نزوعهم ، بعد
سقوط عراق صدام حسين، إلى تأسيس خلافة
حقيقية تمتد من قم الى البحر المتوسط.
على
هذا الضغط المنظم والمستمر والناجح لاخراج
العرب، ومعهم بالمعية المسلمين السنة من
الحلبة وتهميشهم، ومحاصرتهم في فلسطين
وفي العراق وسورية، وتقليل وزنهم واعتبارهم،
حتى أصبح تحقيق مشروع الدولة الفلسطينية
القزم نفسه حلما، بعد ان كان يثير رفض
الجميع، وعجزهم عن مواجهة الانفراد
الايراني في سورية والعراق ولبنان، وتدخل
طهران في اليمن والعديد من الدول العربية
الأخرى، على كل ذلك، يرد الإحياء وما سمي
بالصحوة الاسلامية ثم حركات التطرف الديني
واليوم، الدعوة الجهادية.
وهذا
يعني أن مواجهة النشاطية المتزايدة
والنازعة بشكل أكبر للتطرف والتوحش
للمجموعات المتمردة من أصول سنية لن تكون
مجدية، بل ستكون ذات مفعول معاكس، إن لم
تتم مواجهة المسألة الرئيسية التي تكمن
وراءها، وهي الانهيار الكبير في مكانة
السنة وموقعهم ونفوذهم في السياسات
المحلية والاقليمية في سياق انهيار
الاستراتيجية العربية التقليدية ذاتها.
لكن
الرد على تطرف المجموعات السنية لا يمكن
أن يكون طائفيا سنيا، أي موازنة الطائفية
الشيعية المهيمنة بطائفية سنية متمردة،
كما هو الحال اليوم في الحلول المقترحة،
وإنما بالخروج من نفق الصراعات والتوازنات
الطائفية نفسها.
وهذا
يعني العمل على محورين :
الاول
يتعلق بإصلاح الدولة والنظم السياسية
وتوسيع هامش الحريات والحركة للمجتمعات
المدنية والأفراد، واليوم ينبغي تجديدها
تماما، لإعادة طمأنة الشعوب على حقوقها
وأمنها ووجودها، وهذا ما كنا نطالب به،
مثقفين وحركات سياسية ومدنية، بل ومنظمات
دولية منذ أكثر من ثلاثة عقود، والذي نشرت
فيه عشرات التقارير وعقدت من أجله مئات
الندوات من دون جدوى.
والسبب
في فشلنا وفشل حركات الاحتجاج الشعبية
أن هذه النظم لم تكن تستمد ا لشرعية والقوة
من شعوبها ومجتمعاتها ولكن من الدول
الوصية عليها وحاميتها.
و
المحور الثاني هو ضرورة التعاون الدولي
من أجل إخراج المنطقة من الهاوية التي
سقطت فيها.
فمشاكل
المنطقة المشرقية مرتبطة ارتباطا عضويا
بالاستراتيجيات والمنازعات والمواجهات
الدولية إن لم تكن من إنتاجها.
ومن
دون تعاون الولايات المتحدة واوربة والصين
وروسية وغيرها من الدول المعنية، لن
يستطيع أبناء المنطقة وحكامها الوصول
إلى أي حل لتجفيف منابع النزاع والتوتر
والعنف الداخلي والإقليمي، لا في الساحة
الفلسطينية الاسرائيلية، ولا في الملف
النفطي ولا في الملف الامني الذي تحول
اليوم إلى حرب على الارهاب الدولي، ولا
في الملف الايراني ولا في الملف الطائفي
نفسه، ولا في الملف الاجتماعي الذي يشكل
قنبلة موقوتة والذي جاءت الأزمة الإقليمية
لتسرع في تفجيرها، ولا في ملف التنافس
بين القوى الاقليمية.
وإذا
كان من الممكن تشكيل تحالف ضد الارهاب
كما تسعى الولايات المتحدة لعمله اليوم،
كما أمكن تشكيل تحالف ضد هذه الدولة
المارقة أو تلك، في الماضي، فليس هناك
سبب أن لا يكون ممكنا، إذا وجدت الرغبة
والإرادة، تشكيل التحالف الدولي لبسط
السلام والامن والاستقرار في منطقة عانت
كثيرا، خلال القرن الماضي كله، من الاهمال
السياسي والثقافي والتنموي، ونخرت دولها
وأمنها التدخلات الخارجية المتعددة
الأشكال، والتلاعب بالنخب الحاكمة
واستتباعها وقلبها على شعوبها، وهي تهدد
بأن تتحول منذ الآن، إذا لم نسارع إلى
إطفاء الحرائق الناشبة في كل مكان فيها،
إلى بركان يصب حممه على كل من يحيط به.
ينبغي
أن يكون هدف التحالف الدولي التوصل، تحت
إشراف الأمم المتحدة، إلى ميثاق عمل
إقليمي جديد، يطمئن الدول والشعوب معا،
ويساعد على ايجاد حلول نهائية للخلافات
الاقليمية والدولية التي سممت المنطقة،
ووضع حد لأحلام ومشاريع الامبرطوريات
الدموية المتنازعة :
الاسرائيلية
والايرانية والنفطية والعربية الاسلامية
وغيرها.
من
دون ذلك لن يكون هناك حل.
ولن
يفيد شيئا ترقيع النظم القائمة بزيادة
وزير هنا لهذه الطائفة ووزير هناك.
لن
تساهم مثل هذه الحلول السطحية في إعادة
بناء الدول والنظم السياسية واستعادتها
ثقة الشعوب وتأييدها، تماما كما أن زيادة
مشاركة امراء الحرب السنة في الحكومات
الهزيلة والفاشلة، حكومات المحاصصات
الطائفية، مهما كان رئيسها، لن توقف
الشعور الجارف لدى مئات الملايين الذين
تركوا على قارعة الطريق بالتهميش التاريخي
والسياسي والانهيار الاجتماعي.
ولن
يستطيع مثل هذا الإجراء الشكلي الضعيف
أن يضع حدا لنزعات التطرف داخل المجموعات
السنية التي ستتبارى منذ الآن في المبالغة
في العنف حتى تنتزع لنفسها بعض الشرعية
من قبل مجتمع سني زعزعت أركانه وهجر أبناؤه
وقضي على مستقبل الملايين منه.
ولن
تستطيع أي مجموعة أن تستقطب تمثيله،
بالإضافة إلى أن هذا المجتمع لن يقبل أن
يتحول إلى طائفة أو ينظر إلى نفسه كطائفة
ويتمثل ذهنيتها وتقاليدها ويقبل أشكال
تمثيلها الرمزي، بعد اربعة عشر قرنا من
ثقافة الدولة الامبرطورية والسيادة
الكونية، وغياب أية آليات موحدة للنخبة
الدينية، وشموله جماعات وشعوبا يتجاوز
عددها مليار نسمة، وتعدد ثقافاته ولغاته
وتقاليده، وتوزع سكانه على عشرات الدول
والممالك العربية وغير العربية.
والخلاصة
ليس هناك بديل لعملية ومشروع إعادة بناء
الدولة والنظام العام على أسس عمومية
مدنية جامعة، ولا توجد إمكانية لذلك من
دون تحالف دولي ضد الفوضى التي أوصلت
إليها السياسات الغربية بما في ذلك روسية
المنطقة، وإعادة الأمن والهدوء والسلام
لشعوبها، أي إعادة بناء النظام الإقليمي
على أسس جديدة متوازنة وايجاد حلول حقيقية
للمشاكل التي خلقتها السياسات الدولية
ذاتها.
بناء
الدولة والنظام الاقليمي أو الفوضى
العارمة والإرهاب.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire