mercredi, mai 19, 2010

الجابري فيلسوفا وفنانا وساحرا

الاتحاد 19 مايو 10

يرجع الفضل في تعرفي الشخصي على الجابري إلى الباهي محمد الذي كان شاعرا ومتحدثا وأديبا كبيرا، فقدناه هو أيضا منذ عقد ونيف ولا نزال نحيي سنويا ذكراه من خلال حلقة أصدقاء الباهي. كان الباهي صديقا حميما لنا، وكان قد عمل مع الجابري، قبل أن يقرر الإقامة في باريس، في حزب الاتحاد الاشتراكي، في التنظيم السياسي والصحافة. وكان الباهي يتصل بي حال وصول الجابري إلى باريس، فنلتقي في جلسات خاصة أو مع آخرين، نسمع إلى نكات الباهي وقصصه الشخصية المثيرة وأشعار الجاهلية. ونادرا ما كنا ندخل في نقاشات نظرية. وعندما كنا نتحدث بجدية فغالبا ما كنا نتناول المواضيع السياسية، وأوضاع البلاد العربية ومشاكلها وأحزانها. كان الجابري مقلا جدا في تناول موضوعات مشاريعه النظرية في الأحاديث العامة، كما كنت أنا. كنا نقرأ بعضنا باهتمام، لكن من قبيل الفضول والتعرف على ما يفكر فيه كلانا، مع الإدراك العميق بأننا نعمل في اتجاهين نظريين متباينين تماما، ولا يوجد هناك ما يجمع بين منهجينا في تناول مشاكل المجتمعات العربية الواحدة.

فقد اهتم الجابري بالتراث، وسعى من خلال تفكيكه وتركيبه وإعادة بنائه إلى أن يفهم مشاكل العالم العربي الراهنة، ويساهم في الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها مسألة تحولها التاريخي واندراجها في العصر، من منظور ما كان يبدو له نظرة عقلانية جديدة. بينما اتجهت أنا، بالعكس من ذلك، نحو تجربة الحداثة العربية ذاتها، واخترت العمل على التجربة والممارسة التاريخية المستمرة، أي تحليل الواقع الراهن، كمقدمة لإعادة بنائه في حقل السياسة، معتبرا أن التراث أصبح تراثا بالفعل، ولم يعد يشكل محددا رئيسيا لتحول هذا الواقع، ولا مفتاحا لفهم أي مستوى من مستوياته، بما في ذلك نماذج التدين القائمة. وبينما كان الجابري يشحذ أدواته النظرية والابستمولوجية لنقد التراث، كنت أبحث عن أدوات نظرية، أحيانا من خارج فكر الحداثة، لنقد ما سميته الحداثة الرثة، أي إجهاض مشروع الحداثة العربية. وكنت ولا أزال أنظر إلى عملية البحث عن أسباب هذا الإجهاض في التراث كما لو كانت نوعا من السحر الذي يفترض تحول الأوضاع انطلاقا من روح خالدة تقطنها وتتحكم بمسيرتها ومصيرها.

وقد عبرت عن موقفي هذا في كتابي (اغتيال العقل) الذي كان رد فعلي المباشر على الجزء الأول من كتاب الجابري حول نقد العقل العربي. وعنيت ان لا أستخدم كلمة العرب لأنبه إلى أنه لا يوجد هناك عقل عربي وغربي، وإنما عقل أو لا عقل، وأن منهج النقد الذي يقوم على تفكيك الثقافة إلى عقول متميزة، تناقض بعضها بعضا، وما وصفه الجابري بالعرفانية والبيانية والبرهانية، يبطل وحدة الثقافة ويفقدها ديناميكيتها التي لا تقوم من دون هذا التوتر الدائم الكامن في تباين نظمها وأنساقها وتعددها. لكنني حرصت على أن يكون هذا النقد من خلال بناء منهج مقابل حاولت أن أركز فيه على الديناميكيات التاريخية والاجتماعية التي تحكم تطور الثقافة بما فيها استعادة التراث وتمثله، وبنية العقل وانقطاعاته التاريخية ووحدته واتساقه أيضا.

وقد اعتقدت ولا أزال أنه لا خيار لنا بين أمرين، إما أن نجعل من الفكر ثابتا يتطور بجدليته الداخلية، والعالم، أي الواقع المادي والتاريخي يدور من حوله، وينتظم على وقع انتظام العقل، أو أن نجعل من تناقضات الواقع وجدلياته المتعددة الأبعاد، ومن انتظاماته أيضا، محورا رئيسيا يشكل الفكر بعدا من أبعاده، يتأثر به ويؤثر فيه، أي أن نحول الفكر إلى بعد من أبعاد تجربة تاريخية حية ومعاشة فعلا للفرد وللمجتمعات معا.

لم أتعرض للجابري بعد اغتيال العقل أبدا. وهو نفسه لم يتعرض لأي نص كتبته بعد نقده العابر والخارجي لكتابي الأول (بيان من أجل الديمقراطية) والذي علق عليه، في كتابه (الخطاب العربي المعاصر)، قائلا : كيف يمكن الحديث في الديمقراطية قبل نقد العقل. ولم نكن قد تعارفنا بعد.

والواقع أنه بالرغم من صداقتنا الحميمة، كنا مدركين، كلانا، أننا نعمل في ورشات علمية مختلفة تماما، لكن اختلاف نظامي تفكرينا لم يكن يؤثر على علاقتنا الشخصية، كما لو اننا اتفقنا ضمنا على أن يجرب كل واحد من طرفه، او هكذا كان شعوري الشخصي. وما كان هناك مجال لحوار نظري في مثل هذه الحالة. فالجابري الذي كان يمسك بقوة بأدواته المنهجية، ولديه تصور جاهز وتقريبا كامل لما يريد عمله في تراث ثابت وناجز ينتظر مبضع جراح مكين، لم يكن معنيا بتشتيت ذهنه في أي نقاش مع الفكر الآخر. ما كان يريده هو إنجاز المشروع الضخم الذي كان يملأ فكره. هو يأخذ ما يحتاج إليه من هؤلاء وأولئك من الفلاسفة والفقهاء والمتكلمين، ليشيد بناءه الخاص به، يرتب غرفه حسب مخطط ارتسم في ذهنه، ويعين وظائف أقسامه، وأدوار رجالاته الذي لا يستقيم نظامه الفكري من دونها.

أما أنا فما كان مشروع تأويل التراث يعني لي شيئا، مهما كانت جدته أو أصالته. كنت أشعر أيضا أن ما يعنيني هو فهم التجربة الحية للبشر المتحركين أمامي على الأرض، وليس لما خلفه الأجداد والأسلاف من تجارب ومواريث.

هكذا، ركز الجابري على العمق التاريخي والتراثي لواقع العرب الحضاري، أو بالأحرى المفتقر للحضارة اليوم، وركزت أنا على كفاح العرب، كشعوب وطبقات وطوائف وجماعات مصالح وأفراد، كل في مكانه ومستواه، من أجل البقاء في الشروط التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم، والتحديات التي يواجهها كل فاعل اجتماعي والردود التي يقوم بها متأثرا بموروثه الثقافي بالتاكيد، لكن بالتطلعات والآمال والحوافز الجديدة التي اكتسبها من ثقافة عصره أيضا. ومن الواضح أن النظرية، أي العقل، العربي إذا شئنا، لا يمكن أن تكون هنا جاهزة ولا مضمرة، لا في العقل ولا في الفعل. إنها تتبلور في الصراع، صراع كل فاعل اجتماعي من أجل البقاء والارتقاء، ولا يمكن أن تكون سوى محصلة تساوق مشاريع الفاعلين الأحياء أنفسهم. فالعقل واللاعقل، أي انسجام الفكر او عدم انسجامه هو انعكاس، غير آلي بالتأكيد، لانسجام الفعل الجمعي او تضارب عناصره. فهو لا يتبع الموروث الثقافي أو الروحي مهما كان وزنه، وإنما يعبر عن توافق مشاريع الفاعلين الباحثين عن إرضاء حاجاتهم والوفاء لتطلعاتهم وتعارضها. مما يعني أنه ليس هناك عقل جاهز، ولا عقلانية مجردة منفصلة عن المجتمعات التي تعيش في صراع دائم، بين عناصرها ومع غيرها، من أجل تأمين وسائل وجودها وديمومتها. المعرفة هي نفسها معركة لا تبنى إلا في الصراع ضد استراتيجيات التشويش والكذب والخداع والتضليل التي يمارسها الفاعلون الاجتماعيون واحدهم إزاء الآخر.

مقابل هذه المعرفة المشتتة والمجزأة، المنتزعة كل مرة بجهد خاص في فهم تجارب الفاعلين اللانهائية، وتحليل مشاريعهم الخاصة، وكشف نواياهم، في شروط وجودهم التاريخية والاجتماعية، وهذا قدر أي معرفة بحثية تجريبية، كان بإمكان الجابري أن يبني، انطلاقا من إعادة تأويل تراث ثابت وجاهز، معرفة تأملية على شكل نسق جامع ومانع، تظهر عبره المدنية العربية في صورة بنورامية، واحدة، شاملة وكاملة الاتساق، وتتحول بسرعة إلى مرآة يستطيع كل فرد أن يرى نفسه فيها ويتامل ذاته ويتواصل مع جميع أقرانه، ويتماهى معهم، من خارج الزمان والمكان والحاضر والماضي.

بهذا المعنى، كان فكر الجابري بالتاكيد مكتفيا بذاته، لا يحتاج في نموه وتكامله إلى أي عنصر من خارجه، أو للتفاعل مع غيره، كما لو أنه صب صبة باطون واحدة. وهذه هي طبيعة الفكر الذي يتشكل كنسق متكامل. فهو يعيد بناء العالم من حوله، ولا يترك لك إلا أن تأخذ به كما هو أو تتركه. لكنه لا يتركك مع ذلك ساكنا، ولا تستطيع إلا أن تسحر بهذا البناء التأملي المعماري الشامخ، وباليد الماهرة التي صنعته، أي بالطريقة التي صاغ بها الجابري إشكالياته، والإجابات المنتظمة، المتواترة، الواثقة والمكتملة التي قدمها عن الأسئلة التي طرحها على نفسه عبر التراث وبمساعدته. ولعل أكثر ما ميز كتابات الجابري وعبر عنها هو هذا السحر الذي مارسته على كل من قرأه، وجعلت من الجابري من دون أي شك ايقونة الفكر العربي المعاصر بامتياز. وحتى أولئك الذين انقلبوا على الجابري وكرسوا جهدهم لتأليب الرأي العام عليه وتحطيم سمعته وصدقيته العلمية، لم ينكروا ما مارسه عليهم البناء الهرمي الشامخ للجابري، بتقطيعاته الداخلية، وتنويعاته الوظيفية، ومعانيه الفنية، وزخرفاته الأسلوبية واللغوية، من سحر لا ينفد. وليس هناك شك في أن القصر العظيم الشامخ الذي أشاده الجابري، في نقد العقل العربي، من بقايا الآثار الدارسة، برز، وسيبرز ربما لفترة طويلة، كحصن أمان واستقرار في صحراء من الرمل والخراب العميم. وداعا للجابري وتحية وفاء ومحبة من القلب.

الجابري فيلسوفا وفنانا

الجابري فيلسوفا وفنانا وساحرا

برهان غليون

يرجع الفضل في تعرفي الشخصي على الجابري إلى الباهي محمد الذي كان شاعرا ومتحدثا وأديبا كبيرا، فقدناه هو أيضا منذ عقد ونيف ولا نزال نحيي سنويا ذكراه من خلال حلقة أصدقاء الباهي. كان الباهي صديقا حميما لنا، وكان قد عمل مع الجابري، قبل أن يقرر الإقامة في باريس، في حزب الاتحاد الاشتراكي، في التنظيم السياسي والصحافة. وكان الباهي يتصل بي حال وصول الجابري إلى باريس، فنلتقي في جلسات خاصة أو مع آخرين، نسمع إلى نكات الباهي وقصصه الشخصية المثيرة وأشعار الجاهلية. ونادرا ما كنا ندخل في نقاشات نظرية. وعندما كنا نتحدث بجدية فغالبا ما كنا نتناول المواضيع السياسية، وأوضاع البلاد العربية ومشاكلها وأحزانها. كان الجابري مقلا جدا في تناول موضوعات مشاريعه النظرية في الأحاديث العامة، كما كنت أنا. كنا نقرأ بعضنا باهتمام، لكن من قبيل الفضول والتعرف على ما يفكر فيه كلانا، مع الإدراك العميق بأننا نعمل في اتجاهين نظريين متباينين تماما، ولا يوجد هناك ما يجمع بين منهجينا في تناول مشاكل المجتمعات العربية الواحدة.

فقد اهتم الجابري بالتراث، وسعى من خلال تفكيكه وتركيبه وإعادة بنائه إلى أن يفهم مشاكل العالم العربي الراهنة، ويساهم في الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها مسألة تحولها التاريخي واندراجها في العصر، من منظور ما كان يبدو له نظرة عقلانية جديدة. بينما اتجهت أنا، بالعكس من ذلك، نحو تجربة الحداثة العربية ذاتها، واخترت العمل على التجربة والممارسة التاريخية المستمرة، أي تحليل الواقع الراهن، كمقدمة لإعادة بنائه في حقل السياسة، معتبرا أن التراث أصبح تراثا بالفعل، ولم يعد يشكل محددا رئيسيا لتحول هذا الواقع، ولا مفتاحا لفهم أي مستوى من مستوياته، بما في ذلك نماذج التدين القائمة. وبينما كان الجابري يشحذ أدواته النظرية والابستمولوجية لنقد التراث، كنت أبحث عن أدوات نظرية، أحيانا من خارج فكر الحداثة، لنقد ما سميته الحداثة الرثة، أي إجهاض مشروع الحداثة العربية. وكنت ولا أزال أنظر إلى عملية البحث عن أسباب هذا الإجهاض في التراث كما لو كانت نوعا من السحر الذي يفترض تحول الأوضاع انطلاقا من روح خالدة تقطنها وتتحكم بمسيرتها ومصيرها.

وقد عبرت عن موقفي هذا في كتابي (اغتيال العقل) الذي كان رد فعلي المباشر على الجزء الأول من كتاب الجابري حول نقد العقل العربي. وعنيت ان لا أستخدم كلمة العرب لأنبه إلى أنه لا يوجد هناك عقل عربي وغربي، وإنما عقل أو لا عقل، وأن منهج النقد الذي يقوم على تفكيك الثقافة إلى عقول متميزة، تناقض بعضها بعضا، وما وصفه الجابري بالعرفانية والبيانية والبرهانية، يبطل وحدة الثقافة ويفقدها ديناميكيتها التي لا تقوم من دون هذا التوتر الدائم الكامن في تباين نظمها وأنساقها وتعددها. لكنني حرصت على أن يكون هذا النقد من خلال بناء منهج مقابل حاولت أن أركز فيه على الديناميكيات التاريخية والاجتماعية التي تحكم تطور الثقافة بما فيها استعادة التراث وتمثله، وبنية العقل وانقطاعاته التاريخية ووحدته واتساقه أيضا.

وقد اعتقدت ولا أزال أنه لا خيار لنا بين أمرين، إما أن نجعل من الفكر ثابتا يتطور بجدليته الداخلية، والعالم، أي الواقع المادي والتاريخي يدور من حوله، وينتظم على وقع انتظام العقل، أو أن نجعل من تناقضات الواقع وجدلياته المتعددة الأبعاد، ومن انتظاماته أيضا، محورا رئيسيا يشكل الفكر بعدا من أبعاده، يتأثر به ويؤثر فيه، أي أن نحول الفكر إلى بعد من أبعاد تجربة تاريخية حية ومعاشة فعلا للفرد وللمجتمعات معا.

لم أتعرض للجابري بعد اغتيال العقل أبدا. وهو نفسه لم يتعرض لأي نص كتبته بعد نقده العابر والخارجي لكتابي الأول (بيان من أجل الديمقراطية) والذي علق عليه، في كتابه (الخطاب العربي المعاصر)، قائلا : كيف يمكن الحديث في الديمقراطية قبل نقد العقل. ولم نكن قد تعارفنا بعد.

والواقع أنه بالرغم من صداقتنا الحميمة، كنا مدركين، كلانا، أننا نعمل في ورشات علمية مختلفة تماما، لكن اختلاف نظامي تفكرينا لم يكن يؤثر على علاقتنا الشخصية، كما لو اننا اتفقنا ضمنا على أن يجرب كل واحد من طرفه، او هكذا كان شعوري الشخصي. وما كان هناك مجال لحوار نظري في مثل هذه الحالة. فالجابري الذي كان يمسك بقوة بأدواته المنهجية، ولديه تصور جاهز وتقريبا كامل لما يريد عمله في تراث ثابت وناجز ينتظر مبضع جراح مكين، لم يكن معنيا بتشتيت ذهنه في أي نقاش مع الفكر الآخر. ما كان يريده هو إنجاز المشروع الضخم الذي كان يملأ فكره. هو يأخذ ما يحتاج إليه من هؤلاء وأولئك من الفلاسفة والفقهاء والمتكلمين، ليشيد بناءه الخاص به، يرتب غرفه حسب مخطط ارتسم في ذهنه، ويعين وظائف أقسامه، وأدوار رجالاته الذي لا يستقيم نظامه الفكري من دونها.

أما أنا فما كان مشروع تأويل التراث يعني لي شيئا، مهما كانت جدته أو أصالته. كنت أشعر أيضا أن ما يعنيني هو فهم التجربة الحية للبشر المتحركين أمامي على الأرض، وليس لما خلفه الأجداد والأسلاف من تجارب ومواريث.

هكذا، ركز الجابري على العمق التاريخي والتراثي لواقع العرب الحضاري، أو بالأحرى المفتقر للحضارة اليوم، وركزت أنا على كفاح العرب، كشعوب وطبقات وطوائف وجماعات مصالح وأفراد، كل في مكانه ومستواه، من أجل البقاء في الشروط التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم، والتحديات التي يواجهها كل فاعل اجتماعي والردود التي يقوم بها متأثرا بموروثه الثقافي بالتاكيد، لكن بالتطلعات والآمال والحوافز الجديدة التي اكتسبها من ثقافة عصره أيضا. ومن الواضح أن النظرية، أي العقل، العربي إذا شئنا، لا يمكن أن تكون هنا جاهزة ولا مضمرة، لا في العقل ولا في الفعل. إنها تتبلور في الصراع، صراع كل فاعل اجتماعي من أجل البقاء والارتقاء، ولا يمكن أن تكون سوى محصلة تساوق مشاريع الفاعلين الأحياء أنفسهم. فالعقل واللاعقل، أي انسجام الفكر او عدم انسجامه هو انعكاس، غير آلي بالتأكيد، لانسجام الفعل الجمعي او تضارب عناصره. فهو لا يتبع الموروث الثقافي أو الروحي مهما كان وزنه، وإنما يعبر عن توافق مشاريع الفاعلين الباحثين عن إرضاء حاجاتهم والوفاء لتطلعاتهم وتعارضها. مما يعني أنه ليس هناك عقل جاهز، ولا عقلانية مجردة منفصلة عن المجتمعات التي تعيش في صراع دائم، بين عناصرها ومع غيرها، من أجل تأمين وسائل وجودها وديمومتها. المعرفة هي نفسها معركة لا تبنى إلا في الصراع ضد استراتيجيات التشويش والكذب والخداع والتضليل التي يمارسها الفاعلون الاجتماعيون واحدهم إزاء الآخر.

مقابل هذه المعرفة المشتتة والمجزأة، المنتزعة كل مرة بجهد خاص في فهم تجارب الفاعلين اللانهائية، وتحليل مشاريعهم الخاصة، وكشف نواياهم، في شروط وجودهم التاريخية والاجتماعية، وهذا قدر أي معرفة بحثية تجريبية، كان بإمكان الجابري أن يبني، انطلاقا من إعادة تأويل تراث ثابت وجاهز، معرفة تأملية على شكل نسق جامع ومانع، تظهر عبره المدنية العربية في صورة بنورامية، واحدة، شاملة وكاملة الاتساق، وتتحول بسرعة إلى مرآة يستطيع كل فرد أن يرى نفسه فيها ويتامل ذاته ويتواصل مع جميع أقرانه، ويتماهى معهم، من خارج الزمان والمكان والحاضر والماضي.

بهذا المعنى، كان فكر الجابري بالتاكيد مكتفيا بذاته، لا يحتاج في نموه وتكامله إلى أي عنصر من خارجه، أو للتفاعل مع غيره، كما لو أنه صب صبة باطون واحدة. وهذه هي طبيعة الفكر الذي يتشكل كنسق متكامل. فهو يعيد بناء العالم من حوله، ولا يترك لك إلا أن تأخذ به كما هو أو تتركه. لكنه لا يتركك مع ذلك ساكنا، ولا تستطيع إلا أن تسحر بهذا البناء التأملي المعماري الشامخ، وباليد الماهرة التي صنعته، أي بالطريقة التي صاغ بها الجابري إشكالياته، والإجابات المنتظمة، المتواترة، الواثقة والمكتملة التي قدمها عن الأسئلة التي طرحها على نفسه عبر التراث وبمساعدته. ولعل أكثر ما ميز كتابات الجابري وعبر عنها هو هذا السحر الذي مارسته على كل من قرأه، وجعلت من الجابري من دون أي شك ايقونة الفكر العربي المعاصر بامتياز. وحتى أولئك الذين انقلبوا على الجابري وكرسوا جهدهم لتأليب الرأي العام عليه وتحطيم سمعته وصدقيته العلمية، لم ينكروا ما مارسه عليهم البناء الهرمي الشامخ للجابري، بتقطيعاته الداخلية، وتنويعاته الوظيفية، ومعانيه الفنية، وزخرفاته الأسلوبية واللغوية، من سحر لا ينفد. وليس هناك شك في أن القصر العظيم الشامخ الذي أشاده الجابري، في نقد العقل العربي، من بقايا الآثار الدارسة، برز، وسيبرز ربما لفترة طويلة، كحصن أمان واستقرار في صحراء من الرمل والخراب العميم. وداعا للجابري وتحية وفاء ومحبة من القلب.

mardi, mai 04, 2010

اسلاموفوبيا

الاتحاد 5 مايو 10

يستخدم الكثير من المحللين الاسلاموفوبيا، أو الخوف المرضي من الاسلام، ليفسر السياسات الغربية المعادية للعرب، ليس داخل البلدان الغربية فحسب، وإنما على الصعيد العالمي أيضا. بل يبدو هذا الخوف في نظر الكثيرين وكأنه المسؤول الرئيسي عن الضغوط التي يتعرض لها العرب من قبل أوروبا والولايات المتحدة، والحروب التي استهدفتهم في العقود الأخيرة، وفي مقدمها الحربين الدوليتين ضد العراق عام 1991 وعام 2003، والحروب التي خاضها الغرب، بالتحالف مع اسرائيل، وبمساعدتها، في لبنان وفلسطين. كما أنه الدافع إلى إطلاق العديد من المبادرات السياسية والاقتصادية الجماعية، وآخرها مبادرة الشرق الأوسط الكبير، بالإضافة إلى المبادرات الأوروبية الثنائية. وكلها تهدف إلى حث الحكومات العربية على ضبط الأوضاع الأمنية والاقتصادية لدرء مخاطر صعود الحركات الاسلامية السياسية، وإعادة هيكلة المنطقة لضمان استقرارها وازدهارها وتفاعلها مع العالم المحيط بها. وهناك من يستخدم هذا الخوف نفسه لتبرير السياسات الأمنية الاستثنائية الموجهة نحو العرب، بما في ذلك دعم حروب إسرائيل التوسعية، وتعميق التحالف وتعزيز الشراكة الاستراتيجية والسياسية معها.

وإلى هذا الخوف المرضي من الاسلام ترجع في نظر هؤلاء أيضا الحملات الإعلامية، ودخول العديد من الكتاب وقادة الرأي الغربيين في منافسة مفتوحة لتسويد صفحة الثقافة العربية والدين الاسلامي معا. ومنها التصريحات وإصدار القوانين التي ارتبطت بقضية منع الحجاب في المدارس الفرنسية في الثمانينات، والتي استمرت عبر قضية الرسوم الكاريكاتورية التي تداولتها العديد من الصحف الغربية. والتي تعود اليوم في صورة أخرى عبر قانون منع البرقع الذي بدأ تطبيقه الشهر الماضي في فرنسا، وصادق عليه هذا الأسبوع البرلمان البلجيكي بانتظار أن يعمم مثيله في كل البلدان الأوروبية. وكان البابا ببنوا السادس عشر قد عبر، في محاضرته التي ألقاها في 26 سبتمبر 2006 والتي وصف فيها الاسلام بأنه رديف العنف أو مرتبط طبيعيا بالعنف، ولا يوجد من دونه، عن هذا الخوف المرضي من الاسلام والتشكيك في صدقية سلام المسلمين. وهذا ما تسعى اوريانا فلاشي في كتابها قوة العقل إلى تأكيده عندما تذكر بأن الرسول محمد (ص)، بعكس المسيح الذي توفي كما تقول على الصليب وموسى الذي رأي من بعيد أرض إسرائيل، زحف على رأس جيوشه فاتحا لتحقيق النصر. ولا تكتفي فلاشي بتقديم هذه الصورة القاسية والمشوهة للاسلام ورسوله فحسب، ولكنها تذهب أبعد من ذلك لتنتقد الغرب على ضعفه وتهاونه تجاه المسلمين، ولتحرض على الحرب وتطالب الغرب بالرد على العنف الاسلامي بعنف مماثل، مهددة بأن أوروبة سوف تسير إلى الانتحار إذا لم ترد على التحدي الاسلامي. ولم يتخلف عن مثل هذه التصريحات، ولو بلغة أكثر حذرا، العديد من رؤساء الدول الغربية الذين أطلقوا صرخات التحذير نفسها في أوقات مختلفة، من جورج دبليو بوش إلى فلادمير بوتين إلى سيليفيو برلسكوني إلى المستشارة ميركيل.

ينبع الخوف من الاسلام والمسلمين في نظر المحللين من تواتر العنف الذي يبدو وكأنه يميز حياة المسلمين على جميع الأصعدة، الاجتماعية والسياسية والدينية، والذي يعكس هو نفسه طبيعة القيم التي تنظم حياتهم، وتجعل منهم مجتمعات مختلفة في توجهاتها وقواعد سلوكها وأهدافها عن بقية مجتمعات العالم. ومن هنا يعتقد قسم كبير من الغربيين أن النزاع القائم بين العرب والغرب هو النتيجة الطبيعية والحتمية للتناقض العميق بين منظومة القيم القرسطوية الاسلامية ومنظومة القيم الغربية الحديثة المرتبطة بالحرية والمساواة والتسامح والتعددية.

هكذا أصبح الخوف والشعور بالخطر المرتبط به يشكلان اليوم منطلق أي تفكير بالمنطقة وأي موقف تجاه ما يجري فيها، بما في ذلك الموقف من الاحتلال والاستيطان وانتهاك حقوق الانسان وإعاقة الديمقراطية ومشاكل التنمية والعلاقات الدولية.

والواقع ليس للاسلاموفوبيا علاقة كبيرة بالخوف. فهي تطلق على نوع من المخاوف المرضية التي لا تعبر عن وجود مخاطر حقيقية، ولا تشكل تعبيرا صحيحا وصادقا عنها، بمقدار ما هي تركيب ذهني يخلط بين وقائع وتخيلات ومسبقات ومشاعر متعددة، تشكل هي نفسها منبعا لتعزيز الخوف واختلاق التهديدات وتضخيمها. فهي لا تفسر الخوف من الاسلام ولكنها تستخدم هذا الخوف لتبرير سياسات تجد جذورها ومحركها في مكان آخر.

في هذا المنظور تنقلب الوقائع رأسا على عقب. فالاسلاموفوبيا تظهر العداء للآخر، وهنا العرب والمسلمين، بمثابة رد الفعل الطبيعي على عدوان قائم أو منتظر من قبل هؤلاء أنفسهم، وتلتقي في هذا المجال مع فكرة الحرب الاستباقية وتبررها. فهي تفترض أن أصحاب الثقافات الأخرى يكنون للغرب عداءا عميقا ودائما بسبب تناقض قيمهم الخاصة، النافية للعقل والتعددية والحرية، مع قيم الثقافة الغربية.

والحال، ليس ما يؤرق أعداء الغرب ويثير نقمتهم غرب الفنون أو غرب العلوم أو غرب التقنية. ولا هو غرب الصناعة ولا غرب التسلية ولكن غرب السياسة. ما يزعج خصوم الغرب وأعداؤه، وهم لا يقتصرون على العرب والمسلمين، ليس أخلاقيات مواطنيه وطبيعة علاقاتهم ومنظومات قيمهم، وإنما خياراته السياسية، الخارجية منها بشكل خاص، وتجسيداتها في شبكات السيطرة والتلاعب بمصير الشعوب الضعيفة، والتي تشكل هي نفسها العقبة الرئيسية أمام تملك هذه الشعوب وسائل الاندراج في العصر والمشاركة الايجابية في السياسات الدولية. وهي الأسباب ذاتها التي كانت ولا تزال توجه الأغلبية الواسعة من الرأي العام العالمي في البلاد المسماة نامية ضد الغرب ونماذج إدارته السيئة للشؤون الدولية، بما في ذلك قوى غربية واسعة وقفت ولا تزال ضد سياسات الحكومات الغربية الخارجية وحروبه المستمرة التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حقل العلاقات الدولية الحديث. فما تأخذه الشعوب على هذه السياسات ليس الحداثة الفنية أو الأدبية أو العلمية أو التقنية أو الصناعية، بل ولا نماذج الحياة الغربية الاجتماعية، والقيم التي توجه سلوك أفراده، مهما تباينت هذه القيم مع القيم العربية أو الاسلامية، وإنما بالعكس، تلك الاستراتيجيات الهيمنية، الاستعمارية وشبه الاستعمارية وما بعد الاستعمارية التي تحول بين الشعوب الفقيرة، أي غالبية سكان الأرض، والوصول إلى الموارد المادية واللامادية التي لا أمل لها في التحرر والتقدم والترقي من دونها.

من هنا، ليس هذا الخوف المسمى مرضيا مرضيا إلى الدرجة التي يفترض أنه كذلك. إنه يشكل هو نفسه ذريعة لتمرير اختيارات سياسية لا يمكن تبريرها في أي منطق أخلاقي، وبشكل خاص في منطق الأخلاق الانسانوية لعصر الأنوار لذي يمثل مرجعية الغرب الحديث الأساسية. ولا يمكن أن ننسى أن إسرائيل لا تكف عن اللعب بورقة الخوف منذ عقود لتضفي شرعية سياسية على خيارات عنصرية تجعل من الاحتلال والاستعمار تعلة لاغتصاب الأرض من أصحابها والاستيطان فيها، ضد جميع الأعراف الدولية والشرائع الدينية والأخلاقية.