mercredi, novembre 30, 2005

الديمقراطية ليست بديلا للوطنية

الاتحاد 29 نوفمبر 05

في سعيهم المفهوم والمشروع معا لتقويض الأسس السياسية والفكرية لمشروعية النظم العربية التي لا تزال تربط نفسها بشكل أو آخر بالحقبة الوطنية والقومية السابقة التي عرفتها العديد من البلدان العربية في الخمسينات والستينات، وتحت تأثر ديناميات العولمة القوية، يطور قسم كبير من المثقفين والرأي العام أيضا رد فعل عنيفة وعاطفية ضد مصطلحات الوطنية وقيمها. فيبدو كل ما كان له علاقة بالفكرة العربية أو بالمواقف الوطنية وكأنه تعبير عن الجمود العقائدي والضياع السياسي والانغلاق الحضاري وهو يتناقض مع الديمقراطية. وبالمقابل يبدو كل ما يوحي بالتخلي عن هذه الأفكار والقيم والتنكر لها وكأنه تعبير عن الروح العصرية والتصالح مع العالم والخروج من المحنة التاريخية. ويخشى إذا استمر الأمر على ما هو عليه من افتقار للروح النقدية وانتقال متهور من النقيض إلى النقيض في مواقفنا وسياساتنا أن نخسر معركة الديمقراطية كما خرسنا ممن قبل معركة القومية، ليس لأننا آمنا بقيمها وأفكارها كما حصل لجميع شعوب العالم، وإنما لأننا بالغنا في هذا الايمان حتى القداسة، فلم نعد نرى خارج التكرار الفارغ لشعارات التلاحم والتماهي والاعتزاز القومي شيئا آخر يستحق الذكر، لا علاقات دولية ولا قيما ديمقراطية ولا حتى معايير عقلية.
والحال لا تتناقض الديمقراطية مع التمسك بقيم الوطنية الحقيقية القائمة على التضامن القوي بين أبناء الوطن الواحد، ولا مع التعلق بالفكرة العربية التي تقوم على الاعتقاد بالمصالح المتبادلة للتعاون بين الشعوب العربية وبنجاعة هذا التعاون وضرورته للوصول إلى تنمية عربية مستديمة. فالديمقراطية التي أصبحت الآن عن حق هدفنا المركزي، مع أهدافنا الجماعية الأخرى العديدة، ولا يغني تحقيقها عن تحقيق التنمية الاجتماعية وعن ضمان الإستقلال والأمن والكرامة لمجتمعاتنا في العالم وداخل هذه المجتمعات ايضا. ولا يتم بناء هدف بالتضحية بهدف آخر مرتبط به ولا باختزال معركة التحرر والانعتاق العربية إلى معركة سياسية فحسب.
فبعكس ما يميل إليه الشعور العام اليوم من نزعة إلى تسويد صفحة الماضي القريب، لم تكن الحقبة الوطنية العاصفة التي عرفتها المجتمعات العربية في الخمسينات والستينات، بالرغم من جميع ماشابها من مغالاة وأخطاء، خالية من المعنى أو فقيرة بالاصلاحات والتجديدات والمكتسبات الاجتماعية والسياسية والعلمية والثقافية. فقد شهدت هذه الحقبة تحولات كبيرة على جميع المستويات، بدءا بتغيير البيئة النفسية التي كان يعيش فيه العرب كأفراد وجماعات منذ دخولهم في العصر الاستعماري، وانتهاءا بتحديث الهياكل والبني الاجتماعية، مرورا ببناء مؤسسات الدولة الحديثة وإرساء أسس التحول الصناعي، وتحديث الإدارات وبناء المنظومات التعليمية الوطنية، وتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية الأخرى للسكان ودمجهم في سياق وطني واحد. وقد أشرت إلى تغير البيئة النفسية في المقام الأول لأن تأثير ذلك كان عاملا قويا في تحرير المجتمعات العربية، أفرادا وجماعات، من روح التسليم بالأمر الواقع والاستسلام للقضاء والقدر نتيجة حال العبودية التي كرستها عقود طويلة من الاستبداد السلطاني وما أضاف إليها السقوط تحت السيطرة الاستعمارية من شعور بالدونية والعجز عن مسايرة الحركة التاريخية. لقد كان الاستقلال أول إنجاز يعيد إلى الشعوب التي عرفت القهر والذل لقرون طويلة الثقة بالنفس ويحثها على استعادة أو استنبات مفاهيم وقيم المسؤولية التاريخية والسياسية ويفرض عليها أخذ مصيرها بيدها.
وقد ارتبط باستعادة الثقة بالنفس والتصالح مع القيم التاريخية والتعود على فكرة الشعب الحر المسؤول عن مصيره إعادة بناء الهوية على أسس أكثر ديناميكية. ومكنت حركة التحول الشاملة الفرد من تجاوز التماهيات أو استراتيجيات التماهي العائلية والعشائرية والطائفية العصبوية القديمة، التي كانت تعبر عن الركود الاجتماعي والاقتصادي العام، وضعف التواصل بين مكونات المجتمع، وغياب الاقتصاد الحديث، نحو استراتيجات تماه وطني عام. وبعكس ما تشير إليه تحليلات بعض المؤرخين المعاصرين، لم يصطدم هذا التماهي الوطني مع التماهي القومي العربي الذي انتشر بشكل كبير في حقبة الستينات من القرن الماضي بل كان أساسا له. فما كان من الممكن انطلاقا من الشعور العشائري أو الطائفي الارتقاء نحو شعور عربي يجمع كل الناطقين بالعربية. وبهذا المعنى جاءت الهوية العربية كامتداد للهويات الوطنية وتعزيز لها بقدر ما رسخ أمل الوحدة العربية الشعور بالقدرة على مجاراة قيم العصر وتحقيق التنمية الاقتصادية وتأكيد السيادة والاستقلال والندية والمساواة مع المجتمعات الكبرى الأخرى.
وفي إطار هذه الثقة المتجددة بالنفس وبالمستقبل وبقدرة الشعوب على بناء أوطان حديثة مشابهة للأوطان الحديثة الأخرى نشطت النخب الوطنية الجديدة، بشقيها الليبرالي والاشتراكي، في تعميم مباديء الدولة الحديثة وتعزيز مؤسساتها التنفيذية والقضائية والتشريعية. وهكذا ترافقت الاستقلالات بإقامة الجمهوريات في القسم الأكبر من البلدان العربية وتبنت النخب معايير حديثة للفصل بين السلطات وتطبيق مبدأ استقلال الدولة عن الدين، حسب شعار الدين لله والوطن للجميع، وما يعنيه من مساواة جميع المواطنين مبدئيا أمام القانون، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والفكرية. وحتى عندما ألغت النخب الرديكالية القومية هذا الفصل بين السلطات لم تتراجع عن تأكيد استقلال الدولة عن السلطة الدينية.
وشهدت المجتمعات العربية تحولات عميقة في نظمها الاجتماعية والتعليمية والصحية. وقادت السياسات الاشتراكية والاجتماعية إلى تقليل الفوارق بين الطبقات وتراجع كبير في معدلات الفقر جعلت من العالم العربي حتى الثمانينات أفضل المناطق في العالم في عدالة توزيع الدخل. كما بذلت حكومات المنطقة في ذلك الوقت جهودا بناءة في سبيل نشر التعليم الحديث وتعميمه وإدخال المرأة في الحياة العامة.
وبالرغم مما كانت تمثله المسألة الاسرائيلية - التي نشأت عن الإعلان أحادي الجانب عن قيام دولة إسرائيل على الجزء الأكبر من الأرض الفلسطينية، وتشريد معظم أبناء الشعب الفلسطيني - من ضغط متواصل على الدول الفتية، فقد نجحت الحكومات العربية في احتواء التوسعية الاسرائيلية وفي المقابل الانخراط بشكل أكبر في عملية البناء الداخلي.
باختصار لقد شهدت البلاد العربية في حقبة ما بعد الاستقلال، في إطار التوازن الجديد للقوى الذي أفرزه انهيار النظام الاستعماري القديم، تحولات قوية وايجابية في ميادين تأكيد هامش مناورة استراتيجية كبيرة إقليمية عزز السيادة الوطنية لدولها، كما شهدت ترسيخ الهوية الثقافية بعد قرون من التردد والتوتر بين العصبيات المحلية والولاءات الدينية والفكرة الوطنية، وأرست دعائم دولة ومؤسسات حديثة منفتحة على المشاركة الشعبية، سواء أجاء ذلك عن طريق المشاركة الانتخابية أو الانخراط في الحركات التجديدية الانقلابية، وساهمت من خلال خططها التنموية الهادفة في خلق قاعدة اقتصاد صناعي حديث كانت البلدان العربية تفتقر إليه بالإضافة إلى الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها في ميدان الخدمات الاجتماعية الصحية والتعليمية والإنسانية الأخرى. ومجموع هذه الانجازات جعلت من هذه الحقبة تبدو وكأنها استعادة لمجهود النهضة العربية التي بدأت منذ القرن التاسع عشر وموجة ثانية من موجات التحديث التي نقلت العالم العربي من حالة الهامشية والركود والخضوع للأجنبي إلى حالة التحول والتغير السريع والشراكة العالمية. ولذلك بدا الجهد المتواصل والمتنوع الذي عرفته الدول العربية في مجال التحديث في ذلك الوقت وكأنه مشروع النهضة الثانية الذي قادته مصر الناصرية بعد مشروع التحديث الأول الذي كان لمصر أيضا قصب السبق فيه.

من هنا، ليست الحقبة التي نعيشها منذ الثمانينات من القرن الماضي امتدادا طبيعيا كما يعتقد الرأي العام، لحقبة مابعد الاستقلال الوطنية التي تحدثت عنها أعلاه وإنما تشكل خيانة كاملة لها بقدر ما تجسد الارتداد على خياراتها الأساسية جميعا والعودة عنها نحو رهانات مناقضة لها ومختلفة جذريا عنها. وربما كان السبب في الاعتقاد بأنها امتدادا للحقبة الوطنية هو أنها تأتي تتويجا لها وثمرة إخفاقها، مما يوحي بإمكانية أو احتمال أن يكون أصحابها وقادة مشروعها هم المسؤولين أيضا عن ما حصل بعد إخفاقها. وبالفعل، قاد فشل عملية التحويل السريعة والجريئة والطموحة التي تصدت لها النخب السياسية والثقافية القومية المنبثقة عن الحركات الوطنية، والتي تشكل امتدادا طبيعيا لها، إلى وضع يشبه كثيرا ما قاد إليه إخفاق تجربة محمد علي التحديثية في أواسط القرن التاسع عشر، إعني إلى نشوء أرستقراطية مالية وعقارية قوية تحتكر السلطة والثروة في البلاد وتحول دون أي مشاركة شعبية وتصادر الدولة كما لو كانت أداتها الخاصة لصيانة مصالحها وجعل البلاد مزرعة خاصة بها، وإلى اتباع سياسات كمبرادورية قائمة على التبعية والعمل تحت إمرة الشركات والدول الأجنبية ولحسابها ضد مصالح التنمية المحلية.
وكان من نتيجة ذلك الإفقار والتهميش الجماعي للسكان على جميع المستويات والانحطاط بمعايير الانتاج والعمل والإدارة والسلوك العام واحتواء المؤسسات الرسمية عن طريق تعميم المحسوبية والزبونية والعائلية وإحداث قطيعة نهائية بين النخب السائدة والحاكمة والمجتمع وتكريس أو تشريع
ممارسة سياسات التمييز العنصري أو شبه العنصري تجاه الأغلبية الاجتماعية. لكن ذلك ليس ثمرة الالتزام بالقيم الوطنية ولا تحقيق الوحدة العربية، ولكن بسبب التنكر لهما وعدم الوفاء بالالتزامات المترتبة عليهما، لصالح خدمة المصالح الشخصية لنخب لم تعرف يوما أي معنى للمسؤولية، الفردية منها والجماعية.

mercredi, novembre 23, 2005

من أجل فك الحصار عن سورية

الاتحاد 23 نوفمير 2005

بالرغم مما يوجهه قرار مجلس الأمن الأخير رقم 1636 من تحد استثنائي لسورية، نظاما وشعبا معا، إلا أنه لا يعبر عن حقيقة الأزمة التي تعيشها سورية ولا يختصرها بقدر ما شكل أحد نتائجها الخطيرة. بل يكاد التركيز الراهن على ملابسات جريمة اغتيال رفيق الحريري يطمس جوهر هذه الازمة أكثر مما يكشف عنها. فهي أكبر بكثير من المشاركة المحتملة لبعض مسؤوليها في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني وسابقة عليه أيضا. إنها مرتبطة بأزمة نظامها الذي خضعت له منذ ما يقارب نصف قرن والذي اعتمد، في سبيل الحفاظ على نفسه على تحييد المجتمع وإخضاعه بوسائل آلية متعددة، أمنية وغير أمنية، وعلى التعويض عن الفراغ السياسي الداخلي بالتفاهم مع القوى الإقليمية والدولية والانخراط في استراتيجياتها المختلفة، دون ايلاء أهمية كبيرة لمصالح الدولة والمجتمع معا.
وبالرغم من أن هذا النظام قد عرف تحولا كبيرا في مصادر القوة التي اعتمد عليها، فانتقل من آليات الاستخدام المعمم للرشوة المادية والسياسية، لكسب الزبائن وبناء قاعدته الاجتماعية، إلى آليات الحجر على المجتمع وتحييده بقوة تدخل الأجهزة الأمنية، إلا أن وجوده لم يتعرض لأي تهديد خطير في المراحل السابقة. فقد عوض الاستخدام الموسع للعنف السياسي والعسكري المغلف بغلاف قانوني (أحكام الطواريء والمحاكم الاستثنائية) وتجريم كل عمل أو نشاط جماعي مدني او سياسي يخرج عن إرادة الحزب الحاكم والاجهزة الأمنية، نضوب الموارد النسبي واستفراد الطبقة الجديدة بها.
ولا يختلف الأمر عن ذلك في ما يتعلق بمصير التفاهمات الخارجية التي سمحت للنظام بالحصول على هامش كبير للمبادرة الإقليمية التي اعتمد عليها لتمكين سيطرته على الداخل. فبعد أن اعتمد النظام في مرحلته الأولى على التفاهم الاستراتيجي، الذي تحقق على يدي الرئيس الراحل حافظ الأسد في بداية السبعينات من القرن العشرين، بين النظام السوري والدول المحورية في المشرق العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ومصر، إضافة إلى دول الكتلة السوفييتية السابقة، لم يجد النظام صعوبة كبيرة في تعويم نفسه والانخراط في اللعبة الإقليمية من جديد، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وقد نجح مؤسس النظام، بالرغم من "ثقل" المواقف الايديولوجية، في الالتفاف على الأزمة وإعادة بناء إطار التفاهمات الخارجية مع الدول الغربية على أسس ضمنت له حدا كبيرا من حرية الحركة والاستقلالية التي استخدمها للفتك بخصومه ومعارضيه وحماية خياراته الأساسية. وكما أن استخدام الرعب لإخضاع السكان في المرحلة الثانية لم يكن أقل فاعلية في الحفاظ على الهدوء الداخلي والإذعان العام من استخدام الرشوة الذي كان سلاح المرحلة الأولى، كذلك لم تؤثر ظرفية التفاهمات الجديدة - التي قدمت المشاركة العسكرية في التحالف الدولي ضد العراق عام 1991 مثالا حيا عليها - على ردعية النظام. فقد نجح في الحالتين، وبالرغم مما أصابه من تراجع، في الجمع بين استخدام سلاح القمع الشامل والابقاء على الشعارات الشعبوية بل الاشتراكية، كما نجح في الربط بين التفاهم مع القوى الغربية التي ستضمن بقاؤه في مرحلته الثانية والاستمرار في رفع شعار التمسك بالثوابت الوطنية والصراع ضد الامبريالية. وإلى حين انتقال السلطة إلى الدكتور بشار الأسد عام 2000 كان النظام السوري لا يزال يمتلك جميع أوراق قوته الداخلية والخارجية.
في أقل من خمس سنوات انقلب الوضع كليا على الجبهة الداخلية والخارجية. فبروز المعارضة، حتى في حالتها المتسمة بالكثير من الضعف والتشتت، أحدث شرخا عميقا في سطوة النظام الداخلية بقدر ما كسر وهم الأحادية وغطى على مناخ الاستسلام والتسليم الشعبيين. وبالرغم من ضآلة عدد أفرادها تحولت المعارضة بتركيزها على الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وحرياته الأساسية إلى محور الحياة السياسية للبلاد بقدر ما فرضت على النظام واقع التعددية السياسية وأجبرته على الدفاع عن شرعيته أو طرح مسألة الشرعية. فمنذ سنوات لم يعد للنظام ومسؤوليه السياسيين والأمنيين والإعلاميين عمل آخر سوى الاشتغال بالمعارضة، إما من خلال التهجم عليها أو التنديد بها أو توجيه الاتهامات لها أو ملاحقة أفرادها بجميع الوسائل شبه القانونية وغير القانونية. وإذا كانت المعارضة قد بقيت بالفعل معزولة عن الجمهور السوري العريض إلا أنها تخترق النخبة السورية بأكملها، بما في ذلك النخبة البعثية التي يتعاطف قطاع واسع منها مع أطروحات التغيير الديمقراطي. وكما بدأ النظام يفقد تدريجيا في مواجهته الخاطئة لمطالب المعارضة أوراق قوته الداخلية الرئيسية المتمثلة باستسلام المجتمع وانسحابه الكلي من السياسة، وبالتالي توكيل النظام في شؤونه الداخلية والخارجية جميعا، بدأ يفقد أيضا منذ انطلاق نزاعه العلني مع القوى الغربية، أوراق قوته الخارجية التي تتمثل في التفاهم الثابت أو الظرفي مع الدول الكبرى ذات المصالح الحيوية في المنطقة المشرقية.
ومع تبني مجلس الامن قرارات تؤكد الاشتباه بالتورط السوري في مقتل الرئيس الحريري يكون النظام قد وصل إلى طريق مسدود. فقد قضى انهيار الثقة بسياساته الإقليمية على أي أمل له بتجديد عقد الوكالة الخارجي، في الوقت الذي لم يعد لديه ما يعد به الداخل السوري سوى "المقاومة" الانتحارية. ولا تتجلى آثار هذا الانسداد في تقلص هامش مناورة الحكم الاستراتيجية إلى حدها الأقصى فحسب ولكنها تتجلى أيضا في تعطل عمل الدولة ومؤسساتها التي تعيش حالة سبات حقيقية. فهي مشلولة في التعامل مع شعبها الذي يطالب نهار مساء بالاصلاح والتغيير ومحاربة الفساد من دون أن يجد صدى لمطالبه على أي صعيد. ومشلولة أيضا تجاه القوى الخارجية التي وضعت السلطة في قفص الاتهام ولا تجد سبيلا للتعامل معها سوى انتظار المعجزات. هكذا، من دون أن تطالها عقوبات اقتصادية، وفي ما وراء المظاهر اليائسة لتفعيل بعض الصداقات السطحية، تعيش سورية عزلة دولية متزايدة وتعاني من مقاطعة خارجية دبلوماسية واقتصادية فعلية، في الوقت الذي ينبغي فيه، لضمان مصالحها الوطنية، أن تراهن فيه على تفعيل علاقاتها الغربية من أجل استعادة الجولان المحتل وتحسين شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية وامتصاص البطالة المستفحلة التي سيزيد من انتشارها إغلاق المنافذ الإقليمية والدولية.
سيدفع استمرار الوضع الراهن لا محالة، من وراء مظاهر المسايرة والإذعان السطحية، ومهما بلغت قوة الحملة المنظمة التي تقودها الحكومة لإبراز الالتفاف حول النظام، إلى تعميق الهوة التي تفصل بين مصالح الحكم من جهة ومصالح المجتمع والدولة من جهة أخرى. وهذا ما ترمي إليه العقوبات التي لا تهدف في الواقع إلا إلى محاصرة النظام لدفعه هو نفسه، خوفا من حصول تفاهم بين قوى الضغط الخارجية والداخلية، إلى تعزيز حصاره على المجتمع ومن وراء ذلك إلى زعزعة استقراره بيده.
وإذا لم نرد أن ينتهي كل ذلك بزعزعة خطيرة لاستقرا سورية نفسها، كدولة ومجتمع، لا مهرب من أن يتحمل كل مواطن سوري قسطه من المسؤولية في سبيل فك الحصار عن سورية وإعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي. والمجرى الطبيعي للأمور أن لا تكون البلاد في حالة عزلة تحرمها من ثمار الازدهار الذي يؤمنه العمل والتفاعل مع المجتمعات الأخرى، وأن يكون التواصل قويا بين الطبقة الحاكمة والرأي العام بحيث لا يحتاج النظام في سبيل ضمان بقائه إلى حجز حرية الأفراد وانتهاك حقوقهم وإلغاء مبادراتهم وفرض الحصار السياسي والأمني والإعلامي المنهجي والمكلف عليهم لمنعهم من التفكير والتنظيم والحركة. وليس هناك سوى وسيلة واحدة لكسر العزلة واستعادة المبادرة السورية من القوى الخارجية، وهي الخروج من النظام نفسه الذي قاد إليها. وكل ما عدا ذلك مضيعة للوقت ستكلف البلاد غاليا جدا من دون أن تقدم مخرجا لأحد.

dimanche, novembre 20, 2005

ثورة المهمشين

الجزيرة نت 20 نوفمبر 06

لا تزال الاضطرابات التي أولعت شرارتها في السابع والعشرين من اكتوبر 2005 بعض الأحداث الدامية المحدودة التي راح ضحيتها بعض الشباب المهاجرين على يد الشرطة الفرنسية بالإضافة إلى العبارات الاستفزازية لوزير الداخلية الفرنسي نيكولا سركوزي وربما أيضا، كما يعتقد بعض المحللين قطع المعونات في بداية العام الحالي عن الجمعيات الأهلية التي تعمل في الضواحي الباريسية، مستمرة دون توقف منذ أسابيع. ولا يزال إحراق السيارات والمكتبات والمدارس والمحلات التعبير المباشر عنها أيضا في العديد من المناطق الفرنسية بالرغم من الإجراءات المتشددة التي اتخذتها السلطات ، بما في ذلك فرض حظر التجول من التاسعة مساءا حتى الفجر في 25 محافظة من المحافظات الفرنسية البالغة 96، بحسب قانون الطواريء نفسه الذي صيغ لوضع حد لتظاهرات تأييد الثورة الجزائرية وإدانة الحرب الاستعمارية في الجزائر عام 1955. لا بل إن رقعة الاضطرابات تزداد اتساعا في فرنسا وخارجها. وتخشى بلدان عديدة أوروبية في مقدمها ألمانيا وإسبانيا حيث يعيش ملايين السكان من أصل أجنبي، عربي أو أفريقي أو آسيوي عموما، من انتقال عدوى تظاهرات الاحتجاج والغضب والتدمير إليها.
تثير هذه الأحداث ردود فعل متباينة عند الفرنسيين وقطاعات الرأي العام العالمي الأخرى. ففي البلدان العربية التي تغرق في نزاعات وحروب متعددة المصادر والأغراض، وتتعرض لضغوط داخلية وخارجية متزايدة وقوية منذ عقود، يوحي تركيز وسائل الإعلام، وفي مقدمها الفضائيات العربية، على صور الاحراق والتخريب المثيرة بأن ما تعيشه فرنسا هو ثورة حقيقية تعصف بمدنها وقراها، حتى أن العديد ممن أعرفهم قد تلقوا اتصالات هاتفية من ذويهم المقيمين في البلاد العربية للإطمئان عليهم. أما في الولايات المتحدة التي يضمر فيها قسم كبير من الرأي العام حقدا دفينا على الفرنسيين الذين يرون فيهم حجر عثرة تقف أمام نجاحهم في تطبيق سياستهم الدولية، ويرجعون هذا الموقف نفسه إلى ما يتسم به هؤلاء من غطرسة تجعلهم يحلمون باحتلال موقع الاتحاد السوفييتي السابق ولعب دوره كمنافس للولايات المتحدة على الساحة الدولية، فقد ذهب التشفي عند بعض المسؤولين إلى درجة وصف تظاهرات العنف بالحرب الأهلية الفرنسية. وفي إسرائيل التي لا تنظر إلى العالم إلا من منظار القضاء على الهوية والدولة الفلسطينية، تحدثت وسائل الإعلام عن الانتفاضة العربية لتطابق بين ثورة الفلسطينيين الوطنية وتظاهرات الغضب المدمر الباريسية. وفي جميع البلدان التي تدعو لمزيد من الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية كان الميل قويا للتأكيد على انهيار النموذج الفرنسي الذي يرفض التعددية الثقافية وينادي بانصهار الجميع، بصرف النظر عن أصولهم واعتقاداتهم وثقافتهم، في مصهر الجمهورية العلمانية التي لا تتعامل مع أبنائها إلى من زاوية المواطنية الفردية.
تنطوي هذه التغطيات الإعلامية والتفسيرات التي تنطوي عليها على مبالغات كبيرة في الواقع. فالاضطرابات على عنفها لا تمس إلا مناطق صغيرة محصورة ببعض الضواحي التي تقطنها جماعات متعددة الأصول والثقافات، بما في ذلك من الفرنسيين الأصليين، ولا تضم الجسم الكبير للمجتمع الفرنسي ولا حتى الشريحة الفرنسية المنحدرة من أصول أجنبية مهاجرة. إنها تعبر بالأحرى عن الحالة النفسية المتمردة لتلك الفئات التي بقيت، لسبب أو آخر، على هامش المجتمع، أو التي تركها المجتمع تغرق في الهامشية الجغرافية والاجتماعية والسياسية والثقافية، بما يعنيه ذلك من الإدانة بالفقر والبطالة وانعدام الآفاق والشعور العميق بالظلم والانسحاق. فمعظم سكان هذه المحليات التي تميل إلى أن تكون معازل أو غيتوات على أطراف المدن الفرنسية الكبرى لا تملك موارد خاصة ولا تنشأ فيها أعمال ولا فرص عمل. وتبلغ تسبة البطالة لدى الشباب فيها عموما ضعف النسبة المتوسطة الفرنسية وتزيد في بعض الأحيان عن 50 بالمئة. فهي لا تعيش إلا بفضل المعونات الاجتماعية.
وبالرغم من أن القسم الأكبر من هذه الفئات ينحدر من أصول عربية وأفريقية إلا أن من بينها أبناء جنسيات عديدة أخرى، وفيها فرنسيون كثيرون أيضا. فهي تشكل ظاهرة اجتماعية حقيقية هي ظاهرة المحرومين الذين تركهم قطار التقدم الاقتصادي والاجتماعي النازع إلى العولمة على قارعة الطريق في العقود الثلاثة الماضية. ولا تقتصر هذه الظاهرة على فرنسا وحدها ولكنها موجودة في كل الدول الصناعية الأوروبية والأمريكية. وبالرغم من أننا لا نملك إحصائيات عن حجم هذه الشريحة من السكان التي لم تستطع لسبب أو آخر اللحاق بقطار التقدم فهي لا ينبغي أن تتجاوز 5 إلى 10 بالمئة حسب البلدان وحسب ديناميكية اقتصاده ونسبة النمو الاقتصادي. ومن هنا فهي تختلف كثيرا كظاهرة اجتماعية في طابعها عن ظاهرة الإفقار المتزايد الذي يمس أغلبية السكان في البلدان النامية. فلا تبدو المشكلة هنا على أنها مسألة سوء توزيع للدخل الوطني أو لثمار التقدم لصالح فئة صغيرة محدودة لا تزيد عن الخمسة بالمئة ولكن على العكس كإسقاط لفئات اجتماعية كاملة من الحساب واستبعاد لها من الجماعة الوطنية.
ولعل ما أضفى على الاضطرابات الاجتماعية في فرنسا سمة عنيفة ومستمرة بالمقارنة مع الاضطرابات العديدة التي انفجرت في الكثير من البلدان الصناعية في السنوات القليلة الماضية عاملان، يميزان الحالة الفرنسية بالفعل عن غيرها. العامل الأول هو التطابق المتزايد بين حدود الحرمان والفقر من جهة وحدود الانتماءات الإتنية من جهة ثانية بحيث يتركز الحرمان في وسط الفئات المنحدرة من أصول مهاجرة جنوبية. ولا شك أن سبب هذا التركز للحرمان في أوساط السكان المنحدرين من أصول عربية وأفريقية هو الميول العنصرية التي ميزت سلوك المجتمع الفرنسي تجاه هؤلاء، والتي جاءت كتكريس للعلاقة الاستعمارية القديمة وتعبير عن استمرارها بوسائل أخرى أيضا. ولا تظهر العنصرية في الخطاب السياسي الرسمي الذي يؤكد بالعكس على الحقوق المتساوية للمواطنين بصرف النظر عن أصلهم ودينهم ولكن في الممارسات اليومية للمجتمع نفسه. ويعاني العرب والأفارقة بشكل يومي من التمييز العنصري في مسائل العمل والحصول على السكن أو حتى في كراء منزل. ومما يعزز من هذه العنصرية سياسة الاستبعاد التي مارستها جميع الحكومات الفرنسية منذ عقود، اليمينية منها واليسارية والتي جعلت المؤسسات والمناصب العليا الرسمية، من حكومة وبرلمان وقضاء وإدارة وشرطة وغيرها، تخلو أو تكاد تخلو تماما من الوجوه المنحدرة من أصول عربية، بالرغم من أن هؤلاء يشكلون اليوم ما يقارب العشرة بالمئة من السكان. ومن هذه الناحية لا تبدو فرنسا السياسية متخلفة كثيرا عن الولايات المتحدة التي عينت كولن باول ثم كوندوليزا رايس في منصب وزراء خارجية الدولة الكبرى في السنوات الماضية وإنما بالمقارنة مع العديد من الدول الأوروبية الأخرى التي سبقتها في تشجيع السكان من أصول مهاجرة على الانخراط في الحياة العمومية وتحمل مسؤولياتهم الوطنية.
أما العامل الثاني فهو يرتبط بتلك الديناميات التي جعلت فئة المحرومين تتركز عموما في مناطق جغرافية جانبية تكاد تكون معزولة تماما عن المدن، وما تتميز به من حركة ونشاط وفرص اندماج أو تفاعل مع الآخرين، لتشكل معازل أقوامية وثقافية ونفسية أيضا. وهكذا أصبح سكان بعض الضواحي القريبة من المدن يجمعون بشكل لا سابق له بين الحرمان الاقتصادي والتهميش الإجتماعي والتمييز الثقافي أيضا. وهو مما يضاعف من الشعور بالظلم والغبن والاستبعاد من الحياة العمومية. وتكاد ظاهرة دفع الفئات الفقيرة من المدن نحو الضواحي تقتصر على فرنسا، وربما على باريس بشكل واضح. ويعكس هذا سوء السياسات العمرانية الفرنسية التي فضلت منذ البداية تحويل باريس إلى مدينة برجوازية وأخرجت أو سمحت بخروج ذوي الدخل المحدود شيئا فشيئا إلى الضواحي وتوطنهم بشكل رئيسي في المناطق الأرخص منها. ورخصها مرتبط هو نفسه بانعدام الخدمات فيها وصعوبة التواصل بينها وبين باريس التي تشكل قلب الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية الفرنسية.
لكن مهما كان الحال لا تقتصر ظاهرة المهمشين على فرنسا وإن كانت الأكثر بروزا فيها. وهي ظاهرة عامة في البلاد الصناعية التي تجذب المهاجرين من البلاد الفقيرة الأخرى. وهي تنبع من واقع أن الفقر يتخذ أكثر فأكثر طابعا أقواميا نتيجة احتلال المهاجرين الجدد القادمين من بلدان فقيرة لأسفل السلم المهني وبالتالي التظابق المتزايد بين حدود الفقر وحدود الانتماء للأقليات الأقوامية الجديدة. وما حدث في الضواحي الباريسية والفرنسية عموما في الأسابيع الماضية ليس في نظري سوى الحلقة الأولى من سلسلة اضطرابات قوية لن تهدأ، في فرنسا وفي بقية الدول الصناعية قبل أن تنجح المجتمعات والدول الصناعية، والأوروبية منها بشكل خاص، في كسر هذه الديناميكية الجديدة التي تدفع بشكل مضطرد إلى مطابقة حدود الحرمان مع حدود الانتماء الأقوامي ليتحول الفقر إلى تهميش وهامشية، مطابقا بذلك بين قضايا الاحتجاج الاجتماعي التقليدي الذي عرفته الطبقات الشعبية في الماضي وقضايا الثورة على التمييز العنصري الثقافي والأقوامي الذي يعيد إحياء ذكريات وذاكرة العهود الاستعمارية.
ومن هنا لا تطرح هذه الاضطرابات أسئلة عديدة على الفرنسيين فحسب ولكن على جميع الدول الصناعية التي تجتذب وستظل تجتذب الملايين من المهاجرين الجدد الذين سيحتلون مواقع دونية من جميع النواحي: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في الوقت الذي تشيع فيه الثورة المعلوماتية، كما لم يحصل في أي وقت سابق، روح المساواة والندية بين جميع الشعوب والأقوام، وتفقد أمام ذلك بريقها الكاذب جميع ايديولوجيات التفوق الثقافي العنصرية. لكنها تطرح أيضا وبالمثل أسئلة كثيرة على البلدان الفقيرة التي تلفظ أبناءها بالملايين أيضا نتيجة العجز المتزايد عن تأمين شروط الحياة الانسانية العادية على قاعدة تأمين الحد الأدنى من الانسجام مع معايير العصر المادية والأخلاقية. وهي توجه تحديات لا سابق لها للمنظومة الدولية، أي لنظامها الجماعي، ولتوجهات مؤسساتها الكبرى المالية والاجتماعية، ولسياساتها الضعيفة التي لا تزال قاصرة وأحيانا متناقضة مع ما يتطلبه تحقيق السلام والأمن الدوليين من القبول بمفاوضات عالمية جدية تشارك فيها جميع الشعوب في سبيل بلورة حلول متسقة ومتفاهم عليها لجميع المشاكل الدولية. وفي مقدمة هذه المشاكل واهمها من دون شك مشكلة التنمية الانسانية وبناء نظام عالمي متوازن يبعث الأمل ويقنع جميع الأطراف بفائدة التعاون والتضامن والعمل المشترك البناء، يخلف نظام الفوضى الراهن الذي تسعى فيه بعض الأطراف القوية إلى جر العالم أجمع إلى معارك وهمية أو مصطنعة تدفع الجميع إلى اليأس وتزيد من مخاطر التخريب والعدوان.

lundi, novembre 14, 2005

سورية بين خيارين

الجزيرة نت 14 نوفمبر 05
بتصويت مجلس الأمن في 31 اكتوبر 2005 على القرار رقم 1636 الذي يفرض على سورية التعاون الشامل ومن دون قيد أو شرط مع لجنة التحقيق الدولي انتهت مرحلة المواجهة السورية الغربية العصيبة التي دامت ما يقارب السنتين، حاول الحكم السوري خلالها الدفاع عن هامش مناورة إقليمية اعتقد أنه يملكه عن جدارة ويحق له بموجبه فتح مفاوضات مع التحالف الغربي لا تتعلق بمصالح البلاد العليا بقدر ما تتعلق بوجوده نفسه. فقرار مجلس الأمن لا يترك للنظام البعثي خيارا آخر إذا أراد المحافظة على بقائه سوى الإذعان لمطالب الدول الغربية والعمل في السياق الاستراتيجي والجيوستراتيجي الذي تفرضه عليه أو تطلبه منه. باختصار لقد وضع القرار مصير النظام السوري في قبضة اللجنة الدولية ومن ورائها الدول الغربية التي صنعتها. وهي وحدها التي تستطيع أن تحتوي نتائج تقرير القاضي الدولي وأن تنقذ النظام إذا تأكدت من أن عملية التطويع التي قامت بها قد وصلت إلى نتائجها المنشودة وأن النظام السوري أصبح جاهزا للرد بايجابية على كل ما يتطلبه منه التوافق مع الاستراتيجية الأمريكية الأوروبية في الشرق الأوسط.
وكما أنه لا ينبغي أن يكون لدينا أوهام عن ملابسات تكوين لجنة التحقيق الدولية، وطابعها السياسي، بصرف النظر عن تقديرنا لمهنية القاضي ميليس، فهي لجنة سياسية بامتياز، تماما كما أن اغتيال الحريري عمل سياسي، ومقاومة لجنة التحقيق الدولية وعرقلة عملها سياسيان أيضا، لا ينبغي أن يكون لدينا أوهام عن قدرة النظام على التملص من قبضة التحالف الغربي بعد التصويت على قرار مجلس الامن الأخير. فليس لدى هذا النظام أي حظ في الافلات من المصيدة التي وقع فيها. ولا تعمل الاوهام التي يخلقها بعض المحللين السياسيين الدوليين في سياق نقدهم الصحيح والأخلاقي للسياسات الأمريكية على إجلاء الصورة للقادة وللرأي العام العربي والسوري. فلن تغير المدخرات السورية ولا الاستقلال الغذائي ولا الحمية الوطنية كثيرا من واقع النكسة الخطيرة التي تعرضت لها السياسة السورية بالتصويت على قرار مجلس الامن الذي يكرس نزع السيادة الوطنية لصالح قاض أجنبي ومن ورائه، أو على الأٌقل تعطيلها. ولن يغير نشر مثل هذه الأوهام من توجه النظام السوري، رغما عنه، نحو التسليم والإذعان للإرادة الغربية. ولن يغير وجود تيار يطالب بالمقاومة داخل النظام من اندفاع أصحاب المصالح الرئيسية فيه للتوافق مع المطالب الغربية. فهم يعرفون أن بديل التعاون الكامل هو الانتحار. وبين الانتحار والتفاوض على جزء من المصالح، حتى الرئيسية منها، سيختار هؤلاء بالتأكيد التعاون والتسليم بجميع المطالب الغربية. بل إن الكثيرين من الذين آمنوا بالطابع الوطني لبرنامج النظام سوف يذهلون لرؤية الحماس الذي سيواجه به هؤلاء، بعد أن يتم توقيع صك الاستسلام، مصيرهم الجديد كأدوات للتبشير بفائدة هذا التعاون وأهميته بالنسبة للمصالح الوطنية السورية، تماما كما كانوا يربطون بين الثوابت الوطنية وسياسات المواجهة الطفولية والشعاراتية ضد القوى الغربية.
لكن السؤال المطروح هو في ما إذا كان التحالف الغربي نفسه لا يزال معنيا بإنقاذ النظام ؟
ليس للأمريكيين والاوروبيين أيضا في نظري خيار آخر سوى إعادة تأهيل النظام ودفعه إلى الاشتغال لصالحهم وحسب خططهم الاستراتيجية الإقليمية. ومن يتابع نقاشات المسؤوليين وتصريحاتهم يدرك تماما إلى أي حد يرفض هؤلاء الحديث عن تغيير النظام ويكادون لا يتحدثون إطلاقا، عندما يثيرون مشكلته، عن أجندة التحولات الديمقراطية. إن ما يهمهم هو ثنيه عن اللعب بمصالحهم الإقليمية في سبيل الحفاظ على مصالحه الذاتية. وهم يعتقدون أن نظاما بعثيا ضعيفا وخاضعا تماما لهم يشكل في المرحلة الراهنة على الأقل خيارا أفضل بكثير من خيار التغيير الذي يفتح الوضع السوري على احتمالات مجهولة عديدة. وليست الفوضى أو الحرب الأهلية أو الطائفية، كما تقول أجهزة دعايتهم وأجهزة دعاية النظام التي تلتقي جميعا في هذه النقطة بقدر ما ترفض سوية فكرة التغيير، هي المقصودة بالحديث عن الاحتمالات المجهولة، ولكن فقدان السيطرة الأمريكية الأوروبية، وبشكل خاص الاسرائيلية، على الوضع في حال انتقال سورية بالفعل نحو نظام تعددي ديمقراطي يعيد إدخال الشعب إلى الحياة السياسية كما يعيد السيادة إلى برلمان يمثل الشعب ويصبح عقبة أمام تمرير مشاريع الهيمنة والقرارات التي تضمن المصالح الأجنبية كما يجبر إسرائيل على فتح المفاوضات من جديد حول الجولان المحتل. ومن هنا لا يخفي المسؤولون الغربيون والاسرائيليون، بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي يوجهونها إلى النظام القائم، تفضيلهم لخيار تعديل سلوك النظام في مقابل خيار تغييره. وهو ما يتجلى بشكل واضح أيضا في طبيعة الانتقادات التي يوجهونها له من جهة ورفضهم الاعتراف بالمعارضة الديمقراطية الوطنية من جهة ثانية. وليس هناك شك في أن من مصلحة التحالف الغربي أن يتمسك بواجهة النظام، بعد أن أخضعه لإرادته وأصبح بإمكانه أن يستخدمه كجزء من عدته السياسية والاستراتيجية لتحقيق أهدافه الإقليمية. وبذلك يكون هذا التحالف قد قضى على حركة التمرد الأهوج الذي راود النظام لفترة بسبب تمتعه ببعض النفوذ الإقليمي الذي أوحى له بإمكانية وضع أجندة خاصة بأصحابه ومصالحهم، بعد أن توسعت دائرة تحالفاتهم الإقليمية واستقر لهم الوضع لعقود طويلة متواصلة، مستقلة عن أجندة السياسات الغربية الإقليمية. فكان لا بد أن تصطدم هذه الأجندة الخاصة بأجندة التحالف الغربي ومصالحه من دون أن يكون لها، كما يدعي أصحاب النظام، أي علاقة بالأجندة الوطنية السورية أو العربية التي يشكل حذفها أساس التفاهم الاستراتيجي بين الطرفين منذ عقود طويلة. فلم يكن قبول التحالف الغربي بنظام الرشوى والفساد واحتكار السلطة وتعميم القمع والحد من الحريات في الداخل السوري سوى الثمن الضروري للحفاظ على نظام الهيمنة الاستعمارية أو شبه الاستعمارية في الخارج الإقليمي. وليس سبب النزاع الذي نشب بين هذا التحالف وبعض الأنظمة العربية ومنها النظام السوري تمسك هذه الأخيرة بأجندة مصالح وطنية أو اكتشافها المفاجيء لوجود مثل هذه المصالح، ولكن تجاوز النخب الحاكمة، في السعي المحموم إلى تعظيم مصالحها السياسية والمالية، حدود ما هو مسموح به للحفاظ على النظام شبه الاستعماري ككل، وبالتالي تهديدها استقرار هذا النظام. إنه بالأحرى شرهها وطمعها الزائد الذي تجلى من خلال إباحتها لنفسها نسف كل ما يتعلق بأسس الحياة المدنية والسياسية في المنطقة برمتها وفي بلدانها أيضا في سبيل مراكمة الثروات بالطرق المشروعة وغير المشروعة ودفع المنطقة كلها نحو الخراب والفقر والبطالة والعنف والفوضى. وأمام خطر الانفجار ما كان لحماة النظام الأصليين مهرب من التدخل لإعادة الأمور إلى نصابها وتقليم أظافر الوحش نفسه الذي رعوه واعتمدوا عليه في إرهاب المجتمعات التي يريدون السيطرة عليها وإخضاعها.
والوحش ليس هنا سوى الأنظمة التسلطية نفسها. ومن هنا ليس مشروع الدول الغربية التخلص من هذه الأنظمة على الإطلاق وإنما تشذيبها وإعادة تأهيلها بعد أن خرجت عن حدود العقل والسياسة والسيطرة معا وصارت تطمح بأن تكون سيدة أمرها، تجاه الخارج بعد أن تخلت عن أي التزام أمام الداخل الوطني.
تنطوي عملية التأهيل بالتأكيد على إعادة بناء هذه الأنظمة من ناحيتين: التوافق مع الحد الأدنى من معايير العمل والسلوك السياسية الراهنة بما يعنيه ذلك من السعي إلى الاقتصاد في العنف للتخفيف من نمو العنف المضاد الذي بدأ يسبب مشاكل كبيرة لاستقرار النظام العام. وإجراء عملية فرز داخل النخب الحاكمة تقضي بتقليم أظافرها وكسر أنيابها لتخفيف الضغط عن المجتمعات وإعادة بعض الثقة إليها. وهو ما يتطلب تخليصها من الفئة الأكثر توحشا وأنانية فيها. وربما كانت ترجمة ذلك إتاحة حد أدنى من الحريات الفكرية والسياسية وفرض نظام التعددية الحزبية بما يعنيه من منافسة ظاهرية على مناصب المسؤولية مع الاحتفاظ بجوهر السلطة في يد الأجهزة الأمنية بعد إصلاحها وتطوير أدائها وربطها بالأجهزة الغربية.

لكن إذا لم يكن أمام النظام خيار آخر سوى التخلي عن هامش الاستقلالية الذي ميز سلوك شبكة المصالح السورية الحاكمة والالتحاق من مستوى التبعية الكاملة بالجوقة الأمريكية الأوروبية على شاكلة الأنظمة العربية الأخرى التي سبقته، وفي الظروف نفسها وللأسباب ذاتها، ومن ثم المساهمة في إعادة بناء النظام الاستعماري الإقليمي الجديد، فالأمر يختلف تماما بالنسبة لسورية والشعب السوري. فلديهما بالعكس خيار آخر يقطع تماما مع نظام سيادة الأجهزة الأمنية ولو على أسس أقل وحشية، هو التحول الديمقراطي الوطني الذي يقوم على السيادة الشعبية وبناء نظام قائم على المواطنية والمشاركة السياسية المتساوية والمحاسبة والمراقبة والشفافية وتداول السلطة والانتخابات النزيهة التنافسية والذي يضمن وحده الحريات الفردية والجماعية ويحقق المساواة الكاملة بين المواطنين والفصل بين السلطات كما يضمن استعادة الحقوق الوطنية وفي مقدمها الحق في السيادة والاستقلال.
ولا ينبغي انتظار استعادة نظام السيطرة شبه الاستعمارية لتوازنه وحله تناقضاته الداخلية التي يشكل النزاع السوري الأمريكي الأوروبي أحدها حتى نبدأ في التفكير بمثل هذا الخيار. فمن المطلوب بالعكس أن تشكل أزمة هذا النظام الإقليمي الاستعماري التي فجرها شره النخب المافيوية الحاكمة وسعيها الخروج عن الطوق فرصة لا تفوت في سبيل الخروج من نظام الهيمنة الدولية وتقاسم مناطق النفوذ بين أوروبة والولايات المتحدة وفرض سيادة الشعب السوري وأجندته الخاصة. وهذه هي المناسبة الوحيدة لقطع الطريق على عودة الاستبداد والديكتاتورية ولو بوجه جديد أو باسم آخر والتعلق بأذيال الاصلاحات الأمريكية في سبيل تكريس الخيار الجديد.
يتوقف الدفع في اتجاه تحقيق هذا الخيار النجاح في تعبئة النخب الاجتماعية وقطاعات الشعب والتوصل إلى تفاهم وطني واسع على أسس المرحلة القادمة يخفف من احتمالات الانقسام في الرأي ويقطع الطريق على تلاعب قوى النظام الاستعماري الجديد بالأطراف الوطنية. ويتطلب الوصول إلى هذه الأهداف انخراطا قويا للمعارضة الديمقراطية في مشروع التغيير وفي مقدمة ذلك توحيد قواها وتقديم المثال والنموذج لهذا التفاهم الوطني المنشود للشعب السوري نفسه. كما يتوقف أيضا على اتباع استراتيجيات مختلفة كليا عما هو سائد اليوم في صفوف المعارضة التي لا تزال منقسمة بين أنصار دعم النظام والمراهنة على التحول من داخله وأنصار التعاون مع أولياء أمره في واشنطن وباريس والمراهنة على ضغوطهم القوية. وهو ما يستدعي العمل على بلورة مشروع تحويل ديمقراطي مستقل ومعتمد على تحريك القوى الوطنية وتعزيز تحالفاتها مع القوى الديمقراطية العربية والعالمية.
ربما شكل إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي خطوة مهمة على هذا الطريق. لكن لن يكون له قيمة إذا قررت المعارضة أن تقف عنده وتجمد نشاطها فيه. فمصير سورية السياسي للحقبة القادمة يتقرر في هذه الأشهر القريبة. وسوف يتم تقريره حسب موازين القوى القائمة اليوم. فإذا بقي ينظر إلى المعارضة الديمقراطية على أنها قوة لا وزن كبيرا لها أو أنه لا فائدة من أخذها بالحسبان سيكون مصير التغيير مرتبطا بشكل رئيسي بتفاهم التكتل الغربي مع النخب التي تبدو أكثر سيطرة على الأرض وأكثر قدرة على الحفاظ على الاستمرارية والاستقرار، أي قوى الأجهزة البعثية السياسية والامنية والإدارية الراهنة. ولن تكون نتيجة العملية شيئا آخر سوى إعادة هيكلة نظام البعث القائم، تحت أسماء ومسميات وشعارات جديدة، كما حصل مع الحزب الوطني في مصر ومع حزب الدستور الجديد في تونس وغير ذلك من البلدان، للإبقاء على المعادلة السياسية القائمة نفسها، أي المراهنة على النخب المتماهية مع الدولة والأجهزة الامنية لضمان اشتغال الدولة والمؤسسات على حساب القوى الديمقراطية ولقاء التحييد المنظم للشعب وإبقائه خارج الحياة السياسية.
وما لم تتحول المعارضة الديمقراطية بسرعة إلى قوة مستقلة قادرة على التأثير والفعل فلن يكون أمام سورية خيار آخر سوى التمديد لنظام السلطة الأمنية مهما كانت الأسماء الجديدة المستخدمة، وهو في الوقت نفسه نظام الأزمة السياسية المستمرة ونظام الهيمنة الخارجية الدائمة وتجاهل الحقوق والمصالح الوطنية. ليس هناك أي ضمانة في أن تغير وحدة القوى الديمقراطية ونشاطها من مجرى الأحداث. لكن وجودها القوي سيشكل، مهما كان الحال، عاملا رئيسيا في تقرير هامش الحريات التي سيتمتع بها المواطن السوري ويقبل بها النظام القادم. وإذا لم تنجح القوى الديمقراطية في فرض نظام ديمقراطي حقيقي على التحالف الغربي فبإمكانها على الأقل أن تفرض عليه أخذ مطالبها بالاعتبار وتجنب سورية مخاطر إعادة تجربة مصر مبارك التي لا يزال فيها الحزب الوطني يحكم مصر من خلال تعددية كاذبة تخضع لإرادة الأجهزة، كما تريد ذلك واشنطن ولندن وباريس، منذ عقود، أو تجربة ليبيا التي أعيد فيها تأهيل النظام سياسيا من دون أدنى ذكر لمشاركة الشعب أو اعتراف بوجود المعارضة أو حتى احترام للحريات السياسية الأساسية.
لا ينبغي على الشعب السوري انتظار ما ستسفر عنه تحقيقات اللجنة الدولية ولا أن يراهن على انهيار النظام وحسن نوايا الدول الغربية في تغيير الأوضاع للأحسن. فما ستقوم به هذه القوى هو ما يخدم مصالحها وليس إطلاق الحريات السياسية ولا استرجاع الجولان ولا تحقيق الديمقراطية والازدهار مما يدخل فيها. إن على الشعب السوري أن يأخذ مصيره بيده وعلى الحركة الديمقراطية السورية التي تقوده أن تخطو اليوم خطوة أبعد بكثير من الإعلان عن وجودها وتبيان رؤيتها فتطرح على الجمهور مشروعا للحكم يضع حدا للتردد والتشويش السياسي ويؤكد خيار التغيير الديمقراطي بوصفه الشرط الأول لتحقيق الاصلاح. ومن دون ذلك لن يحدث شيء آخر سوى تعديل سلوك النظام، أي نظام قادم، ليتماشى مع مصالح الغربيين مع بقاء سلوكه تجاه شعبه من دون تغيير يذكر.
في هذا المجال يشكل اقتراح رياض الترك، الداعي إلى استقالة حكومة بشار الأسد وتسلم رئيس البرلمان السلطة مؤقتا حسب الدستور، وفي سبيل تشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل جميع الأطراف، بما فيها حزب البعث الحاكم، وتحضر لانتخابات جمعية تأسيسية تعيد صوغ دستور ديمقراطي للبلاد، مع وقف تدخل أجهزة الأمن في الحياة السياسية ووضعها تحت السيطرة السياسية، وإلقاء مسؤولية ضمان الأمن والاستقرار وحماية السيادة والوحدة الوطنية على الجيش كمؤسسة رسمية تحظى بالولاء العام، مساهمة ايجابية ومبدعة معا. فهي تقدم رؤية واضحة وعملية للتغير تستبعد العنف والنزاع وتجنب البلاد مخاطر الانقسام والفوضى وتحترم السبل الدستورية وتضمن استمرار عمل مؤسسات الدولة بشكل طبيعي في الوقت نفسه. ومن الخطأ أن لا تأخذ المعارضة هذا الاقتراح بجدية وأن تظل تراهن على ما تسميه مؤتمرا وطنيا يدعم حركة الإصلاح تحت إشراف نظام لم يعد يملك هو نفسه أمره بين يديه.
لقد دفن النظام السوري الذي تأسس باستلام حزب البعث السلطة في 8 آذار 1963 مع قرار مجلس الأمن الأخير رقم 1636. وما سيخرج من مضاعفات تقرير لجنة ميليس الثاني، سواء تم اتهام مسؤولين كبار في النظام أم لا، هو نظام جديد يستلهم ما حصل ويحصل في البلدان العربية الأخرى، أي نظام هجين قائم على الدمج بين الخضوع الأعمى للاستراتيجيات الغربية والتفاهم مع إسرائيل، والاستمرار في دعم الحكم بوسائل أمنية وتسلطية ترد على مخاوف الدول الغربية من احتمال فتح الديمقراطية الأبواب واسعة أمام انتعاش الحركات المعادية للغرب، سواء أكانت حركات تستلهم الايديولوجيات الدينية أم الايديولوجيات القومية. ولن يكون بديل التحول الديمقراطي الناجز في سورية كما هو الحال في البلدان العربية الأخرى سوى إعادة بناء النظام الإقليمي شبه الاستعماري نفسه الذي أحبط حتى الآن كل إرادة عربية في التحرر والانعتاق.

lundi, novembre 07, 2005

خيار الفوضى

الاتحاد 7 نوفمبر 05

قلت في مقال سابق إن التفاهم الأمريكي الفرنسي ضد النظام السوري وما تبعه من عمل مشترك على قرار مجلس الأمن رقم 1959 القاضي بخروج الجيش السوري والاجهزة الامنية من لبنان بعد تصويت الكونغرس الامريكي على قانون معاقبة سورية قد وضع النظام السوري في منطقة رمال متحركة. وأن أي حركة يقوم بها النظام منذ ذلك الوقت للخروج من دوامة الرمال هذه لن تزيده إلا غرقا فيها. وهذا ما حصل بالفعل بعد التمديد للرئيس إميل لحود الذي جاء ردا مسبقا على تبني قرار انسحاب الجيش السوري من قبل مجلس الامن، وما سيحصل أيضا بعد اغتيال الحريري الذي بدا للجميع وفي مقدمهم مئات ألوف اللبنانيين الذين خرجوا إلى الساحات منددين بأحهزة الأمن السورية واللبنانية وكأن النظام السوري هو المتهم الوحيد والطبيعي فيه. لكن مع تصويت مجلس الأمن على القرار رقم 1636 كرد على عدم التعاون السوري الكامل كما جاء على لسان القاضي الدولي، أصبح مصير النظام معلقا بشكل كامل ولا مهرب منه بقرار التكتل الغربي وإرادته. ولن يكون للنظام مخرجا من الفخ الذي وقع فيه إلا بالقبول بالاستسلام للتحالف الأوروبي الأمريكي من دون قيد أو شرط.
ليس مهما بعد الآن أن يكون النظام قد شارك أم لا في الجريمة النكراء. وليس من المؤكد أن معاقبة مرتكبي هذه الجريمة هو الهدف الحقيقي أو الرئيسي من عملية اصطياد النظام السوري التي لا يشكل موضوع اغتيال الحريري إلا جانبا منها. المهم أن ما أرادته الولايات المتحدة وفرنسا قد تحقق فأصبح موت النظام أو بقاؤه في يد التحالف نفسه الذي قابله النظام السوري بالتحدي عندما قرر، لأسباب مختلفة، تبني سياسة عرقلة التغيير الأمريكي في العراق والتغيير الفرنسي في لبنان. وكان هدف النظام في كليهما السعي بجميع الوسائل إلى المحافظة على هامش حركة إقليمي يمكنه من تحسين موقعه التفاوضي مع الدول الكبرى من جهة ومع شعبه المستبعد تماما من القرار من جهة أخرى. ويشبه وضع النظام السوري في هذا المجال الوضع الذي عرفه نظام صدام حسين كثيرا. فالنظام العراقي الذي اعتقد أنه يستطيع التصرف بحرية نسبية كبيرة أو باستقلالية عن الدول الغربية، لما يملكه من موارد نفطية ومالية من جهة، وما راكمه من وسائل القوة العسكرية في حربه الطويلة ضد إيران من جهة ثانية، نسي، في فترة من جنون العظمة، أن سر قوته وانتصاره على ايران لا يكمن في ما يملكه من قوى أصيلة، ولكنه مستمد من التفويض الضمني الذي منحته اياه الدول الغربية والذي حصل بفضله على التطور التقني العسكري الكبير الذي شهده. وقد أراد هو أيضا، كما سيحاول النظام السوري بعده، أن يستفيد من هامش الاستقلاليه الذي يتيحه تراكم القوة الإقليمية، في سبيل الدفاع عن أجندة خاصة بالنظام نفسه ومستقلة تماما عن أجندة الدول الغربية التي رتبت الحرب ضد ايران. وكانت النتيجة تصفية القوة العسكرية العراقية التي كان يراهن عليها الرئيس العراقي لتحقيق أهداف خاصة به، لا بل الذهاب في ما وراء ذلك، والقضاء على الدولة العراقية المحدثة ذاتها لما يمكن أن تمثله من مخاطر محتملة على المصالح الغربية في الخليج والمشرق بشكل عام.
لم يكن تراكم القوة العسكرية والتحكم ببعض تقنياتها على مثال ما حصل في العراق هو الذي دفع المسؤولين السوريين إلى الخطأ في الحسابات التي قادتهم إلى ما هم فيه ولكن تراكم ما أطلقوا عليه اسم الأوراق الإقليمية. والمقصود بها بالدرجة الأولى تحكمهم بمواقع استراتيجية أو بمنظمات وهيئات ومؤسسات وحركات إقليمية تجعلهم قادرين على التأثير على سياسات بعض الدول المجاورة، ومن ورائها عقد صفقات مربحة مع القوى الغربية التي بقيت متمسكة لفترة طويلة بسياسة دعم الاستقرار في المنطقة الشرق أوسطية بأي ثمن، ومحاصرة أي حركة تغيير، بما فيها الحركات الاصلاحية البسيطة. وكما حصل في العراق نسي القادة البعثيون في سورية أن مراكمة النفوذ الإقليمي أو الرصيد الذي ارتبط به لم ينشأ ضد إرادة الدول الغربية الفاعلة في المنطقة ولكن بموافقتها. وهي حريصة على أن تحافظ عليه طالما بقي يستخدم لتحقيق أهداف لا تختلف عليها أو طالما كان ينسجم مع استراتيجيتها. وبالرغم من أن التحالف الغربي قد تساهل في بعض الأحيان، في إطار المحافظة على التعاون الاستراتيجي العام، مع استغلال النفوذ السوري الإقليمي من قبل شبكات المصالح المرتبطة بالنظام لتحقيق أهداف خاصة اقتصادية او مالية، إلا أن الأمر اختلف كثيرا عندما بدا وكان أعضاء هذه الشبكات اعتقدوا أنهم يتمتعون بما يكفي من الاستقلال أو القوة المؤهلة للاستقلال حتى يطالبوا بنصيبهم الخاص ويتصرفوا كما لو كانوا شركاء لتلك الدول الكبرى المؤتمنة عليهم والحامية لهم في تقرير مصير المنطقة أو في تقاسم الغنائم المتاحة. عندئذ ما كان من أمر التحالف الغربي الذي شعر بما يشبه التمرد عليه ممن ينظر إليهم كصنائعه إلا أن أشهر عصاه ليظهر لهم أن قوة نفوذهم التي يعتدون بها ليست سوى قوة مستعارة. وتعني كلمة مستعارة أنها ليس لها منابع محلية في أي قوة استراتيجية خاصة لا سياسية ولا اقتصادية ولا تقنية، وأنها ثمرة تفاهم استراتيجي مع القوى الغربية النافذة. إن نفوذهم هو نفوذ تفويض لا تعبيرا عن قوة أصيلة خاصة.
من هنا لم يكن المستهدف في المواجهة السورية الغربية الراهنة القوة العسكرية السورية أو أي مصلحة سورية أخرى ولكن الدور السوري الإقليمي الذي يشكل الحضور العسكري والأمني السوري في لبنان مركز قوته ورمزه معا. ولا يهدف القضاء على النفوذ السوري الإقليمي القضاء على النظام القائم ولكن تجريد هذا النظام من القوة والاستقلالية المرتبطة بها التي تشجعه على التفكير بصوغ أجندة خاصة منفصلة أو متميزة عن اجندة الدول التي تعتقد أن وجوده نفسه معلق بها ومعتمد عليها. ومما سهل على الدول الغربية تصفية هذه القوة المولدة للاستقلالية هو أنها لم ترتبط بالدفاع عن مصالح وطنية عامة ولكنها استخدمت للحفاظ على مصالح خاصة وفي مقدمها بقاء النظام ومجموعة المصالح الضيقة المرتبطة به واستمرارهما. من هنا لم يظهر النفوذ الإقليمي السوري في لبنان، كما هو الحال في فلسطين والأردن والعراق وغيرها من البلدان، في نظر السوريين، كتجسيد لمصالح وطنية بقدر ما بدا باستمرار كتعويض عن غياب سياسة وطنية حقيقية سواء ما تعلق منها بالدفاع عن الأرض أو باحترام حقوق وحريات المواطنين. ولذلك لم يقد زوال هذا النفوذ إلى تعزيز الالتفاف الشعبي من حول النظام في مواجهة المخاطر الخارجية بقدر ما أدى إلى تجريد الديكتاتورية المفروضة في الداخل من مبررات وجودها وإظهار النظام على حقيقته العارية بوصفه نظام المصالح الخاصة بامتياز، أي نظام حفاظ كل صاحب موقع أو منصب، على أي مستوى كان من مستويات العمل في الدولة والإدارة، بأي ثمن وبأي وسيلة، على منصبه وامتيازاته الخاصة.
لكن إذا كان سبب الأزمة المتفجرة في العلاقات السورية الغربية لا يختلف عما عرفه عراق صدام حسين قبل الغزو الأمريكي، فلا يعني هذا أن الاختيارات المتاحة للتحالف الغربي وللنظام السوري أيضا واحدة ولا المطالب متماثلة. فبعكس ما حصل مع عراق صدام ليس هناك مخرج من ازمة العلاقات الغربية البعثية حتى الآن سوى بإعادة تأهيل النظام لإعداده للعمل في سياق السياسات الجديدة. وليس هناك ما يمنع التحالف الغربي، لقاء بعض التضحيات، من الوصول إلى تفاهم جديد مع النظام السوري أو بعض ممثليه متى ما أقر هذا النظام بحقيقة قوته المستعارة وتخلى عن طموحاته الذاتية وقبل من جديد بالانخراط في الاستراتيجية الغربية كما كان يفعل في السابق. كما أنه لا شيء يمنع النظام السوري، لقاء إخضاع شبكات مصالحه التي نسيت، تحت تأثير إغراءات مراكمة الثروة الاستثنائية، معايير التعامل الدولي ومنطق السياسة، من العودة إلى الطريق "القويم" والاعتراف بقانون السيادة. ومن هنا ليس الخطر في سورية هو زوال النظام ولكن بالعكس بقاؤه. فهو يعني تكريس الوضع القائم ولو بشروط محسنة كما يعني دخول سورية الحقبة القادمة بنظام معطوب فاقد للشرعية والصدقية الداخلية والخارجية ومنشغل بحل تناقضاته الداخلية. وهذا هو الطريق المستقيم نحو مرحلة طويلة من الفوضى والاقتتال. وبالعكس إن التحول الديمقراطي هو وحده الذي يضمن القطع مع الماضي وبناء نظام جديد قادر على تعبئة طاقات المجتمع السوري وأطلاق مواهبه الابداعية ودفعه نحو حياة جديدة. فهل تستطيع المعارضة الرد على التحدي وتعبيد الطريق نحو الخيار الوحيد الذي يضمن مصالح سورية وشعبها ويقطع الطريق على احتمال إعادة فرض نظام القمع الراهن تحت شعارات جديدة وبلباس آخر؟ هذا هو سؤال السوريين الرئيسي اليوم.

mercredi, novembre 02, 2005

حول الموقف من تقرير ميليس : السياسة والمسؤولية

الوطن 2 تشرين 05

بالرغم من أن ديتليف ميليس لم يقدم تقريرا نهائيا بعد وكل ما قدمه هو تقرير أولي يشير، انطلاقا من المعطيات التي حصل عليها، وهي لا تزال قليلة، إلى بعض فرضيات العمل التي يحتاج تأكيدها إلى المزيد من الجهود في الأشهر، وربما السنوات القادمة، وبالرغم مما يؤكده التقرير نفسه في ختام فقراته من أن أحدا لا يمكن أن يعتبر متهما قبل أن تثبت إدانته في محكمة نزيهة ونحن لا نزال بعيدين عن مرحلة توجيه الاتهامات الرسمية وعن المحاكمة والإدانة، إلا أن نشر تقرير لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري كان كافيا وحده لإثارة عاصفة سياسية وصفها البعض بالزلزال والآخرون بالإعصار. وقد بدأت الأطراف المختلفة تتعامل مع التقرير بالفعل كما لو كان إدانة نهائية للنظام السوري بسبب الإشارة إلى احتمال تورط بعض قادته السياسيين وأجهزته الأمنية من وراء الأجهزة اللبنانية بعملية الإغتيال. ففي الوقت الذي اعتبرت فيه الإدارة الامريكية أن التقرير يشكل مصدر قلق كبير يستدعي اجتماعا عاجلا لمجلس الأمن لمناقشة الإجراءات الضرورية للرد على تورط القادة السوريين، ردت الحكومة السورية على لسان وزارة الخارجية بالرفض القاطع لمحتوى التقرير بسبب إشارته هذه، بالرغم من إعلانها استمرار التعاون مع لجنة التحقيق الدولية. وبقدر ما أكد المسؤولون الأمريكيون على المهنية العالية والموضوعية التي اتسم بهما تقرير ميليس نظر السوريون إلى توجيه الشكوك نحو دمشق على أنه تكريس لإدانة سياسية مسبقة وموقف مبيت ضدها يعبر عن افتقار التقرير للمهنية وللاتساق والموضوعية معا.
السوريون على حق عندما يخشون من استغلال الولايات المتحدة للتقرير لأغراض سياسية لاعلاقة لها باغتيال الحريري. فقد كانت واشنطن، التي دخلت في نزاع مع الحكم السوري قبل اغتيال الحريري، تنتظر بالفعل بفارغ الصبر ما يفيدها في وضع سورية تحت ضغوط متزايدة لتفرض عليها التعاون الواسع في بعض الملفات الإقليمية وفي مقدمها الملف العراقي. ومن مصلحتها أن تصور التقرير كما لو كان تحقيقا نهائيا وبرهانا قاطعا على تورط المسؤولين السوريين ووقوعهم في الفخ. بيد أن هذا الاستغلال السياسي للتقرير لا يضير التقرير نفسه ولا يجعل منه بالضرورة تقريرا سياسيا فاقدا لمعايير المهنية القانونية كما يقول السوريون. وكما يخطؤ الأمريكيون بحق الحريري وحكم القانون عندما يسعون إلى استغلال التقرير لأهداف سياسية محضة ليس لها علاقة بمعرفة الحقيقة وإحقاق العدالة، بخطؤ السوريون أيضا عندما يوجهون انتقاداتهم إلى القاضي ميليس (الذي لم يتهم أحدا ولكنه أشار إلى ما دلته إليه التحقيقات حتى الآن، وربما غيرت التحقيقات اللاحقة النتائج الحالية)، ويرفضون تقريره بحجة انحيازه بدل أن يوجهوا نقدهم للاستخدام السياسي الأمريكي، أي غير القانوني له. ولو فعلوا ذلك لنالوا عطف قطاع واسع من الرأي العام العالمي الذي أصبح يضيق ذرعا بالطريقة التي تتعامل بها الإدارة الأمريكية مع القضايا الدولية وبالسرعة التي تتخذ بها القرارات التي تمس مصير شعوب بأكملها. وبالعكس يستفز الموقف السوري الراهن أوسع قطاعات الرأي العام العالمي لما يظهره من استهتار المسؤولين السوريين بالإرادة الدولية واستسهالهم توجيه التهم بالتحيز ضدهم وتبلي الآخرين لهم من دون سبب وإنكارهم الاعتراف بالحد الأدنى من استقلال السلطة القضائية التي ترمز إليها لجنة التحقيق الدولية نفسها.
هكذا تبدو تهم التسييس للتحقيق الدولي هي نفسها تهما سياسية لا تقوم على أي حجة منطقية ولا تستند على أي رؤية قانونية. فهي تنبع من تكرار شعارات مثل أن سورية مستهدفة بسبب مواقفها المعادية لأمريكا. مما يعني أن التقرير وجميع من ساهم فيه من القضاة وعلى رأسهم القاضي الألماني ميليس يخضعون بشكل أو آخر لإرادة الولايات المتحدة أو يعملون لحسابها وتحت تأثيرها. ولا تزيد عن ذلك قيمة الحجج الأخرى التي تحاول أن تثبت تناقضات التقرير أو اعتماده على مصادر ثانوية أو افتقاره للبراهين الدامغة والقاطعة. ولا تلك التي تسعى إلى التهرب من المسؤولية من خلال المقارنة بين فشل المخابرات الأمريكية في اكتشاف هجوم 11 سبتمبر 2001 على برج التجارة العالمية أو عمليات الارهاب في لندن وإسبانيا. فاستهداف رئيس وزراء دولة خاضعة عمليا للوصاية الأمنية السورية يستدعي الحماية المستمرة، وهو يملك أيضا حمايته الخاصة، لا يقارن باستهداف بعض المواقع المدنية العامة بمتفجرات أو حتى بطائرات محولة لأهداف عسكرية، هذا مع العلم أن هناك الآن مصادر عديدة تستبعد أن لا تكون المخابرات الأمريكية على علم بما كان يعد، بل إن بعضها يذهب أكثر من ذلك ليتحدث عن محاولة إنقلابية.
لا تستطيع سورية أن تدافع عن نفسها ومن باب أولى أن تثبت براءتها بتكرار ما يردده المسؤولون السوريون صباح مساء من أنهم لا علم لهم بالحادثة وليس لهم أي ضلع فيها. يستطيع المواطن العادي أن يقول لا علاقة لي بالموضوع لكن السلطة السياسية تفقد صدقيتها وتتحول إلى متهم إذا لم تتحمل مسؤوليتها أمام ما يقع في الدولة التي تحكمها وتسيرها. وحتى لو لم يكن لأي مسؤول سوري ضلع في ارتكاب الجريمة، فهي مسؤولة عن الكشف عن الجناة، أو هذه هي مسؤولية السلطة السياسية. فالسلطة قبل أي شيء آخر مسؤولية: مسؤولية تجاه المجتمع والفرد ومسؤولية تجاه القانون. والسلطة التي لا تستطيع أن تحمي المجتمع وأفراده من الاعتداء ولا أن تضمن تطبيق القانون وإحقاق العدالة، تفقد صدقيتها وشرعيتها معا. والمطلوب منها أن تستقيل لتترك مكانها لسلطة أخرى قادرة على حماية المجتمع وضمان تطبيق القانون، أي لسلطة قادرة على وقابلة ل-تحمل المسؤولية.
ربما لا يكون ذنب السلطة السورية أنها شاركت في الجريمة، أو على الأقل، حتى يثبت ذلك قضائيا وهو لم يثبت بعد. لكن ذنبها حتى الآن يكمن في أنها اعتبرت نفسها غير مسؤولة عن حماية رئيس وزراء دولة تخضع لوصايتها العملية ونفوذها وأكثر من ذلك عدم فتحها هي نفسها تحقيقا جديا بالجريمة فور حصولها كما يفرضه عليها وضعها في لبنان وكذلك الدفاع عن المصالح السورية التي ستتأذى بشكل واضح من عدم اكتشاف مصدر الجريمة. ولو فعلت ذلك في حينه وأشركت في التحقيق المجموعة الدولية لأثبتت براءتها حتى لو أنها لم تكشف عن الجناة. لكن التهرب من المسؤولية والتصرف كما لو أن شيئا خطيرا لم يحصل والإصرار على التبرؤ من التهمة والتشكيك بأي تحقيق يطال بعض مسؤوليها ليس موقفا سياسيا ولا يعبر عن وجود سلطة مسؤولة. فإذا أرادت السلطة السورية التي يشير إليها إصبع تقرير ميليس بالاتهام أن تبريء نفسها بالفعل مما حصل ليس أمامها إلا حلا واحدا هو أن تتحمل مسؤوليتها وأن تبادر هي نفسها إلى فتح تحقيق مواز في الجريمة وتقدم هذا التقرير لمجلس الأمن مع ما تجمعه من أدلة تثبت احتمال وجود فرضية أخرى إسرائيلية أو أمريكية أو أبو عدسية متماسكة. عندئذ لن يستفرد ميليس بالتحقيق ولن يضطر إلى سحب المسؤولين السوريين إلى الخارج ولن تستطيع أمريكا أن تستغل التحقيق الدولي لتنفيذ مآربها التي لا علاقة لها بالحريري ومقتله أصلا. أليس هذا ما يسعى إلى القيام به أي شخص يتهم ظلما، ويريد أن يدفع عن نفسه حكم المقصلة، كما يعلمنا ذلك أي فيلم بوليسي من الدرجة الثانية، فما بالك بدولة متهمة، أجهزة وقادة، بالتورط في الجريمة ولديها جميع الوسائل لمعرفة الحقيقة؟