vendredi, octobre 31, 2003

الثقافة والتنمية


جرت العادة في الكثير من البحوث العربية والأجنبية على تحميل الثقافة العربية، التي تبدو كثقافة ثابتة دينية ولا تاريخية، المسؤولية الرئيسية في ما أصاب ويصيب المجتمعات العربية من تراجع وتقهقر في ميادين التنمية البشرية المادية والتقنية والعلمية. ولهذا تحولت دراسة التراث والتأمل فيه ولا تزال منذ عقود إلى موضوع ثابت للبحث العربي بعد أن كان هذا التراث موضوع الاستشراق الغربي بامتياز. فهذه الثقافة-التراث وما حملته واتسمت به منذ نشأتها الأولى في عصر الجاهلية أو عصر التدوين أو الحقبة العثمانية المتأخرة من عادات وتقاليد ومناهج تفكير هي التي تفسر، في نظرهم، اختيارات العرب في العصر الحديث وتوجهاتهم وأنماط سلوكهم وأسلوب عملهم وبالتالي إنجازاتهم، سواء ما كان منها ايجابيا أو سلبيا. ويوازي ارتداد الباحثين إلى التراث للكشف عن أسباب الأزمات العديدة التي تعيشها المجتمعات العربية إنكفاء عامة المجتمع في العقود القليلة الماضية على هذا التراث نفسه لمواجهة هذه الأزمات أيضا وايجاد الحلول المفقودة لها. وكما يعكس هذا التوجه عند الباحثين الرغبة في التغطية على عجز الفكر العربي الحديث النظري والعلمي منه بشكل خاص عن مواجهة التحديات التاريخية الفعلية التي طرحت على المجتمعات العربية في العصر الراهن وتجنب النقاش في مناهج عمله، يعكس أيضا عند عامة الناس الرغبة في الهرب من الواقع الأسود القائم والاحتماء وراء شعارات وطقوس لا تغني عن نقد الواقع وفهمه والعمل لتغييره. وفي الحالتين يشكل هذا التركيز المستمر على التراث وسيلة للهرب الجماعي من المسؤولية، أعني مسؤولية مواجهة الفكر والعلم لنفسهما ومراجعة أخطائهما وكذلك مسؤولية المجتمع في مواجهة مشاكله والصراع مع القوى المادية والفكرية التي تعيق تقدمه في حلها والخلاص منها.
بالتاكيد، لا ينبغي تجاهل الأثر الكبير الذي تمارسه نظم الاعتقاد والتفكير والسلوك الموروثة على حياة المجتمعات واختياراتها. لكن لا ينبغي بالمقابل أن نعتقد أن هذه النظم المؤثرة هي نظم ثابتة وناجزة يرثها الأحفاد عن الأجداد وليس لهم خيار سوى الخضوع لاستبدادها. فبالرغم من مظاهر الثبات الشكلية تتمتع الثقافة بقدرة هائلة على التحول الداخلي وتحوير معاني الأشياء والتلاعب بالرموز تجعل من المستحيل فهم شيء مما يجري إذا توقفنا عند المظاهر الشكلية. فالعرب الذين كانوا يحجون إلى البيت الحرام قبل الاسلام حيث يجمعون آلهتهم الوثنية ليسوا هم العرب الذين جعلوا من الكعبة نفسها بعد تطهيرها من الأوثان قبلتهم الدينية. بالتأكيد هناك معنى لهذه الاستمرارية في أشكال العبادة الدينية عند العرب وغيرهم من الشعوب. بيد أن من يعتقد أن من الممكن فهم الثقافة الاسلامية الجديدة من خلال اقتفاء آثار طقوس العرب القديمة فيها يخطيء كثيرا في فهم تحولات الثقافة الداخلية ومعنى التشكيلات الرمزية التي تقوم عليها الثقافة ومنطقها. وبالعكس تساعدنا النظرة الاجتماعية للثقافة أو اجتماعيات الثقافة على الذهاب إلى ما وراء المظاهر المستمرة لنكشف عن الانقطاعات الكبيرة والصغيرة التي تكرس داخل الثقافة نفسها تطور اشكال الوعي والممارسة داخل المجتمعات نفسها وتجسد في الوقت نفسه تحولاتها وتبدل اعتقاداتها وسلوكها، وبمعنى آخر تاريخيتها. وفي هذه النظرة الاجتماعية يجد الباحث نفسه أمام ديناميات تاريخية تتجاوز أطر الدولة والسياسة وتشمل عمليات التفاعل القوية بين الداخل والخارج وبين الماضي والحاضر تظهر له عدم جدوى التثبت على الموروث والخصوصي والمختلف فحسب. وسوف يكتشف بسرعة أن الإعاقة أو التراجع في ديناميات اكتساب المعرفة أو استبطان قيم الحداثة المتنامية لا ينجم بالضرورة عن وجود تراث ديني أو أسطوري أو عرفي لا يزول ولا يتحول داخل الثقافة وإنما، بالعكس من ذلك تماما، عن التحولات الثقافية والتجديدات التي أدخلت على الثقافة بما في ذلك على التراث عبر عمليات التأويل والتفسير والتحوير والتوليف والصهر والمخادعة.
والواقع أنه لا توجد في أي مجتمع من المجتمعات ثقافة علمية أو عقلية بالمعنى الشامل للكلمة. وكل ثقافة حية تجمع بالضرورة بين النظم العقلية والميتولوجية والاعتقادات الايديولوجية. ولا يؤثر هذا الجمع على تطور النظم العلمية والتقنية ولا يحد منه. وبالمثل ينبغي التمييز بين الثقافة الشعبية التي محورها التواصل بين البشر وبناء الثقة وتكوين مناخ الألفة والتعارف المتبادل أو الهوية، والثقافة العليا التي ترد على مطالب ذات طبيعة بنائية أو ايجابية تضيف شيئا ولا تقتصر على خلق التواصل والتفاعل كالعلوم والايديولوجيات والفلسفات العقلية. إن الأسباب التي تحول دون جعل الثقافة العربية مركزا لاكتساب المعرفة الجديدة وإنتاجها الإبداعي وتداولها لاتكمن في الثقافة العربية من حيث هي تراث ولا من حيث هي أنساق إعتقادات أو تقاليد أو أنماط سلوك وتفكير شعبية سائدة وإنما في النظام الثقافي القائم. وعندما نتحدث عن نظام ثقافي فنحن نعني أنماط التفكير والتربية والتأهيل والإنتاج والتداول التي نشأت في حقبة زمنية معينة وتطورت بتأثير مجموعة من الخيارات الثقافية الواعية وغير الواعية التي يقوم بها فاعلون إجتماعيون، وبحسب مصالحهم الاجتماعية والسياسية، وأهمهم في دولنا الحديثة، أولئك الذين يتحكمون بمقاليد الأمور الثقافية والتربوية والموارد العامة، وهي الخيارات التي تتعلق بتعيين اتجاهات التنمية الثقافية وميادين هذه التنمية وحدودها.
وربما كان أول ما تنبغي الإشارة إليه في هذا المجال هو ضرورة التركيز على طبيعة الثقافة السياسية والقيم الثقافية التي توجه نشاط هذه النخب الاجتماعية الرسمية والأهلية وتفسر غياب سياسات تنمية معرفية متسقة وناجعة كما يفسر النزوع إلى غلبة النزعة الايديولوجية وتقديم الدعاية والتعبئة السياسية على احترام حقوق الأفراد ونشر القيم الانسانية المرتبطة بالعدالة والمساواة والحرية. ولا ينبغي أن يفهم من التركيز على ثقافة النخب الاجتماعية هنا تبرير الهرب من نقد الثقافة التقليدية أو التراث أو إلى توفير مثل هذا النقد ولكن التذكير بأن الثقافة صيرورة إجتماعية وأن الجزء الأكبر من المشاكل التي تعاني منها الثقافة العربية، مثلها مثل كافة المجتمعات الإنسانية الحديثة التي تعيش في ظروف مشابهة، هو ثمرة القطيعة العميقة التي فصلتها عن التراث الماضي أي هو نتيجة تحلل وتفكك الثقافات التقليدية تحت تأثير الحداثة الزاحفة. وهذا يعني أن المبادرة في إعادة بناء الثقافة ذاتها مثلها مثل إعادة بناء الدولة والنظم السياسية والاقتصادية تعود اليوم إلى النخب الاجتماعية النشيطة والفاعلة، وأن تأسيس قواعد العمل وأساليب الإدارة والقيادة والتنظيم والتدريب والإعداد والتكوين يتوقف في المجتمعات كافة، وإلى حد كبير، على نوعية الثقافة العليا وعلى المفاهيم والمعارف ومنظومات القيم التي تستند إليها هذه النخب. وهذه الثقافة هي التي تجعل من هذه النخب بانية الدول والمجتمعات وتعطيعا دورها ووظيفتها.
وإذا كان ما يؤخذ على الثقافة الشعبية العربية السائدة في الوقت الراهن تردد منظومات القيم التي تحركها بين القديم والحديث والتبدل السريع في المزاجات الفكرية والميل إلى الانسحاب من التجربة العملية والتسليم في مصائرها للقوة الغاشمة الداخلية والخارجية كقدر محتوم، نتيجة الممارسات السياسية والاجتماعية التعسفية المؤلمة التي طبعت العقود الخمس الماضية، فإن الثقافة العليا أو ثقافة النخب العربية تعاني من نقائص خطيرة بنيوية نابعة سواء من سيرورات تكوينها أو من شروط ممارسة السلطة ذاتها الثقافية والسياسية والاجتماعية ونموذجها الشمولي والتسلطي السائد أو من التناقضات العميقة التي تنطوي عليها هذه الثقافة الهجينة وتفاقم التوترات الداخلية التي تمزقها خاصة في العقود الأخيرة. ولعل السمة الغالبة على هذه الثقافة العليا الحديثة في البلاد العربية هي عدم الاكتمال أو النضج الذي يتجلى في ضعف وهشاسشة النظم العقلية الحديثة من فلسفات وعلوم، سواء أتعلق ذلك بالمحتوى أو بمناهج النظر واكتساب المعرفة. فهي من جميع النواحي مثال للثقافة الحديثة الشكلية والسطحية أو المجهضة، والتي تؤسس للقطيعة شبه التامة بين الفعل والقول وغالبا ما تنزع إلى التعويض عن انعدام قدرتها على الممارسة العملية للحداثة إلى المبالغة في الاستعراضات الحداثية الدعائية الفارغة.
ومن هنا يمكن القول إن غياب سياسات ثقافية وعلمية متسقة وافتقار العملية التعليمية لأهداف واضحة وركاكة ثقافة النخبة العليا، أي ثقافة السلطة والإدراة والقيادة، وتخبط السياسات اللغوية وعدم نجاعتها وسيطرة مناخ الاستهلاك الثقافي الرمزي والتعويضي على الانتاج الثقافي والمشاركة الثقافية والعلمية في النشاطات والفعاليات العالمية، وبحث النخب الحاكمة عن المشروعية في نوع من التعبئة الايديولوجية الوطنية والقومية الرخيصة والشكلية تعوض عن الافتقار للشرعية السياسية، كل ذلك يشكل عوامل رئيسية في إعاقة نمو وتراكم المعرفة العلمية والتقنية وتعميم قيم التسلط والاستهتار بالحقوق الفردية والجماعية وتغذية مشاعر الخوف والانكفاء على الذات والتشكيك بالعالم، وبالتالي في بناء نظم ثقافية غير متسقة وغير ناجعة. ولا يمكن لمثل هذه النظم أن تشجع على التعلم والتجدد والبحث والمعرفة والتفكير والتأمل في القضايا المطروحة سواء أكانت علمية أم دينية أم اجتماعية أم سياسية أم عالمية إنسانية.
والنتيجة، لا تستطيع الثقافة ولن تستطيع، في العالم العربي كما هو الحال في بقية بلاد العالم، أن تقدم من تلقاء نفسها الردود الايجابية والخلاقة المنتظرة على التحديات التي تواجهها اليوم جميع ثقافات العالم وبشكل خاص الثقافات الضعيفة التي لم تشارك كثيرا في بناء الحداثة الفكرية والمادية معا: تحدي اكتساب المعرفة الابداعية العلمية والتقنية والأدبية والفنية والدينية معا، وتحدي التأسيس الفكري والأخلاقي للديمقراطية، وتحدي تجاوز الخصوصية للمشاركة الفعالة في بناء الكونية أو العالمية الانسانية الجديدة. إن مثل هذه الردود تتوقف، بالعكس، على قدرة المجتمعات والنخب التي توجهها وتقودها على الاستثمار في الثقافة وتدعيم وظيفتها وتعزيز مكانتها الاجتماعية. وبقدر ما تكون التنمية ذات رؤية إنسانية أو متمحورة حول الانسان وطامحة إلى تعزيز مكانة الفرد وحرياته وقدراته الابداعية يكون تكون الحاجة أكبر لزيادة الاستثمار في الثقافة وتحويل التنمية نفسها إلى تنمية ثقافية. وبالعكس، بقدر ما تتنكر التنمية للانسان وتركز هدفها على تحقيق الربح التجاري أو بناء القوة العسكرية والتفوق فيها تزول الأهمية النسبية للثقافة ويقل الاهتمام بها ومن ورائها بقيم العقل والحرية والسلام. وهذا يعني أن الثقافة ليست هي التي تفسر تراجع الوعي الانساني في العالم العربي ولكن إهمال هذه الثقافة وضعف الاستثمار فيها، وأنه لا يمكن لأي ثقافة أن تساهم في التنمية الانسانية وتطوير قيم والسلام والحرية ما لم تتمتع هي نفسها بفرص تنميتها الخاصة. فلا حداثة ثقافية من دون تحديث الثقافة.

vendredi, octobre 17, 2003

صعود الأمبرطورية الامريكية وانهيارها

الجزيرة نت 17 اكتوبر 2003

ليس هناك شك في أن الحدث الأبرز على الساحة الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وانحسار الشيوعية التي بقيت تشكل الشبح الذي يقض مضاجع الدول الصناعية الكبرى خلال أكثر من قرن هو الصعود الثابت والمستمر للولايات المتحدة الأمريكية إلى قمة الهرم العالمي وتبؤها الفعلي أن لم يكن موقع القيادة والقرار بالمعنى الشرعي للكلمة فعلى الأقل موقع التفوق والريادة في العديد من الميادين الاستراتيجية أو ذات الأبعاد الاستراتيجية بالنسبة لعالمنا المعاصر. والواقع أن صعود القوة الأمريكية لم يبدأ كما يتمثل للرأي العام العالمي والعربي بشكل خاص اليوم في العقد الماضي وليس هو نتيجة السياسات الامبريالية أو الهيمنية الجديدة التي اتبعتها إدارة بوش الابن والتي دعت الباحثين السياسيين إلى تجديد استعمال مفهوم الامبرطورية للتعبير عنها ولكنه أقدم من ذلك بكثير. ومن الممكن الكشف عن بداية الحقبة العالمية التي ستشهد هذا الصعود المضطرد للولايات المتحدة وتنامي دورها في تقرير المصائر العالمية في الدور الكبير والحاسم الذي لعبته هذه الدولة في الانتصار على ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية. فلم تظهر هذه الحرب هشاشة الدول الامبرطورية السابقة الفرنسية والبريطانية التي تحكمت في مصير العالم خلال القرن السابق فحسب وقوضت الأسس التي كانت تقوم عليها ولكنها أجهزت في الوقت نفسه على جنين الامبرطورية الألمانية الصاعدة للحلول محلها ونقلت بذلك مركز القوة بشكل حاسم من القارة الأوروبية إلى القارة الأمريكية. ومن الواضح أن معادلة القوة لم تختلف منذ ذلك الوقت. فموقع الأرجحية الجيواستراتيجية الذي انتزعته الولايات المتحدة على الساحة الدولية بفضل مساهمتها الرئيسية والمحورية في حسم الحرب العالمية الثانية لا تزال تحتله اليوم بفضل مساهمتها الفعلية في حسم الحرب الباردة التي وضعت المعكسر الشيوعي خلال عدة عقود في مواجهة معسكر الرأسمالية. وهو الموقع الذي لا تزال تحتله أيضا إلى اليوم أي بعد عقدين أو أكثر، لأنها لا تزال الدولة الوحيدة التي تمتلك من وسائل العنف المادي والنفوذ المعنوي معا ما يمكنها من حسم أي حرب أو نزاع في أي منطقة من مناطق العالم بينما لا تستطيع أكبر دولة تأتي بعدها أن تفعل ذلك حتى لو عبأت جميع قدراتها لتحقيقه. وليس من المبالغة القول إن العامل الأول الذي يستند إليه صعود القوة الأمريكية هو هذا التفوق الاستراتيجي بمعنييه العسكري والسياسي والاقتصادي. ذلك أن الحسم في النزاعات الدولية أو العمل على تأجيجها واستثمارها لا يتوقف على امتلاك وسائل دفاعية أو هجومية عسكرية كافية ولكنه يحتاج أكثر من ذلك إلى قوة اقتصادية قادرة على دعم المجهود الحربي عددا وعدة، كما يحتاج إلى نفوذ سياسي ومعنوي يمكن الاعتماد عليهما كي لا يبقى العمل العسكري معلقا في الفراغ ومن دون أسس أو قواعد ثابتة. وجميع هذه العناصر هي التي تجعل من للولايات المتحدة القوة العالمية الوحيدة القادرة اليوم على بلورة استراتيجية عولمية أوعلى مستوى العالم. وهذه الاستراتيجية العولمية أو الميغاستراتيجية هي التي تسمح للولايات المتحدة بأن تموضع نفسها ونشاطاتها الداخلية في إطار عالمي وأن تربط بين مصالحها الخاصة القومية والسياسية وحركة تحول وتشكل العالم، أي أن تجعل قيادة العالم وتوجيه حركته جؤ. وهذا م ال وأن تقترح رؤية لقيادة العالم أو لتوجيه حركته، لأنها الوحيدة التي تملك أجندة أو جدول أعمال عالمي نابع من كون اقتصا ذلك يشملأهداف واضحة ورؤية سياسية لا وجود استراتي وعدنبع من امتلاكالتدخل الحاسم في حل النزاعات الدولية أو في تأجيجها لا يتوقف فقط على امتلاك قوى مادية
لكن التفو عنف لدرجة ستطيع أن تحسم أي نزاع مساهمتها لا تزال تمثل ال من الأهمية ها لا تزال الدولة الوحيدةوفي ما وراء طبيعية لقدرتها على تقديم مساهمة مكانتها الدولية من قدرتها على حسم الحروب الكبرى لصالحها لا تزال إلى اليوم الدولة التي لا في أو بن هذه الحكما كانت هذه الحرب مقبرة للامبرطوريات البريطانية والفرنسية وللطموح الامبرفليس هناك شك أن الحرب ضط الناولعل الحدث الأكبر الذي أظهر تنامي القوة الامريكية وحول الولايات المتحدة إلى القطب المركزي في التاريخ العالمي الحديث من الممكن أن نؤرخ لبداية هذا الصعود المستمر يمكن لناوربما كان الدور الاستثنائي الذي لعبته هذه الدولة الكبيرة خلال الحرب العالمية الثانية وفالولايات المتحدة كلمة امبرطورية عل السياسات الجدما يمكن أن نطلق عليه إميل إلى الاعتقاد اليوم وإذا كان الرأي العام الدولي لا يرى في هذا الدهذا الموقع يبدو اليوم منولا يرجع هذا الصعود المنقطع النظير والمضطرد للقوة الأمريكية منذ عقود إلى عامل واحد ولكنه ثمرة تضافر عوامل متعددة وليست بالضرورة مرتبطة بعضها بالبعض الآخر. و
والذي لم تشهده أي حقبة عالمية سابقموقع القيادة والقرار في مي المنافس للول الحرب الباردة
يسر موقع قناة الجزيرة الفضائية (الجزيرة نت) أن يدعوكم للمساهمة بكتابة مقال في باب (وجهات نظر) حول (الامبراطورية الأميركية.. صعود أم هبوط؟) يتناول ما هي مؤهلات أميركا لقيادات العالم، وحقيقة القوة التي تتمتع بها أميركا وماذا تفعل بهذه القوة، ومن هم صانعي السياسة الأميركية ودورهم في توجيه هذه السياسة لتحقيق التفرد وتهميش الآخرين، والخبرة التاريخية من صعود الامبراطوريات وسقوطها، بالإضافة إلى تنبؤات مستقبلية وأية بنود أخرى ترونها مفيدة لإثارة القضية وتسليط الضوء عليها وذلك في موعد أقصاه 18/10/2003.
الجزيرة نت. ملفات

dimanche, octobre 12, 2003

سورية أو عجز النخب العربية عن مواجهة لاستحقاقات التاريخية

الجزيرة نت 12 اكتوبر 2003

ليس هناك أي شك في أن الغارة التي شنها الطيران الاسرائيلي على الأراضي السورية في الخامس من أكتوبر تشكل خرقا فاضحا للقانون الدولي وانتهاكا لاتفاقية فك الاشتباك التي وقعتها إسرائيل عام 1974. ولا شك أيضا في أن التأييد الامريكي الذي حظيت به هذه الغارة والممارسات الأخرى التي رافقتها، سواء في ما يتعلق باستخدام الإدارة الأمريكية لقانون معاقبة سورية واحتمال تمريره في الكونغرس أو بتهديد الاسرائيليين بإسقاط النظام السوري، يعكسان النوايا الحقيقية والاستهتار الذي تبديه كل من واشنطن وتل أبيب ليس فقط بالمصالح السورية وإنما أيضا بالمصالح العربية مجتمعة. ولا شك كذلك في أن الرد الحقيقي على هذا العدوان لا ينبغي أن يقع على كاهل سورية وحدها وإنما لا بد أن يستنهض الدول العربية جميعا، حكومات ومجتمعات، في سبيل وضع حد لتدهور الوضع الإقليمي المادي والمعنوي معا.
بيد أن من الضروري أيضا بعد تاكيد ذلك كله أن نشير إلى أن إدانة هذا العمل الخطير وتحميل تل أبيب وواشنطن مسؤولية ما يمكن أن ينجم عنه من عواقب وخيمة تهدد مصالح جميع الأطراف لا ينبغي أن يترجما على أنهما تبرئة لذمتنا نحن من جميع المسؤوليات، ولا أن يجعلانا نقبل بأن يتحول التدخل العسكري الاسرائيلي في سورية أو غيرها من الدول العربية، كما حصل في لبنان من قبل خلال أكثر من عقدين، إلى حتمية لا راد لها، ولا أن نستسلم لفكرة أننا الضحية الأبدية للإرادة الغاشمة للدول الكبرى أو للتحالفات العدوانية. كما لا ينبغي علينا أن نعتبر أن التوصل إلى انتزاع إدانة قوية أو ضعيفة لهذا العمل الاسرائيلي في مجلس الامن هو آخر ما يمكن أن نصل إليه، وأنه لن يكون لدينا بعد ذلك ما نفعله سوى الشكوى من سوء معاملتنا الدولية، وتأكيد تمسكنا بخيار السلام الاستراتيجي واتهام رئيس الوزارة الاسرائيلية بأنه يدفع المنطقة نحو الحرب أو يريد توريطنا فيها. فإذا كان هذا يفيدنا في الحصول على بعض التغطية الدولية القانونية لعجزنا إلا أنه يبقى أقل بكثير مما نحتاجه لحماية أنفسنا من الناحية العملية، وأقل أيضا بكثير مما نستطيع أن نفعله لدرء المخاطر الكبيرة المحيقة بنا والتي لا يبدو أننا قد استوعبنا مضامينها الفعلية.
والسؤال الكبير الذي يستحق الطرح وينبغي أن نطرحه على أنفسنا في هذه اللحظة بالذات، في سورية بالتأكيد، لكن أيضا في البلاد العربية الأخرى، ليس من نوع : هل يطبق رئيس الوزراء الاسرائيلي سياسة عدوانية أم لا، ولا: هل تبيت الإدارة الأمريكية للرئيس بوش نوايا خبيثة تجاه المصالح العربية وفي مقدمها ضمان استقرار الدول العربية وسيادتها أم لا. فليس هناك من يصعب عليه الإجابة على هذا السؤال حتى في تل أبيب والبيت الأبيض نفسهما. إن السؤال المطروح هو: ماذا فعلنا نحن العرب، حكومات وشعوبا معا، في الأشهر الماضية، بعد احتلال العراق، حتى لا نقول في السنوات بل العقود الطويلة المنقرضة، كي نجنب أنفسنا احتمال التعرض للعدوانات الاسرائيلية، التي كانت ولا تزال الخبز اليومي لحياتنا الإقليمية منذ أكثر من نصف قرن، وحتى نحول دون تحميل الدول الكبرى لنا ثمن الانتصار والخسارة معا في حرب التنافس العالمية على السيادة والقيادة والموارد الاستراتيجية ؟ وما هي الاختيارات التي تبنيناها، بل الإجراءات التي اتخذناها، منذ سقوط بغداد، في مواجهة التهديدات الأمريكية العلنية وتلك التي لم يعلن عنها وليس من الضروري أن يعلن عنها. وما هي الخطط التي أعددناها كي يمكن لنا استثمار الإدانات التي حصلنا عليها في مجلس الامن في أعمال فعلية تزيد من قوة دفاعاتنا الاستراتيجية؟

تزداد أهمية هذه الأسئلة عندما نتذكر أن أيا من طرفي التحالف المعادي لنا لم يخف في أي لحظة أهدافه في منطقتنا. فحكومة آرييل شارون اعتمدت في حملتها الانتخابية الرسمية شعار منع قيام دولة فلسطينية وتفكيك بنى المقاومة الشعبية. أما إدارة الرئيس الأمريكي بوش فلم يخف أحد من أعضائها أن ما تسعى إلى تحقيقه عندنا هو لا أكثر ولا أقل من إعادة تشكيل المنطقة وتغيير أنظمة الحكم والإدارة فيها وإخضاعها لمتطلبات استراتيجية السيطرة الأمريكية الكونية. فالمعركة مفتوحة بشكل علني وشفاف للجميع، ولم يخف أحد من المتنازعين فيها أهدافة الفعلية.

لقد رفع الامريكيون أربع مطالب رئيسية أمام الدول العربية ساعين أن يضمنوا من خلال تحقيقها تطبيق مخططهم في إعادة ترتيب المنطقة حسب المصالح الأمريكية الاسرائيلية. ومن هذه المطالب أولا المشاركة النشطة للعرب في الحرب ضد الارهاب، بما يعنيه ذلك في نظر واشنطن وتل أبيب، بل تخصيصا، مشاركة الدول العربية في مهمة تفكيك منظمات المقاومة الفلسطينية التي تشكل تهديدا لأمن إسرائيل داخل إسرائيل وخارجها، مقابل الوعد بدولة فلسطينية في أفق 2005. ثانيا التطبيع الرسمي مع إسرائيل وإزالة المقاطعة الاقتصادية التي فرضتها الدول العربية عليها منذ قيامها ومنع تأليف أي تجمع أو تحالف عربي تستثنى منه الدولة اليهودية. ثالثا التخلص من أسلحة الدمار التي تملكها بعض الدول العربية والقبول بمراقبة وتفتيش مهينين أحيانا لجميع مرافق التنمية التكنولوجية العسكرية والمدنية، وفي مقدمها التكنولوجية الذرية. ورابعا أجراء تعديلات في نظم الحكم والإدارة تخفف من سرية عملية اتخاذ القرار في البلاد العربية في اتجاه تبني درجة أكبر من الشفافية تسمح للولايات المتحدة وغيرها بمعرفة مايجري بصورة أدق في أوساط القرار العربية، وبالتالي بالتدخل أو التأثير بشكل أكبر في هذه القرار قبل أن يتتخذ، وهو ما تغطي عليه واشنطن باسم مزيد من الديمقراطية والحرية للمجتمع وللأفراد وتحرير للاقتصاد.
بالتأكيد تشكل هذه المطالب الامريكية جدول أعمال كامل تهدف الولايات المتحدة من ورائه إلى إحكام سيطرتها الشاملة والمنفردة على المشرق العربي برمته وتضمن من خلاله في الوقت نفسه الأمن والاستقرار لحليفها الرئيسي أو الاستراتيجي إسرائيل وللتحالف نفسه. ومن الصعب على النخب العربية الحاكمة أن تذعن له من دون أن تتكبد أنظمتها خسائر كبيرة في السيادة والصدقية والنفوذ، وربما الاستمرار في الحكم والاستقرار. بيد أن الاعتراف بما يمثله جدول الأعمال الأمريكي الاسرائيلي هذا من تهديد لديمومة النظم العربية واستقرارها لا يعني أن من الممكن للدول العربية أن تتجاهله أو أن لا ترى فيه استحقاقا استراتيجيا وسياسيا قائما بالفعل ويحتاج إلى إجابات واضحة ومعلنة تستطيع جميع الدول العربية أو معظمها أن تشارك في بلورتها كما تمكن المجتمعات أيضا من تقديم مساهمتها الكبيرة فيها. فهو استحقاق ينطوي على تحد كبير وخطير لا تملك الدول العربية أن تشيح النظر عنه وتتجاهل عواقب انعدام القدرة على رده من دون أن تتكبد خسائر كبرى. فكما أن التسليم لواشنطن بمطالبها لا يعني شيئا آخر سوى تعريب الحرب الإقليمية واستخدام الدول العربية أدوات في الحرب الاسرائيلية الامريكية ضد الإرهاب، أي ضد المقاومة العربية أو ما بقي منها في فلسطين وغيرها، والتي تقوم اليوم بشكل أساسي على أيدى منظمات ذات سمة إسلامية. كذلك لا يعني الرفض العربي المحتمل لجدول الأعمال الإقليمي الذي تطرحه واشنطن معززا بالقوة العسكرية في سبيل ضمان سيطرتها وأمن إسرائيل إلا تحويل البلدان والمجتمعات العربية إلى فريسة سهلة لآلة الحرب الأمريكية الإسرائيلية، كما حصل في العراق، ومن وراء ذلك زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى والدمار في المنطقة العربية. فليس هناك ما يمنع واشنطن وتل أبيب، في حال تعذر عليهما العمل على تحقيق جدول الأعمال الأمريكي الإقليمي من تبني اختيار سياسة الأسوأ ودفع المنطقة إلى الاقتتال والانهيار، حارمة بذلك المشرق العربي لربع قرن قادم من أي أمل في التقدم المادي والمعنوي.
والحال ليس هناك ما يشير إلى أن النخب العربية الحاكمة، ولا تلك التي تقف في المعارضة وتنتظر دورها عندما يحين الوقت، مدركة بشكل واضح لخطورة هذا الاستحقاق ولا إلى أنها قد سعت في السنوات أو الشهور الأخيرة إلى بلورة استجابة عقلانية وواضحة له تضع جميع القوى الرسمية والأهلية أمام مسؤولياتها وتبين لها طرق مساهمتها ومشاركتها الفعلية في مواجهة المخاطر المحدقة. وبالعكس من ذلك هناك مؤشرات أكبر إلى أن ضخامة التحدي الذي وضعت واشنطن النخب العربية الحاكمة أمامه قد أثار ارتباكا عميقا في وسط النظم القائمة وزرع في وعيها الكثير من الانقسام والتشوش والالتباس. وهي لا تزال تتأرجح بين تجاذبين عميقين متطرفين : الخوف المفرط من التهديد الخارجي الذي يدفع في اتجاه التنازل والاستسلام من جهة، ومن جهة ثانية الجهل المطبق بحقيقة هذه التهديدات وما يقود إليه من العطالة الفكرية والسياسية والتشبث بمواقف ومواقع قديمة وتقليدية تبدو وكأنها لا تزال خنادق مضمونة النجاعة، وهي مجرد خرائب دارسة لا قدرة لها على تأمين أي دفاع.
ومن الواضح أن أغلب النخب العربية الحاكمة لم ينجح بعد في التحرر من تقاليد حقبة الحرب الباردة ومنطقها. وبينما تسعى بعض النخب العربية إلى طمأنة نفسها بالانخراط الآلي في استراتيجيات الإدارة الأمريكية، يعلق العديد من النخب العربية الأخرى آماله على تفاقم النزاع الذي تثيره سياسة الانفراد الأمريكي بالقرار الدولي بين أقطاب التحالف الأطلسي وخاصة أوروبة. ويحلم في أن يزيد تفاقم النزاع هذا من هامش مبادرته الاستراتيجية، كما كان عليه الحال في العهد الماضي ثنائي القطبية. وهذا ما يفسر النزعة السائدة في الإعلام العربي وعند الرأي العام معا إلى المبالغة في تقدير حجم هذا التناقض والحلم بانفجار نزاع كبير بين القطبين العالميين يخفف الضغط عن البلدان العربية ويضمن لها حدا أدنى من هامش الحركة والقرار. ولا يزال هناك قسم ثالث من هذه النخب العربية يعمل على إخفاء عجزه عن بلورة استجابة ايجابية للاستحقاقات التاريخية وراء تصريحات أو قرارات شكلية تصدر عن الامم المتحدة أو انتقادات قوية تصدرها بعض الأقلام التحررية والمتحررة في الغرب ضد السياسات العدوانية أو وراء مقاومات أهلية أثبتت هنا وهناك جدارتها القتالية.
هكذا تميزت ردود النخب العربية في مواجهة الاستحقاق الذي فرضه طفور الولايات المتحدة إلى موقع القطب الأعظم، وزوال التوازن الدولي الثنائي، بالتقلب بين التنازلات الرخيصة الكلامية والعملية وأحيانا التسليم بالأمر الواقع وتسليم الولايات المتحدة مقاليد الأمور والسياسة في العديد من ميادين القرار، مع التصريح بذلك أم من دونه من جهة، والنكوص والارتداد إلى سياسات الإنغلاق والتقوقع والانكفاء على قواعد العمل القديمة المعروفة باسم المقاومة والصمود أو الحفاظ على السلام الأهلي والوحدة الوطنية من جهة ثانية. وبدل التوصل إلى سياسة متزنة تضمن الحد الأدنى من السيادة الوطنية وتكسر موجة الهجوم الأمريكي الشامل، اختارت معظم النخب العربية الردود البهلوانية التي توحي بالتنازل من دون أن تتنازل أو توحي بالتماسك والمقاومة مع تقديم أخطر التنازلات. وقد انعكس هذا التقلب والتردد في سلوك القيادات العربية على عمل وقرارات الجامعة العربية أيضا وأفقدها وزنها وأفرغها من أي مضمون. وهكذا وجدت الدول العربية نفسها في أسوأ وضع ممكن، وهو التخبط والانقسام على النفس وغياب الوجهة والاتجاه، وبالتالي فقدان الصدقية الذي يعطي للولايات المتحدة وإسرائيل الشعور بأن هذه النخب والدول التي تحكمها قد فقدت تماسكها الداخلي وأنها أصبحت فريسة سهلة لعمل سريع وجريء.
والحقيقة، مثل ما يشكل التسليم بالأمر الواقع الأمريكي الاسرائيلي، أو وضع البلاد العربية في مواجهة التحالف الأمريكي الاسرائيلي القائم، انتحارا مؤكدا للدول العربية، لا يمكن أن يشكل رفض الاستجابة والهرب من المشكلة المطروحة حلا ناجعا لها، ولا يقدم للعالم العربي مخرجا من المأزق الذي وضعه فيه الهجوم الاستراتيجي الأمريكي الاسرائيلي، ولا ردا على استحقاق تغير المعادلة الدولية. إنه لا يمكن أن يكون إلا بداية الطريق فحسب نحو بلورة استراتيجية بديلة في مواجهة الموقف الصعب الذي يجد العالم العربي نفسه فيه مخيرا بين الانتحار بالسم أو بالرصاص. ومن الواضح في نظري أن الموقف الصحيح هو الموقف الذي يرفض التنازلات المجانية من جهة كما يعمل لنزع فتيل التصادم والنزاع. والسؤال الرئيسي الذي يطرح في هذه الحالة، في إطار بناء استراتيجية احتواء عقلانية للهجمة الامريكية الشرق أوسطية، هو التالي: كيف يمكن للعرب أن يتجنبوا التنازل عن سيادتهم واستقلالهم من دون أن يعرضوا أنفسهم إلى مواجهة مع الولايات المتحدة لا مصلحة لهم فيها؟ وكيف يمكن لهم أيضا أن يتجنبوا المواجهة مع الولايات المتحدة من دون أن يضطروا لقاء ذلك إلى تقديم تنازلات تخل بموقعهم الاستراتيجي ومصالحهم الوطنية والجماعية؟
الجواب هو النجاح في تحويل "المساهمات والاصلاحات" التي تطلبها الولايات المتحدة من العرب من تنازلات مفروضة إلى مطالب ومصالح يفاوض عليها بين طرفين على قواعد واضحة كما هو الحال في أي مفاوضات دولية، وبالتالي أن تنتهي إلى تنازلات متبادلة أو لقاء مقابل واضح ومن الطبيعة نفسها. وهو ما يفترض مسبقا النجاح في تغيير الأرضية التي تقوم عليها اليوم العلاقات العربية الأمريكية والتي تتسم بطابع المواجهة، حتى مع الدول المحسوبة على واشنطن، وتحويلها إلى أرضية صراع على مصالح واضحة ومعلنة وشفافة تقبل التفاوض ويمكن حلها بالحوار والتسويات المقبولة من الطرفين.
لكن في هذه الحالة يطرح الموضوع مسألة تحول العالم العربي إلى طرف بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي إلى كتلة مقنعة ومتسقة في سياساتها الداخلية والخارجية، سواء ضمت كل الدول العربية أو بعضها. وحتى تكون مقنعة أي ذات صدقية ينبغي ان تظهر أن لديها بالفعل وعي واضح لمصالحها ورؤية مشتركة للمشاكل الدولية والإقليمية كما أن لديها القدرة والإرادة على المشاركة والتأثير في حلها وتحديد مستقبلها بنفسها. وهذا يعني بعبارة أخرى أن يكون للعرب جدول أعمال إقليمي مشترك، وهو ما يعبر عنه التكتل الإقليمي، وخريطة طريق خاصة بهم للانتقال إلى الديمقراطية والاندماج في السوق العالمية، وهو ما يشير إليه مطلب الارتقاء إلى مستوى المعايير الدولية الحضارية والاقتصادية، وأهداف مشتركة تجمع في ما بينهم وتنير طريقهم وهو ما يشكل مصدر وحدة المصالح والفكر ويجمع بينهما.
إن من الصعب تحويل العرب إلى طرف أو شريك حقيقي مقنع، أي متمتع بالرصيد والصدقية، تقبل الولايات المتحدة وغيرها التفاوض معه على شؤون المنطقة وشؤون شعوبها ومجتمعاتها مع الاحتفاظ بشروط توازن القوى وترتيب المواقع الراهنين وأساليب الإدارة والحكم السائدة في المنطقة وداخل المعسكر العربي نفسه بشكل خاص. إن تحقيق هذا الهدف يتطلب بالعكس القيام بمبادرات جدية وقوية وجريئة لتغيير المعطيات والتوانات القائمة ولخلق أوضاع جديدة تقنع الأمريكيين بأنهم غير قادرين على انتزاع تنازلات من العرب من دون تقديم مقابل، وأن من مصلحتهم التفاهم مع العرب لتحقيق مصالحهم في المنطقة. وربما يقع في صميم هذا التغيبر وقلبه إدخال الشعوب والمجتمعات في الحياة السياسية وملء الدول التي تكاد تتحول إلى قواقع فارغة إلا من قرقعة الأجهزة الأمنية العقيمة والمعقمة، بالحياة والحيوية، وإقناع الدول الخارجية بأن ما يحرك هذه البلدان مصالح وإرادات حية بالفعل قادرة على العمل والانتاج والمشاركة والمساهمة في الابداعات العالمية، وأن هذه البلدان ليست مجرد وعاء لحشد من الكتل البشرية الجائعة والمحبطة والمقهورة التي لا تتقن شيئا سوى فن القتال والاقتتال. وهي مستعدة في أي لحظة للاشتعال.
هذا هو الأساس الحقيقي لبناء سياسة عربية ايجابية وفاعلة تغير من الاعتقاد السائد اليوم عند الامريكيين وغيرهم بأن المفاوضات الحقيقية لضمان مصالحهم في المنطقة الشرق أوسطية لا تتم مع العرب ولكن مع الدول الخارجية وفي مقدمها أوروبة وإسرائيل، وربما أيضا بعض الدول المجاورة الحليفة مثل تركيا. ولا يظهر العرب في هذه الصورة إلا من حيث هم كتل بشرية هائلة ومخيفة بقدر ما هي مفتقرة للسياسة وللمدنية، أي للقيادة الأخلاقية والإنسانية، والتي لا يمكن أن يصدر عنها بالتالي شيء غير تكدير الامن والسلام الإقليميين والعالميين. ومن دون السير في هذا الطريق الذي هو ثورة إصلاحية بالمعنى العميق للكلمة، وبداية في سلوكها هي نفسها، لن تكون أمام النخب العربية أي خيارات أخرى في السنوات القليلة القادمة سوى القبول بتجرع سم التنازل والاستسلام من دون مقابل أو الإكتواء بنار العدوان والتدخلات العسكرية، الاسرائيلية وغير الاسرائيلية، وتحمل تبعات الهزيمة والانكسار من دون سلوان. لا ينبغي إذن أن نخفي على أنفسنا لحظة أن الحفاظ على أساليب العمل والممارسة السائدة عندنا، سواء استمرت المقاومات المشتتة أم لم تستمر، سوف تقود لا محالة إلى إخفاق العالم العربي في الاستجابة للاستحقاقات الدولية الراهنة وأن عواقب هذا الإخفاق لن تكون شيئا آخر سوى التهديد الحتمي بتفجير الأوضاع العربية الداخلية والإقليمية وتدشين حقبة عربية جديدة وطويلة من التفكك والتشرذم والاقتتال.

samedi, octobre 04, 2003

بين العنف والاصلاح في الشرق الأوسط


لا يزال غياب الحلول الناجعة لمشاكل الافقار الجماعي والقهر المتزايد وتفاقم النزاعات الداخلية والمحلية يمثل مصدر ضغط هائل على شعوب فقدت أو هي في طريقها لأن تفقد الحد الأدنى من الحياة القانونية والمدنية والسياسية الطبيعية والعادية. وتترافق هذه الضغوط الاستثنائية الوطنية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تشكل الأبعاد الرئيسية للأزمة الراهنة التي يعيشها العالم العربي منذ ثلاثة عقود مع جمود استثنائي للنخب الحاكمة وتصطدم بقوة بتخلف نظمها وانعدام شعور رجالاتها بالمسؤولية. ولا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يعمق الشعور باليأس والاحباط وانعدام الثقة بالنفس ويدفع الشرائح الأكثر شعورا بالتهديد والأكثر حساسية ونفاذ صبر إلى اللجوء إلى الحلول العنيفة التي تأمل أن تهز من خلالها السلطات والنظم والدول المسؤولة أو التي تعتقد أنها في أصل الأوضاع السلبية القائمة وأن تنقل حالة زعزعة الاستقرار إليها.
يشبه وضع العالم العربي المشرقي اليوم الوضع الذي كانت تعيشه منطقة أمريكا اللاتينية بعد الحرب العالمية الثانية· فهناك أيضا جعلت السيطرة الخارجية والافقار المستمر والتفاوت الطبقي المفزع وتكالب النخب الاجتماعية الحاكمة على السلطة، والدعم الدائم لديكتاتورية هذه النخب من قبل الولايات المتحدة ضد إرادة الرأي العام المحلي، أقول جعل كل ذلك، من أمريكا اللاتينية، خلال عقود الخمسبنات والستينات، الموطن الرئيسي للارهاب العالمي الموجه إلى المصالح الامريكية بالذات في أمريكا اللاتينية وفي مناطق العالم الأخرى·
وقد تتلمذ العرب منذ السبعينات على أمريكا اللاتينية هذه وتعلموا منها أساليب الاغتيال والعنف وحرب العصابات وحروب المدن قبل أن يصبحوا معلمين فيها. وترجموا مختلف كتب وأدبيات حرب العصابات وحرب المدن والحركات الثورية الأخرى التي انتشرت فيها انتشار النار في الهشيم· ولم يتوقف نمو العنف والارهاب في أمريكا اللاتينية إلا منذ عقدين أو أكثر قليلا وذلك في موازاة نجاح هذه القارة في تجاوز نزاعاتها الداخلية وتحرير نفسها من التبعية المطلقة للولايات المتحدة، وأخذها بمناهج الحكم الديمقراطي واعتمادها سياسات تنموية جديدة أخرجتها من دائرة الفقر والهامشية وضعف معدلات النمو الاقتصادي أو انعدامها· وقد حصل ذلك نتيجة إدراك مشترك في واشنطن وفي البلدان الأمريكية اللاتينية بأنه قد أصبح من المستحيل الحفاظ على الأمن والسلام مع استمرار الأوضاع على ما هي عليه وأن من مصلحة الطرفين، أعني الإدارة الأمريكية، الدولة المهيمنة الرئيسية على مصائر شعوب أمريكا اللاتينية، والنخب المحلية الحاكمة العمل في اتجاهين متلازمين: أولهما تعزيز فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن طريق تكثيف الاستثمار وتوحيد السوق الاقتصادية الاقليمية وثانيهما التوصل إلى تسويات سياسية قابلة للحياة بين النظم القائمة والمعارضات المحلية الثورية أو السلمية عن طريق الالتزام بالتعددية والدمقرطة الحثيثة والفعلية للحياة السياسية.
وكما كان عليه الحال في أمريكا اللاتينية، ليس من الممكن في العالم العربي فصل العوامل الداخلية وسياسات النخب المحلية عن استراتيجيات الدول الكبرى التي كانت ولا تزال وراء ترتيب الأوضاع السياسية والجيوسياسية المشرقية. وليس هناك أي أمل في التغيير في هذه المنطقة من دون التقاء مصالح القوى الخارجية المهيمنة على النظم والنخب الحاكمة المحلية ومصالح الجمهور الواسع الذي يحتاج إلى التغيير ويتطلع إليه بفارغ الصبر. إن الخروج من الأزمة المثلثة التي تضرب العديد من مجتمعات الشرق الأوسط العربية،أعني من حالة الفقر والاستبداد والنزاعات التاريخية المستديمة سيكون مستحيلا إذا ترك الأمر للنخب المحلية الحاكمة التي فقدت أي مفهوم للمعايير القانونية والسياسية للحكم وبالتالي من دون دفع بل من دون مبادرة دولية حكيمة قادرة على فرض الحوار الداخلي على النخب القائمة ومدعومة بإرادة جدية للمساهمة في حل النزاعات الداخلية والاقليمية المستشرية ومساعدة هذه البلدان على الخروج من العزلة السياسية والهامشية الاقتصادية التي تعيش فيها منذ عقود.
يعني هذا أن أي خطة أو مبادرة بناءة تستدعي من أصحابها الالتزام بخطة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية ولضخ دماء وأفكار ورساميل جديدة أيضا في المنطقة تمكنها من امتصاص الفقر وتخفيض نسبة البطالة وفتح آفاق حقيقية للأجيال الشابة معدومة الأمل اليوم· كما تستدعي القيام بجهود فعالة في سبيل التقريب بين وجهات نظر الحكومات والمعارضة السياسية والقوى الاجتماعية وفتح آفاق التعاون والتفاهم فيما بينها على أساس عقد وطني يضمن الحد الأدنى من الحقوق المدنية والسياسية ويلغي التفرد بالسلطة واغتيال الحياة السياسية واستخدام القمع والتعذيب والاعتقال التعسفي، ويؤكد فصل السلطات وسيادة القانون واعتماد الانتخابات الحرة كطريق وحيد لتداول السلطة· كما يستدعي أخيرا التصدي بشجاعة وقوة للنزاعات الاقليمية والداخلية المتفسخة التي سممت الحياة السياسية في المنطقة وتكاد تسمم الحياة الدبلوماسية الدولية ذاتها، وفي مقدمها النزاع العربي الاسرائيلي والفلسطيني الاسرائيلي·
لا أعتقد أن النظم والنخب الحاكمة في المنطقة العربية منها وغير العربية قادرة لوحدها على الخروج من هذه الأزمة الطاحنة. لكن التدخلات الأمريكية والأوروبية المتواصلة منذ عقود لم تساعد على الخروج من هذه الأزمة أيضا ولكنها عمقتها بقدر ما حاولت الاستفادة منها لتعزيز سيطرتها على بلدان المنطقة وبقدر ما جزأتها وسعت إلى فصل جوانبها المتشابكة بعضها عن بعض. إن أي مساعدة خارجية على حل أزمة الشرق الاوسط تستدعي ايجاد إطار دولي تشارك فيه جميع القوى المعنية من جهة بما يمنع من استخدامه كوسيلة لتعظيم منافع جهة دون أخرى ويكون قادرا على طرح جميع مشاكل المنطقة في وقت واحد من جهة أخرى. وربما كان أفضل إطار لتحقيق هذا الهدف مؤتمر دولي يوضع تحت إشراف الأمم المتحدة تشارك فيه جميع الأطراف الدولية والإقليمية وممثلين عن المجتمعات المدنية وأصحاب الرأي والمسؤولين السياسيين في الحكم والمعارضة يكون إطارا للنقاش والمفاوضات الجماعية حول جميع المسائل العالقة ويهدف إلى ووضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها. فليس من الممكن فصل أزمة الشرق الأوسط عن التدخلات الخارجية القوية التي تعرض ولا يزال يتعرض لها من قبل الدول الكبرى كما أنه من غير الممكن مواجهة مشاكل الشرق الأوسط بتجزئتها. فهي مترابطة ومتضامنةلا بد من طرحها مجتمعة وعلى مائدة واحدة سواء ما تعلق منها بالاحتلال أو بالتحولات السياسية الداخلية أو بمسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالتنمية مرتبطة بالتحولات الديمقراطية والديمقراطية مرتبطة بالسيادة الشعبية والسيادة مرتبطة بالسلام الذي يفترض الاستقلال وتصفية الاحتلال وقيام علاقات اعتراف متبادل وتعاون طبيعية ومثمرة بين جميع الأطراف داخل كل قطر على حدة وفي علاقة الأقطار في ما بينها.
ينبغي بشكل خاص تمييز مثل هذه المبادرة الدولية المنزهة عن الأغراض عن المبادرات والمشاريع التي تتردد منذ سنتين على ألسنة مسؤولين أمريكيين وأوروبيين والتي لا تهدف في الواقع إلا إلى التغطية على مشاريع الهيمنة وتقاسم النفوذ الغربية التي كانت ولا تزال الدافع الرئيسي لتهميش المنطقة ودعم نظم العنف والاستبداد فيها. إن المبادرة المطلوبة تستدعي بالعكس فصل المساعدة الخارجية في حل أزمة الشرق الاوسط عن استراتيجيات الهيمنة والتسلط والالحاق الأجنبية التي تبرر مشاريع التسلط والاستتباع الداخلية وتغذيها. وعليها بالتالي تطوير فرص التعامل مع المجتمعات والشعوب العربية على أسس جديدة، أسس الشراكة الاقتصادية والسياسية وتشجيع الاتجاه إلى الحلول المتكاملة التي تربط بشكل بناء بين مسألة السلام والاستقرار الإقليمي ومسألة الاصلاح السياسي ومسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
فكما أنه لا يمكن تحرير الشرق الأوسط من إرادة الانتقام والعداء والرفض التي تتملكه تجاه الغرب عموما من دون إخراجه من أزمته التاريخية ومساعدته على الاندراج في دائر الحضارة العصرية وتمثل قيمها وتقاليدها، لا يمكن أيضا القضاء على العنف الموجه أو الذي يمكن أن يوجه نحو الخارج من دون إلغاء العنف كوسيلة للحكم والممارسة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الذي يقوم عليها النظام الداخلي القائم· ومن الصعب على الانسان المحروم من التنظيم السياسي والنقابي ومن التظاهر ومن الإضراب ومن التعبير عن الرأي في الصحافة والإعلام، أي من استخدام أي وسيلة سلمية وسياسية للدفاع عن نفسه وضمان حقوقه الدنيا، أن يتمثل معنى الحياة القانونية· كما أنه من الصعب على الانسان الذي يعيش في ظل أنظمة تعسفية ولا إنسانية ويتعرض للاحتلالات والاعتداءات والتدخلات الخارجية المستمرة ولم يعرف معنى الشرعية الوطنية أو يشارك في بنائها أو يتمتع بقانونها أن يفهم معنى الشرعية الدولية ويقبل التكيف معها والخضوع لها·
وليس من المبالغة القول إن مصير المنطقة التي أصبحت مسرحا لحرب عالمية تقودها الدول الصناعية الكبرى ضد الارهاب، بتأييد أممي أم من دونه، يبدو اليوم، أكثر من أي حقبة سابقة، معلقا على رؤية هذه الدول لواقع المنطقة وتصورها لدورها وموقعها في التحولات العالمية والمكانة التي تريد أن تعطيها لها في الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية. هل ستظل تنظر إلى الشرق الأوسط كما كانت تفعل في السابق من خلال منطق تأمين الطاقة العالمية المضمونة والرخيصة وتنظيم سوق النفط من جهة ومنطق الفراغ الاستراتيجي الذي يشكل الحزام العازل الذي يحتاج إليه ضمان السلام والتقدم والازدهار في "أرض اسرائيل الكبرى" من جهة ثانية، أم ستقبل في النظر إليه بوصفه شريكا قادرا، حسب امكاناته وموقعه، على المساهمة الايجابية في النشاطات الدولية إلى جانب الدول الأخرى النامية وغير النامية. مما يعني العمل على تثمير موارد المنطقة البشرية والطبيعية وتأهيلها للاندماج النشيط والمنتج في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية الدولية وتحمل المسؤوليات التي تقع على كاهلها في إطار بناء أي سياسة عالمية.
إذا كان الخيار الأول هو المقصود فلن تكون الحرب العالمية المعلنة والمخاضة اليوم على تراب العالم العربي ضد الارهاب سوى مقدمة نحو محاصرة هذا العالم بصورة أشد وتعزيز تهميشه وفرض الوصاية والحماية عليه وتركه مسرحا سائبا للنزاعات الاقليمية والوطنية التي تفتك بشعوبه وتشل إرادة مجتمعاته، وفي موازاة ذلك وبالارتباط بهذه الأهداف، تدعيم أنظمة القهر والاستبداد والعنف الأعمى التي لا يمكن من دونها ضمان مثل هذا التهميش وتلك السيطرة والوصاية الخارجيتين. أما إذا كان الخيار الثاني هو المقصود، فسيكون من الضروري تبني سياسات عقلانية وبناءة تعزز قدرة العالم العربي على الانتقال، كما حدث في أمريكا اللاتينية منذ الثمانينات من القرن الماضي، من سياسات السيطرة والعزل والتهميش وتمكين النظم الديكتاتورية نحو سياسات قائمة بالعكس على خلق الفرص الجديدة والآمال، أي في النهاية على السعي إلى دمج الشرق الأوسط بعالم عصره، وإخراجه من حالة اليأس التي تقوده إليها سياسات نخب ديكتاتورية محلية ومصالح عالمية قائمة على ضمان الاستقرار الشكلي من دون مراعاة لأي مباديء سياسية أو ثقافية أو اجتماعية ولأي معايير قانونية· وبقدر ما سيدفع الخيار الأول إلى تفاقم أزمة العالم العربي وتعميق إحباطاته سوف يزيد من احتمالات النمو المتجدد لحركات العنف والارهاب التي يصعب السيطرة عليها· وبالعكس، بقدر ما يؤدي الموقف الايجابي إلى إخراج العالم العربي من أزمته التاريخية ويفتح آفاق التحولات الديمقراطية فيه، يعزز من احتمال نمو قيم الحرية والمساواة والعدالة والانسانية ويهمش مجموعات الارهاب ويعزلها ويجعل من نشاطاتها نشاطات غير منتجة وغير قادرة على تأمين أي تعاطف معها، أي يجفف الينابيع التي تستقي منها ويجعلها تذبل وتختفي من تلقاء نفسها·
وللأسف ليس هناك بعد ما يدل على أن سياسات الحصار والهيمنة والتسلط وتقاسم النفوذ قد تراجعت أو هي في طريق التراجع في الشرق الأوسط ولا على أن الأمل يزداد بإمكانية السير في طريق التعاون الايجابي مع العالم الصناعي للخروج من الأزمة. بالعكس، إن جميع الدلائل تشير إلى أن طريق الآلام لا يزال هو الطريق الوحيد المفتوح، مع ما نشهده من تكالب الدول الكبرى على تقاسم مناطق النفوذ والصفقات التجارية وخطب ود النخب الحاكمة الفاسدة وما نعاينه من تفاقم العنصرية في العلاقات الاجتماعية وتنامي الاعتقاد لدى الأوساط الرسمية والشعبية في عموم البلدان الصناعية بأطروحة وجود هوة ثقافية لا يمكن ردمها بين الاسلام والثقافة العصرية وبأن الحرب بين عالم الاسلام وعالم الغرب حتمية، سواء أسميناها حضارية أم همجية.
باختصار، لا يمكن للعالم العربي أن يفلت من كماشة عقيدة الحرب الوقائية التي أصبحت منهجا في التفكير الاستراتيجي الغربي، في أمريكا وغيرها، بالرغم من المظاهر الشكلية واختلاف التفسير، ما لم ينجح العرب في إعادة طرح مسألة العنف على أسس مغايرة لتلك التي لا تزال مطروحة بها اليوم، أي ما لم يتطور الوعي عند الشرقيين والغربيين معا بأن العنف ليس سمة ثقافية ولا حتمية تاريخية ولكنه ثمرة شروط مادية، أي يمكن تحليلها بالعقل وتغييرها أيضا، يمكن لجميع الشعوب والمجتمعات أن تجد نفسها حبيستها وأن تسقط في شرك إرادة القوة الناجمة عنها. وبقدر ما ننجح في ترسيخ الاعتقاد بأن العزل والتهميش والإذلال والقتل ليس الوسيلة الأنجع لدرء العنف، وأن تنمية العالم العربي ودمقرطته هما بالعكس الطريق الوحيدة لإخراج هذا العالم من أزمته التاريخية وتمكينه من تمثل معايير القياس الكونية فنحن نساعد الرأي العام الغربي على تبني مقاربة أكثر عقلانية وندفعه إلى إعادة النظر في السياسات الدولية المدمرة تجاه المنطقة العربية ·

jeudi, octobre 02, 2003

العالم العربي بين خيارين

لم يكرس أي حدث في العقود القليلة الماضية تهافت النظام العربي ويعلن إفلاسه بقدر ما فعل سقوط بغداد قبل حوالي ستة اشهر وما تبعه من احتلال العراق من قبل قوات التحالف الأمريكية البريطانية. وليس المقصود بالنظام العربي هنا نظام التعاون بين الدول العربية فحسب ولكن أيضا صيغة التنظيم العام وتوازنات القوى والمصالح التي سادت داخل الدول والمجتمعات العربية منذ حقبة ما بعد الاستقلال. ولم يعد هناك شك اليوم في أن هذه الصيغة بتنويعاتها المختلفة، الأبوية والبيرقراطية، قد أظهرت فشلها في تعبئة طاقات الشعوب العربية والارتقاء بها إلى مستوى من التكوين السياسي والأخلاقي والمهني يسمح لها بالتفاعل الايجابي مع عصرها وبالرد الناجع على التحديات التي تواجهها، سواء ما تعلق منها بحماية الاستقلال والسيادة أو بتحسين شروط الحياة المادية والمعنوية أو مكافحة الأمراض التاريخية الخطيرة التي كانت حركات الاستقلال تلخصها بالفقر والجهل والمرض لتستقي مشروعية كفاحها ضد الحكم الأجنبي واستحقاقها لإقامة دول مستقلة ذات سيادة. ولعل السبب الرئيسي لفشل هذه الصيغ التنظيمية السياسية والاقتصادية والإدارية التي اتبعتها المجتمعات العربية في نصف القرن الماضي هو قصورها عن خلق علاقات تواصل وتعاون ايجابي بين الافراد داخل المجتمعات وتشجيعها المباشر أو غير المباشر على تعميم الفساد والعجز وانعدام الثقة والانقسام الطبقي والمذهبي والاجتماعي معا.
في هذا الفشل، والإفلاس الذي نشأ عنه، يكمن المفتاح الحقيقي لفهم ما يعيشه العالم العربي اليوم من فوضى. فليست الفوضى في نهاية المطاف سوى النتيجة الطبيعية لانهيار القواعد والأسس التي بني عليها تنظيم المجتمعات خلال القرن الماضي، من دون أن تنشأ في مقابل ذلك قواعد جديدة، وقبل أن تتبلور في مواجهة اانهيار القواعد والمباديء القديمة قواعد ومباديء وقيم، وبالتالي قوى مجتمعية جديدة تساهم في بناء نظام بديل. ولذلك لن تجد الفوضى أي عائق يحول دون تعميمها وانتشارها. فهي اليوم فوضى نظرية تتجلى في التخبط الفكري والعقائدي الذي يعيشه الرأي العام العربي بصرف النظر عن اختلاف تياراته العقائدية. وهي فوضى دينية تظهر عبر التاويلات والصراعات والاجتهادات المتناقضة والمختلفة التي تتقاذف الجماعات الدينية. وفوضى سياسية تبرزها التوترات والصراعات والنزاعات، بل الحروب الأهلية وتنامي العنف، من دون أن تكون هناك آليات معروفة ومقبولة لامتصاص الصدمات وتسهيل التوصل إلى تسويات مقبولة بين المصالح والجماعات المتنازعة. ونحن نفتقر بشكل جلي لقواعد واضحة ومقبولة اليوم لممارسة السلطة والتعاقب على الحكم كما نفتقر إلى الثقافة السياسية العصرية. وبدل السعي لزيادة المشاركة وتوسيع دائرة تحمل المسؤوليات العمومية استمرأت النخب العربية اللجوء السهل إلى وسائل القمع والعزل والاستبعاد والمناورة السياسية. وتعيش مجتمعاتنا أيضا فوضى اقتصادية يعكسها التفسخ المتزايد في قطاعاتنا العامة وتشوه قطاعاتنا الخاصة وتعثر نموها وسيطرة روح المضاربة على جميع نشاطات مجتمعاتنا الانتاجية. فنحن لا نفتقر إلى خطة وسياسات اقتصادية ناجعة وفعالة فحسب ولكن، أكثر من ذلك، إلى آفاق تنمية اقتصادية فعلية قائمة على أسس إقتصادية سليمة وعصرية وقادرة على التفاعل مع المعايير الدولية للانتاج والاقتصاد العام. وفوضى استراتيجية يعكسها تهافت وزن العرب العسكري وتقهقر مواقعهم الاقليمية والعالمية في مواجهة الدولة الاسرائيلية وسياستها الاستيطانية التوسعية وفي مواجهة الضغوط الخارجية العسكرية والسياسية. وفي ما وراء ذلك كله نعاني من الافتقار لأي مخطط او جدول أعمال زمني، على المستوى الوطني أو الجماعي، لمواجهة جميع هذه التحديات الخارجية الخطيرة التي تؤرقنا. وليس من المبالغة القول إننا نشهد اليوم أمام أعيننا عملية تشييد إسرائيل ثانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى جانب إسرائيل عام 1948 من دون أن تكون لدينا أي خيارات للحد منها أو لوقفها. و نحن نعيش أخيرا فوضى في العلاقات بين البلدان العربية. فلم يعد للجامعة العربية دور واضح تقوم به ولا قدرة على التدخل الناجع لوقف تدهور الموقف العربي، وتكاد تفقد اجتماعات مجالسها الدورية أي صدقية. ولا احد يدري بالفعل كيف لا تزال مستمرة.
في مواجهة هذه الفوضى الزاحفة والمدمرة للحياة الاجتماعية، الأخلاقية والقانونية والاقتصادية معا، والناجمة هي نفسها عن غياب أي معايير واضحة تحكم سلوك الجماعات ونشاطاتها، لا تقف المجتمعات مكتوفة الأيدي. وقد اتخذت مقاومة المجتمعات العربية لهذه الفوضى وآثارها الخطيرة أشكالا متعددة. فنشأت في معظم المجتمعات العربية منذ السبعينات حركات اجتماعية وسياسية داخلية باسماء وبايديولوجيات مختلفة هدفها الحد من الطغيان : طغيان الدولة وطغيان الحزب وطغيان الطبقة وطغيان العشيرة وطغيان الطائفة وطغيان العائلة. لكن معظمها قد أخفق في تحقيق أهدافه بسبب التحالف الموضوعي وأحيانا الذاتي بين النخب الحاكمة والقوى الكبرى ذات المصالح الحيوية في المنطقة الشرق أوسطية. وينبغي أن نعترف بأن المجتمعات العربية فشلت فعلا في العقدين الماضيين الذين شهدا انهيار النظم الشمولية في كل مكان واستبدالها بنظم ديمقراطية ان تنتج أي نمط من أنماط الحكم التعددي أو تحدث ثغرة فعلية في نظام السيطرة المطلقة أو الاستبدادية. وهو ما مهد الطريق لتوسيع دائرة التدخل الأجنبي وفي المقابل إلى تنامي تيارات المقاومة الوطنية أو الدينية التي لا ترى من معادلة التحول العربي سوى قضية الاعتداءات الخارجية. وهكذا سوف تتصاعد التوترات الداخلية بموازاة تفاقم الفوضى الناجمة عن فساد النخب وتفاقم الضغوط الأجنبية. وبدل المقاومة السياسية والسلمية التي تبنتها قوى التغيير العربية في الثمانينات وما ارتبط بها من مبادرات للتسوية السياسية للنزاعات الاقليمية، سوف تشهد المنطقة انفجارا لا حدود له للعنف وتتحول القنبلة البشرية إلى السلاح الأمضى في يد الشعوب العربية الملوعة بالاحتلال والاستبداد في الوقت نفسه. وهذا يعكس من دون شك الصعوبة القصوى التي تواجهها قوى التغيير في تحقيق أي إنجاز أو فرض الاصلاح أو التغيير، والتطابق المتزايد في الوعي العام بين المعركة الداخلية والخارجية.
إن جوهر ما تعيشه المنطقة العربية هو اليوم بالفعل إعادة تشكيل الواقع العربي الوطني والاقليمي بالمعنى العميق للكلمة. وما نشهده من صراعات ومعارك وعنف منفلت هو ثمرة التنافس المفتوح على تحديد جدول أعمال إعادة التشكيل هذه بين مشروعين متناقضين كل التناقض: مشروع خارجي يريد إعادة ترتيب الوضع العربي الوطني والإقليمي من وجهة نظر مصالح نظام الهيمنة الدولي وفي سبيل تكريس هذه المصالح، ونمط الهيمنة المرتبطة بها، ومشروع تغيير داخلي يطمح إلى قطع الطريق على إرادة تكريس التدخل الأجنبي الدائم والشامل لحقبة طويلة قادمة وإرساء أسس نظام عربي وطني وإقليمي يستجيب إلى مصالح الأغلبية الساحقة من سكان المنطقة وشعوبها. وبينما يراهن مشروع التغيير الخارجي على القوة العسكرية والاستراتيجية الضاربة للولايات المتحدة وإسرائيل والنفوذ التاريخي للدول الصناعية الكبرى في الشرق الأوسط وتدعمه فئات كبيرة من رجال الأعمال المرتبطين بالخارج، يعتمد مشروع التغيير الداخلي على قوى وعناصر وجماعات متباينة من قطاعات الرأي والسياسيين والمثقفين لا تزال مشتتة إلى حد كبير. وهي مضطرة في أغلب الأحيان إلى أن تخوض معارك مركبة ضد قوات الاحتلال ونظم الطغيان المحلية وفئات المصالح الخاصة التي ترفض التسليم بأي قاعدة اجتماعية أو قانون. أما النخب الحاكمة فهي لا تزال، في العديد من المواقع والحالات، مترددة بين التحالف مع القوى الأجنبية والانخراط في مشروع التغيير الخارجي، الذي يؤمن لها السيطرة لحقبة جديدة قادمة على الأسس ذاتها التي ضمنت لها بقائها في السابق، أو الوقوف في وجهها والتمسك بخط وطني أو نصف وطني يبقيها على صلة مع جمهورها المحلي. بيد أن هذه النخب، أقصد تلك التي تخشى التسليم بالأمر الواقع والانحياز الكامل للمشروع الخارجي، لا تزال ترفض في الوقت نفسه أي انحياز لصالح مشروع التغيير الداخلي. وكثيرا ما تغطي على شللها أو خوفها من الحركة بالحديث المكرور عن رفض الرديكالية وتبني خط معتدل ومتدرج أي آمن للتغيير.
والنتيجة أن الدولة والنخب المسيطرة عليها تكاد تكون محيدة في معركة الاختيار الحاسمة الدائرة اليوم على اتساع المنطقة العربية بين مشروع إعادة صوغ المنطقة من وجهة مصالح الدول الأجنبية، وفي مقدمها إسرائيل، أو إخضاعها لمصالح الشعوب العربية وعلى رأسها الشعب الفلسطيني الذي يستبسل في الدفاع عن مواقعه أمام موجة الاستعمار الاستيطاني الزاحف في فلسطين ما بعد 1948. وهذا ما يفسر أننا لا نزال بعيدين عن بلورة خط إصلاح واضح ومقاومة ايجابية قوية ومتسقة وقادرة على اعادة تشكيل الاوضاع العربية من داخل المجتمعات العربية نفسها.
وإذا استمر الوضع على ما هو عليه ولم تنجح قوى الاصلاح الديمقراطية في تجاوز تشتتها وفي كسب جزء على الأقل من النخب الحاكمة لصف التغيبر العربي، فسيكون من الصعب حسم معركة الخيار في السنوات القليلة القادمة. وسوف يكون ثمن استمرار الصراع، من دون أفق واضح للتغيير، تفاقم الفوضى العربية مع تنامي حظوظ المشروع الخارجي لفرض نفسه على المجتمعات العربية، نخبا حاكمة ومعارضات ومجتمعات معا. ومن النافل القول أنه سيكون من الصعب علينا أن نوقف سيل الضغوط الأجنبية علينا من دون أن ننجح في بلورة مشروع التغيير الداخلي العربي، الوطني والإقليمي، من حيث هو رؤية فكرية وسياسية واضحة ومن حيث هو قوة منظمة وواسعة الانتشار قادرة على قيادة عملية تحويل حقيقي للعالم العربي في اتجاه تحرير المجتمعات من العوائق الفكرية والسياسية والاقتصادية والقانونية التي تكبلها وتشل نشاطها وتفاعل أبنائها، أي في اتجاه التنمية النشطة والديمقراطية واحترام الإنسان.

الاتحاد