mercredi, décembre 22, 2004

المعرفة العربية أمام تحدي الاستقلال والحرية

الاتحاد 22 ديسمبر 2004

لا يقتصر ما يشكو منه التعليم العالي والبحث العلمي على نقص الحرية عند الباحثين والأكاديميين عموما. فهو يعاني من مشاكل عديدة أخرى تشمل المناهج وطرق التعليم ونقص الوسائل ومناهج البحث وتأهيل الملاكات الإدارية والعلمية معا. لكن يظل الافتقار إلى الحريات الأكاديمية وإخضاع التعليم العالي والبحث العلمي لأجندة إعادة إنتاج النظم السياسية الأقلوية والدفاع عنها هو مفتاح فهم هذه المشكلات جميعا وفي مقدمها استمرار تفاقم الفجوة العلمية والتقنية القائمة بين العالم المتقدم والبلاد العربية. هذا ما كان موضوع مؤتمر الحريات الأكاديمية واستقلال الجامعات في البلاد العربية الذي اختتم أعماله في السادس عشر من هذا الشهر في عمان عاصمة المملكة الأردنية. وقد صدر عن هذا المؤتمر إعلان بلفت أنظار المسؤولين والرأي العام معا إلى مخاطر تجاهل حاجات التنمية العلمية والاستمرار في ربط الاصلاحات المنتظرة في هذا المجال بأجندة الدفاع عن نظم سياسية تفقد أكثر فأكثر سيطرتها على الأوضاع والتطورات الداخلية والخارجية.
وقد أكد الإعلان أن تعطيل مبدأ المنافسة في الكفاءة والمهارة والابتكار في مجالات البحث والتحصيل العلميين لصالح تنمية منطق تكوين الولاءات السياسية وتطويع التعليم العالي لأهداف الصراع على السلطة بما يعنيه ذلك من تحويل المنطومة العلمية إلى ساحة إضافية أو موازية لبناء موازين القوة السياسية هو الذي يفسر ما شهده التعليم في البلاد العربية من تدهور في المستوى العلمي ومن انفصال عن الحاجات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية والتقنية. وهو الذي يشرح أيضا المفارقة التي تعيشها اليوم المجتمعات العربية، أعني عدم التناسب الواضح بين الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها في ميدان التعليم في العقود الخمسة الماضية والنتائج الهزيلة التي حصلت عليها في جميع الميادين، بما في ذلك في الميادين الاقتصادية والإدارية. فلم تنجح في تأهيل الملاكات المهنية الكفؤة ولا في تطوير التقنيات والخبرات العلمية الضرورية لرفع مردود العمل وتحسين الانتاجية ولا تزال تعتمد اعتمادا كبيرا في تلبية حاجاتها على الخبرة الأجنبية.

وكما نصت على ذلك العديد من الإعلانات الدولية في العقدين الماضيين تعني الحريات الأكاديمية أولا احترام استقلالية المؤسسات التعليمية والعلمية وعدم إخضاع برنامج عملها أو إدارتها أو تنظيم شؤونها لحاجات الصراع السياسي أو بناء السيطرة السياسية. وهو شرط بناء نسق علمي مستقبل قادر على بلورة مشروع علمي يستجيب لحاجات المجتمعات المتجددة والمتنوعة. وتتضمن هذه الاستقلالية مساواة جميع أفراد المجتمع الحاملين للكفاءات أمام فرص الدخول في سلك المجتمع الأكاديمي كمدرسين أو طلبة أو مديرين والاعتراف بحق جميع أعضاء الهيئة الجامعية من أساتذة وطلبة وإداريين في ممارسة نشاطاتهم من دون أي تمييز أو تدخل خارجي أو تقييد من قبل سلطة الدولة أو أي طرف آخر. كما تتضمن تأكيد حق الهيئة الجامعية في ممارسة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تنص عليها مواثيق حقوق الانسان مثل حرية التفكير والضمير والدين والتعبير والاجتماع والانتماء لجمعيات وكذلك الحق في الامن والتنقل بحرية.
وتعني ثانيا أن تعيين أعضاء الهيئة العلمية وترقيتهم ومعاقبتهم ينبغي أن تخضع لقواعد مهنية وأن تتم من جانب هيئات جامعية منتخبة وأنه لا يحق فصل أي أكاديمي من دون أن يسمح له بالدفاع عن نفسه أمام هذه الهيئات، لا أمام محاكم أمن الدولة أو المحاكم العسكرية كما يحصل غالبا في البلاد العربية.
وتعني ثالثا أن لجميع أعضاء هيئة التعليم الحق في إقامة علاقات تواصل مع زملائهم في الجامعات الأخرى وتطوير تحصيلهم ومهاراتهم العلمية. كما أن لجميع طلبة الجامعات الحق في الحصول على تعليم يتفق وحاجات اندماجهم في الحياة الاجتماعية والعلمية وفي اختيار ميدان دراستهم بحرية والاعتراف الرسمي بمعارفهم وبالخبرات التي اكتسبوها. وعلى جميع الدول والمؤسسات التعليمية أن تحترم حقوق الطلبة الفردية والجمعية وأن تسمح لهم بالتعبير عن آرائهم بحرية في كل المسائل الوطنية والدولية.
وتعني أخيرا أن لجميع أعضاء الهيئة التعليمية الحق في الانتساب إلى جمعيات بما في ذلك الحق في تكوين نقابات أو الانتساب لنقابات قائمة للدفاع عن مصالحهم. وللنقابات الجامعية والتعليمية الحق في المشاركة في صوغ المعايير المهنية أيضا. كما أن على المؤسسات التعليمية العالية أن تضمن مشاركة الطلبة في هيئاتها الإدارية.
بالتأكيد تترتب على الهيئة الأكاديمية مقابل هذه الحقوق التي تتمتع بها التزامات أخلاقية أيضا من أهمها السعي إلى منع أي تلاعب أو استخدام سلبي للعلم أو التقنية لتحقيق أهداف تضر بالحقوق الانسانية، ومنها أيضا العمل على تخفيف الهوة التقنية بين المجتمعات البشرية وإتاحة الفرصة لجميع الهيئات التعليمية في العالم للمشاركة على مستوى واحد في تحصيل المعارف والاستفادة من ثمراتها. وفي سبيل ذلك يتوجب على الهيئات الجامعية أن تسعى إلى تطوير التعاون العلمي الذي ينبغي أن لا يخضع لقيود الحدود الإقليمية والسياسية أو أي عقبة اخرى.
ومن هذه الالتزامات السهر على أن تستجيب النشاطات العلمية والبحثية للحاجات الاجتماعية ولحاجات المجتمع بأكمله لا لطائفة واحدة فيه. وأن تقوم على أساس احترام المعايير المهنية. ولا تعني الاستجابة للحاجات الاجتماعية الرد على طلبات النظام الاقتصادي فحسب وإنما قيام المؤسسات التعليمية العليا بدورها أيضا في المجالات السياسية والمدنية بما يستدعيه ذلك من تعليم احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للشعوب وشجب أعمال القمع السياسي وانتهاكات حقوق الانسان التي تحصل في بلدانها.

وتكفي مقارنة سريعة بين ما يشير إليه مفهوم الاستقلالية الجامعية والحريات الأكاديمية مع ما تعيشه الجامعات العربية حتى ندرك إلى أي حد أصبحت جامعاتنا أدوات لأسر العقل وتلبيد الشعور وفي النهاية للتعليب الجمعي فلم تعد صالحة للتأهيل ولا للابتكار العلميين. ففي معظم البلاد العربية تفرض الأجهزة السياسية الحاكمة وغالبا الأجهزة الأمنية وصايتها العلنية على الحياة الجامعية, وتتعامل مع أعضاء الهيئة العلمية والإدارية في جميع المستويات حسب منطق الولاء والمحسوبية وتخضع البرامج للحسابات السياسية الضيقة. وهي لا تضع القيود على تداول المعارف فحسب ولكنها تقيد حركة الباحثين في داخل البلاد وخارجها وتصادر الرأي وتستخدم الجامعات والمدارس للدعاية الحزبية أو الايديولوجية. وهو ما يفسر إلى حد كبير الفشل الذريع الذي منيت به السياسات التعليمية العالية العربية والذي يبقي العالم العربي في حالة تبعية مستمرة وواسعة للخبرة العلمية والفنية الأجنبية إلى اليوم بالرغم من شمول جامعات البلاد العربية ملايين الطلبة والأساتذة والباحثين.

لكن ما يبدو وكأنه مسألة بديهية وشرط لبناء منظومة علمية منتجة، أعني احترام استقلالية الجامعات وحرياتها الأكاديمية، يؤلف في الواقع تحديا كبيرا يواجه المجتمعات العربية. فمن جهة أولى ليس من المتوقع أن تتخلى النخب الحاكمة عن سيطرتها القوية على مؤسسات التعليم العالي التي تشكل الخزان الأكبر لقوى الحركة الاجتماعية والفكرية في مجتمعاتنا ومصدر الديناميكية السياسية. ومما يساعدها على ذلك أن السلطات العمومية كانت ولا تزال وستبقى الممول الأول لمنظومة التعليم في جميع البلدان. وهي تستطيع من خلال هذا التمويل أن تتحكم بصورة مباشرة بكل ما يتعلق بتنظيم الهيئة الأكاديمية. ومن جهة ثانية تضغط شروط المعيشة الصعبة التي تعاني منها الطبقات الشعبية والوسطى في البلاد الفقيرة على جميع العاملين وتدفع بقسم كبير من أعضاء الهيئة التعليمية إلى المساومة بسهولة على الحقوق التي لم يتمتعوا بها أبدا من قبل ولا يعرفون قيمتها، خاصة عندما تساهم هذه المساومة في إعفائهم من الواجبات المترتبة عليهم. ومن هنا ليس احترام الحريات الأكاديمية مسألة مجردة ولا هدفا سهل المنال في مجتمعات تعاني مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية من نقائص وتشوهات كبيرة. إن تحرير الجامعات ومؤسسات التعليم العالي من وصاية الأجندة السياسية وضمان احترام الحريات الأكاديمية هما موضوع صراع دائم. ولن يمكن حسم هذا الصراع لصالح توسيع دائرة الحريات الأكاديمية واستقلال منظومة التعليم العالي والبحث العلمي ما لم يحصل تقدم حثيث على جبهتين رئيسيتين. جبهة التحويل الديمقراطي للدولة وللحياة السياسية وجبهة التجديد الثقافي والأخلاقي للمجتمعات، وبشكل خاص للنخب الثقافية والأكاديمية وتحريريها من منطق الخوف والاستسلام والاستزلام.

فليس هناك في اعتقادي أي ضمانة كي لا يتحول التمويل الرسمي للتعليم إلى وسيلة لإخضاعه إلى حاجات السياسة السلطوية إلا خضوع السلطة العمومية نفسها إلى قاعدة التداول الديمقراطي بما يعنيه ذلك ويفترضه من إلغاء إمكانية الاحتكار الدائم للحكم ومن توفير وسائل المراقبة والمحاسبة والتحديد الواضح للمسؤوليات والتغيير السلمي والقانوني للأطر والملاكات الرسمية والخاصة. وبالمثل ليس هناك ضمانة كي لا يساء استخدام الحريات الأكاديمية لتحقيق أهداف غير علمية وغير تربوية بل للحفاظ على هامش الاستقلال الجامعي نفسه إلا بالارتقاء بالوعي الأخلاقي والسياسي لأعضاء الهيئات الأكاديمية من مدرسين وإداريين وقدرتهم على تثمير هذه الحريات وعلى احترام الالتزامات الضمنية التي تنطوي عليها.

jeudi, décembre 16, 2004

الاصلاح السوري لقاء مع الراية القطرية

الراية القطرية
الخميس16/12/2004
دمشق - حيان نيوف
وجهت الراية مجموعة من الأسئلة حول مستقبل الإصلاح إلي البروفسور السوري المعروف برهان غليون ، مدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون الجديدة - باريس 3-، وأستاذ علم اجتماع متخصص بالمجتمعات العربية المعاصرة بنفس الجامعة، وجري الحوار كالتالي:
كباحث وأكاديمي سوري - ولست معارضا - كيف تري مستقبل عملية الإصلاح السياسي في سوريا بلغة بحثية أكاديمية بعيدا عن القنابل الأيديولوجية التي تستخدمها المعارضة السورية؟
- أعتقد أن التوازنات الثقافية والنفسية والسياسية والاقتصادية التي استقرت بعد أربعين عاما من الحكم المطلق والمتواصل من دون انقطاع لا تسمح بحصول تغييرات جدية داخل النظام الذي يبدو مكبلا بقيوده الذاتية. وهذا ما يفسر التعثر الكبير الذي واجهته السياسات الإصلاحية في السنوات الأربع الماضية. وهذه التوازنات التي نجمت عن عقود طويلة من تكييف المجتمعات والمؤسسات معا لا تسري علي الفئات الحاكمة فحسب ولكن علي المجتمع أيضا. فلا يعادل عجز الطبقات المسيطرة عن توليد تيار إصلاحي متسق إلا عجز المجتمعات عن إفراز قوي تغيير قوية قادرة علي هز هذا الجمود القائم وزعزعته. هذا لا يعني أنه لن يكون هناك إصلاح أو تغيير ولكن مصدر هذا التغيير سيكون، كما هو واضح اليوم، في تبدل البيئة الخارجية الإقليمية والدولية التي ستفرض بالضرورة تغييرا في التوازنات الداخلية. وهو ما نعيشه في حقبتنا الراهنة. ومن هنا لا أجد أي معني للحديث عن الاختيار بين تغيير من الداخل وتغيير من الخارج. الواقع أن التغيير من الداخل قد فشل منذ سنوات طويلة في سوريا والعالم العربي معا لأسباب ليس هنا مجال شرحها. إن ما نشهده من تغيير، حتي الجزئي والثانوي منه هو ثمرة تغير السياق الخارجي, ومن المؤكد أنه سيتزايد أيضا مع تطور هذا السياق.
هناك من يعتقد ان الإصلاح السياسي لن ينطلق قبل إصلاح الإعلام حتي يبدأ الحوار عبر إعلام محلي ويبدأ السوريون سماع أخبار بلدهم عبر إعلامهم المحلي - ما رأيك بهذا القول؟
- الإصلاح الإعلامي هو جزء من الإصلاح السياسي. فليس للإصلاح السياسي في الوقت الراهن معني آخر سوي الإقرار بالتعددية الفكرية والسياسية علي طريق تفكيك نظام الحزب الواحد وإعادة السلطة إلي صناديق الاقتراع. وعندما نتحدث عن تعددية وتحول، حتي التدريجي منه، نحو الديمقراطية فنحن نتحدث بالضرورة عن فتح المجال الإعلامي وكسر احتكار الحزب الحاكم والنخب المسيطرة علي المعلومات وعلي أجهزة الإعلام بما فيها أجهزة الإعلام الوطنية أو العامة. فالديكتاتورية لا تتجسد فقط في احتكار السلطة ومنع الآخرين من المشاركة فيها ولا في تجريم العمل السياسي والتنظيمي وإنما أيضا في منع التيارات وقطاعات الرأي العام الأخري من استخدام وسائل الإعلام العامة وقصر هذا الاستخدام علي القائمين علي السلطة أو علي الحزب المسيطر عليها. ولا يمكن لسلطة ترفض الإصلاح السياسي أو تتردد فيه القبول بفتح المجال الإعلامي. ذلك أن احتكار الإعلام والمعلومات وطمس الحقائق وتشويش وعي الأفراد ومنعهم من معرفة الحقائق المتعلقة بحياتهم العامة بل قلب هذه الحقائق بشكل متعمد، كل ذلك يشكل أدوات لا بد منها للحفاظ علي احتكار السلطة ومنع المنافسين من الحصول علي الموارد المادية والمعنوية التي تمكنهم من المنافسة الشرعية وغير الشرعية عليها.
لكن ألا تعتقد ان مجرد السماح لك مثلا بإلقاء محاضرات علنية عن الشأن الداخلي وبسوريا ، وتنوع الحركات الناشئة في سوريا وإصدار البيانات هو دليل علي هامش حرية التعبير الموجود في العهد الجديد؟
- المناخ السياسي والنفسي والفكري داخل المجتمع السوري قد تغير كثيرا وهو في طريقه إلي أن يتغير جذريا. وهذا يفرض نفسه علي المثقفين وعلي المسؤولين أيضا الذين يدركون أن استخدام وسائل القهر نفسها يمكن أن تكون له نتائج سلبية أكثر. ولذلك فهم يميلون اليوم إلي تطبيق سياسات احتواء للمثقفين والناشطين ذات تكاليف سياسية أقل، خاصة بالنسبة لنظام يريد أن يستعيد صدقيته الدولية ويراهن علي الاندماج في الاقتصاد العالمي الليبرالي بعد أن اعترف بإخفاق سياساته التقليدية. لكن مع ذلك ليس من الصحيح أن النظام يسمح لي ولغيري من المثقفين بإلقاء محاضرات علنية. وأنا لم ألق أيا منها في سوريا علي الإطلاق. لقد دعيت من قبل منتديات خاصة وممنوعة يجتمع فيها الناس داخل شقق مغلقة، ونادرا ما تكون في صالونات واسعة كما كان الحال في المحاضرة الأولي التي ألقيتها في منزل رياض سيف والتي تم علي أثرها اعتقال صاحب المنزل وسبعة آخرين من الذين شاركوا في منتدي الحوار الوطني أو كانوا أعضاء في مكتبه والحكم عليهم لسنوات سجن طويلة. وأنت تعرف أنه لا يوجد إلا منتدي واحد مرخص في سوريا هو منتدي الأتاسي، تلقي فيه المحاضرات داخل صالون منزل الأتاسي نفسه. ويتعرض كل من يشارك في اجتماعات أخري إلي تحقيقات وتهديدات دائمة من قبل أجهزة الأمن كما يتعرض المحاضرون إلي إجراءات تنكيلية لا تنتمي لعصرنا أبدا ولا داعي الآن للحديث الموسع فيها. وقصدي أن أقول إن ما يبدو من تساهل جزئي تجاه المثقفين ليس نتيجة الإصلاح السياسي أو الإعلامي ولا ثمرة إرادة الحكم ولكن بسبب تغير السياق الجيوسياسي والمناخ الدولي العام وعجز النظام الذي ولد في ظروف الحرب الباردة الاستثنائية من إعادة إنتاج نفسه بالوسائل والطرق التقليدية نفسها. وهذا التغير هو الذي يفسر أصلا انهيار النظم السوفييتية والشيوعية السابقة، بالرغم من المقاومة الشرسة لحكامها ونخبها البيروقراطية. وما حصل في سوريا من تغير في هذا المجال لا يعتبر شيئا مهما بالمقارنة مع ما حصل في هذه الدول. والمقارنة هنا ضرورية. لأن هذا هو الذي يجعلنا نفهم لماذا يعتقد الرأي العالمي، بل حتي حلفاء سورية، أن الجمود هو السمة البارزة في نظامنا وهو الذي يبعث الشعور العميق بالخيبة ويدفع العديد من الذين دعموا النظام في سنواته الأولي إلي التخلي عنه والانسحاب من المراهنة علي حركته الإصلاحية كما حصل للفرنسيين.
عندما نتحدث عن الأهوال والمشاكل في المنطقة يقال أنها تؤثر علي وضع أي بلد ، وأيضا هل تعتقد أن إطلاق الإصلاح بشكل كبير في بلدان مجاورة يشجع عملية الإصلاح بسورية ويدفعها قدما؟
- بالتأكيد كما أن الخراب الذي يحيق بنا لا بد أن ينعكس علينا. وليس من قبيل الصدفة أن المنطقة العربية برمتها تتعثر في مشاريع الإصلاح.
هناك مطالبة دائمة بالإصلاح والمصالحة.. من بيته من زجاج لا يضرب الآخرين بالحجارة هذا هو المثل الشهير الذي يمكن تطبيقه علي أطراف المعارضة واللجان الحقوقية التي تلونت وتعددت. إذن المعارضة بحاجة إلي إصلاح قبل أن تطالب بالإصلاح - أليس كذلك؟!!
- لا يمكن وضع المعارضة والنظام في هذا المجال علي مستوي واحد. المعارضة جمعية وجمعيات خاصة تمثل مجموعة من المواطنين الذين لا يملكون أدوات السلطة ولا يتحكمون بمصير البلاد. الحكومة ذات مسؤوليات عامة وبيدها موارد الدولة ومصيرها معا. وما هو مطلوب منها قبل أي شيء آخر هو خدمة مصالح البلاد العامة والدفاع عنها في حين أن الجمعيات تدافع بالتعريف عن مصالح الفئات الخاصة التي تعبر عنها أو تمثلها. ثم إن وضع المعارضة ليس مفصولا ولا يمكن فصله عن سياسات الحكم ومؤسساته. والمعارضة السورية تعيش حالة صعبة اليوم وتعاني من التفكك لأنها محاصرة ومحرومة من أي هامش مبادرة أو تواصل مع المجتمع. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تأكل نفسها وأن تدور في حلقة مفرغة. كيف يمكن لمعارضة أن تنشأ وتتطور وتكون سليمة في نظام يحرم حتي النقاش وتداول الرأي حتي في الصالونات الخاصة ويحتكر جميع وسائل الإعلام والاتصال الخاصة والعامة؟ لا قيمة للمعارضة ولا حظ لديها في النمو والتقدم فكريا وسياسيا من دون قاعدة اجتماعية، ولا يمكن أن يكون لها قاعدة اجتماعية من دون تواصل مع الجمهور ولا تواصل من دون وجود الحق في التجمعات والمهرجانات وممارسة النشاطات السياسية والمدنية بصورة حرة أو شبه حرة. ومن دون ذلك ليس هناك أي أمل بنشوء معارضة. والحال أن القوانين الاستثنائية التي جعلت من مجتمع كامل مجتمعا مجردا من حقوقه المدنية والسياسية وخاضعا بشكل كامل لوصاية رسمية من قبل السلطة وقيادتها القطرية لم توجد إلا لتمنع مثل هذا التواصل وتقضي علي أي فرصة أو نافذة أمل لتكون معارضة بالمعني السليم للكلمة. ولو تأملت في ما هو قائم لوجدت أن معارضتنا ليست في حقيقة الأمر معارضة للنظام ولكنها بقايا الحركات السياسية القديمة التي كانت في تنافس مع حزب النظام واستمرت في الوجود بفعل العطالة التاريخية. لم تنشأ بعد معارضة سياسية في النظام ولا يمكن له أن يسمح بمعارضة مهما كان نوعها. ما نشأ ويمكن أن ينشأ في مثل هذا النوع من النظم هو ما كان يطلق عليه السوفييت اسم المنشقين. والحركات الإسلامية المتطرفة التي نشأت هي بالفعل في حضن النظام هي التعبير الأبرز عن هذا الانشقاق. حركات العنف السياسي هي المعارضة الحقيقية الوحيدة التي أنتجها النظام التسلطي العربي في كل مكان ولا يمكن أن ينتج غيرها. باختصار، ضعف المعارضة السياسية الراهنة هي حجة ضد النظام وليس معه.

samedi, décembre 04, 2004

في منهج مواجهة أزمة الشرق الأوسط



يطرح العنف المتفجر في الشرق الأوسط على الدول الصناعية الكبرى، كما لم يحصل في أي حقبة سابقة، قضية التطور في العالم العربي ومستقبل التحولات السياسية والاقتصادية فيه. ولا ينكر أحد من المسؤولين الكبار عن بنية النظام العالمي الراهن أن السبب الرئيسي لهذا العنف المتزايد هو ما ساد في العقود الماضية من سياسات وطنية وإقليمية قادت المنطقة بشكل متسارع إلى أزمة عميقة أصبح من المتعذر على أبنائها لوحدهم تأمين وسائل الخروج منها. ولا يزال غياب الحلول الناجعة لمشاكل الافقار الجماعي والقهر المتزايد وتفاقم النزاعات الداخلية والمحلية يمثل مصدر ضغط هائل على شعوب فقدت أو هي في طريقها لأن تفقد الحد الأدنى من الحياة القانونية والمدنية والسياسية الطبيعية والعادية. وتترافق هذه الضغوط الاستثنائية الوطنية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تشكل الأبعاد الرئيسية للأزمة الراهنة التي يعيشها العالم العربي منذ ثلاثة عقود مع جمود استثنائي للنخب الحاكمة وتصطدم بقوة بتخلف نظمها وانعدام شعور رجالاتها بالمسؤولية. ولا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يعمق الشعور باليأس والاحباط وانعدام الثقة بالنفس ويدفع الشرائح الأكثر شعورا بالتهديد والأكثر حساسية ونفاذ صبر إلى اللجوء إلى الحلول العنيفة التي تأمل أن تهز من خلالها السلطات والنظم والدول المسؤولة أو التي تعتقد أنها في أصل الأوضاع السلبية القائمة وأن تنقل حالة زعزعة الاستقرار إليها.
يشبه وضع العالم العربي المشرقي اليوم الوضع الذي كانت تعيشه منطقة أمريكا اللاتينية بعد الحرب العالمية الثانية· فهناك أيضا جعلت السيطرة الخارجية والافقار المستمر والتفاوت الطبقي المفزع وتكالب النخب الاجتماعية الحاكمة على السلطة، والدعم الدائم لديكتاتورية هذه النخب من قبل الولايات المتحدة ضد إرادة الرأي العام المحلي، أقول جعل كل ذلك، من أمريكا اللاتينية، خلال عقود الخمسبنات والستينات، الموطن الرئيسي للارهاب العالمي الموجه إلى المصالح الامريكية بالذات في أمريكا اللاتينية وفي مناطق العالم الأخرى·
وقد تتلمذ العرب منذ السبعينات على أمريكا اللاتينية هذه وتعلموا منها أساليب الاغتيال والعنف وحرب العصابات وحروب المدن قبل أن يصبحوا معلمين فيها. وترجموا مختلف كتب وأدبيات حرب العصابات وحرب المدن والحركات الثورية الأخرى التي انتشرت فيها انتشار النار في الهشيم· ولم يتوقف نمو العنف والارهاب في أمريكا اللاتينية إلا منذ عقدين أو أكثر قليلا وذلك في موازاة نجاح هذه القارة في تجاوز نزاعاتها الداخلية وتحرير نفسها من التبعية المطلقة للولايات المتحدة، وأخذها بمناهج الحكم الديمقراطي واعتمادها سياسات تنموية جديدة أخرجتها من دائرة الفقر والهامشية وضعف معدلات النمو الاقتصادي أو انعدامها· وقد حصل ذلك نتيجة إدراك مشترك في واشنطن وفي البلدان الأمريكية اللاتينية بأنه قد أصبح من المستحيل الحفاظ على الأمن والسلام مع استمرار الأوضاع على ما هي عليه وأن من مصلحة الطرفين، أعني الإدارة الأمريكية، الدولة المهيمنة الرئيسية على مصائر شعوب أمريكا اللاتينية، والنخب المحلية الحاكمة العمل في اتجاهين متلازمين: أولهما تعزيز فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن طريق تكثيف الاستثمار وتوحيد السوق الاقتصادية الاقليمية وثانيهما التوصل إلى تسويات سياسية قابلة للحياة بين النظم القائمة والمعارضات المحلية الثورية أو السلمية عن طريق الالتزام بالتعددية والدمقرطة الحثيثة والفعلية للحياة السياسية.
وكما كان عليه الحال في أمريكا اللاتينية، ليس من الممكن في العالم العربي فصل العوامل الداخلية وسياسات النخب المحلية عن استراتيجيات الدول الكبرى التي كانت ولا تزال وراء ترتيب الأوضاع السياسية والجيوسياسية المشرقية. وليس هناك أي أمل في التغيير في هذه المنطقة من دون التقاء مصالح القوى الخارجية المهيمنة على النظم والنخب الحاكمة المحلية ومصالح الجمهور الواسع الذي يحتاج إلى التغيير ويتطلع إليه بفارغ الصبر. إن الخروج من الأزمة المثلثة التي تضرب العديد من مجتمعات الشرق الأوسط العربية،أعني من حالة الفقر والاستبداد والنزاعات التاريخية المستديمة سيكون مستحيلا إذا ترك الأمر للنخب المحلية الحاكمة التي فقدت أي مفهوم للمعايير القانونية والسياسية للحكم وبالتالي من دون دفع بل من دون مبادرة دولية حكيمة قادرة على فرض الحوار الداخلي على النخب القائمة ومدعومة بإرادة جدية للمساهمة في حل النزاعات الداخلية والاقليمية المستشرية ومساعدة هذه البلدان على الخروج من العزلة السياسية والهامشية الاقتصادية التي تعيش فيها منذ عقود.
يعني هذا أن أي خطة أو مبادرة بناءة تستدعي من أصحابها الالتزام بخطة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية ولضخ دماء وأفكار ورساميل جديدة أيضا في المنطقة تمكنها من امتصاص الفقر وتخفيض نسبة البطالة وفتح آفاق حقيقية للأجيال الشابة معدومة الأمل اليوم· كما تستدعي القيام بجهود فعالة في سبيل التقريب بين وجهات نظر الحكومات والمعارضة السياسية والقوى الاجتماعية وفتح آفاق التعاون والتفاهم فيما بينها على أساس عقد وطني يضمن الحد الأدنى من الحقوق المدنية والسياسية ويلغي التفرد بالسلطة واغتيال الحياة السياسية واستخدام القمع والتعذيب والاعتقال التعسفي، ويؤكد فصل السلطات وسيادة القانون واعتماد الانتخابات الحرة كطريق وحيد لتداول السلطة· كما يستدعي أخيرا التصدي بشجاعة وقوة للنزاعات الاقليمية والداخلية المتفسخة التي سممت الحياة السياسية في المنطقة وتكاد تسمم الحياة الدبلوماسية الدولية ذاتها، وفي مقدمها النزاع العربي الاسرائيلي والفلسطيني الاسرائيلي·
ومن الممكن أن تأتي هذه المبادرة التي لا بد منها في أي مواجهة جدية وناجعة لأزمة الشرق الأوسط في شكل مؤتمر دولي يوضع تحت إشراف الأمم المتحدة تشارك فيه جميع الأطراف الدولية والإقليمية وممثلين عن المجتمعات المدنية وأصحاب الرأي والمسؤولين السياسيين في الحكم والمعارضة يكون إطارا للنقاش والمفاوضات الجماعية حول جميع المسائل العالقة ويهدف إلى ووضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها. وتستمد فكرة هذا المؤتمر مشروعيتها من أن مشاكل الشرق الأوسط مترابطة ولا يمكن مواجهتها بتجزئتها وإنما لا بد من طرحها مجتمعة وعلى مائدة واحدة سواء ما تعلق منها بالاحتلال والتدخلات الخارجية أو بالتحولات السياسية الداخلية أو بمسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالتنمية مرتبطة بالتحولات الديمقراطية والديمقراطية مرتبطة بالسيادة الشعبية والسيادة مرتبطة بالسلام الذي يفترض الاستقلال وتصفية الاحتلال وقيام علاقات اعتراف متبادل وتعاون طبيعية ومثمرة بين جميع الأطراف داخل كل قطر على حدة وفي علاقة الأقطار في ما بينها.
من الواضح أنه ليس لهذه المبادرة أي علاقة بمشاريع الاصلاح الشكلية والفارغة التي لا تكف عن الإعلان عنها النخب الحاكمة المحلية كما أنه لا علاقة لها بتلك المبادرات والمشاريع التي تتردد منذ سنتين على ألسنة مسؤولين أمريكيين وأوروبيين والتي لا تهدف في الواقع إلا إلى التغطية على مشاريع الهيمنة وتقاسم النفوذ الغربية التي كانت ولا تزال الدافع الرئيسي لتهميش المنطقة ودعم نظم العنف والاستبداد فيها. إن المبادرة المطلوبة تستدعي بالعكس التخلي عن استراتيجيات الهيمنة والتسلط والالحاق الأجنبية التي تبرر مشاريع التسلط والاستتباع الداخلية وتغذيها وتفترض التعامل مع المجتمعات والشعوب العربية على أسس جديدة، أسس الشراكة الاقتصادية والسياسية والتعاون من أجل السلام وقطع الطريق على مسار الانحدار والتدهور والسقوط الحثيث نحو البربرية. وكل محاولة للفصل بين مسألة السلام والاستقرار الإقليمي ومسألة الاصلاح السياسي ومسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية تعكس غياب الإرادة الجدية لمواجهة الأزمة الشرق أوسطية ولا بد أن تقود إلى الفشل.
فكما أنه لا يمكن تحرير الشرق الأوسط من إرادة الانتقام والعداء والرفض التي تتملكه تجاه السياسات الغربية من دون إخراجه من أزمته التاريخية ومساعدته على الاندراج في دائر الحضارة العصرية وتمثل قيمها وتقاليدها، لا يمكن أيضا القضاء على العنف الموجه أو الذي يمكن أن يوجه نحو الخارج من دون إلغاء العنف كوسيلة للحكم والممارسة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الذي يقوم عليها النظام الداخلي القائم· ومن الصعب على الانسان المحروم من التنظيم السياسي والنقابي ومن التظاهر ومن الإضراب ومن التعبير عن الرأي في الصحافة والإعلام، أي من استخدام أي وسيلة سلمية وسياسية للدفاع عن نفسه وضمان حقوقه الدنيا، أن يتمثل معنى الحياة القانونية· كما أنه من الصعب على الانسان الذي يعيش في ظل أنظمة تعسفية ولا إنسانية ويتعرض للاحتلالات والاعتداءات والتدخلات الخارجية المستمرة ولم يعرف معنى الشرعية الوطنية أو يشارك في بنائها أو يتمتع بقانونها أن يفهم معنى الشرعية الدولية ويقبل التكيف معها والخضوع لها·

mercredi, novembre 24, 2004

فـي وداع عرفـــــات

الاتحاد 24 نوفمبر 2005
التقيت الرئيس الراحل ياسر عرفات أول مرة في الأردن عام 1968 وكنت قد تخرجت للتو من الجامعة من ضمن لقاءات أخرى جمعتني خلال خمسة عشر يوماً مع العديد من قادة الحركة الفلسطينية. ولا أخفي أن الحافز الأساسي لهذه الزيارة واللقاءات التي نجمت عنها كان اتخاذ قراري بالانضمام إلى المقاومة الفلسطينية أو السفر إلى أوروبا لاستكمال الدراسة والعودة للمشاركة في ما كان يبدو لي المهمة التاريخية الرئيسية لجيلنا، وأعني مواجهة تبعات الهزيمة المدوية للسادس من يونيو عام 1967 والمساهمة في إعادة بناء المنطقة العربية على أسس جديدة تختلف عن تلك التي أدت إلى الهزيمة وضمنت استمرار التخلف والعطالة العربيين. وهو ما كان يضغط بقوة على وعي جيلنا الحالم وعلى ضميره المعذب معاً. وليس هدفي هنا التفكير في ما لم يخطر في بالي أن أفكر فيه قبل وفاة الرئيس الفلسطيني، أعني ما الذي دفعني إلى ترجيح الخيار الثاني ومنعني من الانضمام لإحدى حركات المقاومة بالرغم من بعض "العروض" الكريمة التي فدمت لي في ذلك الوقت. لكن من الواضح لي اليوم أن الحركات الفلسطينية اليسارية التي كانت تتفق بشكل أكبر مع رؤيتي النظرية لتلك الفترة لم تحدث عندي قناعة قوية في حين أن حركة فتح التي كنت قد شاركت مع زملاء لي في إصدار نشرتها العلنية "الثورة الفلسطينية" من دمشق منذ عام 1976 كانت تخضع في تلك الفترة لنزعة عسكرتارية أو نشاطوية قوية تجد في السياسة والتنظير السياسي خطراً على الوحدة الفلسطينية وتعلق جميع آمالها بالبندقية. وهكذا بينما كانت حركات المقاومة الفلسطينية اليسارية والقومية العربية تعاني من الإفراط في المناظرة الفكرية والتنظير كانت حركة المقاومة الفتحاوية تعاني بالعكس من الخوف المفرط من التفكير النظري إلى درجة أننا هوجمنا نحن العاملين في مجلة الثورة الفلسطينية وتم استبعادنا منها في الفترة ذاتها تقريبا التي كنا ننوي فيها الانضمام إلى صفوفها. وكانت التهمة أننا نشكل خطراً على الحركة بسبب إدخالنا المناضلين في متاهات التفكير والسياسة النظرية.ولعل ما بقي حاضراً في ذاكرتي حتى اليوم من هذا اللقاء الأول بعرفات هو هذه الديناميكية الجسدية التي كان يتمتع بها والتي جعلتني أفكر في تلك اللحظة أنها هي التي تشكل مصدر تفوقه على جميع زملائه. هذا هو على الأقل الانطباع الذي تركه عندي لقائي الأول مع ياسر عرفات الذي لم يفعل شيئاً آخر غير اصطحابي معه في جولاته الميدانية متبادلا معي من فترة لأخرى بعض الأفكار السريعة بينما قضيت ساعات عديدة أسمع تحليلات سياسية متباينة القيمة مع قادة آخرين. لقد بدا لي أن زعامة عرفات القيادية مستمدة مباشرة من ديناميكيته الجسدية الاستثنائية التي يسعى من خلالها إلى تحقيق ما يحاول الآخرون فرضه بقوة آرائهم الفكرية أو بتحليلاتهم النظرية. أما المرة الثانية التي جمعتني بياسر عرفات فقد كانت في تونس التي اضطر إلى الإقامة فيها مع حركة المقاومة الفلسطينية بأكملها بعد خروجه من لبنان تحت ضغط الاحتلال الإسرائيلي وبعد الصدام السوري الفلسطيني في طرابلس. لكن في هذه الفترة لم يعد عرفات هو نفسه الذي قابلته في الأردن عام 1968 كما لم أعد أنا نفسي ذاك المثقف الباحث عن مكانه في حركة السياسة المشرقية في بداية حياته. كانت معركة الصراع على الزعامة الفلسطينية التي كانت تسيطر على حياة المنظمات الفلسطينية وقادتها أثناء زيارتي الأولى لها في السبعينات في الأردن قد حسمت نهائياً وأصبح ياسر عرفات زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية من دون منازع. وهكذا أتيح لي هذه المرة أن أتعرف على رجل آخر تماماً. فلم يعد عرفات ذاك القائد العسكري الشاب الذي ينتقل بلمح البصر من موقع إلى موقع، يتحدث مع أكثر من شخص ويعمل في أكثر من مكان في وقت واحد. لقد صار الحاكم السياسي الحقيقي لشعب كامل حتى لو أنه لم يكن يعيش على الأرض ذاتها التي يعيش عليها الشعب الذي يحكمه ولا يمتلك الأدوات ذاتها التي يملكها الحكام عادة لتحقيق سياساتهم وتنفيذ قراراتهم. وصار مقره مركز سلطة عمومية يستقبل فيه السياسيين والصحفيين وكبار المسؤولين لا يغيره ولا يغادره تقريباً. في هذه المرة لم يصحبني عرفات في جولاته الميدانية ولكنه دعاني إلى أن أرافقه في مهامه السياسية التي كان يبدؤها في مكتبه في الثانية أو الثالثة صباحاً حتى الفجر. لقد تصرف كما لو كنا نعرف بعضنا بعضاً تماماً، دون تصنع ولا تكلف. لم يأخذ الحديث في الموضوع الذي كان غرض الزيارة والذي لم يرَ النور لأسباب أخرى سوى وقت محدود جداً. كان عرفات قد حسم قراره قبل لقائي معه ولم يكن يسأل كثيراً عن التفاصيل. قال للعاملين معه قدموا لنا العشاء، ودعاني إلى العشاء معه وكان بطيخاً أحمر وجبناً. بعد أن انتهينا شربنا الشاي ثم طلب مني أن أبقى لأستمع إلى مقابلة صحفية كان قد اتفق عليها مع أحد الصحفيين الأجانب، كما لو كان يريدني أن أكون شاهداً. كنا نتبادل الحديث بأشياء وأخرى وهو يعد نفسه للمقابلة ويدقق في وضع ثيابه وبشكل خاص في ترتيب وضع كوفيته وعقاله كما لو كان يعد نفسه لدور مسرحي. فاجأني بعد المقابلة بسؤاله عن رأيي في ما قاله، فلم أجد ما أقوله وقد كنت مأخوذاً بالموقف كله وبما أحاطني به من مودة وتبسط ورفع كلفة إلا عبارة واحدة: لينصركم الله. لم يجب ولكنه كان سعيداً بلقائه الصحفي وبدا لي شديد المرح والإعجاب بالنفس. لقد كان في سلوكه مزيج من الألفة ومشاعر الأخوة والبساطة والوله الذاتي معاً. وجمع في شخصيته بين روح طفولة مرحة لا مهتمة وإرادة كهل شديد الخبرة والمراس. لقد بدا لي في الوقت نفسه أحد أطفال الحجارة ورجل المصير الذي يقيس اختياراته بمقياس التاريخ والحوادث العظيمة. ومما لا شك فيه أن عرفات كان ينظر إلى خياراته وقراراته على أنها قرارات واختيارات مصيرية تحدد، في ما وراء السلطة التي يمثلها والمنظمة التي يرأسها، مستقبل الشعب الذي ينتمي إليه والذي أخذ على عاتقه مسؤولية قيادته إلى النصر، ذاك الذي لم يشك لحظة أنه في انتظاره. التقيت عرفات في لقاءات سريعة في ما بعد. لكن لم أره بعد عودته إلى فلسطين. وفي فلسطين تحول القائد الذي صار إليه عرفات منذ خروج المقاومة من بيروت إلى رمز بعد أن انتزع منه الاحتلال كل سلطة وصوت. وها هو الرمز يتحول في موته من جديد إلى رئيس من لحم ودم، رئيس دولة فلسطين والمؤسس الفعلي لوطنية بدت بعد وفاته أكثر توهجاً وحضوراً من أي وقت سابق.

mercredi, novembre 17, 2004

العالم العربي ومشروع الشرق الاوسط حوار مجلة نوافذ المغربية

في هذا الحوار يتحدث لنا برهان غليون استاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السربون.في باريزعن اوضاع العالم العربي بعد فشل مشروع الشرق الاوسط الامريكي وعن وضعية البلدان العربية حاليا بعد احتلال العراق.

التقاه في باريس يوسف لهلالي

نوافذ:
ـ الامريكيون رفعوا شعار الاصلاح في سياق سعيهم لبسط نفوذهم الشامل في المنطقة وتأكيد حضورهم فيها وقيادتهم لها.هذا هو مضمون اصلاح الشرق الاوسط الكبيير. لهذا سعى الاوربيون إلى تعطيل هذا المشروع أو الالتفاف عليه وانقاذ مشروعهم الخاص القائم على الشراكة الأورومتوسطية. وهم أميل إلى استقرار الأوضاع وعدم المفامرة بتغييرات أو بإعادة هيكلة للمنطقة تفتح الباب في نظرهم إلى الفوضى وعدم الاستقرار كما تريد الولايات المتحدة. ونحن لا نزال نعيش في هذه المنطقة في إطار نظام شبه استعماري قائم على تقاسم النفوذ بين الاوربيين والامريكيين.
ـ ان الانظمة الاستبدادية ما كان لها ان تستمر كل هذا الوقت بدون الدعم الغربي
ـ أغلب النظم العربية بنيت على اساس التعامل مع الخارج وليس بناءا على دعم داخلي أو قاعدة إجتماعية واسعة وعلى توسيع دائرة المصالح الوطنية. ومن هنا فهي لا تعتمد في استمرارها كثيرا على تأييد الشعب ولا تسعى إلى تعزيز موقعها في وسطه. إنها تعتمد على القوة في الداخل وتحالفاتها الدولية في الخارج ولا شيء آخر.

الاستاذ برهان غليون ما هو رأيك في المشروع الامريكي للشرق الاوسط الكبير؟


أعتقد ان مؤتمر الثمانية الاخير حول هذا المشروع الامريكي من مشروع مباشر الى مجرد اقتراحات وافكار بفعل الضغط الاوربي، والنقاش حول هذا المشروع تحول الى صراع اوربي امريكي حول الاستراتيجية الاصح للتعامل مع الشرق الاوسط.والاوربيون يرون ان أي تغيير سريع وشامل في المنطقة يمكن ان يؤدي الى وضع لايمكن التحكم فيه.فهم لايريدون تغييرا في النظم بل مجرد اصلاحات تدريجية. وقد اضطرت واشنطن إلى تعديل موقفها الأول والتراجع عن مشاريع إعادة الهيكلة الشرق أوسطية بعد أن أخفقت في العراق وأدركت الحاجة إلى التفاهم مع اوربا إذا أرادت أن تستمر في تطبيق مشاريعها الشرق أوسطية، أي في الواقع إلى تعديل وتيره تدخلاتها العكسرية والسياسية.
وحتى الآن/ يمكن القول ان المشروع الامريكي تحول الى تعبير عن النوايا البعيدة أكثر منه إلى مشروع تغيير فوري كما ادعى الأمريكيون نحو الديمقراطية واحترام حقوق الانسان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ومن الواضح أن فكرة التغيير في الشرق الأوسط لم تخطر على بال الامريكيين إلا بعد الحادي عشر من سبتمبر وبشكل خاص بعد احتلالهم العراق وإدراكهم لمدى الرفض الذي يظهره الرأي العام العربي والعالمي أيضا لخططهم واستراتيجياتهم التدخلية الانفرادية. وفي مواجهة الرأي العام الامريكي الذي أصبح أكثر تشككا في مشروعية الحرب على العراق بعد أن ظهرت نتائجها الكارثية بالنسبة للعراقيين والجنود الأمريكيين أيضا أطلق القادة الأمريكيون فكرة الاصلاح في الشرق الأوسط لإضفاء نوع من الشرعية الأخلاقية والانسانية على مبادرة عسكرية ليس لها ما يبررها خاصة بعد أن أقر خبراء عديدون أن العراق لم يمكن يمتلك أسلحة دمار شامل كما كان يتهمه القادة الامريكيون.
وفي جميع الأحوال لم يكن المشروع الامريكي يهدف الى تغيير النظم القائمة في المنطقة بقدر ما كان يهدف كما عبر عن ذلك العديد من المسؤولين الأمريكيين إلى الضغط على الانظمة السيا سية لإجبارها على تقديم تنازلات اضافية لصالح الامريكيين من جهة ولدفعها إلى القيام ببعض الإصلاحات التي تعطي للشعوب العربية الانطباع بأن الخلاص من الاستبداد ليس ممكنا من دون الأمريكيين أو هو جاء بفضل التدخلات الأمريكية. لكن سياسة الوعود الأمريكية لم تؤت ثمارها فلا الرأي العام العربي اقتنع بحسن نوايا الولايات المتحدة وغير موقفه المعادي لها، ولا الرأي العام الامريكي غير اعتقاده بعدم ضرورة الحرب الأمريكية على العراق. فكما أن الرأي العام العربي لم يكن لينخدع بالوعود الأمريكية الكبيرة في الوقت الذي يعاين فيه يوميا نتائج الدعم الأمريكي غير المشروط لاسرائيل في احتلالها لأراضي الدولة الفلسطينية، لم يقتنع الرأي العام الأمريكي بصدق القيادة الأمريكية وسعيها المنزه عن الهوى لنشر الاصلاح والديمقراطية عن طريق الاحتلال وقصف المدن وقتل المدنيين في المدن العراقية.
هل هذا يعني جهل الامريكيين بخصائص المنطقة مقابل معرفة اوربية كبيرة ودفاعها عن مصالح هذه الشعوب؟
هذا ما يقوله الاوربيون الذي يعرفون المنطقة اكثر وهذه حقيقة. لكنهم ليسوا أكثر انشغالا بالمصالح الوطنية للدول العربية. فهم لم يكفوا أيضا منذ عقود عن دعم النظم الاستبدادية. ولا يزالون يعتقدون بأن الدفاع عن النفوذ الأوروبي وحماية مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية بما في ذلك أمن إسرائيل وسلامتها تستدعي التحكم بالمنطقة عن قرب وعدم السماح للتيارات المعادية للغرب أو المدافعة عن درجة أكبر من الاستقلال والسيادة والسيطرة على الموارد المحلية لتوجيهها نحو التنمية بالوصول إلى السلطة بأي ثمن. وقد برهنوا على ذلك في موقفهم المعروف من حركة القومية العربية في أيام الحركة الناصرية ومن عبد الناصر كما برهنوا عليه من خلال تعزيزهم القدرات الاسرائيلية خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ثم أخيرا من خلال اختيارهم دعم نظم الأقلية الاستبدادية والديكتاتورية في المنطقة حتى اليوم. واعتقد ان الانظمة الاستبدادية ما كان لها ان تستمر كل هذا الوقت بدون الدعم الغربي بما فيها تلك الانظمة التي كانت حليفة للاتحاد السوفياتي والتي استمرت بعد انهيار هذا الاتحاد بفضل الدعم الغربي المالي والعسكري والسياسي والتغطية على انتهاكات حقوق الانسان. وهاهي الدول الغربية جميعا، والاوروبية على رأسها، تشاهد ما يقع في المنطقة من انتهاكات لحرية التعبير ومن محكمات استتنائية واعلان حالات الطوارئ ومن خروقات خطيرة لحقوق الانسان دون اية ردود فعل ديبلوماسية أو سياسية.
لقد رفع الامريكيون شعار الاصلاح في سياق سعيهم لبسط نفوذهم الشامل في المنطقة وتأكيد حضورهم فيها وقيادتهم لها.هذا هو مضمون اصلاح الشرق الاوسط الكبيير. لهذا سعى الاوربيون إلى تعطيل هذا المشروع أو الالتفاف عليه وانقاذ مشروعهم الخاص القائم على الشراكة الأورومتوسطية. وهم أميل إلى استقرار الأوضاع وعدم المفامرة بتغييرات أو بإعادة هيكلة للمنطقة تفتح الباب في نظرهم إلى الفوضى وعدم الاستقرار كما تريد الولايات المتحدة. ونحن لا نزال نعيش في هذه المنطقة في إطار نظام شبه استعماري قائم على تقاسم النفوذ بين الاوربيين والامريكيين.

لكن الموقف الاوربي لم يكن موحدا كما تحدثتم عنه ، بل هناك انقسام بين الاروبيين بين مؤيد ومعارض لهذه السياسة الامريكية؟

عندما اتحدث عن الموقف الاوربي اقصد فرنسا ،المانيا وبلجيكا التي كان لها موقف متميز. وحتى بريطانيا فيما يخص مشروع الاصلاح كانت اقرب الى هذا الموقف. ولم اقصد باقي الدول الاربية الصغيرة غير المؤثرة أو مجموع الدول الاوروبية. فمن الواضح أن أوروبة لم تصبح بعد قوة سياسية واحدة لكن هناك نواة صغيرة من الدول هي التي تحدد موقفا أوروبيا متميزا. والواقع أنه حتى هذه الدول ما كانت لتقف الموقف الذي وقفتها لو لم تر تخبط واشنطن في العراق أيضا. إن أوروبة لا تزال ضعيفة سياسيا بصورة ملفتة للتظر.

المقاومة العراقية ادن هي التي دعمت الموقف الاربي ؟

بالتاكيذ، لعبت دورا كبيرا لصالح الموقف الاوربي. والمؤكد ان المنطقة اصبحت ساحة للحرب الباردة بين الاوربيين والامريكيين وهذا الهامش تستفيد منه الانظمة القائمة وهو ليس لصالح شعوب المنطقة من اجل التغيير والضغط على الانظمة القائمة
.
لكن نلاحظ غياب الشعوب العربية والانظمة من هذا النقاش الدولي حول مصيرها؟

هذه حقيقة عكستها القمة العربية الاخيرة. بل كل القمم. فهذه الانظمة مختلفة لكنها تحاول ان تبين ان هناك اجماعا شكليا.لان الانظمة العربية ليس لها اجندة وطنية واستراتيجية بل لك منها جدول اعمال خاص بالفئات الحاكمة. دول الخليج ليس في ما بينها تعاون حقيقي وهي تعتمد جميعا بالجملة والمفرق على التحالف مع امريكا لحماية نفسها من باقي الدول العربية. اما بلدان المغرب العربي فقد اختارت التفاهم مع الغرب عموما والاندماج اقتصاديا مع اوربا والرهان على استتماراتها بالمنطقة.وكذلك على الانفتاح الواسع على امريكا. فهي تراهن على سياسة اقتصادية جديدة وقطع الحبال مع كل المفاهيم القديمة العربية، الوطنية والاستقلالية. والاجندة الاساسية هي جلب الاستتمارات وتحسين الوضع الاقتصادي. وبالعموم تسود في المنطقة سياسة تغليب المصلحة القطرية والاستفادة من الشراكة الاورمتوسطية وجلب الاستتمارات. من اجل تلبية حاجة الجمهور الى فرص عمل. بالنسبة لبلدان الشرق كمصر وسورية فهي تعيش أزمة عميقة جدا. واجندتها الاساسية هي احتواء اسرائيل وتوسعها المدمر ودرء المخاطر والتهديدات القوية الناجمة عن سياساتها العدوانية في المنطقة. وبعض هذه البلدان الذي لا يزال يعاني من احتلال قسم من أراضيه من قبل إسرائيل مثل سوريا،لبنان وفلسطين، يفتقر للتفاهم والتعاون بالرغم من اشتراكها في مسائل عديدة. لكن لكل منها اولويات مختلفة. ان جميع هذا البلدان محتاجة الى الاستتمارات وكلها مهتمة بقضية الاحتلال. لكن كل بلد يحاول اعطاء الاسبقية لقضاياه الخاصة ولو على حساب باقي البلدان العربية الاخرى. إن أكثر ما يميز البلدان العربية للأسف هو انعدام القدرة على التنسيق في ما بينها وبالتالي غياب أي اجندة عربية مشتركة والقبول بذلك من قبل الجميع والتسليم به كما لو كان ضربا من الحتمية التي لاراد لها. هكذا ياتي كل طرف عربي الى القمة ويعرف انه لن يصل الى نتيجة ولايريد الوصول الى نتيجة رغم الخطابات التي تداع حول التفاهم العربي المفترض. إن كل ما يأمل به من القمة هو أن يخرج من دون أن يدين الآخرون سياساته الانفرادية وتفريطه بالقضايا العربية العامة.

لهذه الاعتبارات يجب حل الجامعة العربية التي لم يعد لها أي دور باستتناء اصدار البيانات؟
هكذا يعتقد قطاع واسع من العرب ، بما فيهم جماعات غيورة على الجامعة العربية والفكرة العربية. فهم لم يعودوا يرون في الجامعة إلا وسيلة للتغطية على السياسات القطرية بل سياسات بعض النخب الحاكمة. ويعتقدون بالتالي أن من الافضل زوالها. لكن لست من أصحاب هذا الرأي بالرغم من صحة مايقولونه عنها. فزوال الجامعة العربية في الظروف الحالية التي يعيشها العالم العربي يستجيب لمخططات واشنطن وتل أبيب التي تريد أن تدفع البلدان العربية إلى قطيعة نهائية مع أفكار وقيم التحرر والاستقلال والتفاهم العربي وتزيل آخر رموز الوحدة بين الشعوب العربية. والواقع أن إلغاء الجامعة العربية كان ولا يزال مطلبا علنيا لأمريكا وإسرائيل التين تريان فيه تكريسا نهائيا للانقسام بين الدول العربية ولقطع كل قنوات التواصل والاتصال في ما بينها وبالتالي تفكيك العالم العربي حتى لا يشكل في المستقبل عامل تهديد لأمن إسرائيل.
بالتأكيد لم يعد من الممكن المراهنة على الجامعة العربية في سبيل خلق تكثل عربي. لكن لا ينبغي لبقاء الجامعة العربية أن يحول دون قيام تكتلات بين دول عربية مختلفة بل وغير عربية أيضا على مستوى ثنائي وتلاثي وعلى مستوى الجهات كما حصل في الثمانينات مع بلدان مجلس التعاون الخليجي،ومجلس التعاون العربي واتحاد بلدان المغرب العربي.

كيف تفسر هذا التناقض الذي يعرفه العالم العربي بين خطاب وحدوي قومي وعاطفي مع وجود ثقافة وثرات ولغة مشتركة وعجز شامل عن بناء سياسات مشتركة في حين توجد تجمعات بلدان اخرى مثل اوربا واسيا رغم اختلاف اللغة والثقافة والمصالح نجحت في ايجاد سياسة مشتركة خاصة في المجال الاقتصادي؟

السبب في تحقيق الاتحادات بين دول اسيا و امريكا واوربا رغم غياب الثقافة واللغة والتاريخ المشترك هو ان هذه البلدان لها انظمة وطنية أي أنظمة يسيرها منطق البحث عن توسيع دائرة المنافع والمصالح العامة لشعوبها وكسب مواقع جديدة في الاقتصاد الدولي. وهي تعرف ان التعاون يؤدي الى تعزيز مصالح الجميع بغض النظر عن قوميتهم.وبالمقابل إن المنطق الذي يسير نظمنا السياسية الاجتماعية ويشرط سلوكها الداخلي والخارجي هو التفكير بمصالح الحاكمين الخاصة سواء أكانوا طبقة ام عشيره أم أسرة أم شخصية حاكمة. وليس لديها أي حافز ما دامت تضمن استمرارها في السلطة بفضل الريع والدعم الخارجي للدفاع عن المصالح العامة أو للاهتمام والانشغال بمصالح عامة الناس.

هل هذا الوضع بهذه البلدان هو بسبب البترول؟

البترول هو أحد هذه العوامل القوية بالتأكيد. فهو مصدر كبير للريع. لكنه ليس وحده. المشكلة ـ أغلب النظم العربية بنيت على اساس التعامل مع الخارج وليس بناءا على دعم داخلي أو قاعدة إجتماعية واسعة وعلى توسيع دائرة المصالح الوطنية. ومن هنا فهي لا تعتمد في استمرارها كثيرا على تأييد الشعب ولا تسعى إلى تعزيز موقعها في وسطه. إنها تعتمد على القوة في الداخل وتحالفاتها الدولية في الخارج ولا شيء آخر. ومحور توفر القوة والتحالفات الخارجية هو وجود الريع سواء أكان ريع النفط أو ريع الموقف أو ريع الموقع. باختصار إن مشروعيتها خارجية. وما يهمها هي صورتها في الخارج.
ومن هنا فان العالم العربي يشهد اكبر تركيز للتروات بيد عائلات محدودة, واليوم تجاوز ودائع العرب الخارجية ألف مليار دولار وهي ودائع مهربة من العالم العربي نحو الخارج.وتخدم الخارج.

لكن هل العالم العربي يعيش اليوم على العقم في النخب وفي حركات المجتمع المدني وليس في استطاعته تجاوز الانظمة المستبدة والتابعة للخارج؟

الان يبدو لنا الامر كذلك في العشر سنوات الاخيرة. لكن في الواقع ان صمت الشعوب العربية يعود الى الهزائم التي تكبدتها في مواجهتها هذه الانظمة المدعومة من الخارج. منذ السبعينات والثمانينات تفجرت انتفاضات الخبز في عدة مناطق عربية، بعدها جاءت الحركات الاسلامية السياسية التي عبرت عن أزمة النظم والمجتمعات معا وحظيت بشعبية كبيرة على أمل أن تتحول إلى قوة تغيير. لكن فشلها ومحاصرتها من قبل النظم المحلية والدول الكبرى معا أدى إلى تجذر حركة الاحتجاج والاعتراض وتحول قسم منها تدريجا نحو وسائل العنف والجريمة. وهو ما نعيشه اليوم حيث يرتد خنجر المجتمعات إلى المجتمعات ذاتها. وقد ساهم هذا التحول في إعادة تجديد العقد الاستعماري إذ أوجد قاعدة جديدة لعودة التفاهم والتحالف بين النظم والنخب العربية الحاكمة المفلسة والدول الكبرى الباحثة عن طرف محلي يرشدها في معركتها الشاملة ضد ما أصبح يعرف بالارهاب الدولي.
لكن المشكلة الحقيقية التي تكمن وراء هذا التطور الخطير في الأوضاع العربية هو عجز النخب الحاكمة عن معالجة مشاكل المجتمعات واستهتارها بمصيرها ومصالحها وفشل المجتمعات نفسها في فرض التغيير والتداول السياسي بسبب تدخل الدول الكبرى وخوفها على مصالحها ومناطق نفوذها ودعمها بالتالي للنخب القائمة من دون شروط حتى الآن.
حاولت .الشعوب العربية تغيير الاوضاع من خلال الثورات الاجتماعية والتمردات الاسلامية لكنها هزمت وتعيش اليوم على وقع الهزيمة. وما نعيشه اليوم من عنف داخلي وخارجي هو ثمرة هذا الفشل المزدوج في الاصلاح والتغيير معا منذ بداية عقد الثمانينات. اليوم نحن تجاوزنا حقبة الاصلاح والتغيير ونعيش عصر الانفجار والعنف الناجمة عن هذا الفشل وانسداد الآفاق، عصر تناقض فضيع بين نخبة لا تفكر إلا في مصالحها ومجتمعات يتيمة أو ميتمة ليس لها أمل في قيادة ولا في تغيير. أما الدولة فقد تحولت بين يدي نخبة لاتخضع في سلوكها لا قاعدة ولا لقانون ومستعدة لإعلان الحرب في اية لحضة تهدد فيها أبسط مصالحها، إلى نوع من العصابة المنظمة تدافع عن مصالحها بأي وسيلة ومن دون أي اعتبار لأية قيم أو مباديء أو مصالح اخرى.

؟؟؟ كيف تفسر التحولات بالعراق اليوم مع تطور وسائل التعبير التي اصبح يعرفها المجتمع من تظاهرات ومقاومة حتى تحت الاحتلال؟

هذا صحيح، مما شك فيه ان ضرب نظام البعث السابق حرر الناس وأصبحت هناك احزاب وتيارات متعددة كسرت احتكار الكلام والنقاش. لقد تحرر المجتمع العراقي بالفعل لكن ليس في اطار من السيادة ولكن في إطار الاحتلال. فقد ضرب الامريكيون النظام السابق لكن من اجل بناء نظام يخدم مصالحهم. العراق بعد صدام يتخبط اليوم في الاحتلال. و اذا لم تتمكن القوى العراقية من الاتفاق على اجندة وطنية من اجل التخلص من الاحتلال، فان العراق يمكنه ان يتحول الى افغنستان جديدة بانتشار العنف المسلح والانقسام بين مختلف تياراته. و
وإذا كان وضع العراق بعد الحرب ييبن كيف يؤدي اختفاء نظام القهر الى عودة الحيوية الى المجتمع فهو يبين أيضا كيف أن القضاء على نظام القهر لا يعني بالضرورة نهاية المحنة ولا يفتح الطريق مباشرة نحو الديمقراطية والسلام الاهلي والإصلاح. هذا يحتاج إلى عمل دؤوب ومستمر ونشيط من قبل جميع القوى والاطراف الوطنية التي تريد الحفاظ على استقلال البلاد ووحدتها.
ولا ينبغي لهذه القوى أن تيأس. ذلك أنه في الوقت الذي يبدو فيه التفاهم والتعاون على أشده بين النظم الاستبدادية العربية والاحتلال، تحت راية الحرب الدولية ضد الارهاب وحولها، تتطور الأزمة بينهما كما لم يحصل في أي مرحلة سابقة. إن ما نعيشه ليس عصر التحالف ولا حتى تجديد التحالف بين الاستعمار والاستبداد وإنما بالعكس زعزعة التفاهم مابين الانظمة العربية والنظام الدولي. ليس ذلك بسبب اقتناع القوى الكبرى بفضائل النظم الديمقراطية والإصلاحية أبدا ولكن لأنها لم تعد مقتنعة بقدرة هذه الانظمة على الاستمرار وضبط الاوضاع. إنها تفكر في إعادة هيكلة المنطقة وفي تجديد الصيغة القديمة وتكليف فئات ونخب مختلفة قادرة على إدارة الأوضاع بشكل أقل همجية وبالتالي على التقليل من حجم التالف وعلى امتصاص غضب الشعوب وتناقضات المجتمع. وليس من المستبعد أن تكون التعددية وما تعنيه من توسيع هامش الحريات الفردية ولا أقول الديمقراطية هي السمة الأبرز للصيغة الجديدة.

لكن أي هامش من الديموقراطية هو لصالح الاحزاب الدينية بعد ان تراجعت القوى القومية او الاشتراكية او الليبرالية. ألا
تعتقدون انه في هذه الظروف لن يتم الضغط على هذه الانظمة لتوسيع قاعدة الحكم؟.

القوى الدينية اليوم هي الاكثر نشاطا ليس في العراق لوحده بل في كل البلدان العربية بدون استثناء. فايدولوجياتها هي الأكثر تعبئة لقوى المعارضة وقوى الاحتجاج والنقمة على النظام بقدر ما فقدت ايدولوجيات الحداثة التي كانت مصدر التعبئة لنظم ما بعد الاستقلال رصيدها وجاذبيتها. لكن لا يعني هذا حتمية انتصار قوى المحافظة الدينية بالضرورة. فأولا نحن لا نتحدث عن ديمقراطية مفتوحة وحرة بالفعل ولكنها ستكون حتما تحت الإشراف المباشر للأجهزة الداخلية والخارجية كما نشاهد ذلك في العديد من البلدان. وثانيا لأن انتصار العقائديات الدينية نابع هو نفسه وبشكل أساسي من تغييب الحياة السياسية والتضييق على المعارضة الديمقراطية. مما دفع نحو المعارضة المتشددة والناشئة خارج النظام. لكن حتى في حالة تبني المسلسل الديموقراطي فلن تكون حظوظ انتصار الاحزاب الدينية كبيرة لانها على خلاف ما يعتقد البعض ليست تيارا واحدا وإنما تيارات منقسمة على نفسها تتردد بين عدة اتجاهات ومشارب حتى داخل الحزب الواحد.وليس لها برنامج واضح، وهي حركات سلب اكثر منها حركات ايجاب. فهي تنجح في المقاومة والمعارضة لكنها تفشل حال حصولها على السلطة كما وقع في افغنستان والسودان. ثم إنه عندما يقرر بلد ما الدخول في الحياة الديموقراطية فان القوى الديموقراطية تسترجع حيويتها وقدرتها على العمل.ومشكل البلدان العربية بعد الاستقلال هي انها اختارت شكلين غير ديموقراطيين الاتجاه الماركسي والاتجاه القومي والدولتي. والتيار الديموقراطي اليوم ينمو بفعل فشل التيارات التي استحودت على الحكم في السابق. في الستقبل اعتقد التيار الديموقراطي الوليد هو الذي سيجمع حوله باقي القوى.

المشروع الامريكي حول الشرق الاوسط لم يعطي أي اعتبار للقضية الفلسطينية رغم اعتبارها قضية اساسية في المنطقة؟

اليوم زاد الوعي عبر العالم بان الصراع العربي الاسرائلي والفلسطيني الاسرائيلي يسمم العلاقات والحياة السياسية والاقتصادية بالمنطقة . وهناك تسليم من قبل الجميع اليوم بأن الخروج من العنف والتوثر واللاستقرار الذي تعرفه المنطقة يستدعي حل هذا الصراع. والجديد هو انه حتى لدى الاسرائليين و لدى شارون هناك اقتناع ان العنف لوحده لايمكنه ان يقدم حلولا رغم استمرار سياسة الاستعمار والايستيطان. والان تعرف المنطقة جولة اخرى من العنف. واليوم يطلب من الفلسطنيين المزيد من التنازلات مثل اقتسام الضفة الغربية وهو شيء لن يقبلوه بعد كل التضحيات التي قدموها.
نحن نعيش أزمة حقيقية على مستوى النزاع العربي الاسرائيلي ونقف أمام طريق مسدود. فسلاح الحسم بالقوة العسكرية الاسرائيلي لم ينفع كما أن انتفاضة الجسد واللحم الفلسطيني الحي ضد المدفع والدبابة لم يؤمن التحرر من الاحتلال. وفي اعتقادي ليس هناك مخرج، مع إخفاق العرب في وضع استراتيجية ناجحة لوضع حد للنزاع، من دون التدخل القوي للدول الكبرى لفرض حل على الاسرائيليين يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني التي كرستها قرارات الامم المتحدة.
إذا لم يحصل ذلك فنحن سائرون نحو حرب مستمرة من حول جدار الفصل العنصري الذي يشيده الاسرائيليون لفرض حياة الغيتو أو العزل على الفلسطنيين. وسوف تظل المنظقة برمتها وليس فلسطين فحسب في حالة أزمة مستفحلة ودائمة تتجه نحو إنتاج حالة كارثية.

كلمة اخيرة حول تقرير التنمية في العالم العربي الذي شاركت في اعداده؟

اهم شيء في هذا التقرير هو انه نجح في اثارة النقاش بالعالم العربي وهذه نقطة ايجابية واساسية. وهذا التقرير ليس نهائيا. هو وثيقة عامة للنقاش قدمها بعض المتخصصين العرب، ولا بد لك بلد من ان يقوم كل باعداد تقرير خاص به. لقد اتهم البعض هذا التقرير بانه ادات لخدمة اطروحات الادارة الامريكية. وهذا ليس صحيحا. لقد كان التقرير قميص عثمان. الواقع أن سبب تدخل الدول الكبرى في الشؤون العربية هو سوء السياسة العربية وإدارة الدول نفسها وليس شيئا آخر.

mercredi, novembre 10, 2004

احترام القيم الإنسانية شرط للحفاظ على الهوية

الاتحاد 10 نوفبمر 2005

ذكرت في مقال سابق أنه لم يعد من الممكن للمجتمعات العربية استرجاع صدقيتها الداخلية والخارجية إلا باستعادة نخبها الجديدة أو القادمة لمعاني المسؤولية بأبعادها الثلاثة الوطنية والإقليمية والدولية، وبإظهار هذه النخب بشكل واضح قدرتها على تحمل هذه المسؤولية في المستويات المتعددة لممارستها وعلى الحكم بمنطقها وبالتطابق معها. وإذا كان حمل المسؤولية الوطنية يعني اليوم في العالم العربي السعي الجدي إلى تغيير جذري في أساليب الحكم والإدارة وفي نوعية السياسات التي قادت إلى الأزمة الداخلية المتفجرة والعودة إلى طريق الإدارة السليمة القائمة على احترام معايير الكفاءة والنزاهة والقانون، بدل معايير الزبونية والمحسوبية وتبادل المصالح السائدة، وكان حمل المسؤولية الإقليمية يعني مساهمة كل دولة في خلق الشروط التي تسمح بضمان استقلال الإقليم وتطوير سبل التعاون والتبادل المثري بين شعوبه فإن حمل المسؤولية الدولية يعني، قبل أي شيء آخر، الارتفاع إلى مستوى التحديات العالمية والمشاركة في إنضاج وتحقيق القرارات التي تهم مستقبل البشرية. ولن يمكن لأية نخبة حاكمة أن تظهر بمظهر النخبة السياسية المسؤولة وبالتالي أن تحظى من جديد بالصدقية إلا بقدر ما تظهر من قدرة على تحقيق المهام المتعددة والمتنوعة المنوطة بها. ويعني الارتفاع إلى مستوى المسؤولية الدولية العمل الجماعي في سبيل تأمين درجة أكبر من التكافل الإنساني بما يتضمنه ذلك من المساعدة على خلق الشروط الملائمة لتقدم عملية التنمية وإزالة عوامل القهر والانسدادات العديدة والمتزايدة التي تواجهها المجتمعات على جميع مستويات نشاطاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والتي تؤدي إلى تفجر حركات الثورة الجامحة والعنف. وفي ما يتعلق بالعالم العربي، لن تستعيد المجتمعات موقعها لدى الرأي العام العالمي ولن تنجح في تحسين صورتها السلبية إلا بقدر ما تظهر قدرتها على بناء نظم قادرة على إطلاق ديناميات الحداثة المعوقة ودفع عجلة التقدم العلمي والتقني والأخلاقي. ويقتضي التقدم في هذا الطريق ويشترط حتماً تحرير الشعوب العربية من العطالة والهامشية والقيود السياسية والفكرية والأمنية التي تكبلها وتدفع بها إلى الاستقالة والانكفاء أو تفجر في وسطها حركات الإرهاب الانتقامية. لكن في ما وراء ما يقدمه هذا التحرير من فرص لا بديل عنها لتأكيد إدراج المجتمعات العربية في دائرة الحضارة الحديثة وتأمين التعاطف الدولي الذي لابد منه اليوم لاكتساب الوسائل التي تمكننا من التحول إلى قطب مستقل للتنمية الإنسانية وللمشاركة في السياسات الدولية، يشكل تحويل النظم العربية في اتجاه الديمقراطية شرطاً أساسياً لتغيير صورة العرب في عيون الشعوب العربية نفسها.وليس المقصود بالديمقراطية هنا وجود الواجهة التعددية الشكلية ولكن سيادة قيم احترام الإنسان ومبادئ الحق والقانون، أي إيجاد نظم سياسية تخضع لمبادئ المدنية، وتضمن قيمها من حرية وعدالة ومساواة وتضامن وتكافل جماعي معاً.وليس هناك شك في أن تعميم مبادئ وقيم احترام الحقوق الإنسانية ونشر معايير المساواة والعدالة والحرية والتكافل يشكلان اليوم الأرضية الضرورية للنجاح في إطلاق مبادرات إنسانية وبلورة سياسات تعاون دولي نشطة وبناءة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما يشكلان الإطار الوحيد الذي يسمح بتجاوز خيارات حرب الحضارات وصداماتها الكارثية نحو خيار المفاوضات الجماعية وجلوس جميع الأطراف المعنية، أوروبية كانت أو أميركية أو آسيوية أو أميركية لاتينية أو روسية أو أفريقية حول دائرة مستديرة للحوار الدولي الجدي. هذا هو الثمن الحقيقي لطموح أي إقليم إلى التحول إلى طرف في النقاش العالمي الراهن، بما في ذلك العالم العربي، ولظفره بدور أو بنصيب من التأثير في رسم وتقرير المصير البشري. فبصرف النظر عما يكتب على الورق وما يجود به بعض رجال السياسة الغربية، ليس لمثل هذا الحوار مكان ولا تبرير في الظروف الراهنة التي لا يمثل فيها العرب شيئاً لا من الناحية الاستراتيجية ولا الاقتصادية ولا التقنية ولا العلمية ولا الثقافية، ويشكلون بالأحرى عالة في كل ما يحيط بهم على الأسرة البشرية. فهم غير قادرين حتى على حل مشاكلهم الداخلية بأيديهم ولا يزالون محتاجين إلى تدخل الدول الكبرى لفرض الإصلاحات والإقرار بالحد الأدنى من الحريات والحقوق الأساسية. وليس من الممكن في مثل هذه الشروط الحلم بأي حوار جدي يعيد للعرب مكانتهم الدولية. لا عربياً أميركياً ولا عربياً أوروبياً ولا عربياً يابانياً ولا عربياً صينياً ولا عربياً هندياً ولا حتى عربياً أفريقياً. وليس من الممكن تحقيق مثل هذا الحوار، أي في الواقع تجنب الحرب الحضارية التي أصبحوا موضوعاً حقيقياً لها والتحول إلى شريك دولي مقبول ومسموع، قبل أن يستعيد العرب صدقيتهم ويصلحوا شؤونهم الداخلية. ومنذ الآن، ما دام العرب لم ينجحوا في أن يكونوا شيئاً في السياسة الدولية، فلن تكون لهم أيضاً سياسات وطنية داخلية متسقة وذات صدقية. باختصار بقدر ما نظهر التزامنا بالمبادئ الأخلاقية والمعايير الإنسانية ونبذل من جهد لاحترامها وتطبيقها في بلادنا وعلى مجتمعاتنا نستعيد ثقة الآخرين بنا ويصبح بمقدورنا أن نطالب من مركز قوة بموقف عادل ومتوازن في فلسطين والعراق وأن نزيل القواعد الأجنبية القابعة على أراضينا ونحسن من فرص وشروط التنمية الإنسانية الوطنية والإقليمية. وبقدر هذا الالتزام وذاك الاحترام ستكون فرصتنا في أن نتحول إلى شركاء، ونتمكن من ممارسة هذه الشراكة ونكون على مستواها. وفي هذه الحالة سيكون بإمكاننا أن نقنع العالم بأننا لسنا شعوباً همجية يأكل فيها القوي الضعيف وتنتهك فيها حريات الأفراد وتضيع حقوقهم باسم الوطنية الكاذبة أو الاعتقادات الدينية أو المصالح المادية الأنانية للقلة الحاكمة. وفيها سيدرك الرأي العام العالمي أيضاً أن البنلادنية ليست البضاعة الوحيدة التي تحسن مجتمعاتنا إنتاجها وتصديرها إلى بقية بقاع العالم. وسيعرف كذلك أن هذه المجتمعات تنطوي على قوى وقيم ومطالب ومتطلبات أخلاقية تتجاوز الانتقام والاستهلاك ومراكمة الثروة والقوة المادية. وفي هذه الحالة لن نحتاج كي نحمي أنفسنا من عدوان الآخرين المتواصل إلى أن نجعل رهاننا جميعاً على مقدراتنا التخريبية والسلبية التي نطورها كسبيل وحيد للبقاء في مواجهة التحديات، ولكن على ما تتفتق به عبقرية مبدعينا وقادتنا السياسيين والاقتصاديين من مبادرات ومساهمات إيجابية في معالجة الشؤون العالمية وحل المسائل الدولية التي تقع مشاكلنا في صلبها· مع الأسف ليس هذا مما تعد به بعد جلسات ومؤتمرات قمم الجامعة العربية ولا ما تسفر عنه خطط ومشاريع الإصلاح الوطنية الاجترارية. فنحن لا نزال نتشبث بتطوير قدراتنا السلبية والتخريبية ووسائل التهديد والابتزاز والسلب لرد العدوان المسلط علينا بدل المراهنة على تنمية قدرتنا على مباراة المجتمعات الأخرى والتفوق عليها في الإنتاج والإبداع والتنظيم والإدارة والتقدم العلمي والتقني والمشاركة الفعلية في بناء وتقدم الحضارة الإنسانية المشتركة. ولا تزال أوهام الحرب الحضارية التي تشبه العظمة المقدمة لكلب جائع تخدعنا وتسيل لعابنا· فنحن نعتقد أننا قادرون على إيذاء الغرب، وأن مجرد هذا الإيذاء يسعدنا لأنه يساعدنا على التوازن ونشعر أننا روينا غليلنا وشفينا من مرضنا. وهذا هو الطريق الخطأ والصعب معاً. لا يمكن للتخريب والإرهاب، حتى لو كان لخدمة أهداف نبيلة، أن يقيم دولة ولا وطناً ولا مجتمعاً ولا إنتاجاً ولا إبداعاً ولا حضارة. وإذا كانت مجتمعاتنا قد وصلت إلى ما وصلت إليه من تقهقر بل انهيار في جميع ميادين نشاطاتها الإنسانية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية فذلك بالضبط لأنها خضعت لمنطق العنف والإرهاب الداخلي وعوملت بأقسى ما تعامل به مجتمعات وشعوب، ونكل بها وخضعت لحالة لا تزال مستمرة من الحصار والتهميش والعزل والاغتيال الروحي والفكري، من قبل قوى داخلية وخارجية معا... وهي لا تزال مجتمعات مغتصبة الحقوق والنفوس والفكر وفاقدة لأية فكرة أخلاقية وأي شعور بالحرية والإنسانية. العنف الموجه من بعضنا تجاه البعض الآخر هو الذي دمر أوضاعنا الداخلية والعنف الذي نوجهه أو يوجهه بعضنا تجاه الغير باسمنا وبموافقتنا وتأييدنا سيدمر أوضاعنا الدولية والإقليمية ويهددنا بأن لا يختلف مصيرنا، إذا بقينا تحت قيادة نظم العنف والحرب والإمعان في القهر وتحقير الإنسان وتحويله إلى حشرة عن مصير أفغانستان، ولا أن نستحق حكومات أفضل من طالبان ولا بنظام اجتماعي غير الحرب المستمرة والانتحار.

mercredi, octobre 20, 2004

مراجعة مفاهيم الحكم والإدارة: من الممانعة إلى الانخراط في العالم

الاتحاد 20 اكتوبر 2004
لعل ما يميز الحقبة التي نعيش فيها والتي نطلق عليها اسم حقبة العولمة أو التواصل المتنامي بين الفضاءات السياسية والثقافية والجيوستراتيجية هو أنه لم يعد هناك أمل لأي دولة في الحفاظ على وجودها ولا لأي شعب للاحتفاظ باستقلال قراره الوطني من خلال الدفاع التقليدي الجامد عن السيادة الوطنية والانغلاق على الداخل ورفض التفاعلات الدولية. إن الاحتفاظ بالحد الأدنى من الإرادة الحرة والاستقلال يستدعي اليوم، بالعكس مما كان عليه الأمر في الماضي، الانتقال من مفهوم السيادة إلى مفهوم الشراكة. فبقدر ما ينجح شعب من الشعوب في التحول إلى شريك في تقرير المصير العالمي يحظى أيضاً بهامش من المبادرة والحرية التي تتيح له تكوين قرار وطني بل رأي عام داخلي ولحمة وطنية جامعة. وفي قلب هذه السياسة التي تؤسس لمفهوم الشراكة العالمية يوجد مفهوم المسؤولية. فعلى درجة المسؤولية التي تظهرها النخب الحاكمة وعلى القدرة التي تبديها في جعل مصالح شعوبها في اتساق وتطابق مع مصالح المجموعة الدولية عموماً والشعوب المحيطة بها بشكل خاص يتوقف حظها في الحصول على موقع مرموق في هذه الشراكة. ومن الواضح أن هذا الشعور بالمسؤولية يقف على طرفي نقيض من روح التهرب من المواجهة والتبرؤ ورمي المسؤولية على الآخرين والاحتماء وراء مفهوم الضحية الذي عبر عنه سلوك النخب العربية وكشفت عنه الأزمة التي فجرتها أحداث 11 سبتمبر 2001. وللمسؤولية السياسية في هذا السياق الذي نتحدث من خلاله ثلاثة أبعاد أو وجوه لم يعد من الممكن فصل واحدها عن الآخر. البعد الأول هو مسؤولية النخب أو الطبقات السياسية تجاه المسائل التي تتعلق بتسيير البلاد التي تحكمها وحسن إدارتها لمواردها واستثمارها لها. فلم يعد الحكم داخل أي بلد مسألة خاصة بالنخب الحاكمة ولكنه أصبح هو نفسه مسألة من مسائل الإدارة الدولية بقدر ما أصبحت للسياسات الفاسدة في أي بلد نتائج أو عواقب مباشرة على سياسات ومصير المجتمعات والبلدان الأخرى القريبة والبعيدة معاً. ومن هنا فإن النخب التي تظهر مقدرة ضعيفة على إدارة موارد البلاد التي تحكمها وتتعرض باستمرار لتحديات داخلية لا تنجح في معالجتها بغير العنف وإسالة الدماء وتبقي الباب مفتوحاً بشكل دائم أمام اضطرابات وقلاقل حاملة لمخاطر كبيرة لها ولجيرانها وللمجتمعات الأخرى، تفقد الصدقية العالمية وتصبح هي نفسها هدفا لضغوط واستراتيجيات إقصاء خارجية تقودها تلك الدول التي تعتقد أنها الأكثر تعرضاً للاساءة أو لمخاطر سياساتها اللاعقلانية وضيقة الأفق. وهذا ما يجعل وسوف يجعل من التدخل في شؤون الدول أمراً طبيعياً ووارداً أكثر من أية فترة سابقة في نظري ومتزايداً باستمرار. وهو ما سوف يدفع الرأي العام الدولي أيضاً إلى القبول بشكل أكبر بمثل هذه التدخلات، وربما إلى تقنينها بصورة أدق في مرحلة قادمة في دائرة الأمم المتحدة لإضفاء شرعية دولية مباشرة وواضحة عليها. هذا ما بينه التأييد الواسع الذي حظي به مشروع تغيير النظام البعثي في العراق عن طريق التدخل العسكري المباشر للدول الكبرى، وما برهنت عليه بشكل أكبر مبادرة الشرق الأوسط الأميركية التي وافق عليها بعد تعديلها بما يضمن مصالحه الاتحاد الأوروبي كما دعمتها جميع الدول الصناعية في مجموعة الثمانية الكبار، وهو ما أكد عليه كذلك القرار 1559 الذي اعترض على تمديد ولاية رئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحود بالرغم من حرص أصحاب التمديد على احترام القواعد الدستورية واحتجاجهم بتمسكهم بالوصاية السورية. وكل ذلك يجعل من المؤكد أن عمليات التدخل من قبل الدول الكبرى، سواء أجاءت تحت غطاء قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة أو من دونهما، تسير في اتجاه التنامي السريع والثابت في المستقبل وتجد أكثر فأكثر ما يسمح بتبريرها بل ربما بالمطالبة بها في منطقة العالم الفقير الذي لا تبدي فيه النخب الحاكمة قدرة كبيرة على معالجة التوترات ومواجهة التحديات الحقيقية سواء ما تعلق منها بتحديات التنمية الإنسانية أو بإيجاد الحلول السياسية والتوافقية للصراعات والنزاعات الاجتماعية والدينية والإثنية قبل السقوط الأليم نحو مزيد من الاضطرابات والحروب والمجاعات وجميع أشكال التقهقر والانحطاط المأساوية التي تقود إليها سياسات النخب الرديئة والمفتقرة للكفاءة والشعور بالمسؤولية. ولا شك عندي أن الزيادة المستمرة في طلبات التدخل الخارجي وممارسته من قبل الدول الكبرى أو مجلس الأمن أو حتى قوى دولية متوسطة سوف يشكل بؤرة نزاع دولي متصاعد. ولابد أن يشكل منذ الآن في نظري نافذة للتفكير الجدي بقضايا جديدة ومتجددة بالنسبة للمجموعة الدولية وفي مقدمها مسألة بناء إدارة سياسية عالمية بالمعنى الحقيقي للكلمة تشارك فيها الشعوب جميعاً وتتفاوض في ما بينها، في ما وراء حدود الدول التي تنزع إلى أن تخضع أكثر فأكثر في أجندتها الداخلية إلى النخب الحاكمة التي تتحكم بها وتستخدمها لخدمة مصالحها الفئوية وحدها.والبعد الثاني للمسؤولية السياسية المنتظرة من الحكومات الوطنية اليوم كي تحظى بالصدقية العالمية يتعلق بطبيعة السياسات والممارسات الإقليمية التي تظهرها النخب الحاكمة. وتنبع أهمية هذا البعد من أبعاد المسؤولية والتركيز عليه من حقيقة أنه لم يعد هناك أمل لدولة بتحقيق أهدافها الإنسانية داخل أراضيها، أي من تنمية الموارد المادية والمعنوية وتحسين شروط حياة الأفراد والجماعات، من خلال الاعتماد على مواردها الخاصة وحدها واستغلالها حتى لو حصل ذلك بأفضل السبل والوسائل. بل لم يعد يكفي لبلد أن يراهن على امتلاك موارد كبيرة، مادية وبشرية، حتى يضمن تقدمه ونموه. وربما أصبحت هذه الموارد، في بيئة مضطربة وغير مستقرة، سبباً في احتلاله أو خرابه وتفككه تحت سلطة نخب فاشية أو مافيوزية، كما برهن على ذلك بأقوى وجه مثال العراق الحديث والمعاصر. إن الإدارة الوطنية السليمة لأي بلد لم تعد تنفصل أو لم يعد من الممكن فصلها في السياق المعولم الذي نعيش فيه عن الإدارة الإقليمية السليمة. وبقدر ما يكون للدولة من مشاركة إيجابية في بناء إطار فعال وناجع للتعاون الإقليمي وبالتالي بقدر ما تساهم، من خلال سياساتها الإقليمية البناءة، في تحسبن فرص التنمية عند المجتمعات المحيطة بها وليس فقط داخل حدودها، تحظى بقدر أكبر من الصدقية وتزداد فرص حصولها على الشرعية العالمية. وهذا يعني أن من مصلحة النخب الحاكمة اليوم التفكير والعمل من أفق التفاهمات عبر الوطنية بدل التنافس والصراع لنيل حصة الأسد على حساب الشعوب الأخرى. ذلك أن وزن الدول وإشعاعها سيزدادان في المستقبل كما ستزداد شرعية النظم والنخب الحاكمة في أي بلد ومنطقة بقدر ما تظهر هذه الدول والنخب التي تحكمها قدرة على اقتراح مشاريع تعاون إيجابي والقيام بمبادرات بناءة لتجنب النزاعات الإقليمية ولتوسيع دائرة التفاهم والأمن والسلام الإقليميين. وبالعكس فإن الأنانية القومية أو الوطنية التي سادت في العقود الماضية وكانت معيار نجاح النخب في الصراع الدامي من أجل القيادة والسيادة وتسريع وتائر التقدم على حساب المجتمعات الأخرى سوف تظهر أكثر فأكثر كتعبير عن انعدام الشعور بالمسؤولية لدى النخب وعدم القدرة على تحمل تبعات الحكم ومهامه في منطقة من المناطق. وليس هناك منطقة شهدت مثل هذه الأنانية والتقوقع حول المصالح الوطنية الضيقة ورفض الانفتاح والتعاون والتكامل الإقليمي مثل ما شهدته المنطقة العربية التي بقيت خلال نصف القرن الماضي ساحة مفتوحة بالمطلق للتنافس على الزعامة والنراع على المناطق الحدودية والصراع على الموارد وتغليب المصالح الوطنية على المصالح الجماعية. أما البعد الثالث للمسؤولية السياسية التي نتحدث عنها في السياق الذي ذكرت فهو يشير إلى المقدرة التي تملكها قيادة سياسية أو نخبة حاكمة على الارتفاع فوق المصالح القومية الضيقة من أجل ضمان الاتساق والانسجام العالميين وتعزيز فرص وشروط الأمن والسلام الدوليين. وتفترض هذه المساهمة نشاطاً دبلوماسياً فعالا وحضوراً دولياً مستمراً كما تفترض مشاركة جدية وبذل جهد وتضحيات فعلية من أجل تحقيق القيم والأهداف العالمية المشتركة، وقبل ذلك المساهمة في بلورة هذه القيم والمبادئ التي لا يقوم من دونها مجتمع دولي موحد ومتفاعل ولا متحد إنساني سياسي متعاون ومتواصل. فليس لمجتمع اليوم، داخل المنظومة الدولية، وزن سياسي ولا معنوي إلا بقدر الجهود التي يبذلها للمساهمة في حل المشكلات الدولية. وهذا يتناقض بشكل قاطع مع سياسات الهيمنة الدولية والانفراد بالقرار العالمي كما يتناقض مع عقلية الاتكال والتبعية التي تميل إليها بعض الدول وما يرافقها من اعتماد منطق التسول على الولايات المتحدة وأوروبا للحصول على الدعم اللازم أو للحفاظ على الأمن والاستقرار أو للدفاع عن المصالح القومية والوطنية.

vendredi, octobre 15, 2004

إزمة النظم الشمولية

ندوة مشروع دراسات الديمقراطية
أكسفورد أغسطس 2004

طبعا أنا لا أتصور ان هناك أفقا واسعا للتحول الديمقراطي في المملكة العربية السعودية لكن سؤالي يتعلق بالآلية التي ترى أن من الممكن من خلالها دفع الوضع السعودي بل النظام السعودي إلى التغيير عبر تحولات سياسية بطيئة. الصورة التي في ذهني تفيد بان النظام السعودي يقوم بشكل رئيسي على ثلاث ركائز أساسية. الأبوية السائدة من حيث هي نظام من العلاقات التي تربط العائلة السعودية المالكة بالمناطق والأحياء وشيوخ العشائر، ومن حيث هي منظومة قيم سياسية مدنية تنظم علاقات الأفراد والجماعات فيما بينها بصرف النظر عن العشيرة السعودية. والركيزة الثانية هي الاقتصاد الريعي الذي يأتي هنا ليدعم نظام العلاقات الأبوية ويحوله إلى قاعدة لنظام حكم عن طريق ما أتاحه من إمكانيات مادية وسياسية كبيرة لبناء العلاقات الزبائنية بالتوزيع والرشوة والالحاق وكذلك من الموارد الضرورية لخلق طبقة ارستقراطية وطبقة وسطى أيضا مرتبطتين به. والركيزة الثالثة هي التحالف السعودي الأمريكي الذي ضمن للنظام التفاهم المستمر والتعاون مع المنظومة الصناعية وعلى رأسها الدولة العظمى الأمريكية والحصول على التغطية السياسية الفكرية الإعلامية والاستراتيجية التي يحتاج إليها من أجل معالجة التناقضات الداخلية وكبح جماح أي معارضة محتملة قبل أن تنمو وتزدهر. ولا شك أن هذا التفاهم ليس منفصلا أيضا عن وجود الاقتصاد الريعي بحيث يحق لنا القول إن ريع النفط الكبير قد ساهم مساهمة رئيسية في تعزيز إمكانيات استقرار واستمرار النظام الداخلية والخارجية.
لكن بالرغم من ذلك لاحظنا في السنتين السابقتين على الأقل ان النظام بدا وكأنه بدأ يشك في نفسه وقدرته على البقاء كما هو، وأخذ يقوم بالفعل بما يشير إلى الشروع في عملية تعديل بطيء في بنيته الخارجية أو السطحية. لقد تكلم السعوديون عن انتخابات بلدية وقاموا بتنظيم مؤتمر وطني وأظهروا رغبتهم في كبح جماح بعض التيارات الوهابية المتشددة حتى قبل 11 سبتمبر 20001. لكن في السنة الماضية يبدو لي وكأن هناك تراجعا غير معلن عن كل هذه الإجراءات التغييرية البسيطة واستعادة من قبل النظام للمبادرة، كما حصل في بعض البلدان الأخرى. سؤالي هو: هل ما حصل من تراجع ناجم عن أن الطبقة الوسطى، وهي الطبقة التي اعتمد النظام على ولائها حتى الآن، لكنها هي أيضا صاحبة المطالب بالتغيير نظرا لأنها الطبقة المتعلمة والمتأثرة أكثر بقيم السياسة الحديثة والطبقة التي أصبح لها موقع في النظام وتستطيع بالتالي التأثير، هل ما حصل ناجم عن أن هذه الطبقة شعرت أمام تطور حركات التطرف الديني وتوسع دائرة العمليات الارهابية داخل المملكة أن من الأفضل لها في الوقت الراهن التمسك بالنظام وعدم زعزعة استقراره لصالح بديل إسلامي متشدد أم هو ناجم عن أن الضغوط الأمريكية الكبيرة في اتجاه الاصلاح قد خفت أو عن الإثنين معا؟ ثم ألم يحصل داخل النظام أو في وسط الفئة الحاكمة السعودية أي خلخلة أو أي انقسام في الآراء؟ ليس المقصود بالضرورة انقسام العائلة المالكة ولكن تبيان في ما إذا كانت الأزمة التي فجرتها أحداث 11 سبتمبر قد دفعت إلى نشوء تيارات ووجهات نظر متباينة حول أساليب العمل المطلوبة للاحتفاظ بالسيطرة داخل المملكة ولإعادة إنتاج النظام. الواقع أنني لم أتبين في الحديث العوامل التي تفسر بالضبط كيف نجح النظام السعودي في ان يستعيد التوازن ويعطل كل عناصر الخلخلة التي أدخلتها الأزمة المتفجرة خلال السنتين الماضيتين سواء بسبب تطور مطالب الطبقة الوسطى السياسية أو بسبب الضغط الخارجي أو بسبب انفلات جزء من القاعدة الاسلامية.
6

-12 برهان غليون

أنا أريد في الحقيقة أن أقول، بسرعة، أن الأنظمة العربية سواء كانت تنتمي إلى نمط الاستبداد الأبوي أو إلى الفاشية الحديثة فهي تعيش جميعا في أزمة حقيقية. المشكلة التي تستحق التأمل والتفكير هي لماذا لا تترجم هذه الأزمة في بلداننا بنشوء حركة ديمقراطية قوية أو في تطور التيارات الديمقراطية التي لا تزال معزولة وضعيفة بالمطلق؟ لماذا تقود الأزمة بالعكس مما كنا ننتظر إلى مسار مختلف تماما هو مسار إعادة هيكلة الأنظمة الاستبدادية نفسها بالتفاهم مع الدول الأجنبية، وبالاستجابة إلى الشروط والطلبات التي تقدمها هذه الدول؟ باختصار لماذا تفشل الضغوط التي تمارسها المجتمعات على الأنظمة في انتزاع أي تنازلات في اتجاه فرض المزيد من الحريات واحترام القانون وضبط الإدارة وإصلاحها في الوقت الذي تثمر فيه الضغوط الخارجية استسلامات متتالية تعبر عنها الأنظمة بالتجاوب السريع مع مطالب الدول الكبرى بل وانخراطها في استراتيجياتها من دون شروط مسبقة؟
الجواب هو أنه كي يمكن للضغوط الداخلية أن تثمر تنازلات في ميدان الحقوق والحريات والاعتراف باستقلالية المجتمع وبجزء من سيادته ينبغي أن تتمتع القوى الاجتماعية والسياسية الضاغطة بالحد الأدنى من الوزن والصدقية الشعبية، أي ينبغي أن تكون لديها القدرة أيضا، مثل القوى الخارجية، على زعزعة استقرار أو التهديد بزعزعة استقرار النظام. في هذه الحالة وحدها تشعر الطبقة الحاكمة أن لها مصلحة في فتح مفاوضات مع القوى الداخلية تماما كما تطالب حالما ترفع الدول الكبرى عصاها بفتح مفاوضات معها وتدعو لحوار سلمي ولتجنب اللجوء إلى القوة. وهي ستظل ترفض مبدأ الحوار في الداخل وتصر على مبدأ استخدام القوة المجسد بإطلاق يد أجهزة الأمن من دون التزام بقانون ولا بدستور طالما شعرت بأن قوى المعارضة لا تستطيع أن تهز استقرار نظامها ولا تهدد سلطتها. وهذا يعني أنه كي يحصل حوار جدي بين المعارضة والحركة الديمقراطية من جهة والأنظمة القائمة من جهة أخرى وبالتالي كي يزيد أمل المجتمع في تحقيق تنازلات تدريجية تشكل أساس الانتقال السلمي نحو وضع أكثر ديمقراطية، لا بد أن تنجح القوى الديمقراطية مسبقا في تعبئة الرأي العام وتكوين قوة تدخل حقيقية في الحياة السياسية والاجتماعية. أما في الظروف الراهنة ونظرا لضعف القوى المعارضة الموجودة فمن السهل على الأنظمة تجنب التفاوض والحوار الداخلي لأن ذلك لا يكلفها كثيرا على المدى القصير على الأقل, وهي تربح أكثر من التفاوض مع الولايات المتحدة والدول الكبرى على مصالح المجتمعات من ربحها عبر التفاوض مع هذه المجتمعات لتقي نفسها من الضغوط الأمريكية. كما أن الولايات المتحدة والدول الكبرى تدرك أيضا أن التفاوض مع حكومات أقلية لا شعبية تضمن لها مصالح لا يمكن أن تحلم بها في التفاوض مع حكومات حقيقة تمثيلية.
من هنا أنتقل إلى المشكلة الرئيسية. فالسؤال في نظري لا يتعلق بما إذا كانت هذه الأنظمة مستبدة أم لا ولا بما إذا كانت ستبقى أو ستزول. فهي ستزول لا محالة في يوم ما لأنها ليست مخلدة. إنما السؤال الحقيقي هو : لماذا لم تنجح المجتمعات العربية حتى الآن في أن تفرز من داخلها قوى على درجة من الوعي والتماسك والانتشار تمكنها من حمل المشروع الديمقراطي الذي نتحدث عنه وفرضه بالوسائل السلمية أو غير السلمية. بمعنى آخر ما الذي يفسر افتقار المجتمعات إلى القوى الاجتماعية الفاعلة التي يمكن المراهنة عليها من أجل دفع الأنظمة إلى مسار إعادة الهيكلة في اتجاه ديمقراطي ومكنها بالعكس من الاطمئنان إلى أن بإمكانها التوجه من دون أن تخشى شيئا نحو إعادة الهيكلة في اتجاه تجديد العقد الاستعماري الجديد أو الوصاية الأجنبية والتفاهم بين النخب المحلية والنظام العالمي؟ ومن الواضح، وأنا هنا أختلف مع أولئك الذين يعتقدون أن الأنظمة جامدة لا تتحرك, أن هذا النوع من الهيكلة هو الذي نشهد انتشار نموذجه اليوم من مشرق العالم العربي إلى مغربه. وهنا هو الذي يدفعني إلى الاعتقاد بأن ما نعيشه اليوم في البلاد العربية ليس مرحلة انتقال نحو الديمقراطية والتغيير الديمقراطي التدريجي والبطيء ولكن بالعكس مرحلة انتقال نحو نمط جديد من النظم الديكتاتورية المافيوزية التي تجمع بين التبعية والأحكام اللاقانونية، بين اقتصاد السوق المشوه وسلطة الأجهزة الأمنية التعسفية، بين الانفلات الاقتصادي واستباحة حقوق الجماعات معا، وهي مرحلة الربط المتزايد بين الأجندة المحلية التي لم يعد فيها من الوطنية شيء والأجندة الدولية.
هذا ما يدفعني إلى لفت الانتباه والتركيز على ما أعتقد أنه المسألة الحاسمة في أي تحول ديمقراطي عربي في المستقبل المنظور، وهو موضوع بناء الحركة الديمقراطية. وفي هذه الحالة ينبغي السعي إلى الإجابة العقلانية على السؤال : كيف يمكن ان تتحول الحركة الديمقراطية التي لا تزال تقتصر على بعض النخب المثقفة إلى حركة جماهيرية تشارك فيها وتنخرط في صفوفها قوى اجتماعية فعلية وذات وزن مثل الطبقات الوسطى التي مازالت بعيدة كثيرا عن السياسة، أو حتى بعض القطاعات الشعبية المتنورة وبعض قوى الرأسمالية الوطنية؟ هذا هو التحدي الحقيقي للعاملين في السياسة العربية على مدى السنوات القليلة القادمة.
طبعا نحن هنا في ندوة علمية وليس هذا مجال نقاشنا. لكن أعتقد أن هذا التحدي يواجه وسوف يواجه بشكل أكبر جميع الأحزاب السياسية العربية سواء أكانت علمانية أم إسلامية. وأنا أعتقد أن الأحزاب الاسلامية نفسها أصبحت معزولة عن الجمهور العريض أو بالأحرى عن الكتل الاجتماعية الكبيرة. صحيح أن لديها منتمين أكثر وصحيح أن الجمهور العربي أصبح بشكل عام أكثر التزاما بالقيم الدينية، لكن لا يعني هذا أنه مؤيد لبرامج الأحزاب الاسلامية السياسية كما لا يعني أن هذه الأحزاب لا تزال تتمتع بشعبية كبيرة كما كان الأمر في الماضي. لقد نجحت الأنظمة في اعتقادي في العقدين الماضيين في تحطيم هياكل الحركات الاسلامية وكسر شبكات القوة والتواصل التي كانت تستند إليها داخل العديد من الأوساط الاجتماعية كما نجحت في عزل الحركات العلمانية وابعاد الجمهور عنها بالتهديد والترغيب معا. وهي تجد نفسها اليوم عن حق طليقة اليدين وغير خاضعة لأي ضغط داخلي قوي في مفاوضاتها مع الدول الكبرى من أجل ما تسميه هي نفسها صفقة جديدة، وهو لا يعني إلا إعادة بناء العقد الاستعماري على أسس أكثر خنوعا من العقد الذي وقعته بعد الاستقلالات السطحية والفارغة.
وفي النتيجة أعتقد أن الأهم اليوم من أجل ضمان فرص التحول الديمقراطي في المستقبل، وبالتحول الديمقراطي نحن نعني دائما إعادة السلطة والسيادة المصادرتين من قبل النخب الحاكمة إلى الشعب، هو مراجعة القوى السياسية الديمقراطية التي لم تتبلور تماما إلى الآن ولم تبلور أي برنامج واضح ومقنع، لنفسها، أي لحساباتها وتكتيكاتها واستراتيجياتها، كي تستطيع استعادة جزء من المبادرة السياسية والتحول إلى فاعل حقيقي في الحياة العامة للمجتمعات العربية.
لا شك أن النخب العربية الجديدة النقدية قد نجحت في أن تجعل من الديمقراطية عقيدة سائدة ليس هناك ما يمكن أن ينافسها اليوم لا داخل السلطة ولا في وسط الجمهور. وحتى القوى الاسلامية الجماهيرية مضطرة اليوم إلى إعادة فرز نفسها على أساس الموقف من الديمقراطية إذا لم تشأ أن تضيع رهاناتها جميعا. لكن التحول الديمقراطي ليس مسألة فكرية. إنه مسألة عملية بالدرجة الأول، أي هو فعل مرتبط بصحة الاستراتيجيات والتكتيكات التي يتبعها الفاعلون المؤمنون بالديمقراطية وبحجم التضحيات التي هم مستعدون لتقديمها في سبيل تحقيق أهدافهم. وأعتقد أن مسألة الفعل هذه من المسائل الرئيسية التي ينبغي علينا أن نركز عليها ونوجه إليها الأضواء في المستقبل القريب: أعني مسألة كيف نبني الحركة الديمقراطية والعمل الديمقراطي من حيث هو فعل وممارسة سياسيين وما هو دليل هذا العمل وليس من حيث هو رؤية نظرية ومنظومة قيم فحسب.

dimanche, octobre 03, 2004

من هنا يبدأ الإصلاح

الجزيرة نت

يثير الإخفاق التاريخي الجديد للعالم العربي في مواجهة حرب التطهير العرقية الإسرائيلية في فلسطين تساؤلات عميقة لدى النخبة المثقفة والرأي العام عموما. ويكاد الاتجاه الغالب ينحو نحو اتهام الذات والتشكيك الجماعي بقدرة الشعوب العربية كشعوب على تجاوز نقائصها, وتحقيق منجزات إيجابية تنسجم مع متطلبات مواجهة التحديات العالمية والإقليمية الجديدة. ويقود هذا النزوع لاتهام الذات الذي يعكس فقدان الثقة وانهيار الإيمان بالنفس إلى تفسيرات مغرقة في الذاتية المحضة, تعمل هي نفسها على زيادة التخبط الفكري والسياسي وإعادة إنتاج بنيات وهياكل الحكم ذاتها والتي كانت ولا تزال مسؤولة عن الخراب والدمار السياسي والمعنوي للعالم العربي.
وبدلا من تطوير نقد ذاتي موضوعي يفسر النتائج بعللها المنطقية ويحدد المسؤوليات بصورة دقيقة وعينية, يميل الرأي العام العربي -المثقف والشعبي- تارة إلى تحميل الثقافة والتاريخ والتخلف وغياب العقلانية العربية المسؤولية الرئيسية عن إخفاق السياسات القومية, وتارة إلى الإرادة العدوانية الأجنبية, وتارة أخرى إلى العولمة التي تبدو في نظر العديد ممن يتحدث فيها بالشارع العربي كما لو كانت فاعلا قائما بذاته أو غولا جديدا, يستعصي على التعريف ويعمل في العلن والسر على تقويض أساسات الأمم والشعوب جميعا ليجعلها لقمة سائغة في فم الأسد الأميركي الكاسر.
”الإدارة العقلانية للموارد والتنظيم الصالح للأفراد والسياسة العقلانية للمجتمعات تساعد على تنمية الثروة العامة وتفجير ينابيع الإلهام والعطاء والبذل التي تزيد من فرص التقدم والارتقاء. وبالعكس تعمل الإدارة الفاسدة على هدر الموارد وقتل المواهب وتهريب الكفاءات الحقيقية ومن ثم تدمير فرص التقدم والنمو”وتستغل بعض التيارات العربية الحاكمة هذا الضياع الفكري الذي تغذيه بيئة ثقافية قائمة على الحرمان من النقاش الوطني العلني وطمس العيوب والمشاكل الخطيرة ومحاربة الفكر النقدي والعقلاني واحتكار الأدوات الإعلامية جميعا من قبل مفكري السلطة أو دعاتها, للتغطية على مسؤولياتها الخاصة وتعميم الشعور المتزايد اليوم في مواجهة الغرب بأن العالم العربي جميعا -بما فيه من حكومات وجمهور وطبقات ومثقفين- هو ضحية السياسات الدولية. وبذلك تأمل الكثير من النظم التي تعرضت إلى أعنف حملة تجريح في السنتين الماضيتين في أن تجنب نفسها المساءلة الموضوعية.
والحال أنه لا ينبغي لنا أن نكف عن تكرار أن النتائج الضعيفة -إن لم نقل السلبية- للمجتمعات العربية في العقود الأخيرة والتي أدت إلى التدهور الخطير في الموقف الإستراتيجي للعالم العربي ليست منفصلة عن طبيعة النظم التي عرفتها. فمصير الشعوب معلق مهما كانت ثقافتها الأصلية أو طبيعة التحديات الخارجية, بأساليب إدارتها وتنظيمها وقيادتها السياسية. والإدارة العقلانية للموارد والتنظيم الصالح للأفراد والسياسة العقلانية للمجتمعات تساعد على تنمية الثروة العامة وتفجير ينابيع الإلهام والعطاء والبذل التي تزيد من فرص التقدم والارتقاء. وبالعكس تعمل الإدارة الفاسدة والتنظيم الرديء وسياسة كرش المجتمعات كما يكرش قطيع الماعز أو الماشية على هدر الموارد وقتل المواهب, وكذلك تهريب الكفاءات الحقيقية وتعظيم حجم ونفوذ الفئة الوصولية ومن ثم تدمير فرص التقدم والنمو.
ولم تصل المجتمعات المتقدمة إلى ما وصلت إليه إلا بفضل مؤسساتها وقوانينها وقواعد عملها وأساليب ممارسة السلطة السياسية والاجتماعية الديمقراطية فيها, لا بسبب العصا الغليظة التي كان يستخدمها قادتها لسوقها كالقطعان ولا بفضل الجزرة أو الرشوة التي كانوا يقدمونها على سبيل الإغراء لكسب تأييد أصحاب النفوس الضعيفة أو لإضعاف نفوس الناس جميعا.
”لم تصل المجتمعات المتقدمة إلى ما وصلت إليه إلا بفضل مؤسساتها وقوانينها وقواعد عملها وأساليب ممارسة السلطة السياسية والاجتماعية الديمقراطية فيها ”لا بد لنا أن ندرك في الحقيقة أن ما نعيشه اليوم من أوضاع هو من إنتاج مؤسساتنا وفي مقدمها نموذج الحكم وممارسة السلطة, وأن هذه المؤسسات هي نفسها ثمرة اختيارات سياسية سواء أكان ذلك في الاقتصاد أو المجتمع أو التعليم والتربية أو في التكوين والتأهيل الفكري والديني، وأن أصل هذه الاختيارات السلبية أو على الأقل غير الموفقة هو المصالح الخاصة التي ارتبطت بطبقة لم تقم سلطتها لا على مؤهلات سياسية ولا خبرة تقنية ولا مواهب استثنائية ولا قيم أخلاقية, ولكن على تحكمها العرضي بالقوة واقتناصها فرص اهتزاز توازن المجتمعات العربية في حقبة انتقالية وتزايد الضغوط والاعتداءات الخارجية. ومن غير الممكن المحافظة على هذه المصالح غير المرتبطة بأي دور منتج وغير المبررة أخلاقيا إلا بتجميد أي شكل من أشكال المنافسة الاجتماعية النزيهة والشرعية, وتحييد بل خنق كل عناصر القوة الأخلاقية والإنتاجية الإيجابية في المجتمعات العربية.
ويزداد اليوم نزوع النظم العربية للجمود والانكفاء على شعارات الاستمرار والاستقرار والعبث بالقوانين والقيم الأخلاقية والقواعد الاجتماعية, بقدر ما تنكشف أزمة الشرعية ويتجلى انعدام الصدقية. والواقع أنه لا مهرب للنخب الحاكمة في تبرير النتائج الهزيلة التي حصلنا عليها في العقود الماضية في جميع الميادين من الاختيار بين فرضيتين:
إما أن نظام الحكم والإدارة الذي أقامته كان صالحا ولا يزال لكن المجتمع على درجة من القصور الولادي لا ينفع معه أي إصلاح, ولن تنفع فيه أي جهود إصلاحية. وهذا يعني أن علينا أن نسلم بأن مجتمعنا أو إنساننا -بعكس جميع البشر الآخرين- منقوص الإنسانية, وأنه يعاني من عاهات أخفق نظام الحكم والإدارة بعد نصف قرن من الاستقلال ومن الحكم المطلق والسيطرة الشاملة على القرار والموارد معا في إيجاد علاج لها, بل في فهم أسبابها. وفي هذه الحالة ينبغي استبدال المجتمع بغيره ليتوافق مع النظام.
أو أن نظام الحكم والإدارة أي سياسات النظم واختياراتها الثقافية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية لم تكن مناسبة, وما كان بإمكانها إذن أن تساعد المجتمع على الترقي والتقدم وتجاوز نقائصه الذاتية. وفي هذه الحالة ينبغي التفكير في نظام أصلح والعمل عليه. ولا يمكن رفض كلتا الفرضيتين, لأن ذلك يعني إلغاء التفكير العقلي بالشؤون الاجتماعية والتهرب من المسؤولية, أو الاستهانة بالوعي السياسي عند الحاكمين والمحكومين أو معاملتهم كقاصرين عقليا والتخلي عن مبدأ المحاسبة الجماعية والوطنية. وهذا يقود لا محالة إلى الأخذ بمبدأ عبثية السياسة ولا مسؤوليتها, وإغلاق كل أفق التفكير في الماضي والمستقبل معا.
والقصد التذكير بأن تاريخ المجتمعات تصنعه المجتمعات نفسها، والمسؤول في كل مرة عن هذا الصنع هو النخب التي تتولى مناصب المسؤولية وتتحكم بتوزيع الموارد والاستثمارات المادية والمعنوية وتتخذ القرارات السياسية والإدارية وتتابع تنفيذها. وعندما نتحدث عن مسؤولية فنحن نتحدث عن نشاط واختيارات واعية وسياسات مطبقة من قبل بشر لديهم وعي وإرادة ورؤية، ولا نتحدث عن مسؤولية عندما يتعلق الأمر ببنيات قبلية أو نقص في الموارد أو كوارث طبيعية.
في المجتمع العربي نقائص من دون شك, لكن على قياداته السياسية والفكرية والاقتصادية والإدارية تقع مسؤولية تطوير السياسات وإيجاد المناهج والأساليب والوسائل التي تساعده على إصلاح هذه النقائص وتجاوزها. وعندما لا يحصل ذلك فالمسؤولية تقع بالضرورة على القيادات, لا على طبيعة الأرض والتربة أو التحديات الخارجية أو لون شعر البشر أو جلدهم أو حظوظهم العاثرة.
بالتأكيد لا تعمل السياسة في إطار مجتمع مثالي لا عندنا ولا عند غيرنا، فالمجتمعات لا تولد كاملة ومكملة, فلديها جميعا تناقضاتها ونقائصها ومشاكلها الداخلية والإكراهات الخارجية الكثيرة. ولذلك فهي بحاجة دائما للتحسين والتطوير والتغيير والتجديد, وذلك من خلال تجديد رؤاها ومؤسساتها ووسائل تنظيمها الإدارية والقانونية.
”إن النخب الحاكمة ليست هي المسؤولة حصرا عن كل ما حصل, فهي في تكوينها وتأهيلها وسلوكها ثمرة هذا المجتمع ومكثف نقائصه وقيمه السلبية من أنانية وفردية وعصبوية ومحسوبية وتنكر للذات وغياب الرؤية الجمعية وروح المسؤولية ”فتأكيدنا على المسؤولية الأساسية التي تقع على عاتق النخب الاجتماعية والسياسية لا ينبغي أن يمنعنا من تأكيد مسؤولية المجتمع كإرادة جمعية, وذلك بالقدر الذي يمكن فيه الحديث عن وعي اجتماعي أو سلوك اجتماعي مختار. فليس هناك شك في أن المجتمع لم يتصرف أو ينجح أن يتصرف عندنا كقوة منظمة وفاعلة قادرة على أن توقف النخب التي صادرت إرادته عند حدها ليمنع تدهور الموقف. وبهذا المعنى يمكن أن نقول إن النخب الحاكمة ليست هي المسؤولة حصرا عن كل ما حصل, وإنها ليست هي ذاتها في تكوينها وتأهيلها وسلوكها سوى ثمرة هذا المجتمع ومكثف نقائصه وقيمه السلبية من أنانية وفردية وعصبوية ومحسوبية وتنكر للذات وغياب الرؤية الجمعية وروح المسؤولية, أقصد مجتمع ما بعد الاستقلال الذي تكون منذ خمسين سنة بطبقاته المختلفة وأحزابه المتعددة.
فالتيار القوموي الذي سير هذا المجتمع الاستقلالي وألهمه لا يختلف عن العديد من تيارات الفكر العالمي الشيوعي الذي لم يأخذ بعين الاعتبار مسائل الثقافة والفكر ومسائل التربية والبناء الأخلاقي بما ينبغي من الاعتبار, وعن العديد من تيارات الفكر الليبرالي المنفعي الضيق الأفق والمتمسك بالتبعية والاقتداء, وكذلك عن تيارات الفكر الأصولي المتطرفة التي لا تريد النظر في إصلاح الواقع التاريخي والحضاري القائم, ولكنها تبحث عن واقع حضاري وتاريخي بديل ينفي ما هو موجود ولا تهتم إلا بإنكاره وتشويه صورته. كل هؤلاء يشاركون في هذه المسؤولية.
”إن الأساس العميق للمحنة التي نعرفها هو نقائص لا شك فيها في تكوين مجتمعاتنا المدنية ”لكننا في هذه الحالة ننتقل من مستوى المسؤولية السياسية إلى مستوى المسؤولية الاجتماعية الفكرية والثقافية، فلا شك أن هناك علاقة مباشرة بين الفكر السائد بشتى صوره الشمولية والتبعية والارتدادية التي تعاني من فصام حقيقي مع الواقع الحي والتاريخي من جهة, ونظام الحكم المطلق والإدارة البيروقراطية الآلية من جهة ثانية. فكل منهما يحتاج الى الآخر حتى يعيد إنتاج نفسه ويستمر. ونستطيع قول الشيء نفسه عن أثر البنيات الثقافية العشائرية والعائلية وأنماط التدين التقليدية.
لكن السلطة بما تملكه من هيمنة على التفاعلات الاجتماعية, هي التي تشكل الضامن أو الكفيل الشرعي أو غير الشرعي لإعادة التوازنات الفكرية والمادية القائمة. ومن دون تغيير قواعد ممارسة السلطة داخل الدولة والإدارة والجمعية الأهلية والمصنع ومؤسسة الإنتاج وداخل الأسرة نفسها وداخل الفرد تجاه نفسه وما يتميز به من خنوع للأوهام والهلوسات والرغائب الأكثر تناقضا, ليس هناك أي أمل في أي تغيير جدي وبالتالي في المستقبل.
فلا يمكن لنظام التلقين وعبادة الشخصية, والهوس بالشعارات الجوفاء والمعاقبة على التعبير عن الرأي, والمراقبة على الضمير وفرض معتقدات إكراهية تجبر الأفراد على الغش والكذب واتباع سلوك مزدوج ولا أخلاقي, وغياب معنى التحكم بالنفس, أن يقود إلى شيء آخر سوى حكم القوة والعنف والعسف والاستبداد. ومن وراء ذلك، وخلف المظاهر الشكلية للاستقرار والاستمرار لا ينبغي أن نتوقع شيئا سوى تفاقم الفوضى والاضطراب وتواصل الخراب.
”إن نقائص المجتمع وضعف تكوين الأفراد وتساهلهم أمام الإغراءات والخروقات وخوفهم وكرههم للتضحية لا تخفف من مسؤولية نظام الحكم والإدارة في شيء، فمهمة القيادة السياسية ومبرر وجودها تنحصر في مساعدة المجتمعات على التخلص من عيوبها وتحقيق التقدم ماديا وإنسانيا”
باختصار فإن الأساس العميق للمحنة التي نعرفها هو نقائص لا شك فيها في تكوين مجتمعاتنا المدنية, لكن لا يمكن للنقائص الطبيعية أن تبرر أو تفسر الإخفاق. إن نقائص المجتمع وضعف تكوين الأفراد وتساهلهم أمام الإغراءات والخروقات وخوفهم وكرههم للتضحية لا تخفف من مسؤولية نظام الحكم والإدارة في شيء.
فمهمة القيادة السياسية ومبرر وجودها هو مساعدة المجتمعات على التخلص من عيوبها وتحقيق التقدم ماديا وإنسانيا. ولم تتطور أنماط التنظيم والإدارة والحكم في العالم إلا بسبب وجود نخب كان همها بناء مؤسسات تساعد مجتمعاتها على تحسين شروط عملها وعيشها, ومضاعفة فعاليتها ومردود نشاطها وتعظيم رقيها الفكري والأخلاقي ومن ثم دورها في الحضارة. فإذا افتقرت هذه القيادة للقيم والمؤهلات وانعدم لديها أي التزام أو جهد وغرقت في الفساد, لم يعد هناك أمل ولا رجاء للمجتمعات. ولعلنا نضع هنا إصبعنا بالضبط على مكمن العطب في الوضع العربي ومنطلق العمل الجدي والإصلاح.

هل الإصلاح ممكن في البلاد العربية؟


الحزيرة نت 3 أكتوبر 2004

عدت لتوي من زيارة البلاد العربية مثقلا باليأس والانكسار. فمن الواضح أن الإصلاح الذي نتحدث عنه منذ سنوات طويلة لم يحصل ولن يحصل، وأن الأمل بدأ يتآكل كما لم يحدث من قبل في أي مكان لدى الجمهور العريض الذي بدأ يفقد الشعور بأي انتماء وطني أو إنساني، وأن السياسة كما تتجلى في نظم العرب القائمة تبدو كالعارضة على القبر التي تدين الميت بالموت الأبدي ولا تترك له مجالا للأمل أو الانبعاث.
هل هي القيادات الضعيفة؟ هل هي البيرقراطية العقيمة والمعقمة للعقل والذكاء؟ هل هو الحرس القديم الذي يبسط نفوذه في كل الميادين ولا يسمح للجديد بالولادة والنماء؟ هل هو الجهل بمصائر الشعوب أم هو الأنانية والشره والاستهتار؟
يتبارى أنصار الحكومات العربية بالتذكير بعدد المراسيم والقوانين والإجراءات التي اتخذت من قبل الطواقم القائمة لإنعاش الاقتصاد وجذب الاستثمارات ومحاربة الفساد والإهمال. وعلى هذه الحجج ترد المعارضات بحجج أقوى، فتذكر أن القوانين والمراسيم والإجراءات لا تجد طريقها إلى التنفيذ، وعندما تنفذ لا تغير من الوضع شيئا.
فالاقتصادات لا تزال فقيرة ومتهالكة ولا تكاد الاستثمارات المنتظرة والمتحققة تعادل شيئا بالمقارنة مع الرساميل الهاربة والمهاجرة. أما الفساد فكأنه يتغذى هو نفسه من لهيب معارك محاربته، وينمو عليها فلا يبقي أثرا لأخلاقيات مدنية أو سياسية.
”أول مبادئ الإصلاح هو إحلال معيار الكفاءة محل معيار الولاء، سواء أكان ولاء القرابة العائلية والعشائرية أو الزبائنية والمحسوبية أو ولاء شبكات المصالح الخاصة المتغلغلة في الدولة ”لكن يزداد الاعتقاد لدي كما هو الحال لدى غالبية الجمهور العربي المكوي بنار التدهور المستمر في شروط المعيشة وممارسة الحقوق والحريات التي تشكل علامة الاندماج في العصر الحديث والحضارة، بأنه حتى لو نجحت الحكومات في تنفيذ جميع القوانين والقرارات التي تصوت عليها أو تتخذها, وحتى لو شملت هذه القوانين والقرارات جميع ميادين النشاط الوطني، فلن تعطي نتيجة تذكر. وحتى لو كانت هذه القوانين والقرارات في الاتجاه الصحيح -وهو ليس من الأمور المعطاة، ذلك أن الحكومات قد تخطئ ومن حقها أن تخطئ- فإن الإصلاح سيظل بعيدا عنا.
تسيير الشؤون العامة يحتاج إلى صوغ قوانين واتخاذ قرارات، كما يحتاج إلى تطوير وتحديث الوسائل والأساليب المتبعة في الإدارة والتسيير الاقتصادي معا. لكنه يحتاج قبل هذا وذاك إلى نخب جديدة تدرك حاجات الشعوب وتتواصل معها وتحترمها وتتأثر بما تعاني منه، وتعرف أن المسؤولية والقيادة السياسية تعني المسؤولية والالتزام بالعمل على تحسين شروط حياة المجتمعات وضمان مستقبلها، لا استغلال المنصب السياسي لخدمة مصالحها الخاصة وضمان مستقبل أبنائها والمقربين منها.
ومن هنا وفي ما وراء كل المشاريع وبصرف النظر عنها، يتجلى الإصلاح في نظري في ثلاثة مبادئ رئيسية هي التي تشكل مصدر القوة التي يبثها في الشعوب والمجتمعات. وهي مبادئ لا تتعلق بشكل خاص بالاقتصاد أو بالسياسة ولا تتماهى مع تحديث الإدارة أو إحياء المجتمع المدني، ولكنها تتعلق بروح النظام العام وأسلوب عمله التي تنتشر أو ينبغي أن تنتشر في جميع المواقع والميادين، قبل أن تتحكم بكل نشاط اجتماعي وتحدد السلوك العام لجميع الأفراد في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والمؤسسات على حد سواء.
فإذا ما انتشرت مبادئ الإصلاح في هذا النظام العام لا يهم بعد ذلك أكان الإصلاح الاقتصادي هو الأسبق أو الإصلاح السياسي، ولا إن شمل الإصلاح السياسي -وما يعنيه من تكريس التعددية والمشاركة الفعلية في القرارات السياسية- جميع الأفراد دفعة واحدة أم كان تدريجيا وبطيئا.
أول هذه المبادئ التي تخلق الحركة الإصلاحية الدافعة هو إحلال معيار الكفاءة محل معيار الولاء، سواء أكان ولاء القرابة العائلية والعشائرية أو الزبائنية والمحسوبية أو ولاء شبكات المصالح الخاصة المتغلغلة في الدولة أو ولاء الانتماءات الحزبية الضيقة والحاكمة.
وقاعدة الولاء هي السائدة اليوم في مجتمعاتنا العربية جميعا في ميادين النشاط العام بأجمعه, الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والإداري وفي المؤسسات والجمعيات السياسية والمدنية والأهلية. فما دام الموالي هو المطلوب والمنشود فالكفاءة محاربة وهاربة لا محالة ولا شيء يمكن أن يتجدد فعليا في أي نظام أو نشاط.
وسيظل النظام يشكو انعدام الكفاءات والأطر والاختصاصات، فهو بتسويده منطق الولاء لا يدفع إلى هرب الأطر الصالحة فحسب، ولكنه يعيد إنتاج وتكوين الأطر السيئة وبصورة سيئة أيضا وعلى نطاق واسع، وهي الأطر التي تستبدل العمل والجهد الجدي بالتزلف والتملق والممالأة والالتحاق. ففي هذا التزلف وتلك الممالأة وذاك الالتحاق يكمن مصدر صعودها وازدهارها، وهو الذي يعطي لها مكانتها وقيمتها.
وفي جميع البلاد العربية التي زرت لم تتخذ السلطة -ولا تريد أن تتخذ- أي مبادرات أو تقوم بأي جهود لتغيير الاتجاه وزيادة دور الكفاءة والمهارة والموهبة في ملء مناصب المسؤولية السياسية والإدارية. وإذا فعلت ذلك فبالقطارة وعلى سبيل ذر الرماد في العيون والدعاية.
ولذلك ورغم كل ما حصل حتى الآن ومن جميع الضغوط والتحديات، لا تزال العملة الفاسدة في الدولة والمجتمع على حد سواء تطرد في البلاد العربية العملة السليمة، ولا يزال قانون الولاء والموالاة هو السائد عربيا رغم الخطابات المتكررة عن فتح المجال أمام أصحاب المواهب والكفاءات وعدم قصر مناصب المسؤولية على أنصار النظام وأشياعه وتابعيه.
بل إن الملاحظة والتقصي يفيدان بأن المناصب الجديدة أو تلك التي تشغر بسبب الوفاة أو التقاعد أو الإقالة لا تكاد تعلن حتى يتم احتلالها من قبل موالي النظام أو أتباعه وأتباع أتباعه المقربين. فبدل أن تتراجع الظاهرة تتفاقم يوما عن يوم ويتزايد تكالب أنصار النظام على المناصب بصرف النظر عن أي معيار آخر غير التبعية والمحسوبية. ليس لهذا التوجه بالضرورة علاقة مباشرة بنوايا كبار المسؤولين في الدولة، لكنه متعلق بسلوك كل بيرقراطي حزبي يحتل منصبا متوسطا أو عاليا.
”ليس هناك إصلاح ممكن في أي مجال مع استمرار الضبط الأمني اللاقانوني واللاسياسي للمجتمع، فهو لا يقطع الطريق على كل مبادرة مستقلة عند الأفراد وإنما يقتل أي إرادة أو حتى رغبة في التقدم أو العمل ”فما يهمه هو تأمين قواعده أمام احتمال ازدياد مراقبة السلطة العليا لنشاطه، لذلك فهو يسد الثغرات الممكنة بتعيين الموالين والمقربين، والنتيجة أنه لا يؤدي الإعلان عن التغيير والإصلاح ومكافحة المحسوبية إلى التخفيف من آفة سيطرة الحزب الحاكم وأنصاره و"أزلام" النظام على المراكز والمناصب، وإنما إلى استشراء إرادة التضامن والتعاون والتكاتف بين جميع المستفيدين من قانون الولاء ومنطقه حتى تحولت المحسوبية إلى عملية استعمار زاحف للدولة وجميع الأنشطة الوطنية.
والمبدأ الثاني للإصلاح هو إحلال سلطة القانون محل سلطة أجهزة الأمن في تنظيم الحقل العمومي والحياة السياسية والمدنية. ومن الواضح لكل مراقب خارجي أن ضبط الفضاءات العامة والتحكم بالسكان يتنازعه في البلاد العربية اتجاهان رئيسيان: تطبيق قانون استثنائي أو ما يشبهه مع تعديلات تتيح كل أشكال التدخل المباشر وغير المباشر في حياة الناس وتضييق نطاق حرياتهم من جهة، وحرية التدخل المطلق وغير الخاضع لأي مراقبة أو محاسبة لأجهزة الأمن في حياة السكان -بصرف النظر عن أي قانون- حتى الجائر منه، من جهة ثانية.
فنظام الضبط العام يتردد بين نموذج معتدل يقوم على استخدام وسائل الدكتاتورية واحتكار السياسة والتعبير، وبين نموذج أقسى قائم على استباحة الفضاء العام من قبل قوات أمن تحولت إلى مليشيات تتصرف من دون قانون أو مرجعية أخرى غير إرادة المعلم ورغبته التي تتحول إلى قانون فوق القانون وقبله.
وهذا هو المضمون الحقيقي والعميق لما يطلقون عليه اليوم اسم الخطوط الحمراء التي يحددها المسؤول لعمل الناشطين الاجتماعيين من خارج القانون والتي تتحول هي نفسها إلى قانون يحكم القانون. ولا يعني الضبط الأمني للمجتمع شيئا آخر سوى التشريع لأجهزة الأمن لاستدعاء أي شخص في أي وقت ولأي سبب من دون تهمة أو مذكرة قضائية لتخويفه أو تهديده أو سجنه أو إخفائه من دون أن يكون في مقدرة الشخص وأي شخص أن يتردد أو يتلكأ أو يتأخر أو يرفض أو يعترض على ذلك.
إطلاق يد الأمن بحرية لإحضار الناس وتأديبهم أو تأنيبهم هو الوسيلة الرئيسية للإذلال والترهيب والتقزيم الذي يخلق شروط الإذعان، بل لا يترك للفرد خيارا آخر سوى الانسحاق والاستسلام أو التمرد والعصيان.
ليس هناك إصلاح ممكن في أي مجال مع استمرار الضبط الأمني اللاقانوني واللاسياسي للمجتمع، فهو لا يقطع الطريق على كل مبادرة مستقلة عند الأفراد وإنما يقتل أي إرادة فيهم أو حتى رغبة في التقدم أو العمل أو الإنجاز، ولا يقوم إلا على التحييد والشل والإسكات.
إن ما يرمي إليه الضبط الأمني للمجتمع هو إخماد روح النشاط كله عند الفرد لإخماد روحه السياسية وضميره الحر وشعوره بالكرامة، أي كل ما يجعل منه إنسانا مبادرا وفاعلا ومتطلعا للتراكم والإبداع، أي في الواقع قتل المجتمعات في سبيل ضمان الاستقرار والاستمرار للنظام.
وكل ما يتجاوز بشكل أو بآخر إرادة الحاكم أو كل ما يبدو أنه مخالفة للطاعة يترجم في منطق الأمن على أنه تهديد قائم ومؤكد للنظام، ويستحق رد فعل شاملا وحاسما يتجاوز دائما أصحابه المباشرين ليشمل دائرة واسعة من الأقارب أو الأصدقاء أو حتى الجيران.
والحال أنه بقدر ما يشكل الولاء الوسيلة الوحيدة لبناء قاعدة زبائنية عشائرية أو بيرقراطية لنظام يفتقر إلى طبقة اجتماعية منتجة فعلية -أي ذات مشروع اجتماعي وعمومي- يشكل الأمن بمنطق الضبط الميكانيكي الذي يمثله اللحمة الحقيقية للزبائنية المكونة من شرائح مشتتة ومتنافرة والروح الموحدة الخاصة لهذا النمط الاجتماعي السياسي الذي لا روح له.
ومن دون أجهزة الأمن الموحدة والمنظمة والشالة لأي إرادة وطنية أو عمومية أو اجتماعية، يظهر النظام على حقيقته كلفيف من أصحاب المصالح المتعادية والمتصارعة والمتنازعة كالذئاب على فريسة مشتركة واحدة. الأمن هو الحزب الحقيقي الواحد والدائم للنظم العربية لا ما تعلنه الدساتير أو القوائم الانتخابية من أسماء. وسيطرة الأمن التي تعني تفريغ المجتمع من أي إرادة وأي تنظيم مستقل وشله عن أي عمل ومنعه من أي حركة خاصة، هو اليوم العصب الحقيقي للدولة المفرغة من إرادة مجتمعاتها ومصدر استمرارها واستقرارها الوحيد.
المبدأ الثالث هو مبدأ المسؤولية الذي يعني الإحساس بالواجب والعمل بما يقتضيه هذا الواجب في ما يتعلق بالشؤون العمومية ومناصب المسؤولية. وربما كان المبدأ السائد اليوم عند المسؤولين العرب هو النقيض له تماما، أعني مبدأ التمتع واستباحة الموارد العمومية كما لو كانت ملكية شخصية.
”عندما تعني السلطة اللامسؤولية والتحلل من الالتزامات السياسية والأخلاقية يصبح الخروج منها أو الافتقار إليها رديفا للانحدار في سلم الإنسانية وبالتالي للخضوع والتجريد من الحقوق الأساسية”فلا يرتبط المنصب هنا بواجبات ولكن بتأمين فوائد ومنافع وامتيازات وحقوق. وليس للسلطة علاقة بالمسؤولية، بل إن العكس هو الصحيح. فالسلطة تعني التسيّد، ولا يشعر صاحبها بالتسيد إلا إذا وضع نفسه فوق القانون وجعل من موقعه ومنصبه درعا يقيه أي شكل من أشكال المحاسبة والمساءلة والالتزام. فالفوقية والارتفاع فوق القانون الذي يساوي بين الأفراد هو أساس التميز ومصدر الشعور بالأسبقية والامتياز، أي بالسلطة والسلطان.
والسلطان بالمعنى الشائع هو الذي يعيش في أقصى حالات الحرية والبذخ مع أدنى ما يمكن من الالتزامات والواجبات، بل إن مفهومه يتناقض مع الواجبات التي لا تقع إلا على الفقراء والمحكومين والمستضعفين. وعندما تعني السلطة اللامسؤولية والتحلل من الالتزامات السياسية والأخلاقية، يصبح الخروج منها أو الافتقار إليها رديفا للانحدار في سلم الإنسانية، وبالتالي للخضوع والتجريد من الحقوق الأساسية.
وبقدر ما يدفع هذا الوضع إلى تشبث المسؤولين جميعا وعلى كافة المستويات بمناصبهم وعمل المستحيل للبقاء فيها واستثمارها بصرف النظر عن مصلحة النظام ككل، يدفعهم أيضا -ما استمروا يتمتعون بفضائلها وامتيازاتها- إلى فرض الإذعان والانصياع على من هو تحت مسؤوليتهم وتكبيله برداء الذل والمهانة والسخرة اليومية.
والنتيجة هي ما نعرفه اليوم من انهيار أسس الحياة العمومية السياسية والمدنية واحتلال التنازع والتناحر والتنافس على السلطة محل العمل والاجتهاد المادي والفكري لإنتاج الثروة ومراكمة الإبداعات والابتكارات الحضارية. ويكون التأخر والتقهقر في شروط حياة المجتمعات موازيا ومواكبا لنشوء طبقة أرستقراطية تفرض نفسها بالقوة وتعيش على ريع المكانة والمنصب والأسبقية الاجتماعية.

mercredi, septembre 29, 2004

L'Islam n'est pas un obstacle à la modernité

L'Expansion
29/09/2004

Burhan Ghalioun: "L'Islam n'est pas un obstacle à la modernité"

Burhan Ghalioun est professeur de sociologie politique à la Sorbonne Nouvelle, paris III et l'un des auteurs du rapport sur le développement humain dans les pays arabes 2003, du Programme des nations unies pour le développement (PNUD). Interview.
Le rapport du PNUD met en exergue les difficultés sociales, économiques et politiques du monde arabe, comment cette région en est-on arrivée là ?
-- PUBLICITE --

On peut distinguer trois éléments de blocage. Le populisme, qui domine dans de nombreux pays depuis l’Indépendance, a étouffé les institutions et réduit l’Etat à la notion de communauté. Cela a principalement touché les pays situés autour d’Israël. Ce conflit est devenu un point de fixation. Le conflit avec l’autre a relégué en dernière position tout ce qui concerne le développement du cadre de vie intérieur.
Le deuxième élément de blocage est l’échec des modèles de développements économiques. L’instabilité permanente due à des conflits régionaux et la tension sociale très forte due à la nature des régimes n’ont pas permis un élan de développement d’autant que les investissements étrangers n’ont pas été au rendez-vous, tandis que les investissements nationaux s’exportaient. On se réveille aujourd’hui avec une situation catastrophique.
La troisième raison incombe aux pays industrialisés. L’Europe et les Etats-Unis n’ont pas été assez sensibles à la nécessité de faire décoller la région et pas seulement d’un point de vue économique mais aussi politique. Les occidentaux ont préféré continuer à s’appuyer sur des régimes autoritaires plutôt que sur des régimes démocratiques. Il est plus facile de garantir ses intérêts économiques avec des Cheikhs paternalistes, qui contrôlent la rente pétrolière.
Que pensez-vous du projet de Grand Moyen Orient de l’administration américaine ?
Les Américains tentent de lancer un slogan derrière lequel ils cherchent à refaçonner la région en fonction de leurs intérêts géostratégiques. Ils ont parlé de démocratie pour justifier leur intervention en Irak. Sur le plan pratique, il n’y a aucun acte qui prouve leur volonté de pousser dans ce sens. Depuis que Kadhafi a fait amende honorable, plus personne n’évoque la démocratie en Libye. Les occidentaux craignent que l’avènement de la démocratie dans cette région bénéficie en priorité aux islamistes et privilégient donc les régimes autoritaires actuels. C’est un mauvais calcul, car c’est à cause de ces régimes que l’islamisation se développe. C’est devenu un mouvement de masse, car le mécontentement s’est développé de façon incroyable face à des élites qui se comportent comme des bandits. Ce ne sont plus des groupes politiques, mais des groupes mafieux, qui tiennent le pays, se renforçant par le soutien extérieur. Ils n’ont aucun projet politique, mais seulement un projet économique : accumuler le plus vite possible et au maximum leur richesse. En un mot piller sans retenue.
Quel a été l’impact de l’intervention américaine en Irak ?
Cela a affaibli les régimes dictatoriaux, mais malheureusement cela n’a pas été accompagné par une démarche de démocratisation dans la région. Les Américains n’ont pas détruit une dictature pour faire une démocratie mais pour inciter les autres à jouer le jeu selon leurs règles. Le message est clair : vous lâchez sur nos conditions, comme les armes de destruction massives et nous vous laissons gérer votre pays à votre guise. La lutte contre une dictature va dans le bon sens si on veut mener un combat global dans la région contre les régimes autoritaires. Si c’est pour élargie nos zones d’influence, cela ne peut aboutir qu’à plus de désordres et de conflits.
L’islam est-il un élément de blocage ?
L’Islam n’est pas un obstacle à la modernité. C’est la forme de la modernité façonnée par les intérêts de certains groupes qui a fait faillite. Le retour à l’islam est une réponse à une crise profonde, qui vient combler le vide créé par l’effondrement d’une modernité devenue de plus en plus synonyme d’oppression, de totalitarisme et de sous-développement. Pour la grande partie des populations musulmanes, le retour à l’islam s’identifie avec la reconquête d’une identité collective dans un mode incertain. La majorité des classes moyennes y trouve un moyen de se procurer un cadre de références indispensable à la vie en société se substituant au cadre moderne qui a volé en éclats. C’est pourquoi, la réislamisation s’accompagne de toute sortes de démarches, comme l’apologie à la violence chez les groupes extrémistes. Mais elle se manifeste au sein des classes moyennes qui restent attachées à la modernité par le retour à la grande tradition du modernisme islamique du début du XXème siècle qui cherche, à travers la rénovation et la réinterprétation rationnelle, à moderniser la pensée musulmane pour l’adapter aux nouvelles exigences de la modernité.

Propos recueillis par Benjamin Neumann

lundi, septembre 27, 2004

la situation de la Syrie, entretien Al madina

Entretien avec Burhan Ghalioun, Directeur du Centre d’études de l’Orient Contemporain, La Sorbonne Nouvelle Paris III*

Propos recueillis par Hakim el Ghissassi pour L'Economiste marocain

Quelle est la situation de la Syrie aujourd’hui ?
La Syrie depuis la mort de Hafiz el Assad est dans une période de transition sur tous les plans, intérieurs et extérieurs. Sur le plan intérieur, tout le monde est conscient aujourd’hui que le système socio-économique bureaucratique fondé en 1963 par le parti Baas n’a rien apporté. Il y a un accord sur la nécessité de passer de l’économie dite planifiée à l’économie de marché, du système du parti unique au pluralisme politique, de l’idéologie totalitaire à la liberté d’expression, bref du régime de dictature légitimé par les exigences d’une révolution nationaliste qui a fait long feu, à un régime démocratique. Tout cela suscite un débat intérieur très dense. Sur le plan extérieur, la Syrie se trouve devant un ensemble d’échéances économiques, sociales et géopolitiques. Elle fait face à une grande pression américano- européenne visant à réduire son rôle régional alors qu’elle cherche désespérément à récupérer le Golan occupé par Israël. Elle attend avec impatience la signature des accords euro-méditerranéens grâce auxquels elle espère gagner la bataille de l’intégration économique.

Le système politique actuel est-il favorable à ces transformations ?

Le système politique du parti unique ne fonctionne plus, nous assistons à une mort de la vie politique. C’est au niveau de la société civile que se développent des courants qui appellent à des élections démocratiques, au respect des droits de l’homme. Nous assistons à l’émergence d’une littérature démocratique anti-étatique. La domination baasiste se trouve de plus en plus critiquée. Depuis 4 ans, il y a un débat sur la transition démocratique, cependant plusieurs animateurs des réformes politiques ont été arrêtés en septembre 2001. Il y a une volonté générale de rénovation politique ; même le parti Baas prépare prochainement un congrès pour la rénovation idéologique. Le parti communiste lui-même fait cet effort. Mais tout le monde semble piétiner. On n’arrive pas à avancer, comme si le système est bloqué de son intérieur.

Qu’est ce qui caractérise la scène politique syrienne ?

Ce qui caractérise les 4 dernières années, c’est cet agenda appelé réforme dont tout le monde parle. Le constat est que, vu l’équilibre des forces au sein du régime, les efforts de réforme n’ont rien donné, ils ont été avortés par la résistance des appareils. Le printemps de Damas n’a pas eu lieu, il a été très court. Dès le mois de septembre 2001, à l’aide de l’état d’urgence et de la loi martiale qui sont instaurés dans le pays depuis 1963, lors de l’installation du Baas, sans interruption ? les intellectuels et autres activistes ont été condamnés par des tribunaux d’exception, pratiquement sans droit de défense, à des lourdes peines allant de 2 à 10 ans pour le seul fait d’avoir donné des conférences, voire de participer aux conférence- débats qui se sont déroulés tous dans des salons privés. La réforme promise par le nouveau locataire du palais présidentiel a été une grande déception.

Et sur le plan extérieur ?

La Syrie, depuis l’accès de Hafiz Al Assad au pouvoir, a réussi, grâce à une intelligente exploitation de la guerre froide, à renforcer son influence régionale, s’implanter au Liban et devenir une pièce maîtresse dans la question palestinienne. Hafiz el Assad était maître dans ce jeu. Il a fait de la Syrie un interlocuteur incontournable. Mais cette stratégie fondée sur l’accumulation de la puissance politique, celles des cartes, en vue de la création d’un rapport de force favorable à la Syrie dans l’affrontement avec Israël et pour la récupération du Golan occupé depuis 1967 par Tel Aviv, n’a pas abouti. Devant l’extrémisme israélien et aussi à cause de l’appui inconditionnel de l’administration américaine à sa politique, elle a débouché sur une impasse. Non seulement le Golan n’a pas été libéré, mais le maintien de la présence syrienne au Liban, en Palestine, en Irak et en Turquie coûte de plus en plus cher à la Syrie. Il l’entraîne dans un affrontement direct avec les Etats-Unis, et depuis la dernière résolution 1559 du Conseil de sécurité, avec l’Europe et la France en particulier.
A la fin de la guerre froide et surtout après la mort de Hafiz El Assad, la marge de manœuvre de la Syrie s’est trouvée réduite. Elle appelait à une révision de sa politique régionale et à un renforcement de ses structures et défenses intérieures face aux tentatives évidentes des grandes puissances de réduire son influence extérieure.
Mais, Bechar Al Assad a pensé qu’il pouvait encore joué sur les compétition entre les puissances américaine et européenne pour étendre l’influence syrienne plus encore afin de relancer les négociation sur le Golan. Il n’a réussi qu’à attirer les foudres américaines et européennes qui le met devant un seul choix : de composer avec les forces de coalition ou de subir les conséquences d’une déstabilisation planifiée. Après la loi sur la responsabilité syrienne votée par le Congres, les intimidations militaires sur les frontières syro-israéliennes et syro-irakiennes, vient la résolution du Conseil de sécurité demandant le retrait immédiat des troupes étrangères du Liban, la Syrie se trouve obligée de composer avec les Etats-Unis et l’Europe sans discuter.
Elle est en train de céder, depuis la dernière résolution du CS qui a pris l’aspect d’un ultimatum euro-américain, sur de nombreux points. Elle accepte de satisfaire les demandes européennes sur la clause des armes de destruction massive liée à la signature de l’accord de partenariat euro-méditérranéen après un long refus, elle accepte de collaborer dans l’instauration d’une coopération militaire et sécuritaire tripartite, américano-syro-irakienne pour renforcer la sécurité des frontières de l’Irak et aider le nouveau gouvernement de Iyad Allaoui à s’installer et elle annonce un nouveau redéploiement de ses troupes au Liban.

Sur la proposition de la France, le Conseil de sécurité a adopté la résolution 1559, qui appelle la Syrie à se retirer du Liban, quelles sont les retombées ?

Comme je viens de le mentionner, la Syrie a commencé l’application de la résolution 1559, elle a annoncé le 22 septembre le redéploiement de son armée au Liban. Elle a accepté également en 2003, en réaction à la loi américaine sur le jugement ou la responsabilité de la Syrie, de ne plus défendre les organisations palestiniennes que les Américains ont dénoncées. Ainsi, toutes les activités du Hamas et du FLP (Front de Libération de la Palestine) ont été gelées. Les responsables syriens ont reçu, pour la première fois, une délégation parlementaire palestinienne reconnaissant ainsi de facto l’autorité palestinienne de Yasser Arafat. La Syrie est obligée de collaborer avec les politiques euro-americaines dans la région en espèrant arriver un jour à l’ouverture des négociations israélo-syriennes sur le Golan.
La vérité est que la Syrie se trouve dans une très mauvaise situation, une réforme qui n’arrive pas à s’imposer, malgré tous les efforts, une corruption qui continue à s’étendre, une croissance très faible, un investissement extérieur en deça des espoirs, un blocage du processus de modernisation démocratique et l’absence de tout espoir dans une éventuelle récupération de son territoire occupé par les Israéliens.
Il y a une pression extérieure de plus en plus forte afin d’obliger la Syrie à se replier sur elle-même et de lâcher toues les sources de puissances extérieures sur lesquelles elle comptait jouer. Elle n’a aujourd’hui qu’une seule chance d’en sortir, c’est de miser sur ses propres forces et de mettre en valeur ses ressources humaines et physiques. Cela veut dire une véritable réforme de structures capable de rétablir la confiance, une réconciliation nationale attendue depuis très longtemps, une ouverture démocratique réelle et une politique extérieure fondée sur le respect mutuel, la réciprocité et la coopération. Sinon, il n’y aura pas de remède à la dégradation de la situation ni intérieure ni extérieure.

Ce retour à la réforme intérieure n’est-il pas ce que demande l’administration américaine dans son projet de réforme du Moyen-Orient et de l’Afrique du Nord ?

La réforme américaine est un leur. C’est de la pure propagande. L’exemple de la Libye est très significatif ici. Ce que cherche l’Administration américaine c’est des changements de politiques dans le sens de la préservation de la suprématie israélienne et de la sécurité du pétrole. Elle s’attache avant tout à la dislocation du bloc arabe et à la liquidation des liens de solidarité de quelle que sorte qu’ils soient entre les peuples arabes. Pour le reste, il ne s’agit que de slogans qu’elle brandit pour faire pression sur les gouvernements arabes et les forcer à accepter de collaborer avec la stratégie américaine et pour leur arracher le maximum de concessions.

Donc c’est un échec du panarabisme ?

Cet échec est de toutes les façons le notre. Nous sommes responsables de l’avortement du projet d’intégration arabe, pas les Américains. Mais, eux, ils sont en train d’en tirer le grand profit. Les conséquences de cet échec ont été bien analysées dans les rapports du PNUD auxquels j’ai participé : pas de croissance, les processus de démocratisation restent faibles, le respect des droits de l’homme fait défaut dans une grande partie des pays arabes et dans le même moment, c’est la région du monde où l’influence étrangère est la plus forte.

Quel avenir ?

Reconstruire les pays à l’intérieur : respecter l’humain, favoriser son épanouissement, le former, reconnaître la souveraineté de chaque individus, sa personne, son rôle, sa place dans la sociétés, ses droits et ses devoirs, bref, refonder une vraie nation dans le sens moderne de terme à la place des peuples asservis, inféodés et inhibés qu’a crée l’oppression. Reconstruire les pays arabes à l’extérieur : refonder les relations interarabes sur des bases rationnelles basées sur la recherche de l’intérêt commun, le développement, la paix et l’intégration économique et politique au lieu de continuer à s’entredéchirer pour attirer la protection ou la bienveillance des puissances étrangère à la région. Toute la littérature sur le nationalisme arabe est dépassée, l’expérience européenne a montré qu’on n’a pas besoin d’appartenir à une race ou avoir une même langue pour se constituer en force économique et politique. Mais l’idée de l’intégration arabe reste cruciale. Car, l’une des causes principales de l’échec du monde arabe dans son démarrage économique et politique a été son incapacité à coopérer et à créer un ensemble cohérent.
Malheureusement, nous n’avons pas réussi à faire émerger des forces nouvelles pour porter ce projet de rénovation du monde arabe auquel nous appelons. Les seules forces qui émergent aujourd’hui sont les forces de la société civile. Elles cristallisent les aspirations des gens, dans la justice, la démocratisation. Mais, il y a des forces politiques qui vont être créées, les anciennes organisations se convertissent. Nous pouvons miser sur la maturation de certaines forces islamiques qui rejetaient les principes de la démocratisation et qui aujourd’hui se familiarisent avec le processus démocratique, c’est le cas de la Turquie. Les systèmes autoritaires n’ont plus d’avenir.


Cheikh Quardaoui, dans son discours de déclaration de la Constitution du Conseil mondial des savants musulmans, a dit que la première fatwa que nous faisons « dans l’absence d’un khalifat ce sont les savant qui prendront le flambeau et nous nous considérons à la place des khoulafas », que pensez vous ?

Si on veut dire par savoir la connaissance du monde, de ces dynamiques et la reconnaissance de la capacité de chaque individu à avoir une conscience politique je suis d’accord, mais je ne suis pas sûr que ce soit cela à quoi Quardaoui fait allusion. Pour lui il s’agit des savants religieux. Cela est dépassé. Il faut abolir toutes les tutelles politiques et intellectuelles pour reconnaître le droit de participation à tout le monde.

La demande de la réalisation d’un Etat islamique est-elle toujours à l’ordre du jour des mouvements islamiques ?

Je pense que l’Etat islamique a été un rêve. Il a beaucoup perdu de son impact après les expériences de l’Afghanistan, du Soudan et de l’Iran. Les islamistes, les plus conscients, s’orientent vers le model turc et donc vers la conception d’un gouvernement islamique qui réalise un programme et accepte le processus d’alternance et non pas un Etat islamique.

Y’a-t-il un développement de la pensée arabe ?

Contrairement à ce qu’on dit, le monde arabe a fait une rupture radicale avec la pensée d’il y a 20 ans. La pensée démocratique a gagné beaucoup je pense ; Nous avons gagné la bataille de la pensée, il reste à gagner la bataille du réel et transformer les sociétés.
Depuis, on a réussi à transformer l’idéologie arabe, elle n’est plus nationaliste ou socialiste soviétique, elle est devenue démocratique. Mais la transformation de la réalité est autrement plus ardue. Elle demande de rassembler les forces, avoir des stratégies cohérentes pour vaincre toutes les inerties, matérielles et intellectuelles, se libérer du joug des forces extérieures qui défendent leurs intérêts vitaux, comme le pétrole ou la défense de ce qu’elles appellent la sécurité d’Israël alors qu’il s’agit d’un véritable projet de colonisation. On voit bien que le poids du facteur extérieur est très lourd ici du fait, que le monde arabe est proche de l’Europe, il est au coeur de la stratégie atlantique.

Les hautes instances européennes ont ouvert les portes à l’opposant syrien Ghadry, que pensez vous ?

Ghardy a été monté par les services américains. Cela montre que les Américains et les Européens qui l’invitent ne veulent pas soutenir les véritables forces de transformation démocratique dans les pays arabes mais de simples instruments de domination. S’ils étaient sincères ils n’auraient pas du inventer des forces liées à eux mais aider des forces démocratiques sur place. C’est un instrument de pression et non pas un instrument de changement créé pour couper l’herbe sous les pieds des forces démocratiques et pour les discréditer.

Quelle position doit prendre le monde arabe devant les dangers qui guettent la Syrie ?

L’opinion arabe est très solidaire avec la Syrie. Il faut continuer à rester solidaire pour qu’elle récupère ses droits face aux menaces et pressions israéliennes, américaines et européennes injustes. Il ne faut pas que les fautes diplomatiques de ses responsables nous fassent oublier ses droits ni ceux des Palestiniens qui vivent dans un système d’apartheid de plus en plus renforcé.

Derniers livres :
- المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء العرب وتحولات العالم، (Les arabes et les mutations internationales)

- النظام السياسي في الاسلام، دار الفكر، دمشق (le système politique en Islam)