mercredi, janvier 28, 2009

إلى جورج ميتشيل: صناعة العداون

الاتحاد 28 يناير 09

في كلمته التي أعقبت تعيينه مبعوثا للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، قال جورج ميتشيل لا يوجد نزاع لا يمكن حله، لأن النزاع لا ينشأ تلقائيا ولكنه يبعث ويصنع ويغذى باستمرار. وهذه في نظري بداية مشجعة للمبعوث الامريكي إذا كان يعني بالفعل ما يقوله. ويكاد يختلف هذا الكلام إلى حد التناقض مع ما تضمنه خطاب رئيسه الذي وقع قرار تعيينه في منصبه، والذي كان أقرب في التصور الذي أعلنه إلى الرئيس السابق جورج دبليو بوش في تأكيده على تعهد الولايات المتحدة بالدفاع عن إسرائيل وضمان أمنها من دون أي إشارة إلى أصل المشكلة وجوهرها، أعني الاحتلال الاسرائيلي.
السؤال الرئيس يبقى بالفعل : من المسؤول عن خلق النزاع العربي الاسرائيلي وتصنيعه، وما هي الدوافع العميقة لتغذيته وإدامته؟ وهذه في اعتقادي نقطة البدء المنطقية والعملية لأي مبادرة تهدف إلى إنهاء النزاع والتغلب على عوامل استمراره.
بالنسبة للأمريكي العادي، وجميع أولئك الذين يناصرون إسرائيل ويحرصون على إرضائها، يظهر العرب، والفلسطينيون منهم بشكل خاص، وكانهم السبب في تفجير النزاع واستمراره، بسبب رفضهم الاعتراف باسرائيل منذ البداية، ومعاملتهم لها بوصفها دولة مختلقة، ولدت في أذيال السيطرة الاستعمارية، وشنهم حروبا متتالية، نظامية وفدائية، عليها، كان آخرها رمي مدنها الجنوبية بالصواريخ والقذائف المتنوعة، من قبل حركة المقاومة الاسلامية وحلفائها. فرفض العرب إسرائيل التي ولدت من قرار صوتت عليه الجمعية العمومية بالأغلبية، ثم التدخل عسكريا، حال ولادتها، من أجل محوها عن الخريطة المشرقية، هو الذي يفسر في نظر هؤلاء جميعا ولادة استراتيجية الردع العسكري الاسرائيلية، وتبني تل أبيب، قبل إدارة الرئيس جورج بوش بعقود طويلة، نظرية الحروب الوقائية أو الإجهاضية، التي لم تكن حرب غزة الأخيرة سوى مثالا ساطعا لها، وانخراطها في سياسات الاحتلال وتطويرها المشاريع الاستيطانية، بقصد تعزيز قوة الدولة العبرية وتمكينها في المنطقة، وإجبار العرب على التعايش معها، وربما الخضوع لأوامرها والانصياع لإرادتها.
تسيطر هذه النظرة بشكل واضح على الرأي العام الغربي، الرسمي والشعبي، وتتجلى عبر تصريحات مسؤولي الدول الغربية وسياساتها اليومية حتى ليكاد المسؤول الغربي، أوروبيا كان أم أمريكيا، لا يشعر بأي تناقض ولا تمييز عنصري في تبني معادلة تعكس التجاهل الكامل للحقوق الفلسطينية والعربية عندما تقصر حقوق الشعب الفلسطيني على تأمين الحاجات الإنسانية بينما تركز على تحقيق ما يشبه الأمن المطلق لاسرائيل، وتتعهد في سبيل ذلك بالابقاء على التفوق العسكري والاستراتيجي الساحق لتل أبيب كشرط للاستقرار والسلام. وهذا ما يفسر أيضا تدجيج إسرائيل بالسلاح وإشراكها في ثمار التقدم العلمي والتقني، وتوفير الغطاء السياسي والدبلوماسي لحروبها وحملاتها التي أصبحت حملات منظمة ومنتظمة على جيرانها، منذ حرب عام 1967. فإسرائيل مهما كانت قوتها العسكرية تبقى في نظر الغربيين مهددة، ومحتاجة إلى الدعم والتعزيز. أما العرب فهم مصدر تهديد لاسرائيل مهما ضعفت حيلتهم العسكرية وتعددت انقساماتهم السياسية والمذهبية. ومن هذا المنظور كل ما تقوم به إسرائيل مشروع ومطلوب : من مراكمة الترسانة العسكرية، بما في ذلك إنتاج السلاح النووي المرفوض لغيرها، إلى شن الحروب الوقائية، إلى احتلال الأراضي العربية والتمسك بها، إلى شن الحملات الانتقامية التي تهدف إلى إرهاب المدنيين وردع الشعوب العربية.
إلى جانب نظرية الرفض العربي لاسرائيل وتهديدها في وجودها، هناك أيضا نظرية ثانية تجعل غض النظر عما تقوم به إسرائيل من خرق للقوانين الدولية، بل تشجيعها على القيام به، أمرا ضروريا ومهمة أخلاقية، هي استخدام الحكومات العربية العداء لاسرائيل وسيلة للتغطية على مشاكلها الداخلية وإخفاقها في تحقيق الحد الأدنى من المطالب الاجتماعية.
في هذا المنظور لا تنتفي أي شرعية للكفاح العربي ضد السيطرة الاسرائيلية فحسب ولكن أكثر من ذلك تتحول كل مقاومة للقهر أو للتوسع أو للحروب الإجهاضية والانتقامية الاسرائيلية إلى تأكيد على الخطيئة العربية الأصلية التي هي رفض وجود إسرائيل وقيامها. لأن أي مقاومة لا تعود تعني شيئا آخر سوى إصرار العرب على هذا الرفض وتاكيد إرادتهم العدوانية في محو الدولة اليهودية من الخريطة. يجعل هذا التفكير كل شيء مبررا: الاحتلال والحرب والقتل الجماعي معا. وهذا ما حصل ويحصل يوميا ومنذ أكثر من نصف قرن بين العرب والاسرائيليين.
من هنا لم يتردد احد من المسؤولين الغربيين في تأييد الحملة الاسرائيلية الاخيرة على غزة، ولم ير في القتل الذي تعمدت أن يكون وسيلتها لردع المقاومة والشعب الملتف حولها، أمرا منافيا للقانون الدولي أو للقيم الإنسانية، بل حربا دفاعية، كما ذكر رئيس الاتحاد الأوروبي للدورة الحالية. وكما سيذكرنا بذلك الرئيس الأمريكي الجديد الذي تعهد من جديد بضمان واشنطن امن إسرائيل واستقرارها، وأكد على حقها في الدفاع عن نفسها ضد المقاومة الفلسطينية، مقابل تعاطفه مع المدنيين الفلسطينيين. فهذه المعادلة لم تتغير ولا يمكن أن تتغير طالما أن العرب هم الظالمون سياسيا، والاسرائيليين هم ضحاياهم. فإسرائيل محقة في حربها حتى لو ارتكبت مجازر جماعية، طالما أنها تدافع عن قضية عادلة هي وجودها نفسه، أما الضحايا من المدنيين فهم يندرجون في خانة الخسائر الجانبية ولا يؤثرون كثيرا على المعادلة السياسية.
ما ينقص هذا التصور حتى تنقلب المعادلة رأسا على عقب هو ما يتجاهله جميع هؤلاء، وما يشكل أصل المشكلة، أعني الاحتلال. ففي هذا التجاهل الإرادي أو غير الإرادي يكمن فساد التصور الغربي بأكمله وعجزه أيضا عن تصور أي مخرج ممكن للأزمة، وتأكيد ساساته ودبلوماسييه باستمرار على التعقيد الاستثنائي للوضع في الشرق الاوسط وغياب إمكانية التوصل إلى حل. وبالفعل كيف يمكن الخروج من حلقة العنف إذا استمر المرء في تجاهل احتلال عام 1948 وإعلان الدولة اليهودية من جانب واحد وتشريد الفلسطينيين، وكيف يمكن التغلب على النزاع العربي الاسرائيلي إذا رفضنا الاعتراف باحتلال عام 1967 وما بعده ونظرنا إليه كمجرد امساك بالأرض كوسيلة لردع العرب عن العدوان، وكيف يمكن إدانة الاستيطان اليهودي في الأراضي العربية المحتلة إذا نظرنا إليه كوسيلة ناجعة وضرورية لتعزيز فرص إسرائيل في الدفاع عن نفسها وضمان وجودها؟
استمرار السياسة الغربية في تجاهل واقع الاحتلال وحذفه من أي تصور للنزاع مقابل التركيز على التهديدات التي يمكن أن تتعرض لها إسرائيل ليس برئيا ولا يعبر عن سذاجة سياسية، إنه أساس الاستراتيجية الغربية التي تعتمد على إسرائيل وتراهن على تفوقها العسكري والاستراتيجي للابقاء على نفوذها في أكثر منطقة حساسية جيوستراتيجية في العالم، وعدم السماح لشعوب المنطقة من العرب وغيرهم بالاستقلال بشؤونهم والخروج من الفلك الذي فرض عليهم أن يظلوا يسبحون به. وهذا الغرب الذي يتجاهل احتلال اسرائيل كما تجاهل احتلاله للمستعمرات السابقة من قبل هو الذي خلق النزاع، وهو الذي يغذيه ويشعله متى يشاء، ويطفيء لهبه عندما يشاء، وهو المستفيد الأول والاخير منه.
ما لم يعترف الغرب وسياسييوه بأولوية مشكلة الاحتلال، لا يمكن التوصل إلى أي تسوية أو حل للنزاع، لا في عهد أوباما ولا في عهد من سيعقبه في البيت الأبيض. فالاحتلال الأول الذي أنتج تدمير المدن والقرى العربية وتشريد أهلها وتحويل الجزء الأكبر من شعبها إلى لاجئين هو منطلق النزاع ومفجره، والسعي إلى الحفاظ على الوضع القائم والتوسع في الاستيطان، وإجهاض أي جهد عسكري أو سياسي عربي ودولي للتوصل إلى تسوية تضمن إرضاء الحد الادنى من الحقوق الفلسطينية الشرعية، أي إقامة دولة فلسطينية لا تزال تل أبيب ترفض الاعتراف بها، وتحتل أراضيها، هو الذي يغذي النزاع ويديمه. إن إسرائيل المرتبطة ارتباطا عضويا بالتكتل الغربي الأطلسي هي التي تزعزع أسس الحياة السياسية والاقتصادية والإنسانية للشعوب العربية، وفي مقدمها الشعب الفلسطيني.
من دون الاعتراف بهذه الحقائق البسيطة سيكون بإمكان الغرب أن يبرر كل الخروقات السافرة للقانون الدولي وحقوق الانسان، بل ويغض النظر عن مشاريع نظام الميز العنصري والتطهير العرقي التي لا مهرب لاسرائيل منها طالما بقيت متعلقة بالاحتلال ورافضة لأي مراجعة لسياستها التوسعية، أي طالما بقي الغرب ينظر إلى سياساتها الاستعمارية كدفاع عن النفس، ويجنبها أي ملاحقة قانونية أو مساءلة أخلاقية.

lundi, janvier 05, 2009

محنة غزة: لا يمكن للجبن أن يكون سياسة عربية

burhan ghalioun: امتحان غزة: لا يمكن للجبن أن يكون سياسة عربية

امتحان غزة: لا يمكن للجبن أن يصنع سياسة

بعد أكثر من أسبوع من القصف الهمجي على غزة، وسقوط آلاف الضحايا بين قتلى وجرحى، وتحدي الحكومة الاسرائيلية إرادة جميع الدول والمنظمات الدولية، بما في ذلك الامم المتحدة، بتوسيع عملياتها العسكرية، والبدء بهجوم بري يستهدف علنا إخضاع غزة والقضاء على المقاومة الوطنية فيها، لم يعد من الممكن لحكومات العالم العربي أن تتمسك بالسياسة التي اتبعتها خلال الأسبوع الماضي، ولا ان تستمر في إقناع العالم بالتدخل لوقف إطلاق النار. لا يؤكد مثل هذا الموقف استقالة العالم العربي تجاه القضية الفلسطينية، وتصرفه تجاهها من قبيل سقط العتب فحسب، ولكنه يقوض أكثر مما هي عليه اليوم أي صدقية سياسية للدول العربية.
من المضحك والمثير للسخرية ان يكون هدف العرب اليوم وقف إطلاق النار، في الوقت الذي يرفض فيه قادة المقاومة في غزة هذا الهدف، ويعبرون عن إرادتهم القوية ومقدرتهم على المقاومة، ورفض العودة، مهما كان الثمن، إلى الوضع الذي كان قائما من قبل، أي إلى تكريس حالة الحصار، ومن ورائها حالة الاحتلال، التي اعترف بها الرئيس المصري كما لو كانت أمرا قانونيا لا حول لنا ولا قوة لنا به. هذا يعني بالفعل، كما أشار إلى ذلك عن حق الأمير القطري، قبول العرب بالعمل على مساعدة إسرائيل على قطف ثمار العدوان.
المطلوب من العالم العربي حتى يسترجع الحد الأدنى من الاعتبار، ليس في نظر الجمهور العربي، الذي عبر عن غضبه بالنزول إلى شوارع المدن العربية والعالمية كما لم يحصل منذ سنوات طويلة، وإنما في نظر المنظومة الدولية التي كادت تنسى وجودها على الخريطة السياسية، هو أن يستثمر العرب صمود الشعب الفلسطيني واستبساله في غزة، واستعداده الواضح للتضحية، لإعادة طرح قضية الاحتلال بأكملها وإجبار الاسرائيليين على العودة إلى طريق المفاوضات السلمية الجدية. وهذا ليس في صالح اهل غزة والفلسطينيين وإنما العرب بأجمعهم، وفي مقدمهم الدول التي وقعت اتفاقات سلام مع إسرائيل.
يستدعي هذا، قبل أي شيء آخر، أن تكف الدول العربية عن مناشدة الآخرين الضغط على إسرائيل، وتدخل هي نفسها في الصراع، باعتبارها معنية به، ولا تتصرف كدول محايدة او خائفة او مهزومة. وليس من الصحيح أن هذه الدول لا تملك وسائل ضغط كافية لإجبار إسرائيل على مراجعة حساباتها، والكف عن الاستهانة بها، والدوس على الحقوق العربية، والتصرف في فلسطين ولبنان وسورية والعراق وغيرها من البلدان، بحرية، كما لو كانت هي وحدها التي تقرر معنى الحق والقانون أو لو كان عملها هو نفسه القانون في هذه المنطقة المركزية من العالم.
ولا أقصد بالضغط هنا إصدار بيانات الإدانة أو الشجب. فهذا هو رد الفعل الأول، او في الدقيقة الأولى للهجوم، بانتظار إجراءات عملية جدية ينبغي اتخاذها. ما ينبغي عمله اليوم هو إجراءات يكون لها آثار عملية مباشرة، إقتصادية وسياسية واستراتيجية على إسرائيل. وأقل ما ينبغي عمله الآن لتعديل كفة الميزان، وتجاوز الخسارة السياسية الكبيرة التي تكبدتها الحكومات العربية نتيجة خوفها، وترددها، وانعدام روح المبادرة السياسية فيها، او حساباتها الجزئية، هو قطع الحكومات العربية جميع علاقاتها مع إسرائيل، ووقف كل أشكال التبادل معها، والتهديد، في حالة عدم استجابة إسرائيل للمطالب العربية، بإلغاء كل الاتفاقيات الموقعة سابقا.
وليس المقصود من ذلك إنقاذ شعب غزة من المصير المأساوي الذي رهنته له إسرائيل، منذ سنوات عديدة، نتيجة إدراكها العميق بعدم إمكانية توسيع دائرة الاستيطان في غزة بانتظار ضمها في المستقبل للدولة الاسرائيلية، وإنما لوضع حد لمراوغة الاسرائيليين، واستهزائهم بالعرب جميعا، واستمرارهم في الرهان على القوة والحرب لتحقيق أهدافهم التوسعية. إن المقصود هو إنقاذ سياسة السلام العربية، وحصول العرب على سلام دفعوا ثمنه سلفا، ولم يقطفوا أي ثمرة من ثمراته، لا في تحرير الأرض، ولا في استرجاع الحق الفلسطيني، ولا في إنهاء كابوس الحروب والاستعمار الاستيطاني والتمادي في سياسة الاحتقار والإذلال وزرع الفوضى والدمار في المنطقة.
لقد أصبح من الواضح أنه من دون رد فعل قوي من هذا النوع، يظهر استعداد العرب وقف مهزلة السلام، الذي تحول إلى مناورة إسرائيلية للتغطية على الحرب المستمرة، بثمن بخس، والعودة إلى خيار المقاطعة الشاملة لاسرائيل حتى تقر نهائيا بمتطلبات السلام العادل الذي اقترحه العرب منذ عقدين، فسيفقد مفهوم السلام العربي معناه، وتتحول سياساتهم في هذا المجال إلى خدعة تنقلب عليهم أكثر مما تفتح لهم سبل الخروج من أزمة القصور والعجز التي دفعتهم إليها.
هكذا، تضع الحرب في غزة العرب أمام تحد كبير، هو اتخاذ مبادرة مؤثرة وقادرة على وقف العدوان. فما لم يظهر العرب مقدرتهم على الرد بفعالية على الأزمة التي فجرتها في وجههم إسرائيل، فسوف يجدون أنفسهم واقعين في فخها، وسيتحملون نتيجة ذلك خسائر مضاعفة. وأول ما ينتظر من العرب أن يتخذوه في إطار الجامعة لإنقاذ سياتهم الاسرائيلية المفلسة هو الإعلان الصريح والمباشر عن دعمهم الكامل لشعب غزة ومقاومتها، وتهديدهم بتزويدهما بالمعدات والسلاح. وسيكون هذا أول إشارة إلى استعداد العرب لمعاقبة اسرائيل لسخريتها من مئات ملايين العرب، ومن جميع حكوماتهم، خلال أكثر من عقدين من مفاوضات السلام الفارغة، ولرفضها الانصياع إلى نداء وقف العمليات العسكرية في غزة من دون شروط، وإنهاء الحصار اللاإنساني الذي فرضته على شعبها، انتهاكا لكل القوانين الدولية والإرادة العربية.
قد يبدو مثل هذا الموقف جرئيا أكثر مما يمكن أن تحتمله حكومات استسلمت منذ عقود لحلم السلام الذي تحول حقيقة إلى استسلام أمام إرادة إسرائيل وغطرستها، كما يدل على ذلك استهتار هذه الأخيرة بكل مبادرات السلام العربية والدولية على حد سواء، ومثابرتها على سياسة الحصار والحرب وتوسيع الاستيطان. لكن مخاطره ستكون أقل على الحكومات العربية من مخاطر ترك إسرائيل تقود المنطقة نحو الفوضى والدمار، والاضطرار في امد قصير إلى تحمل نتائج سياستها العصابية المريضة. فلن يقود مثل هذا العمل إسرائيل إلى شن الحرب على الدول العربية، ولا على أي دولة منها. فلو لم يكن لديها مصلحة في تحييد هذه الدول لما وقعت معها أي اتفاقية، وفضلت الإبقاء على حالة الحرب معها. ما سيحصل هو أن إسرائيل ستجد نفسها في مواجهة خطر حرمانها من جميع ما أنجزته من مكاسب سياسية واستراتيجية هائلة، إقليمية ودولية، نتيجة اختيار العرب طريق التسوية ومفاوضات السلام.
والقصد، إذا لم يشعر الاسرائيليون بأن اغتيال عملية السلام، وهذا هو مضمون سياستهم الفعلية، يمكن أن يكلفهم غاليا، لن يكون هناك ما يردعهم عن الإمعان في سياستهم الاستعمارية التقليدية التي درجوا عليها، والتعامل مع السلام كوسيلة لتخدير العرب والضحك عليهم.
أما بالنسبة لبعض الحكومات العربية التي تخشى من أن يشكل صمود غزة ومقاومتها انتصارا لمحاور إقليمية منافسة، فليس لديها سياسة أفضل مما ذكرت في سبيل قطع الطريق على مثل هذا الاحتمال، واستعادة مواقعها التي فقدتها في قيادة المجتمعات لصالح الاحزاب والمنظمات الأهلية، الاسلامية وغير الإسلامية، وكسب ثقة الجمهور العربي الواسع من جديد. وربما ساعد ذلك على إنهاء حرب المحاور، التي تقوض حياة المنطقة السياسية، لصالحهم، وأهم من ذلك، استرجاع صدقيتهم كقيادات سياسية، تمثل شعوبا، وتحكم دولا، لا مجرد شبكات مصالح خاصة تستخدم الدول والشعوب وسائل لتحقيق ازدهارها وإندراجها في النظام العالمي.
لا يليق بدول تحترم نفسها أن تتسول مواقف ضغط من دول أجنبية، ولا حتى من مجالس دولية. حتى تستحق اسم الدولة ومفهومها، ينبغي أن تكون قادرة على القيام هي نفسها بالضغط، أي بالدفاع عن مصالحها العليا. ومن الخطأ الاعتقاد يأن هناك دولا او منظمات دولية مستعدة للتضحية بمصالحها لخدمة نظم عربية ترفض هي ذاتها مثل هذه التضحية لخدمة هذه المصالح نقسها. لا يمنع هذا من وضع الدول الغربية الداعمة لاسرائيل، والمنظمات الدولية، أمام مسؤولياتها، وتذكيرها بتعهداتها المتعلقة بحقوق الإنسان، وفي كل مناسبة، إنما لا ينبغي المراهنة على تحريك الضمير الأخلاقي والقانوني، مهما كان نبله، لتحقيق أهداف سياسية، ولا بالأحرى استراتيجية، ومن باب أولى استخدامه كأداة للعمل السياسي. الدولة أو الدول التي ليس لديها وسائل للضغط خاصة بها، أي وسائل للعمل السياسي، ليست دولا ولا مكان لها في العالم، ولا تستفيد، مهما فعلت، أي شيء من استدرار عطف المجتمع الدولي والمنظمات الدولية.
تطرح معركة غزة اليوم كل سياسة السلام العريية واستراتيجيتها على الطاولة، وتقوض الأسس التي قامت عليها، ولا تخص غزة او شعبها خاصة. وتهدد بتقويض أسس استقرار الدول والمجتمعات العربية. فإما أن ينجح القادة العرب في إعادة بث الصدقية في خياراتهم السياسية الاستراتيجية، وتحويلها إلى خيارات جدية ومقنعة وفعالة، أو يدينوا أنفسهم بالاستسلام لسياسات إسرائيلية مرضية ولا مسؤولة تدفع بهم، بالرغم منهم، ومن مناشدات الرأي العام العالمي وإداناته وشجبه اللامتناهي، وغير الفعال، إلى الانهيار، وتدفع البلاد لتي يحكمونها إلى مزرعة للفوضى والدمار السياسي، وتسلمها، عاجلا او آجلا للميليشيات الأهلية المتنافسة.
أن هزيمة إسرائيل في غزة ممكنة، تماما كما كانت هزيمتها في لبنان. وهي لن تكون انتصارا لحماس، ولا للفلسطينيين وحدهم، وإنما للعرب جميعا.