lundi, septembre 24, 2007

من أجل علمانية إنسانية

موقع ألوان 23 سبتمبر 07

في مقال نشره في "موقع الأوان" بعنوان "العلمانية والعلمانية السورية" اشتكى وائل سواح مما يتعرض له مفهوم العلمانية في نظره من هجوم متزايد من قبل "معظم المثقفين" العرب. وميز فيهم بين فئتين رئيسيتين: فئة المفكرين الدينيين أو الاسلاميين الذين يرفضون العلمانية أصلا باعتبارها مخالفة لعقائدهم، وهم ممن يسهل الرد عليهم، ثم فريق من المثقفين، لم يحدد هويته، ينتقد في نظره العلمانية ويناصبها العداء سرا، "خجلا أو تقية أو مداورة". ويحتاج إلى جهد أكبر للرد عليه، ومن بين من ضرب بهم المثال برهان غليون وأدونيس وماهر الشريف وياسين الحاج صالح.
وليس هناك شك في أن تناولنا لمسألة العلمانية، مثل أغلب الجمهور المثقف والسياسي العربي، كما يذكر وائل سواح في مقالته، يختلف كثيرا عن تناول وائل سواح وجماعته المرجعية في نقاط كثيرة وجوهرية. وهو ما سوف أتعرض له وأبين مضمونه وربما أسبابه أيضا في الجزء الثاني من هذا الرد. لكن أود قبل ذلك أن أتناول ما عرضه وائل سواح على انه ملخص موقفي من مسألة العلمانية، والطريقة التي استخدمها لتحقيق غرضه، والاقتباسات التي استند إليها، والتي إذا صدقت صار من غير المنطقي تصنيفي ضمن ناصبي العداء للعلمانية مداورة وتقية وإنما صراحة وعلنا.
1- في الأمانة الفكرية
أراد وائل سواح من مقاله أن يكون مساهمة في الدفاع عن العلم والعقلانية والحرية الفكرية. لكن أقل ما يقال في الطريقة التي اتبعها في هذا النقاش هو افتقارها لأدنى قواعد الأمانة الفكرية. وأول ما يلفت النظر في هذه الطريقة هو تعامله مع المصادر التي بنى عليها تعريفه بموقفي. فقد اختار كتاب : المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، الذي صدر عن دار الطليعة عام 1978، والذي لم يعن بالعلمانية إلا بصورة جانبية، من خلال تحليل مسألة الطائفية والأقليات، وتجاهل كل النصوص التي كتبتها في الثلاثين سنة الماضية، من كتب ومقالات تتناول موضوع العلمانية مباشرة، وفي مقدمها كتاب نقد السياسة :الدولة والدين (المركز الثقافي العربي)، وكتاب النظام السياسي في الاسلام (دار الفكر) بالإضافة إلى نصوص كثيرة أخرى صدرت بالعربية والفرنسية، من المفروض أن كاتب النص اقد اضطلع عليها. وما يلفت النظر كذلك الطريقة التي أحال فيها إلى النص، أعني القصقصة واللصق لإنتاج لوحة جديدة ليس لها علاقة بالأصل. فلا تجد أي جملة كاملة ومفيدة من بين ما أحيل إليه، وإنما كلمات ليست منزوعة من سياقها التحليلي فحسب وإنما من جملها المفيدة أيضا. وما يلفت النظر كذلك أنه لا توجد هناك إحالة واضحة إلى أي جملة أو فقرة، وإنما إحالة جماعية إلى صفحات عديدة ومتباعدة دفعة واحدة، وعلى القاريء نفسه أن يجمع بين شتاتها. وما يلفت النظر أخيرا هو أن الكاتب لم يقرأ، كما هو واضح من الإحالات، كتابي وإنما وضع ثقته كاملة في ما قام به قبله جورج طرابيشي في كتبه، كما تشير الإحالة، وهو المعلم الحقيقي في هذا الفن. وبهذه الوسائل أمكن لوائل سواح أن يعيد إنتاج موقفي من مسألة العلمانية كما يريد هو، وبالشكل الذي يستجيب لحاجته في إدانة المثقفين العرب او معظمهم، بوصفهم عملاء للظلامية الدينية والجهالة، وفي تنصيب نفسه وأصحابه ملوكا متوجين على عروش العلم والعقل والتنوير.
وما ذكرته بخصوص عرض موقفي لا يختلف كثيرا عما رافق عرض مواقف الكتاب الآخرين المشار إليهم. فلم يجد الناقد من كل ما كتبه أدونيس مثلا حول مواقفه من الدين والعلمانية، والتي يعرفها القاصي والداني، المثقف وغير المثقف، ولا تحتاج إلى بحث وتدقيق، نصا أفضل لتمثيل فكر هذا الشاعر والمثقف الكبير سوى نص ظرفي واستثنائي يعود لسنة 1979، كتبه في لحظة حماسية بعد انتصار الثورة الايرانية الإسلامية، التي كانت بكل المعاني ثورة تحررية، وأثارت في حينها، بالرغم من الطابع الملتبس لإيديولوجيتها الدينية، حماسا لا شك فيه عند مفكرين كبار، في مقدمهم ميشيل فوكو الذي وصفها بثورة الروح. وهي لا تزال تستحق وقفة تأملية حتى اليوم بسبب ما تنطوي عليه من مفارقة تاريخية جعلت أن ثورة ديمقراطية شعبية تحديثية تتخذ طابع الثورة الدينية وتستند إلى قيادتها السياسية. مما يعبر في الوقت نفسه عن أصالتها وتناقضاتها غير العادية أيضا، ككل حدث تاريخي كبير.
ولا يختلف الأمر عن ذلك في تناوله مواقف ياسين الحاج صالح وماهر الشريف. فهو ينطلق أيضا من تأويل لواحد من نصوصهما العديدة، يطرحان فيه تساؤلات ليست مشروعة فحسب، وإنما هي شرط لضمان اتساق الخطاب والتدقيق في صوغ الإشكالية، ليصوغ لكل منهما موقفا معاديا من العلمانية.
والواقع أن وائل سواح لا يقتصر على عرض ما يعتبر أنه موقفنا من العلمانية، ولكنه يتجاوز ذلك ليعيد بناء منظومتنا الفكرية وخياراتنا السياسية جميعا. فهو يكشف عن أفكارنا المسبقة التي تملي علينا طريقة تفكيرنا، ويعرف نوايانا الحقيقية أكثر مما نعرفها نحن، ويسعى إلى إرشادنا وإسداء النصيحة لنا، من دون الاستناد إلى أي نص أو إحالة هذه المرة، ربما من باب المونة الأخوية. يقول مثلا إن " النتيجة التي يصل إليها – غليون ( ...) مبنية على فكرة مسبقة ثابتة، مؤداها أن السلطة ذات الطابع الطائفي في سورية، والتي تمثل أقلية طائفية بعينها، تستخدم العلمانية كسلاح ضد الأكثرية العددية التي تنتمي لطائفة أخرى. وهي تستخدم العلمانية كـ"أداة قمع اجتماعي وسياسي" بيد هذه الفئة النخبوية ضد الغالبية الشعبية و"إيديولوجيا تبرير" لضرب حرية الاعتقاد الأساسية، "حرية الرأي والصحافة والتنظيم الحزبي"، و"وسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع والممارسة" وعلى "الاحتكار المطلق لحرية الرأي والتعبير والتنظيم" من قبل "دولة النخبة العصرية". ويتابع وائل سواح " برأينا أن في هذه الرؤية نقيصتين اثنتين: أولاهما الاستقواء بالأكثرية العددية في مواجهة الأقليات عموما، وثانيهما النفس الاستعلائي الذي تمارسه في مواجهة من تسميهم بالأقلية الحداثوية".
ولا أدري على أي مصدر اعتمد سواح ليصل إلى هذه النتيجة التي تعبر عن فكر بدائي لا علاقة له من قريب او بعيد بالتحليل الاجتماعي الذي اتبعته في الكتاب، بل هو نقيضه بالضبط. ولعلها تعكس قناعاته الذاتية. فأطروحة الكتاب الرئيسية هي أن مشكلة التوترات الطائفية والنزاع مع الأقليات ليست مرتبطة بالدين ولا بالاختلاف المذهبي ولا بالأحرى بوجود أقليات، وإنما بضعف البنية الوطنية وعجز الدولة عن تقديم إطار وطني وديمقراطي صحيح يضمن المساواة بين الأفراد ويقدم لهم فرصا أكبر لتحقيق مطامحهم وتطلعاتهم. فالأقليات تبنى ولا توجد مسبقا كأقليات، بل جماعات اعتقاد ورأي مختلفة. ويشكل الكتاب استكمالا لكتاب بيان من أجل الديمقراطية الذي صدر عام 1977، وهو يدخل في محاور التفكير التي سأعمل على تطويرها في أبحاث لاحقة حول الطائفية والدولة والأمة والعلمانية.
وبالمثل، لا أدري كذلك كيف استنتج وائل سواح، أو من استند إليه في بلورة أطروحاته الغريبة، أن أدونيس "يبرر عدم فصل الحقل السياسي ليس عن الدين عموما، وإنما عن دين بعينه هو الإسلام". لأنه يقول "إن السياسة في الإسلام "هي شريان يسري بشكل شامل كامل في بنية شاملة وكاملة." وكل من يتابع ما يكتبه أدونيس حتى من غير المختصين بتاريخ الفكر، يعرف أن أدونيس لا يؤكد على عدم إمكانية الفصل بين الاسلام والسياسة إلا ليدافع عن موقف جذري من تجديد الثقافة العربية ونسف نظام الفكر القديم، والديني منه بشكل خاص، من الجذور. وعلى جميع الأحوال من الصعب لناقد فكر حقيقي أن يصنف مثقف كأدونيس بين أولئك الذين يرفضون الفصل بين الدولة والدين، وبالتالي من الذين يناصبون العلمانية العداء.
ما جاء به سواح لا علاقة له إذن لا بما كتبته أنا وما أفكر فيه، ولا بما كتبه ياسين الحاج صالح أو ماهر الشريف أو أدونيس، وإنما هو من إسقاطات الكاتب نفسه. ومع ذلك فإن ما ذكره مهم ويستحق الرد والتحليل لأنه لا ينبع بالضرورة من سوء نية، أو يعكس هلوسات فريق اجتماعي وشكوكه ومخاوفه الذاتية، ولكنه يعبر عن تيار قائم بالفعل في وسط المثقفين، لا يعلن ولاءه للعلمانية وتمسكه بشعاراتها إلا ليفرغها من مضمونها ويحولها إلى درع يحتمي وراءه ويغطي به، هذه المرة مداورة وتقية بالفعل، على أفكار يعتقد انها غير مقبولة اجتماعيا بعد، أو أن الإعلان عنها لا يزال مكلفا كثيرا.
ولن أفصل هنا في ما نشرته في الثلاثين سنة الماضية عن العلمانية، فيمكن للقاريء العودة بنفسه إليه عبر كتابات لها بالتأكيد طابع نقدي، لكن بالمعنى العلمي للكلمة، أي لا تنبع من التشهير بالمفهوم أو الفكرة ورفضهما، وإنما من السعي، من خلال مقارنة التجارب التاريخية، الأوروبية والعربية، إلى إعادة بناء المفهوم وتوسيع دائرة عمله وإغنائه بمعاني ودلالات جديدة نابعة من توسيع دائرة انتشاره وتحوله إلى مفهوم ذي طابع كوني، لا يرتبط بخصوصية قومية. ومن جملة هذه الكتابات وفي مقدمها كتاب المسألة الطائفية المشار إليه، الذي أحث القاريء على قراءته، لا ليكشف بنفسه عن أساليب تحريف النصوص وتقويلها عكس ما تريد فحسب، وإنما ليطلع على المقدمات الأساسية التي اعتمدت عليها لتحليل ظاهرة انبعاث العصبيات الطائفية والإتنية، والتي قادتني إلى نقد العلمانية العربية السائدة، كما تجلت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تشكل عنصرا من عناصر تفسير نشوء ما أطلقت عليه "المجتمع العصبوي"، وظاهرة الارتداد من الدولة إلى القبيلة.
وأكتفي هنا بالاشارة إلى بعض الاقتباسات التي وردت في نص الكاتب وأحالها الكاتب جماعة للصفحات 11،12، 52، 53، 66، 82، و88 لأبين الروحية التي كتب بها الكتاب، والسياق الذي ورد فيه نقد العلمانية العربية الرثة. يبدأ الفصل الأول المعنون ب : الأقلية والأغلبية، البحث عن إجماع قومي جديد، بهذه الملاحظة "إن الحديث عن الأقليات ليس شيئا آخر سوى الحديث عن الأمة التي لا تنتج الأقليات الدينية أو الأجناسية إلا لأنها تعجز عن إنتاج أغلبية سياسية جديدة". وكذلك "سيخيب ظن كل من ينتظر من دراسة اجتماعية تقديم وصفة جاهزة لحل مشكلة الأقليات كاقليات. فهذا الحل لا يمكن أن يوجد داخل إطار النظم السياسية والاجتماعية التي خلقت مشكلة الأقليات وخلقت المجتمع العصبوي. وهدفنا هو إذن إظهار هذا الإطار العام الذي يمكن من خلاله ايجاد تغييرات اجتماعية ضرورية لطرح مسألة الأقليات الدينية او الأجناسية وجميع الأقليات الاجتماعية الراهنة أو التي يمكن أن توجد في ما بعد". ص 6-7. والنص الثاني من الصفحتين 11 و12، موضع الإحالة عند سواح، "وهكذا تبدو العلمانية هنا، التي تعاني من تثبت مرضي على مسألة الصراع بين الدين والدولة، الموروثة عن القرون الوسطى الأوروبية، ايديولوجية تبرير ضرب حرية الاعتقاد الأساسية، ووسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع والممارسة. وبقدر ما كانت الاعتقادية العلمانية الأوروبية وسيلة لتحرير العقل وفرض حرية التعبير، جاءت العلمانية العربية لتنقذ الاستبداد العصري، أي جاءت كي تقدم لمصادرة حرية الرأي والتعبير الاجتماعي والطبقي غطاءا شرعيا من المساواة الشكلية بين الطوائف. ومن أجل ذلك بقيت عقيدة مستلبة تجاه الدولة، مأخوذة بتقديس السلطة والقوة. إن الخوف من اكتساح الاسلام للدولة هو المحرك الأساسي لسياستها". "إن ما تقترح العلمانية على نفسها كهدف قابل للتحقيق هو نقل المجتمع من الجهل إلى النور، لا المساواة ولا العدالة ولا الحرية. ذلك أن هذا الانتقال من الجهل إلى النور هو شرط الديمقراطية، كما هو شرط الاشتراكية (في نظرها طبعا). لا تدخل العلمانية هنا إذن كمذهب سياسي يدعم نظاما حرا ولكنها تظهر كبديل ثقافي للذاتية الدينية، أي مجرد نفي للذاتية القومية. وهذا ما يمكن الاسلام المستعاد من أن يدخل الحلبة السياسية العصرية كمقاتل من اجل الديمقراطية والمساواة الغائبتين عن الدولة العلمانية، واللتين تصطدمان مباشرة مع الأسف بالنزعة الاستبعادية والحصرية التي بنطوي عليها كل دين".
أما الصفحة 25 و53 المحال إليها أيضا، فهي تطور نفس الإشكالية وهذا ما ورد فيها "وبشكل عام كانت الثقافة الحديثة إطار تنمية المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص. ومن هنا أصبحت عقلانية وأصبح التأكيد عليها والدفاع عنها دفاعا عن العقل ضد ظلامية القرون الوسطى التي جسدت ثقافة العزلة والعزل والتهميش والاستبعاد للأغلبية عن السلطة. لا يكفي أن تدعو المنظومة الثقافية الجديدة إلى المساواة حتى تكون منظومة مساواة إنما يجب ان تظهر واقعية هذه المساواة".
"لكن انتقال النزعة الفلسفية العلمانية التي لا تشكل النظرية القومية إلا جانبها السياسي، لعب دورا مختلفا كل الاختلاف في البلاد الأخرى التي تمت السيطرة على الدولة فيها بشكل أو بآخر. فالعلمانية لم تنبت هنا من الصراع الاجتماعي الداخلي ولم تنشأ إذن نتيجة لتفكك وتحلل القيم التقليدية الموروثة وزوال فعاليتها في الممارسة اليومية والجماعية، ولكنها نشأت عن طريق التبني من قبل نخبة محدودة العدد، وغالبا معزولة عن الشعب. فهي التي كانت بسبب انتمائها إلى الطبقات العليا المسيطرة أكثر أو الأكثر قدرة على اكتشاف الغرب والالتحاق بثقافته. وبينما كانت العلمانية الغربية فلسفة للثورة ضد الطبقة السائدة المتحالفة بشكل أو بآخر مع الكنيسة، ووعاء لأفكار التحرر والمساواة والأخوة والعدالة والمواطنية والقومية، جاءت العلمانية العربية هنا كوسيلة لتقوية النظام السياسي القائم وتدعيم الطبقة المسيطرة التي أرادت أن تستفيد من علوم الغرب الحديثة لتنعش نظامها اقتصاديا وسياسيا. وكانت كتقاليد وممارسات ولغة تفاهم ووعي من نمط جديد وسيلة لعزل الغالبية الشعبية عن السلطة والسياسة".
وفي الصفحة 66 : "جاء فصل الدين عن الدولة في البلاد الاسلامية إذن على يدي الدولة ذاتها قبل أن تتبناه النخب المحلية الحديثة، وتدفع بجوانبه الفلسفية. وظهر لهذا السبب أيضا كاستمرار وتطوير لسياسة فصل الجمهور المتزايد عن السلطة وتحرير يد الدولة من سلطة الدين، آخر مرجع شعبي ووسيلة الضغط الوحيد بين المعدمين من السلطة والعلم"."وإذا كانت العلمانية لم تأت بالديمقراطية في كل الدول الاوروبية، ولا في الدول العربية أيضا، إلا أنها حملت معها بشكل عام شرعيتها عندما جعلت من الحرية الفكرية والدينية والسياسية وسيلة لتوحيد الأمة وخلق المواطنية".
وفي الصفحة 82، في الهامش "ومن هنا تبدو إشكالية فصل الدين عن الدولة عندنا كإشكالية مصطنعة منقولة عن الغرب. إن مشكلة الدولة في العالم التابع هي بالضبط أنها بلا دين ولا عقيدة. ... وليس هناك مؤسسة دينية مسؤولة في المجتمع العربي الراهن عن انعدام هذه الحرية. فالرقابة هي رقابة الدولة، والذي يمنع الناس من التعبير والتفكير والاعتقاد هي السلطة المدنية ذاتها. إلا إذا اعتبرنا أن على الدولة أن تصفي الأديان وتلغيها. عندئذ نقف مع الاستبداد الديني الحديث ونصفق للديكتاتورية والرقابة ونفرض اعتقاداتنا على الآخرين، ونفتح الطريق بالضرورة امام تسلط الدين على الدولة. وهذا هو ما تفكر به عناصر كثيرة من النخبة الحديثة بحجة تخلف هذا الدين أو ذاك. لكن في كل مره تلتقي فيها هيئة المثقفين بالسلطة وتتفق معها يحصل الاستبداد، إن كان ذلك في النظام الديني القديم لدى خضوع طبقة العلماء للدولة، او في النظام الحديث عندما تضع فئة المثقفين نفسها في خدمة السلطان. وفي الواقع ما لم تتمكن الطبقة السياسية والمثقفة من الوصول إلى إجماع على حرية التفكير والتعبير واحترام الحياة المدنية للناس فمن المستحيل قيام أي نوع من الديمقراطية مهما كانت نسبية".
وفي الصفحة 88، "لايمكن البحث إذن عن حل للنزاعات الطائفية في الدعوة العلمانية التي تدعو للمساواة او في الدعوة الدينية التي تؤكد على التسامح. ولا في القوانين التي تحدد الحقوق والواجبات لجميع المواطنين. فكل هذه الوصفات قد استعملت في الماضي ولا تزال مستعملة في الحاضر. والقضية ليست قضية دعوة ولا قضية ايديولوجية شكلية، إنما هي أساسا قضية السلطة، أي علاقة أفراد المجتمع ككل بالدولة، التي تبلور علاقة كل واحد منهم بالآخر. وبقدر تحول الدولة إلى دولة-عصبة دينية او علمانية حديثة أو قديمة، تتكون عصبويات مقابلة وتتحول إلى أشباه دول موازية تبدأ كمركز للدعوة الايديولوجية لتصبح تنظيما، لتصبح فيما بعد جيشا ومؤسسة كاملة شبه قومية".
تدخل هذه الفقرات جميعا في باب نقد العلمانية العربية لتقصيرها في الرد على حاجات التحرر السياسي والفكري والاجتماعي، ودفاعا عن قيمها، وليس العكس. فمن الواضح لكل ذي عقل أن الهدف من هذا النقد ليس تحطيم الفكرة أو مقاومتها أو القضاء على آثارها، وإنما الدعوة إلى الانسجام مع قيمها التي شكلت مصدرا للتقدم والتحرر والانعتاق في المجتمعات الاوروبية. وهذا يستدعي من دون شك القدرة على التمييز بين العلمانية وبين النسخة الرثة منها التي سادت في البلاد العربية، والتي تستخدم شعار العلمانية للدعوة إلى المراقبة على الفكر والضمير لا لتحريرهما من الوصاية السياسية والعقائدية. وهو النقد الذي يبدو صعبا جدا على بعض التيارات العلمانوية ذات البنية الطائفية، أي المتحولة إلى طائفة خاصة، تماما كما يبدو من الصعب على التيارات الإسلامية المتطرفة فهم ما تطالب به الأغلبية المسلمة نفسها من تمييز بين الإسلام والإسلاموية. والسبب أن كلاهما يفتقد للفكر النقدي الذي يحتاجه المرء حتى يستطيع اتخاذ مسافة من اعتقاداته ومعارفه نفسها، ويمكنه من تعريضها للنقد وامتحانها وفحصها على أسس عقلية او موضوعية أكثر، أي مختلفة عما تملي عليه عقائده وذاتيته.
2- من العلمانية إلى اللادينية
لا أعتقد أن هذا النقد فقد صلاحيته الآن، بل ربما كان أكثر راهنية اليوم من البارحة. فلا أحد يستطيع أن ينكر أن العلمانية استخدمت في البلاد العربية ولا تزال، سواء أفهمت كموقف عقلاني وتنويري في مواجهة مجتمع متأخر ومتدين ومتعصب، أو كموقف من الطائفية الدينية ودعوة إلى تجاوزها، لتبرير الحد من الحريات وتقييدها بل إلغاءها. في الحالة الأولى اتقاءا لشر صعود التيارات الاسلامية إلى الحكم، وفي الحالة الثانية نتيجة قصر مضمونها على تجاوز التمييز الطائفي والمساواة بين الجماعات الدينية، وغض النظر عن المساواة السياسية المرتبطة بإقرار الحريات المدنية والسياسية والمساواة القانونية والعدالة الاجتماعية.
ومن هنا لا يزال السؤال الذي طرحه كتاب المسألة الطائفية بصورة جانبية، مطروحا اليوم، وربما أكثر من أي وقت مضى : ما الذي وضع العلمانية العربية، والسورية منها بشكل خاص، في هذا المأزق الذي جعل منها رديف الديكتاتورية ونقيض قيم الثورة السياسية التحررية الحديثة برمتها، وفي المكان الأول حرية الاعتقاد التي تعني تحريم فرض اعتقادات بالقوة على أي إنسان، أو منعه من التعبير عنها ؟
الجواب من شقين. أولا تحول العلمانية إلى ايديولوجية، أي إلى عقيدة فئة من الفئات الاجتماعية، جعلت منها إطار تماهيها وولائها الخاص، ورمز تفاهمها الذي يوحد عناصرها ويربط في ما بينهم ليحولهم إلى قوة فاعلة وشريك في الصراع الاجتماعي الدائم على الثروة والسلطة والنفوذ والجاه. وهو ما فرض عليها الخضوع لأجندة هذه الجماعة الخاصة ومتطلبات استراتيجيتها الاجتماعية والسياسية. وثانيا تعارض مصالح تأمين نفوذ هذه الجماعة/الطائفة واستقرارها مع مصالح التحرر والانعتاق العام للمجتمع، واضطرارها، في سبيل الاحتفاظ بمكاسبها، المادية والمعنوية، إلى خيانة القيم والمباديء العلمانية نفسها، ومن ورائها مباديء الديمقراطية. وهذا هو الذي يفسر أن أحدا من رموز هذه العلمانوية، الذين استشهد بهم وائل سواح، لم ينخرط في أي معركة من معارك الحرية، لا الفكرية ولا السياسية، بل إن معظمهم قد وجد في نقد حركة ربيع دمشق فرصة للتعبير عن رفضه لهذه الحرية ومقته لها. وبعض من جذبته الحركة قليلا قصر جهده على الدعوة إلى ليبرالية فجة تستنجد بالقوى الأجنبية وتدعو إلى تعليق الآمال جميعا عليها.
ما كانت لمصادرة فكرة العلمانية من قبل فريق اجتماعي ليحولها إلى رأسمال خاص به إلا أن تقود إلى أمرين. إفساد المفهوم من جهة وتقويض فرص تعميمه وانتشاره في الوعي وفي المجتمع والدولة معا، وبالتالي قطع الطريق على تقدم فكرة الحداثة وترسخها في الوعي الشعبي.
فبقدر ما أصبحت العلمانية ايديولوجية تغير شكلها ومضمونها ودورها الاجتماعي أيضا. فتحولت من مبدأ مؤسسي ناظم لسلوك الأفراد والجماعات، بصرف النظر عن اعتقاداتهم، إلى عقيدة قائمة بذاتها بديلة للدين، أي إلى دين جديد، يتخذ منها منطلقا لبناء رؤية للمجتمع والعالم معادية للرؤية المرتبطة بالدين القديم، ولرجاله وسلطته وقيمه. وككل عقيدة، صارت العلمانية "دوغما"، أي مذهبية مغلقة، وحقيقة ناجزة وثابتة لا تتغير ولا تتبدل، لا تحتمل النقاش ولا الجدال، قائمة في مواجهة جوهر آخر مطلق هو الحقيقة، أو بالأحرى "الخطيئة" الدينية. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يربط هؤلاء أو أكثرهم العلمانية بالعلم، وأن يشتقوا مفهومها نفسه منه. هكذا أصبحت العلمانية مساوية للادينية، وراية يجتمع تحتها كل كاره للدين أو داعية للتجرد من تراثه والتحرر منه، في مقابل الاسلامية التي تقف في وجهها وتدعو إلى التمسك بالقيم والمفاهيم الدينية في تقرير كل ما يتعلق بالفرد والمجتمع والتاريخ والحضارة معا. ومن الواضح من مقال وائل سواح وزملائه إلى أي حد تعكس اشكالية العلمانية والاسلامية لديهم الصراع بين العلم، المنظور إليه كرديف للعقل، والدين، رديف الجهل والرؤية الخرافية. ولذلك فإن الاسم الصحيح الذي ينبغي إطلاقه على هذه العقيدة ليس العلمانية وإنما اللادينية أو العداء للدين، التي تختلط مع علموية سوقية، من مخلفات القرن التاسع عشر، تعكس الايمان الساذج والبسيط بالعلم وبقدرته الخارقة. وهي العقيدة التي تسمح بتذويب جميع إشكاليات المجتمع والسياسة والاقتصاد والتاريخ وإلغائها في عقل مطابق للعلم، يعمل كإله محرك ومبدع، قائم خارج أي زمان ومكان. ومن هنا يأتي تماهي الكثير من المثقفين مع هذه الدعوة التي تسمح لهم بالشعور بالتفوق الطبيعي على الغالبية التي ينظرون إليها ككتلة عددية، جاهلة، تفتقر للعلم وللعقل معا، لا كشعب ولا كأمة تمتلك وعيا وإرادة وقادرة على الفعل أو الانجاز من أي نوع كان.
ومن الطبيعي أن تكف العلمانية في هذه الحالة عن أن تكون مفهوما إجرائيا يهدف إلى فهم الواقع وتحليله، يمكن نقده ككل المفاهيم العلمية والاجتماعية، وتعديل مضمونه ودلالاته على ضوء التجربة التاريخية، ومع تغير هذا الواقع او تقدم المعرفة بدقائقه. فككل عقيدة تتحول إلى مذهب ديني، أصبحت العلمانية في نظر عابديها المخلصين ماهية ثابتة وجامدة، لا يدخل عليها تغيير، وصالحة بالتالي، مثل الدين، لكل زمان ومكان، لأنها قائمة فوقهما وخارجهما، تعيش حياتها بمعزل عن الواقع وعن المجتمعات وعن التواريخ، مهما اختلفت تجاربها أو تناقضت سيرها ومساراتها. ويصبح أي مساس بأسطورتها، أي بقدسية فكرتها، أو تغيير في أسلوب ممارسة طقوسها، أو تشكيك في بعض سيرها واستخداماتها، هرطقة وخروجا عنها. لأنه يشكل مساسا بالهوية، وتهديدا لاستقرار الجماعة الايمانية التي تتحول أكثر فأكثر، في مواجهة مجتمع يستعصي على سيطرتها، إلى عصبة منغلقة عدوانية، تتبنى جميع المواقف التي تتبناها الجماعات الدينية المواجهة لها، وتعلن مثلها جهادها، بجميع الوسائل، النظرية والمادية، الشرعية وغير الشرعية، السلمية والعنفية، ضد الكفرة ولجاحدين، لنشر العقيدة التي يكمن فيها خلاص البشرية. ومثلها أيضا، تبني العلموية كنيستها التي توزع بطاقات الخلاص على المخلصين لها وتحرم من تشاء من اعترافها وبركتها.
هذا ما يفسر أيضا الطابع التبشيري الممل للخطاب العلموي، وما يتميز به من الجمود والثبات وتكرار الصيغ والعبارات والشعارات نفسها، دون أدنى مراجعة أو محاولة لتجديد الفكرة أو تعميقها، منذ نصف قرن. فككل المتدينين، يعتقد العلمويون أن أي تغيير او تعديل في سرديتهم الخاصة بهم، لا بد أن يثير الشك في متانة العقيدة، ويقوض ربما أسس بقائها. وأن كل ما أنتجه هذا الخطاب كان مقالات تمجيدية ودفاعية، تهدف إلا صون الفكرة من التغيير والتعديل، والحفاظ على تماميتها وأصولها، في وجه ناقديها، وتستند على الاسترجاع الأبدي للأفكار نفسها، وإعادة إنتاجها عبر نقد خطابات الخصوم أو من يحولون إلى خصوم، والتشهير بهم وإظهار مروقهم او خيانتهم. فعندما تتحول الفكرة إلى عقيدة وتصبح منتجة لهوية وانتماء خاص وولاء جمعي، تكتسب قيمة رمزية أساسية، وتصبح بالتالي موضع قداسة، يصعب النقاش فيها أو الحديث عنها خارج دائرة االاحترام والإجلال والتمجيد والتبرير.
هكذا تغير دور العلمانية أيضا في حياتنا السياسية والاجتماعية. فبعد أن كانت مبدأ جامعا، يقرب بين مختلفين، بدعوة الجميع إلا الارتفاع على خلافاتهم العقائدية للاتفاق على شروط ممارسة هذه العقائد جميعا بحرية، وبالتالي ضمان حيادية السلطة التي ترعى هذه الممارسة الحرة وتحافظ عليها، أصبحت بالعكس أداة للتمييز والفصل بين جماعتين، جماعة المتدينين وجماعة المتحررين من الدين. ولم يعد أنصار الفكرة العلمانية ينشدون، كما كان الأمر في الأصل، إقناع الآخرين بالدخول في منطق السلطة الديمقراطية، والانتماء إلى أمة سياسية مختلفة عن الأمة الدينية، توحد جميع الاطراف من أصحاب العقائد المتنازعة، تحت سقف دولة محايدة، تحترم الجميع بالتساوي وتدافع عن حرياتهم الاعتقادية والسياسية والمساواة والعدالة في ما بينهم، وإنما أصبحوا يدافعون عن مكانهم وموقعهم في التركيبة الاجتماعية، بوصفهم أصحاب كنيسة مستقلة ومتميزة، ذات أسرار وطقوس يصعب استيعابها من قبل العامة الجاهلة والأمية. ولذلك لم يعد تحقيق العلمانية بما تعنيه من ضمان الحرية والمساواة والعدالة، هو الذي يعنيهم حقيقة، ولا حتى التبشير بها والسعي إلى نشرها وإقناع الآخرين بفائدتها، وإنما حمايتها من التحريف، كشرط للمحافظة على الملة، التي صارت إليها العلمانية. وهذا ما يفسر النزعة السائدة عند هؤلاء لتصنيم مفهومها وتحويله إلى حقيقة ثابتة ونموذج جاهز وناجز، لا يقترن تحقيقه بأي حيثية، وجعله أقنوما واحدا مستقلا يتقدم على كل ما عداه من الأقانيم. فهي هدف في ذاتها، لا يهم إذا ما ارتبط تحقيقها بضمان حرية الأفراد أو عبوديتهم، ولا إذا كان على حساب المساواة أو التمييز في ما بينهم. فصل الدين عن الدولة أو إخراجه منها، هو الغاية الأولى والوحيدة، والتي يبرر تحقيقها أو الوصول إليها جميع الوسائل الأخرى، بما في ذلك أقسى الديكتاتوريات العسكرية.
3 – معنى العلمانية
بالمقابل نحن ننظر للعلمانية بوصفها مبدأ من مباديء الثورة السياسية الحديثة التي تقود، في العالم كله، نحو بناء أمم سياسية، ودول/أمم ديمقراطية تعمل على بلورة إرادة هذه الأمم وتؤمن إعادة إنتاجها في الوقت نفسه كجماعة سياسية. ففي موازاة تفكك الايديولوجيات التقليدية وانحسار المناخات اللاهوتية القرسطوية، سوف يتحلل مجتمع الجماعة الدينية المتراصة، وتبرز الاختلافات والتنوعات داخل الدين الواحد، وليس بين الأديان المختلفة فحسب. بل إن الصراع بين المتدينين وغير المتدينين داخل الدين الواحد سوف يحتل، في مرحلة ثانية، أي ما بعد الطائفية، المرتبة الأولى في الصراع، ويدفع إلى تفاقم الجدل بين تيارات الفكر والاعتقاد وتنازعها. وفي هذا السياق ستظهر العلمانية لتؤسس لنهضة فكرية كبرى أساسها توفير مبدأ او قاعدة أخلاقية سياسية تسمح للمجتمعات المتحللة والمتفجرة، ببناء الوحدة السياسية مع الحفاظ على التعددية، والاستمرار في الجدال والمناظرة من دون الانجرار وراء الحرب الاهلية. وليس هذا المبدأ الخطير الذي يكاد في نظري يساوي العلمانية أو يستغرق مفهومها، سوى احترام حرية الضمير، بما تعنيه من حق اختيار العقيدة والتعبير عن الرأي والدفاع عن الفكر المختلف. ومن هذا المبدأ وما يتضمنه من اعتراف بأصالة الضمير وتحريم انتهاكه، لأي فرد، سوف يشتق مبدأ المساواة بين الافراد، بقدر ما تحولوا جميعا لأفراد أحرار وعاقلين، أي يملكون جميعهم ملكة الضمير والوعي والتفكير. ولأنهم متساوين، فعليهم أن يقروا لأنفسهم ولكل واحد منهم بحقوق واحدة أمام القانون، بصرف النظر عن اعتقاداتهم ومذاهبهم وظروف معيشتهم، وأن يكونوا مشاركين في تقرير مصيرهم الجماعي، أي في قيادة الدولة والجماعة، ومتكافلين. ومن هنا أصبحت مباديء الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية التي تعني التضامن والتكافل، مؤسسة لجماعة جديدة، هي الأمة أو الجماعة السياسية، في مقابل الجماعة أو الأمة الدينية القديمة. فإذا أخفقت الجماعة السياسية الجديدة، أي الأمة الممثلة في الدولة، في ضمان حرية الأفراد في اختيار اعتقاداتهم والتعبير عن أفكارهم، أو مارست التمييز بينهم بسبب انتماءاتهم، أو لم تنصف في معاملة بعضهم لحساب البعض الآخر، انتفت إمكانية بناء المواطنة كرابطة سياسية جديدة، مضافة إلى رابطة الدين أو موازية لها، وأصبح من المستحيل على الدولة أن تبني أمة أو جماعة سياسية. وتعثرت ولادة الحداثة السياسية، بما في ذلك قيام دولة قانونية.
والقصد أن العلمانية ليست عقيدة دينية جديدة تنزع إلى الحلول محل العقائد الأخرى أو التعويض عنها، وإنما هي قاعدة لإدارة التنافس بينها، وتنظيم طريقة التعبير عن اختلاف كل منها مع غيرها، بما فيها العقائد اللادينية. وهي تقوم على افتراض إمكانية تحييد الاعتقاد الشخصي والفلسفي في الأمور الجماعية التي تتعلق بإدارة الدولة، حتى يمكن للدولة أن تكون دولة الجميع، وليست دولة جماعة اعتقادية واحدة. لكن تحييد الاعتقاد الديني والفكري في دائرة تعامل الدولة مع مواطنيها لا يعني إدانة أي اعتقاد، او التقليل من نفوذه، أو تحييده في المجال الاجتماعي، أو تحويله كما يعتقد البعض إلى اعتقاد شخصي، ومنع معتنقي الدين من تكوين روابطهم الجمعية. فالخاص لا يعني الشخصي والفردي. بل بالعكس، إن العلمانية لا تضمن شرعية وجودها إلا مما تقدمه لجميع الأفراد والجماعات العقائدية من حرية أصيلة وجوهرية، لا يخضع مبدؤها للنقاش، في التعبير عن نفسها وتنظيم كيانها والدفاع عن مصالحها أيضا، ضمن شروط احترام مباديء حرية اعتقاد الآخر والمساواة والعدالة. وتفقد العلمانية مبرر وجودها إذا تحولت إلى عقيدة بديلة تحتكر السلطة السياسية، وتمارس الاضطهاد ضد العقائد الأخرى أو تشجع عليه أو تقبل به، أو تدعو للحد من حريات منافسيها وخصومها الفكرية والمذهبية، وتبرر عدم المساواة القانونية أو الأخلاقية تجاههم، أو لا تكترث للظلم الواقع عليهم.
فالفكرة العلمانية أبسط بكثير مما نعتقد، وهذا مكمن قوتها وانتشارها وشعبيتها أيضا في موطنها الأصلي. فهي تعني باختصار أن الدولة لا تشتغل بأمور العقيدة، أي كل ما يتعلق بموضوعات الايمان وما يشكل مسلمات ايمانية عند الناس، سواء أكانت مسلمات دينية أو عقلية لا دينية. ليس هذا دورها، وليست لديها الإمكانيات والشروط التي تسمح لها بذلك. وإنما تقتصر مهمتها على تحسين شروط حياة أعضائها، المادية والمعنوية، من جميع المذاهب والاعتقادات، والارتقاء بثقافتهم وتكوينهم العلمي والمهني. أما موضوع العقائد فهي متروكة للجماعات المدنية نفسها، تتنازع فيها على قاعدة الحرية الفكرية والاعتقادية والمساواة الكاملة والتنافس السلمي. فشرط القبول بحيادية الدولة الاعتقادية وتجريدها من الدين هو إقرار الحرية الكاملة خارجها لجميع الأديان والمذاهب والعقائد. ومن دون ذلك تصبح العلمانية بالعكس غطاءا لدولة مذهبية مقلوبة، أي تفرض مذهب العقل والعلم على المجتمع بأكمله، أو تكافح ضد العقائد والأديان السائدة في المجتمع وتعمل على إضعافها ومحوها. وهو ما عرفته الدولة الشيوعية في القرن الماضي، وكان مثالا للعلمانية الدينية التي انتهت بكارثة على جميع تلك المجتمعات، لا تزال آثارها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مستمرة بعد أكثر من عشرين عاما على زوالها. وأي علمانية لا تضمن الحرية الفكرية والسياسية وتحافظ عليها، تفقد شرعيتها وتتحول لا محالة إلى أداة لتسويد عقيدة سائدة. هكذا لا تشكل العلمانية إذن عقيدة بحد ذاتها ولكنها تقدم نفسها على أنها المبدأ التي يكفل ممارسة العقائد جميعا بقدر ما هو مؤسس لمفهوم الحرية الفكرية.
لكن العلمانية، بقدر نجاحها في ضمان الحريات الفكرية والسياسية، تفتح فضاءا جديدا وتخلق ظروفا لا يمكن إلا أن تقود إلى تغير في أفكار الناس واعتقاداتهم ومنظومات قيمهم وتطلعاتهم. إنها تشكل إطارا لولادة ثقافة جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة، هي الثقافة الحديثة، بكل ما تتصف به من استثمار في الفرد والشخصية الإنسانية، ومن قيم الحرية واستقلال الرأي والمساواة والندية، ومن اهتمام بشروط الحياة الدنيوية واعتقاد بإمكانية تحقيق السعادة على الأرض والتمتع بالحياة الدنيا. لكن هذه الثقافة ليست مشتقة من العلمانية، إنما هي ثمرة الجدل الفكري والاجتماعي الذي يخلقه ضمان الحريات والمساواة وحكم القانون، وما يقود إليه ذلك من إثراء للمعرفة ونضوج للنظم المجتمعية وتطوير للعلوم والإبداعات التقنية.
وملخص القول هنا، أن العلمانية مفهوم تاريخي. وكأي مفهوم تاريخي، تظل مرتبطة بشروط التجربة التي ولدت فيها، بينما يظل الواقع أغنى من المفهوم. والنماذج التي ارتبطت بنشوء الوعي العقلاني وتلك التي جسدت مبدأ الفصل بين السلطات الدينية والزمنية وتكريس استقلال واحدهما عن الآخر، لا يمكن أن تكون هي نفسها، أو تطبق كما هي على المجتمعات كافة، بصرف النظر عن تراث كل منها وتركيبتها الدينية والاجتماعية، وعلاقة الدين بالدولة فيها، وظروف تقدم تجربتها السياسية. وهي جزء من عملية تاريخية شاملة تتعلق بانتقال المجتمعات التقليدية نحو الحداثة، ولا بد أن يتأثر حضورها، من حيث الشدة والامتداد، أو من حيث القوة والضعف أو من حيث الوضوح والاختلاط، بشروط هذا الانتقال، وفرص تحقيق الحداثة في مستوياتها المختلفة.
ولهذا السبب ليس من الممكن تطبيق أي مفهوم تاريخي على مجتمع من المجتمعات من دون نقده مسبقا. ولا يعني النقد التهشيم، وإنما الكشف عن قدرة هذا المفهوم على إنارة تجربة جديدة مختلفة عن التجربة التي ولد فيها، أي عن مدى قدرته على أن يكون مفهوما كونيا ينطبق على جميع التجارب. وفي هذه الحالة يمكنه أن يلعب دورا ايجابيا ومنورا في إعادة بنائها او المساعدة على دفع تجربتها الخاصة إلى الأمام. وإلا فهو بحاجة إلى إعادة صياغة وتعديل وتقويم حتى يتمكن من تفسير التجربة الجديدة والرد على التساؤلات التي تطرحها.

4- العلمانية ومعركة الحرية
من هنا أعتقد أن نقد العلمانوية، أي العلمانية العقائدية، المحولة إلى خطاب هوية، مرفوع في وجه الأكثرية الاجتماعية، ومبرر لحرمانها من الحرية، أصبح شرطا لتحرير العلمانية من قيودها، وإخراجها من المعزل الذي وضعت فيه، وإطلاق قدراتها على تثوير الثقافة والسياسة العربيتين بالمباديء الإنسانية. وشرط هذا التحرير فصلها عن فكرة اللادينية أو العداء للدين التي عزلتها وحولتها إلى عقيدة فئوية، وفتحها على جميع أولئك المؤمنين بحرية الرأي والضمير، مهما كانت عقائدهم وفلسفاتهم الشخصية. والذين يرفعون سقف العلمانية ليطابقوا بينها والايمان بالعلم عوض الدين، أو التخلي عن الاعتقاد الديني، لا يهمهم انتشارها ولا قبول الناس بها، وإنما يريدون أن يحتفظوا بها متاعا خاصا لهم، يميزهم عن غيرهم من الفئات الاجتماعية. ولكنهم بقدر ما يستخدمونها وسيلة للإقصاء يحكمون على أنفسهم أيضا وعقيدتهم بالإقصاء من المجتمع والعيش في معازل هامشية.
لا يمكن أن تكون العلمانية هي نفسها عقيدة فئة لوحدها، وتسمح في الوقت نفسه للناس بتجاوز مواقفهم العقائدية. ولا أن تكون هوية جماعة خاصة، وفي الوقت نفسه قاعدة لجمع الأمة بأكملها تحت ظل سلطة قانونية. فعندما تصبح هوية وعقيدة لا يمكن أن تؤسس لمعرفة موضوعية مستقلة عن أحكام القيمة الايديولوجية، ولا مبدأ ناظما لدولة سياسية تؤلف بين جميع أصحاب العقائد وتوحد بينهم، الدينية منها والعقلية. والواقع أن العلمانية لا تملك أي مضمون عقائدي، بحد ذاتها. ومن كانت هويته العلمانية فلا هوية له. إنها موقف من العقيدة والهوية. والذين يحولونها إلى عقيدة يخلطون بينها والفلسفة اللادينية. فمن المفروض أن يستطيع المتدين ان يقول عن نفسه ويكون بالفعل علمانيا، وإلا فليس للعلمانية قيمة ولا مبرر على الإطلاق. فهي ممكنة فقط بانضمام المؤمنين لمبدئها، وليست ممكنة أطلاقا بعزلهم أو استبعادهم. ففي هذه الحالة لن تكون مبدأ للحرية وإنما للاضطهاد والقهر الروحي والديني. وسوف تكون نتائج تطبيقها معاكسة تماما لما نشأت من أجله. وهو ما نلاحظه بالفعل في بلادنا حيث يترافق انهيار الضمير والانحلال الفكري مع تفاقم مسألة الحرية وتعميم الاضطهاد وما يعنيه من قتل الذاتية.
هذا ما تشير إليه التجارب التاريخية نفسها. فقد انضم تيار كبير من رجال الدين الشباب إلى الفكرة وأيدوا الفكرة العلمانية، ليس من باب التخلي عن وظيفتهم أو ايمانهم الكاثوليكي، وإنما اعتقادا بأن العلمانية لا تنفي الايمان والاعتقاد، ولا تشكل هي بحد ذاتها ايمانا جديدا، وإنما تنظم العلاقة بين أصحاب الاعتقادات المختلفة على أساس الحرية، أي تأسيس دولة تضمن الحرية للجميع، وتستطيع تحقيقها، بالرغم من اختلاف الآراء. وهذا هو المكسب التاريخي الحقيقي الذي مكن من نشوء الدولة الوطنية، القائمة على الخيار الحر والإرادة الحرة لأعضائها جميعا، مختلفة عن الجماعات أو الأمم الدينية التقليدية التي كانت تتأسس على غلبة جماعة على جماعات أخرى، ولا تستمر إلا مع استمرار هذه الغلبة، وما تنطوي عليه من قبول الجماعات المغلوبة الخضوع والانصياع لإرادة الغالب والتكيف مع عقائده ومطالب سيطرته.
لا يعني نقد العلمانية اليوم، سوى الفصل الكامل والنهائي بينها وبين اللادينية التي تشكل العقيدة الحقيقية لجزء من النخبة الثقافية العربية والعالمية معا. ولا يتضمن هذا الفصل ولا ينبغي أن يتضمن أي مساس بشرعية اللادينية كفلسفة وكهوية جمعية، ولا بحق أصحابها في العمل بحرية داخل الفضاء الاجتماعي، فكرا وتنظيما وصراعا لتحقيق أهدافها وغاياتها. بل إن العكس هو الصحيح. إن هذا الفصل هو شرط انعتاق الفكرة اللادينية والممارسة العلمانية معا. فالتستر وراء مبدأ العلمانية لم يضعف شروط تحقق الفكرة اللادينية فحسب، ولكنه حرمها أيضا من الطموح إلى انتزاع مشروعيتها في حقل الثقافة العربية، وقلل فرص تطويرها في إطار مناظرة عقلية شفافة وضرورية. وليس هناك سوى التقدم على طريق العلمانية الحقيقية، وما يعنيه من تخلي العلمانوية أو اللادينية عن فكرة الدولة العقائدية التي تبشر بعقيدة العقل ضد الظلامية الدينية، تماما كتخلي أصحاب الفكرة الدينية عن السيطرة على الدولة وتحويلها إلى أداة لفرض عقيدتها على الجميع، سبيلا للخروج من الحرب العقائدية وفتح باب المعرفة العلمية. فاحترام حق المؤمنين بالتمسك بايمانهم والاعتراف بأصالة هذا الايمان وشرعيته ولا جداليته هو شرط فرض حق اللامتدينين بالتمسك باعتقادهم والاعتراف بأصالته وشرعية وجوده الذي لا يجادل فيه أيضا.
وبالمثل، إن تحرير العلمانية من اللادينية، وإخراجها من الشرنقة العقيدية، هو شرط تعميمها كمبدأ تنظيم سياسي يتجاوز الاعتقادات الدينية وغير الدينية، ويصب في بناء جماعة سياسية سميت في العصر الحديث، امة دولة، لا يمنع اختلاف الناس في اعتقاداتهم في ظلها من اتحاد إرادتهم وتفاهمهم واتفاقهم على بناء إطار للحياة الجماعية، ساهم أكثر من أي إطار سابق في تفجير طاقات المجتمعات الأخلاقية والفكرية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك تجديد النظم الاعتقادية التقليدية وإحيائها.
وهذا هو أيضا شرط تحقيق الفصل بين العقيدة والمعرفة، أي بناء أسس مناظرة معرفية موضوعية جدية، من جهة، وتحرير الرأي العام من نير التحالف الموضوعي بين الطغيان السياسي الممثل بالسلطة الاستبدادية، والطغيان الفكري الممثل بسيطرة الخطابات الدينية. وطالما بقي الاختلاط بين المعرفة والعقيدة، واستمر الدعم المتبادل بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، أي التفاهم بين النخب الدينية والنخب السياسية ضد الحرية، فلن يكون هناك امل في الخروج من الحالة القائمة التي تفرض على الجميع البقاء ضمن حدود أقليات هامشية، اللادينيين، والدينيين، الاسلاميين والعلمانيين، الأكثريات والأقليات، لصالح فئات سيطرة غاشمة ومحدودة، لا تحتاج لضمان سيطرتها إلى إقناع الرأي العام ولا موافقته، وإنما تستطيع أن تؤمن ذلك من خلال تذرر المجتمعات وتحلل عراها، واستخدام القوة المجردة والارهاب للقضاء على تيارات المقاومة والمعارضة والاحتجاج الضعيفة فيها.
تقف العلمانية في مقدمة المعركة من اجل الحرية ومنها تستمد مشروعية وجودها. ولن يكون لها مستقبل في العالم العربي إلا بقدر ما تساهم في هذه المعركة وتعمل على الانتصار فيها. ويتطلب هذا من العلمانيين رفض أي مشاركة في المؤامرة ضد الحرية ، لا من خلال دعمهم للنظم الاستبدادية والتغطية على استبدادها وتزيينه، أو رش السكر عليه بتحويله إلى حاجز ضد الظلامية، ولا عن طريق اغتيال المعرفة الموضوعية وإخضاعها للعقيدة واحكامها الذاتية والمصلحية، وللمصالح السياسية.
هل يعني هذا أن صعود الحركات الاسلامية لا يهدد العلمانية او أن العلمانية تستطيع أن تستوعب نمو الحركات الإسلامية. بالتأكيد تشكل الحركات الاسلامية تحديا تاريخيا لفكرة العلمانية وممارستها معا. بيد أن الجواب على هذا التحدي لا يكون بالتخلي عن روح العلمانية والقيم التي تبرر وجودها وتؤسس شرعيتها، وإنما بالعكس في إظهار العلمانية بمظهرها الحقيقي الحيادي الذي يشجع الناس على تجاوز نزاعاتهم العقائدية المنتمية للماضي، ويقدم لهم فكرة تساعدهم على الاتحاد او التفاهم لانقاذ الحاضر، أي لبناء حياة قائمة على الاعتراف بحرية الجميع والمساواة بينهم وتضامنهم.
لهذا تستحق العلمانية أن نعود إليها اليوم ونراجعها ونعيد بنائها، أي أن ننقدها. لأنها المفهوم الوحيد الذي يمكننا من التمييز بين الموقف الاعتقادي والموقف المعرفي، ويسمح لنا بانتزاع ساحة جديدة مستقلة عن الايديولوجية نقيم عليها أساس تفاهمنا الجديد، من وراء العقائد العقلانية والأديان السماوية. وليس هناك أي مفهوم آخر يستطيع أن يقوم بذلك. فهي وحدها التي تقدم مفهوما دون مضمون عقائدي، بينما لا يمكن تصور العقلانية إلا كفلسفة أو رؤية مرتبطة بقيم واحكام وتوجهات تشكل اختيارا خاصا لفئة من المجتمع. العلمانية هي الوحيدة التي لا تؤسس لاختيار قيمي آخر سوى حرية الاختيار، وضمان هذه الحرية بإجراءات قانونية وسياسية واحدة، ومنطبقة على جميع أصحاب العقائد بالتساوي.
في هذه الحرب الايديولوجية التي تدمر اليوم أسس وجود الدول والتنظيمات المدنية العربية جميعا، أو تهدد بتدميرها، ليس هناك سوى صيغة الحرية المكفولة للجميع، وسيلة لتطمين الأفراد على عقائدهم ووجودهم، وتحويلهم عن الاقتتال إلى التفاهم والتعاون. وكما أن أصالة العلمانية تنبع مما تقدمه من فرص لتوحيد المختلفين في العقيدة، وبالتالي توسيع دائرة التحالف الضروري لتحطيم نظام الوصايات المتعددة، الذي هو في الوقت نفسه نظام الاقتتال، فإن تحويلها إلى عقيدة وفرضها بالقوة أو تحويلها إلى عقيدة معادية للدين والفكر الديني، يزيل عنها كل السمات التي جعلت منها أداة لتوحيد المختلفين وتجاوز تعددية المذاهب والاعتقادات، ويقوض لا محالة أسس شرعيتها ومبرر وجودها.
باختصار، العلمانية من دون حراسة قيم الحرية والمساواة والعدالة، يمكن أن تتحول اليوم في البلاد العربية إلى أكبر عقيدة قهرية، أو مشرعة للقهر الجماعي، باسم حداثة ليست في جوهرها ومظاهرها نفسها أحيانا سوى قرسطوية مقنعة ببهارج عصرية لا تخدع احدا. فهي حداثة سالبة للانسان ومعطله لضميره وعقله وجسده، ومستلبة لحرياته وإرادته، معادية لفكرة الحق والقانون والمسؤولية الفردية والجماعية معا.
ولذلك كما ينبغي أن نرفض الاختباء وراء شعارات العلمانية لتبرير الحرب ضد الحرية أو للمحافظة على نظم القهر والاستبداد، ينبغي أن ننكر أيضا القطيعة التي عمل الاسلاميون والعلمانيون الكاذبون على فرضها على المجتمعات. وأن نطرح بالمقابل مفهوم الدولة المدنية المحايدة عقائديا، والتي تحترم حريات الجميع وعقائدهم. وبالمثل، كما ينبغي علينا أن لا نتخلى عن واجبنا في الدفاع عن حرية القوى والحركات السياسية والمدنية جميعا ضد سياسات القمع والاضطهاد، علينا أن لا نتردد في توجيه النقد لهذه القوى والحركات، حينما تظهر عداءا لحرية الرأي والاعتقاد، أو تسعى إلى فرض هيمنتها على الآخرين والإساءة إليهم او تشويه صورتهم لدى الرأي العام. وهذا يعني أننا لا ينبغي أن ننتظر تطبيق الدولة لمبدأ العلمانية حتى نلتزم به، وإنما أن نطبقه نحن منذ الآن على انفسنا وفي ساحة العمل العام، فنكف عن اتهام بعضنا البعض الآخر، أو التشهير به، أو تخوينه او تكفيره، ونعترف بشرعية تعددية وجهات النظر وأصالتها، ونقبل بنسبية المعرفة، بما في ذلك مفاهيم العلمانية والحرية والمساواة والعدالة والقومية والوطنية وجميع المفاهيم الأخرى، وتحولاتها وتبدل دلالاتها أيضا. وهو شرط قبول الآخر والتسامح بين الأطراف المتباينة في النظر. فليس هناك علمانية ولا حرية يمكن أن تعيش بغياب مفهوم الحد الادنى من النسبية. وهذا هو أيضا أساس بناء حقل المعرفة العلمية القائمة على افتراض حد كبير من إمكان التفاهم والتواصل بين بني الانسان، من وراء أفعال الايمان والاختلافات العقائدية.
باختصار، كما يشكل فصل العلمانية عن اللادينية شرطا لإعادة مفهوم العلمانية إلى ذاته كمبدأ حرية، يشكل تحرير العلمانية من توظيفاتها الايديولوجية شرطا لتعميمها واستبطانها من قبل الجمهور وتحويلها إلى قاعدة لحياة سياسية وثقافية وأخلاقية ثرية ومستقيمة، في الدولة والمجتمع على حد سواء.

vendredi, septembre 14, 2007

نحو مراجعة جذرية لأسس السياسة الخارجية السورية


حظيت السياسة السورية الخارجية، التي أرسى قواعدها الرئيس حافظ الاسد منذ أربعة عقود، بتقدير كبير من قبل كتاب ومحللين سياسيين عالميين وعرب. و قد اعتبرها أنصار الحكم البعثي باستمرار مركز الإنجاز السياسي لنظامهم الجديد، وجعلوا من إبراز نجاحاتها غطاءا لضحالة الانجازات الداخلية أو غيابها، كما جعلوا من الالتفاف حول صانعها نقطة إجماع وطني إلزامي لا يجوز المساس بها أو تجاوزها. وقد قامت هذه السياسة عموما خلال العقود الثلاث الأخيرة على توسيع دائرة النفوذ الإقليمي، وتأكيد القوة والهيمنة السورية، وفرض مواقفها وأفكارها من خلال التدخل القوي، السياسي والعسكري، في الشؤون الداخلية للبلدان او الحركات الوطنية العربية والإقليمية، بدءا من النزاع العراقي الايراني، إلى النزاع الكردي التركي، مرورا بالنزاع الفلسطيني الاسرائيلي، واللبناني الاسرائيلي، وغيرها.
لكن الاحباطات الكثيرة التي واجهتها دمشق في السنوات القليلة الماضية، زادت من التشكيك في حقيقة الفائدة التي جنتها سورية من هذه السياسة. ويسود شعور طاغ اليوم بان هذه السياسة ربما تكون قد وصلت إلى نهاية طريقها. فبعد أن كان للتدخل في نزاعات داخلية عربية وإقليمية عائدا ايجابيا يؤمن لدمشق مزايا متعددة، استراتيجية أو اقتصادية أو سياسية، أصبح هو نفسه اليوم، بعد تبدل وجهة السياسة الامريكية الشرق أوسطية، سببا في دفع سورية إلى بؤرة صراعات الشرق الأوسط جميعا، وجعلها هدفا رئيسيا للنزاع. هذا هو الحال في ما يتعلق بعلاقة دمشق الاستراتيجية مع طهران، وتحالفها مع أطراف المقاومة الفلسطينية الرديكالية، العلمانية والإسلامية، وتمسكها بنفوذها الاستثنائي في لبنان، ودعمها العلني للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي.
ففي نظر العديد من العواصم الدولية، وليس الإدارة الأمريكية الراهنة فقط، أصبحت دمشق محور سياسة شرق أوسطية حاملة لمخاطر كبيرة. فهي متهمة بسبب تدخليتها الواسعة هذه بدعم الإرهاب، أو على الأقل التلاعب به من أجل تأكيد نفوذها وتوسيع رقعة مصالحها الوطنية. وباستثناء بعض الكتاب اليساريين أو شبه اليساريين الغربيين الذين يدفعهم عداؤهم الايديولوجي والسياسي لسياسات واشنطن الهيمنية إلى إبداء تعاطف نسبي مع سياسة دمشق الخارجية، كما مع غيرها من العواصم التي تبدي تماسكا أكبر تجاه التسلطية الأمريكية[1]، يكاد جميع المسؤولين في الدبلوماسية الدولية ينظرون إلى السياسة السورية الإقليمية والدولية نظرة مليئة بالريبة. فهي إما أن تكون في نظرهم سياسة متهورة تفتقر للمعايير العقلانية والواقعية، أو أنها تسعى بالفعل إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها، في سبيل دفع الأذى المحتمل عنها أو تأكيد نفوذها بوسائل لا شرعية لدى جيرانها وعلى حساب مصالحهم الوطنية.
1- بين القومية والمصلحة الوطنية
لكن الدبلوماسيات الغربية ليست الوحيدة التي بدأت تنظر بريبة إلى الخيارات السورية في السياسة الخارجية. فمثل هذه الريبة بدأت تغزو أيضا الرأي العام السوري ذاته، أو قطاعات واسعة منه، لا تقتصر على حلقات المعارضة الضيقة أبدا. ولا تعني الريبة إدراك خطورة هذه الخيارات فقط وإنما التساؤل، في ما وراء إعلان التأييد الظاهري لها، عما إذا كانت تقوم دائما على حسابات سليمة واعية. فعلى سبيل المثال، هل كان دعم المقاومة الكردية الماركسية، أعني حزب العمال الكردستاني، خلال سنوات حكم الرئيس حافظ الأسد الطويلة، ضد الحكومة التركية، مفيدا لسورية؟ وهل كان لتأييد جميع أشكال المقاومة المسلحة في العراق، بكل ما انطوت عليه من تناقضات، وبصرف النظر عن منطلقاتها الفكرية ووسائل عملها وتقنياتها العسكرية، نتائج ايجابية أيضا تخدم المصالح السورية العليا؟ وبالمثل ما هي الفائدة التي جنتها دمشق في النهاية من تشجيعها الانقسام داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، واختيارها الوقوف إلى صف التيارات الرديكالية، ثم دعمها لحركة حماس الاسلامية منذ التسعينيات، ضد ياسر عرفات ومنظمة فتح المركزية التي كانت تمثل الأكثرية السياسية في الحركة الوطنية الفلسطينية؟ وهل أعطى التحالف مع ايران وبالتالي مع حزب الله في لبنان، فوائد لدمشق تفوق تلك التي كان من الممكن أن تجنيها سورية لو اختارت توثيق الروابط مع المنظومة العربية؟
تتلخص إجابات أنصار دمشق بنظريتين متباينتين يشكلان في الوقت ذاته تأويلين لهذه السياسة نفسها. الأولى ذات سمة واقعية أو "ريل بوليتيك" تفيد بأن هذه السياسة هي التي ضمنت ولا تزال تضمن لسورية أوراقا إقليمية أساسية من أجل العمل والمبادرة على ساحة الشرق الأوسط. ومنها استمدت سورية نفوذا كبيرا في المنطقة، وتحولت إلى دولة فاعلة ومؤثرة يخشى جانبها، بعد أن كانت، في الخميسينيات والستينيات، موضوع نزاع بين الدول الأخرى العربية وغير العربية. وهذا يعني أن النفوذ الذي يؤمنه التدخل في قضايا الدول المجاورة والهمنة على مقدراتها او على جزء منها، هو السند للدفاع عن المصالح السورية الوطنية، وأن أي تراجع عنه يعني المغامرة بتعريض هذه المصالح للخطر. ومن هذا المنظور من الطبيعي ان لا تثير النزاعات التي تتفجر من حول سورية قلقا كبيرا لدى القيادة السورية، بل بالعكس. إنها تؤكد بالنسبة لها صحة خياراتها. فهي تعتقد اليوم أكثر من أي يوم مضى أن أفضل وسيلة لدفع الضغوط الخارجية ومنع الآطراف الأخرى من اللعب بالساحة الداخلية، هي تكثيف الضغوط عليهم، مباشرة أو من خلال حلفائهم المحليين، او ما ترى فيهم ذلك، واللعب في ملعبهم. وأن أفضل وسيلة لنيل السلام والهدوء والراحة في الداخل هو إنهاك الآخرين وحرمانهم من الاستقرار.
أما النظرية الثانية فهي من طبيعة عقائدية مناقضة تماما للأولى. فهي ترى في التدخلية السورية تجسيدا لوفاء دمشق لمبادئها القومية والوطنية التقدمية. ومن هذا المنظور ليست الجهود التي تبذلها سورية للبقاء في قلب الشؤون الداخلية العربية استثمارات سياسية تهدف إلى الحصول على مكاسب استراتيجية أو اقتصادية أكبر، وإنما هي تضحيات يقوم بها السوريون وفاءا للقيم الوطنية والقومية، ودفاعا عن استقلال العرب وحريتهم وكرامتهم. وفي هذه الحالة لا بأس في أن لا تكون لهذه السياسة عوائد حقيقية، من أي نوع كان. فهي ليست مقصودة لفوائدها وإنما هي واجب يقع على السوريين، ولا يمكنهم تركه أو تجاهله من دون أن يفقدوا مبرر وجودهم السياسي والعقائدي معا. ومن شواهد النظرية الأولى اعتقاد مراقبين كثر، بل ومسؤولين سوريين، أن التحالف مع طهران ضمن، ولا يزال يضمن، تصاعد قوة حزب الله كورقة للضغط على إسرائيل وإجبارها على إعادة الجولان إلى سورية. وينطبق الأمر نفسه على الدعم السوري السابق للحركة الانفصالية الكردية بقيادة عبد الله أوجلان في تركيا. فقد كان الرئيس حافظ الأسد يعتقد أنه سوف يتمكن عن طريق هذا التحالف من إجبار أنقرة على الاعتراف بحصة سورية الطبيعية من مياه الأنهار المشتركة، التي توجد منابعها في تركيا. أما التحالف مع حركات المعارضة الفلسطينية، مهما كان اتجاهها السياسي والعقائدي، علمانيا أم إسلاميا، فالهدف منه قطع الطريق على أي تسوية منفردة يمكن للحركة الفلسطينية، بقيادة منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات، الأقرب في تحالفاته إلى مصر والمملكة السعودية، أن تعقدها مع إسرائيل قبل أن يتم التوصل إلى تسوية سورية إسرائيلية تعيد الجولان المحتل.
لا يشعر أصحاب النظام بالحاجة إلى الاختيار بين التأويلين. فهم يستخدمون خطاب الواقعية السياسية عندما تكون لخياراتهم عوائد ايجابية واضحة، ويلجأوون إلى خطاب المثالية الايديولوجية القومية في الحالات الخاسرة أو عند انعدام النتائج الملموسة. لكن الخطاب القومي هو الذي أخذ يغلب على أحاديث وخطب المسؤولين في الحزب والدولة في السنوات الأخيرة. هكذا لا يكف هؤلاء، عندما يوجه لهم النقد بسبب نتائج تدخلهم في الشؤون العراقية أو اللبنانية أو الفلسطينية، عن تكرار الفكرة ذاتها التي تفيد بأنه لم يكن لدى سورية خيار أمام الهجمة الأمبريالية سوى الدفاع عن السياسات القومية. وهكذا ما كان من الممكن لها أن تترك الولايات المتحدة تسيطر من وراء أنصارها في لبنان ولا في العراق ولا في فلسطين. وكما أنها قبلت في سبيل الدفاع عن سياستها القومية تقديم تضحيات كبيرة في لبنان، فقد قبلت التضحية أيضا في سبيل تحرير العراق ومنع تقسيمه أو تغيير طبيعته القومية، وهي ترفض تصفية القضية الفلسطينية من قبل التيارات الانهزامية والاستسلامية. أما المعارضة فهي تستهين كثيرا بالحجة القومية التي يستخدمها المسؤولون السوريون، وترى فيها وسيلة للتغطية على المقاربة الأولى أو تبريرا لها. لكن المعارضة لا تناقش جديا نظرية الواقعية السياسية التي تنظر إلى النشاطية المفرطة على أنها الخيار الوحيد لسورية، إذا أرادت أن تحافظ على موقعها الإقليمي وتتملك أوراقا للفعل الاستراتيجي، تضمن مصالحها الوطنية، وتبعد عنها القوى والحركات الطامعة فيها، أو المهددة لاستقرارها ووحدتها الوطنية. فهي إما أنها تشارك في النظرة ذاتها إلى مسألة النفوذ الإقليمي، أو بعبارة أدق سياسة الهيمنة الإقليمية، أو أنها لا تأخذ مأخذ الجد ادعاءات النظام حول مبررات السياسات التدخلية الخارجية وتتهمه مسبقا بأنه لا يهدف منها إلا إلى خدمة النظام وتأمين دفاعاته ومصالحه، حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الوطنية السورية. لكن هذا الموقف يقطع الطريق مسبقا على أي مناقشة جدية لأهداف السياسة الخارجية السورية وأساليب عملها. ويفقد المعارضة نفسها في هذه الحالة فرصة بلورة سياسة خارجية سورية وطنية بالفعل، أي لا تتوسل خدمة نظام أو عقيدة او رؤية خاصة ولا الدفاع عن مصالح فئوية.
ينبغي في اعتقادي، بالعكس من ذلك، أخذ ادعاءات النظام على محمل الجد حتى يمكن فحصها بطريقة منهجية تمكننا وحدها من بلورة رؤية لأهداف السياسة الوطنية السورية ومعرفة أفضل الأساليب لخدمتها والدفاع عنها. والسؤال الذي يطرح اليوم، ونحن على أعتاب حرب إقليمية وحروب طوائفية منظورة وغير منظورة، تشكل التدخلية السورية أحد ذرائعها ومبرراتها، هل كان الانخراط في النزاعات الداخلية للأقطار العربية، سواء جاء استجابة لمراكمة أوراق ضغط استراتيجية أو تحقيقا لعقيدة قومية، الخيار الوحيد الممكن لبناء استراتيجية سورية وطنية، أم كان من المحتمل الوصول إلى الأهداف المنشودة بالطرق الدبلوماسية وأساليب التفاوض السياسية؟ وهل ساعدت هذه التدخلات في النزاعات الداخلية العربية والإقليمية في تحقيق المصالح السورية أو تحقيق جزء منها، أم عملت بالعكس على ابعاد دمشق بشكل أكبر عن إمكانية ايجاد الحلول لمشاكلها الوطنية؟ والجواب على هذين السؤالين يفترض منطقيا طرح سؤال: ماذا تعني بالضبط المصالح الوطنية السورية، وتحديد في ما إذا كانت تتلخص في مصلحة نوعية واحدة أم هي مصالح متعددة ومتباينة في سلم الاهمية والأولوية.
2- حصاد ثلاثة عقود من السياسة الخارجية
لا يرى أنصار السياسة الخارجية السورية، التي راهنت على توسيع دائرة نفوذ سورية ودورها الإقليمي في المنطقة، على أمل مقايضته بمصالح استراتيجية حيوية تتعلق أساسا باسترجاع الجولان والتوصل إلى تسوية عربية إسرائيلية تنهي حالة الحرب الطويلة المستمرة منذ أكثر من قرن، ومن وراء ذلك انتزاع شرعية وشعبية للنظام، سوى إنجازات كبيرة لا تقارن بحجم الخسائر أو التضحيات أو الانتكاسات التي منيت بها. ففي ما يتعلق بأهم الجبهات التي فتحتها السياسة الخارجية السورية واستثمرتها، أعني جبهة العلاقات السورية اللبنانية، وفرت السيطرة على لبنان مسرحا جانبيا للحرب حل معضلة استراتيجية كبرى لسورية، بمنعه إسرائيل من النوم على قرار ضم الجولان (14/12/1981)، وفي الوقت نفسه تجنيبه دمشق المغامرة بالتورط في حرب شاملة مع الدولة العبرية، تكاد نتائجها تكون محسومة لصالح خصمها[2]. كما وفر التحالف مع حزب الله فيما بعد أداة ضغط قوية على تل أبيب، من أجل حثها على الدخول في مفاوضات أو في سبيل إجبارها على التعامل في هذه المفاوضات بطريقة جدية. وبالفعل، عمل حزب الله كجيش سوري مواز في لبنان، وخاض لصالح سورية حربا محدودة جعلت قضية النزاع السوري الاسرائيلي تبقى حية دبلوماسيا وأمنيا معا. وكانت هذه الحرب المحدودة أفضل رد ممكن على الوضع القائم، أعني حالة اللاحرب واللاسلام التي وجدت سورية نفسها مكرهة على تحملها. وقد أثمرت هذه الحرب المحدودة بالفعل مشروع تسوية كاد يتحقق تحت إشراف الرئيسي الامريكي بيل كلينتون في 26 آذار عام 2000[3].
ولا يختلف الوضع في فلسطين. فليس هناك أي شك في أن الاحتفاظ داخل الحركة الفلسطينية بمنظمات حليفة لسورية، سواء أكان ذلك لأسباب ايديولوجية، كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية وتيارات داخل فتح نفسها، أو مرتبطة بدمشق ومعتمدة عليها في بقائها، كالجبهة الشعبية القيادة العامة لأحمد جبريل، قد أعطى للسلطة السورية هامش مناورة كبير تجاه السياسة الفلسطينية والدبلوماسية العالمية، مكنتها من التدخل لضمان مصالحها، وقطع الطريق على احتمال أن تحاول الدول الكبرى وبعض الدول العربية الضغط على منظمة التحرير لدفعها إلى القبول باتفاق منفرد مع تل أبيب على حساب سورية، يترك دمشق وحيدة أمام إسرائيل ويكرس من ثم احتلال الجولان وضمه نهائيا.
لكن ربما كان العراق هو المثال الأفضل للتعبير عن النتائج المتناقضة لسياسة التدخل الإقليمي السورية. فقد أمكن لدمشق، وغيرها من العواصم العربية التي كانت تقف على الأرضية ذاتها لرفض الضغوط الأمريكية وغزو العراق، أن تضع حدا لغطرسة القوة الأمريكية، التي لم تخف منذ دخولها العراق رغبتها في أن تجعل من احتلاله منطلقا لتغيير شامل في النظم العربية. ونستطيع أن نقول اليوم أن نتائج هذا الدعم الذي رعته دمشق أكثر من أي عاصمة إقليمية كبرى، بما في ذلك ايران التي كانت تميل، بالعكس، إلى إعطاء فرصة أكبر للنظام العراقي الجديد كي ما تتمكن الأحزاب الشيعية التابعة لها من توطيد سيطرتها على العراق تحت مظلة الوصاية الأمريكية، تجاوزت كل ما كانت تتوقعه العاصمة السورية نفسها. فلم تفرض المقاومة العراقية على واشنطن التراجع عن شعاراتها السياسية ووضع مخططاتها الشرق أوسطية ومشاريعها التغييرية على الرف فحسب، ولكنها عملت أكثر من ذلك على وضع الإدارة الامريكية في مشكلة استراتيجية عويصة، عندما أغرقتها في مستنقع لا تعرف الخروج منه، وعرضت إدارة الرئيس بوش لانتقادات داخلية ودولية عنيفة. وهكذا بدل أن تقف سورية في موقف البلد المهدد الذي ينتظر، كما كان يوعد به قادة البيت الأبيض، دوره في المحاسبة والعقاب، وجدت نفسها بالعكس في موقف الطرف الذي يخطب وده، ويؤمل انخراطه للمساعدة في إخماد الحرائق المشتعلة في العراق، والسماح للولايات المتحدة بالخروج من دون خسائر استراتيجية كبيرة.
من زاوية النظر هذه، كانت سياسة التدخل النشيط في نزاعات الشرق الاوسط والبحث عن مرتكزات للهيمنة الإقليمة الخارجية مثمرة لدمشق من دون شك. فقد أمنت لها مزايا استراتيجية عديدة، ومكنتها من حيازة أدوات سمحت لها بمتابعة الصراع من أجل استعادة حقوقها المشروعة، وحولتها إلى قوة إقليمية فعلية. ونجم عن هذا النجاح، أو ما بدا في ذلك الوقت كذلك، في إدارة الأزمة الإقليمية والنزاعات المتعددة المرتبطة بها، والخروج منها بأقل خسائر ممكنة، مكاسب استراتيجية عظيمة، كما حصل بعد اتفاقية الطائف التي كفلت للنفوذ السوري شرعية عربية، ومن ثم دولية في لبنان[4]. وأعطت للقيادة السورية وللنظام أيضا رصيدا سياسيا كبيرا ايستخدمه بقوة في الداخل السوري والمحيط العربي والدولي. هكذا صار لدمشق كلمة أقوى إن لم تكن الأكثر وزنا في القرارات الإقليمية العربية، وتحولت كما اعتادت أجهزة الإعلام السورية على القول، إلى ممر إجباري لجميع الدبلوماسيات العربية والدولية الراغبة في لعب دور في المشرق، سلبيا كان أم ايجابيا. وساعد هذا الرصيد الكبير على توسيع هامش مبادرة دمشق ومناورتها الاستراتيجية، وقدرتها على تصدير مشاكلها وأزماتها الداخلية، الوطنية والاقتصادية والسياسية، أو تعظيم فرص ايجاد حل لها في الخارج وعلى حساب الآخرين. وهو ما انعكس على شكل مزيد من الاستقرار والتماسك للنظام القائم وتعزيز الثقة به.
لكن النظرة التاريخية لواقع الإنجازات السورية الخارجية في عهد الرئيس الراحل، تظهر تباينا كبيرا في النجاحات، أكثر بكثير مما تحاول أن تبرزه، أو ما تريد أن توحي به الدعاية الرسمية. فقد اختلفت نتائج هذه السياسات وفوائدها من فترة إلى أخرى، وحسب اختلاف القضايا المطروحة وتعددها. كما أن الإنجازات التي يتحدث عنها أنصار هذه السياسة لم تكن مكاسب صافية أو نهائية. وكان لبعضها كلف مادية وسياسية واستراتيجية عالية جدا، مما سيظهر في ما بعد. فقد ترافقت هذه السياسة بصراعات ونزاعات جانبية استنفدت جزءا كبيرا من الطاقة السورية والعربية معا، وأدخلت دمشق في طرق مسدودة ومخانق عديدة، وأنتجت تعقيدات سياسية واستراتيجية خطيرة تشكل اليوم جزءا من المشاكل المستعصية التي تعيشها المنطقة بأكملها، والتي تدفعها نحو الفوضى والعنف الأعمى من دون أن تترك لها أي آفاق. كما أن المردود الاستراتيجي لهذه الانجازات، أو ما يعتبر كذلك، بدأ يتضاءل بسرعة منذ الثمانينات.
فمنذ البداية واجهت هذه السياسة التدخلية السورية، على جبهة العلاقات السورية الفلسطينية، عقبة كأداء في شخص ياسر عرفات، "كركبت" حسابات الأسد وتحدت إرادته. فلم يرفض عرفات الانحناء للعبة السورية فحسب، ولكنه وضع في مواجهتها استراتيجية مضادة تماما لها، وهي استراتيجية تأكيد أولوية المصلحة الفلسطينية وأسبقيتها في الساحة العربية بأكملها. وبالرغم من أن عرفات لم ينجح كما نجح منافسة الأسد في ايجاد حلفاء أقوياء لسياسته داخل الصف السوري يعتمد عليهم في تأكيد أهدافه وأولويته، إلا أنه قلص كثيرا من مناورة غريمه على الساحة العربية الإقليمية، وأعطى لنفسه هامش مناورة كبيرة بتحالفه التاريخي والثابت مع العاصمتين الرئيسيتين الرياض والقاهرة، اللتين يصعب على الأسد الوقوف في وجههما أو التخلي عنهما. وربما كانت أكبر ضربه وجهها عرفات لاستراتيجية الأسد القائمة على تجميع أوراق اللعبة الإقليمية بيده للحصول على حل يضمن أولا المصالح السورية، وبالتالي مصالح النظام، كانت تتجسد في فتح عرفات مفاوضات سرية خاصة، على هامش المفاوضات العربية الاسرائيلية في مدريد، أدت إلى التوقيع على اتفاقات أوسلو (1993). فقد حرر بذلك يديه من جميع القيود التي تحد من حركته في المناورة الدبلوماسية، ومثل أكبر عملية التفاف على الاستراتيجية السورية وإضعاف لصدقيتها. وجاء الاختراق الفلسطيني الرئيسي المتمثل في عودة ياسر عرفات ومنظمة التحرير إلى فلسطين المحتلة (اتفاقية القاهرة غزة-أريحا 1994، ثم اتفاقية طابة 1996) وإقامة السلطة الفلسطينية، ليضيق إلى أدنى حد قدرة دمشق على التدخل في الشؤون الفلسطينية وإخضاعها لحاجات الأجندة السورية.
هذا الصراع على مركز الأسبقية هو الذي يفسر العلاقات المتوترة والصعبة والعداء المرضي الذي وسم علاقة حافظ الأسد وياسر عرفات خلال عقود ثلاثة متتالية، عبر عنها أفضل تعبير تواصل الحروب الدموية في لبنان بين الطرفين، من دون أن ننسى أن عرفات كان أول رئيس عربي يمنع من دخول دمشق ويطرد منها طردا[5]. وبالرغم من أن دمشق لم تفقد قدرتها على التأثير على السياسة الفلسطينية، سواء عبر تحالفها مع المعارضة السياسية أو من خلال احتفاظها بالسيطرة على قوى فلسطينية داخل مخيمات اللاجئين اللبنانية والسورية، إلا أن الضربة التي تلقتها من جراء ذلك كانت قوية بما فيه الكفاية حتى تجعل العداء مستحكما بين سورية ومنظمة التحرير حتى زمن طويل. وهو الأمر الذي لا يزال قائما في تبني دمشق منظمات المعارضة الفلسطينية ثم منظمة حماس. ولم تنجح محاولة تطبيع العلاقات السورية الفلسطينية بعد ذلك أبدا، بالرغم من تخلي تل أبيب عن التزاماتها تجاه الفلسطينيين ووفاة الأسد الأب ودخول مشروع الدولة الفلسطينية المستند على اتفاقات أوسلو في طريق مسدود.
لا تختلف النتائج كثيرا على جبهة العلاقات السورية اللبنانية أيضا. فكما كان متوقعا،أدى إخفاق مفاوضات التسوية السياسية السورية الاسرائيلية في جنيف عام 2000، إلى دفع تل أبيب إلى اتخاذ قرارها بالانسحاب العسكري من جنوب لبنان المحتل من دون تفاهم سياسي. وبقدر ما أضعف زوال الاحتلال قضية الاستمرار في المقاومة، أحدث إرباكا في الاستراتيجية السورية التي وجدت نفسها فجأة أمام تحدي الافتقار إلى أوراق للضغط على إسرائيل، وهو ما يعني فقدان أي أمل في فتح مفاوضات جدية حول الجولان أو استعادة هذا التراب السليب. وهذا ما سعت القيادة السورية إلى الالتفاف عليه بإثارة قضية مزارع شبعا. إلا أنها لم تنجح في جعل النزاع الجديد بديلا لجبهة المقاومة السابقة. وجاءت حرب ايلول 2006 لتفرض على حزب الله، بمساعدة المنظومة الدولية، الانكفاء إلى الداخل ووقف هجماته على شمال إسرائيل، بالرغم من الأداء الاستثنائي لهذا الحزب، وتكبد قوات الاحتلال الاسرائيلي هزيمة حقيقية في الحرب.
وبصرف النظر عن الملابسات والوقائع العديدة التي شهدتها الحقبة التالية، يشكل انقسام لبنان والانخراط السوري الراهن في الصراع الدامي على السيطرة عليه، بشكل او آخر، امتدادا لنتائج هذه الحرب، والسعي اللبناني والعربي والدولي، في إطار تطبيع الوضع المشرقي في الفترة التي تلتها، إلى تحييد لبنان وإخراجه من الصراع. وهو ما يعني أن دمشق لم تنجح في ايجاد حل لمواجهة الوضع الجديد الذي خلقه انسحاب تل أبيب من جنوب لبنان. وقادها إخفاقها هذا إلى التورط أكثر فأكثر في مواجهة مع لبنان، أو مع أطراف لبنانية لم تقنعها قضية تحرير مزارع شبعا لتبرير فتح جبهة الجنوب على إسرائيل، حتى لو أن هذه القضية تساهم في تبرير احتفاظ حزب الله بسلاحه، وتترك لسورية بالتالي أداة للضغط الاحتياطي في المستقبل. لكن الخطير في الأمر أن المعركة قد غيرت من غرضها. فلم يعد الهدف من الدفاع عن سلاح حزب الله فتح جبهة الجنوب للضغط على إسرائيل، كما كان عليه الحال في السابق، ولكن ضمان السيطرة على الوضع اللبناني، وبالتالي مواجهة أطراف لبنانية أخرى تقف ضد عودة النفوذ السوري إليه. مما يعني تورطا أكبر لسورية في حرب لبنانية لبنانية تشكل بديلا للحرب اللبنانية الاسرائيلية والسورية الاسرائيلية وتعويضا عنهما. وهو ما يعبر عن تدهور الموقف الاستراتيجي السوري المستمر وتراجع فرص استعادة الجولان بالطرق التفاوضية[6].
وكان مآل التدخل السوري في النزاع التركي الكردي مثالا رائدا في الكشف عن حدود هذه السياسة ومخاطرها معا. فقد اضطرت دمشق، تحت تهديد أنقرة بالاجتياح العسكري للشمال السوري، إلى توقيع اتفاقية أضنة التي تنازلت فيها عن كل مطالبها، وقبلت بأن تضع حدا لنشاط حزب العمال الكردستاني على أراضيها، وأن توقف كل أشكال الدعم للقضية الكردية التركية في سوريا ولبنان[7]. بل إن تركيا قد حصلت أكثر من ذلك، على جائزة ترضية استثنائية هي تكريس الاعتراف بضمها لواء اسكندرون الذي ما انفكت سورية تطالب بعودته إلى الوطن الأم، منذ استقلالها عام [8]1946.
لكن ليس هناك أفضل من مثال العراق لإعطاء صورة عن النتائج المتناقضة لسياسة التدخل السورية. ففي عراق ما بعد الاحتلال وصلت هذه السياسة إلى قمة إنجازاتها وفي الوقت نفسه إلى نهايتها أيضا. فبعد أن أملت أن تحصد، نتيجة دعمها للمقاومة العراقية، تعويما شاملا لاستراتيجيتها القائمة على بسط النفوذ خارج الحدود، والتي تتعرض للتفتت في لبنان وللتهميش على الجبهة الفلسطينية، وجدت نفسها مورطة في مواجهة استراتيجية مع الولايات المتحدة، وعليها أن تتحمل فضلا عن ذلك الانعكاسات السلبية الخطيرة، المادية والسياسية والاجتماعية، لحرب أهلية ملتهبة لا يمكن لأحد التنبؤ بمآلها[9].
وليس من المبالغة القول إن السياسة السورية لم تحقق أيا من أهدافها التي سعت إليها. فلم تنجح في استعادة الجولان عبر الضغط من جنوب لبنان. وبالمقابل عليها أن تتحمل اليوم أعباء إدارة وضع لبناني متفجر وخطير النتائج، عليها وعلى خصومها. ولم تردع السلطة الفلسطينية ومن قبل منظمة التحرير عن اتباع سياسة مستقلة عن دمشق، ولكنها تواجه خطر الانقسام النهائي في الصف الفلسطيني وتزايد الاحتمال بأن تدخل السلطة الفلسطينية المنكفئة على الضفة الغربية في الفلك الأمريكي المعادي لها. أما في العراق، فلم يبق من وحدة البلاد وهويتها العربية شيئا أمام تفجر النزاعات الطائفية والتوجه المتزايد لإدارة بوش إلى تبني اقتراح تقسيم العراق إلى ثلاث دول لضمان ضبط الأوضاع الامنية، ومن وراء ذلك استمرار السيطرة على بلاد الرافدين. النتيجة الوحيدة في جميع هذه الحالات انقلاب الوضع من تعبئة القوى العربية في مواجهة إسرائيل والإمبريالية إلى تعميق الشروخ والانقسامات وتعميم الحروب الأهلية داخل المجتمعات العربية، ومن وراء ذلك زيادة الطلب في المنطقة، بالرغم من الهزيمة العسكرية الامريكية، على التدخلات الأجنبية، العسكرية والسياسية.
وأمام الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها من قبل الدول الغربية والولايات المتحدة ومجلس الأمن في العراق ولبنان بشكل خاص، وتفاقم مشاكل عدم الاستقرار والعمليات الإرهابية التي تشير إلى تراجع سيطرتها الكلية على عناصر الأسلاموية الجهادية، بالإضافة إلى المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تدهور الأوضاع المعيشية وعبور أكثر من مليون عراقي ونصف من اللاجئين الحدود السورية، كان من الطبيعي والمنتظر أن لا تجد دمشق خيارا آخر سوى الارتماء على الجمهورية الاسلامية الايرانية التي تبدو اليوم وكأنها القوة الإقليمية الرئيسية العازمة على مواجهة الضغوط الغربية[10].
هنا أيضا، قد تبدو هذه الخطوة من النظرة الأولى مخرجا ممكنا لدمشق من الطرق المسدودة التي وجدت نفسها فيها على جميع جبهات العمل الإقليمية والدولية. فالتحالف الاستراتيجي مع ايران يؤمن لها الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي والمالي الذي تحتاج إليه لتحمل عواقب ما يشبه الحصار أو التهميش الدولي، ويمكنها من مواجهة الضغوط والتهديدات الأمريكية والاسرائيلية[11].
بيد أن هذا الخيار سيف ذو حدين. فهو يعزز من دون شك المركز الاستراتيجي لسورية، لكنه يدفع بالعلاقات السورية الغربية إلى مستوى أعلى من المواجهة الاستراتيجية، ويخلق ظروف حرب باردة إقليمية تدفع إلى المزيد من الاستقطاب، وربما تقود إلى حرب شاملة يكون العرب، على اختلاف اتجاهاتهم، حلفاء أمريكا وحلفاء ايران، وقودها وضحيتها الرئيسية. فقد حولت سورية نفسها بهذه الخطوة إلى خصم حقيقي للغرب الذي لن يقبل بأي حال سيطرة ايران على تقنية إنتاج القنبلة النووية. هكذا يشكل التحالف مع ايران مصدر مخاطر وتهديدات جديدة تضاف إلى المخاطر والتهديدات الناجمة عن إخفاق السياسات التدخلية بدل أن يقدم لها مخرجا من أزمة العلاقات الإقليمية التي كانت تواجهها. وكان بإمكانها بسهولة، ولقاء بعض التنازلات الشكلية، أن تستعيد علاقاتها الدولية والعربية، دون الحاجة إلى التورط في مواجهة لا تخدم مصالحها وتحرمها من فرص التفاوض على استعادة أراضيها المحتلة. فلن يستطيع التحالف الاستراتيجي مع طهران أن يضمن لسورية استعادة أراضيها المحتلة بالحرب، ولكنه يقطع عليها كليا فرص التوصل إلى تسوية مع الكتلة الغربية والمجموعة العربية، هي أملها الوحيد من أجل استعادة الجولان بطرق التفاوض الدبلوماسية.
كيف حصل ذلك وما الذي يفسر المثابرة على هذا الطريق الذي يدفع سورية إلى السير على حافة الهاوية، وربما قاد في المستقبل إلى مواجهة إقليمية كارثية؟
3 – في أصل النزوع إلى الهيمنة الخارجية
في أحد تصريحاته المعروفة، ذكر وزير الإعلام السوري السابق مهدي دخل الله ما معناه أن محاوريه الروس قالوا له أن هناك معجزة سورية. فدمشق تطبق سياسة دولة عظمى، بالرغم من حجمها ومواردها المحدودة، وهو ما لا تقدر عليه روسيا نفسها. وليس هناك شك في أن شعورا استثنائيا بالقوة والعظمة ومقارعة الدول الكبرى قد خامر جيل القيادة السورية الجديدة التي لم تعش حقبة السبعينيات والثمانينيات، ولا تعرف توازنات الوضع الذي سمح لدمشق بحسم النزاع على النفوذ في لبنان ضد الولايات المتحدة وفرنسا لصالحها. وهذا ما جعلها تشعر أن هامش المبادرة الاستراتيجية الواسع الذي ورثته يضعها على الدرجة ذاتها من الصدقية الاستراتيجية، ويؤهلها لمشاركة الدول الكبرى، التي ورثت مواقعها، العديد من تصرفاتها المرتبطة بسياسة القوة وممارسة الضغوط على الدول الأصغر المحيطة، ومعاملتها بمنطق الدولة العظمى أو الشقيقة الكبرى[12]. والواقع أن سورية دولة مستقلة تتمتع، أو كانت تتمتع لفترة قريبة، بهامش كبير للحركة والمناورة، تجعلها أقل تبعية لإرادة الدول الكبرى، لكنها ليست دولة كبرى. وربما كان الخلط بين الوضعيتين هو المسؤول عن خطأ الحسابات السورية وتشوشها، وعن توريط دمشق في مواقف ما كان من الممكن لها أن تخرج منها من دون خسائر.
وليس لإرادة الهيمنة الخارجية التي تسمى السياسة الإمبريالية، مهما كانت الدولة المهيمنة، صغيرة أم كبيرة، رأسمالية أم إشتراكية، قومية أم ليبرالية، معنى آخر سوى السعي إلى حل التناقضات الذاتية التي لا يجد لها النظام الاقتصادي والسياسي مخرجا من الداخل، في الساحة الخارجية، وإذا أمكن على حساب الأطراف الأجنبية. وتكاد تكون الرأسمالية بالتكوين إمبريالية، كما لا حظ ذلك بعض المنظرين الماركسيين مثل روزا لوكسمبورغ، لأنها لا أمل لها في حل تناقضاتها الذاتية إلا بالتوسع نحو الخارج، سواء أكان ذلك في سبيل ترويج سلعها التي تضيق عليها السوق الداخلية، بسبب محدودية الطاقة الشرائية بالمقارنة مع حجم الانتاج، كما كان عليه الحال في الحقبة الرأسمالية الأولى التي أنتجت الاستعمار، حيث كانت الطبقة الوسطى لا تزال ضعيفة ومحدودة، أو في سبيل تخفيض تكاليف الانتاج عن طريق السيطرة على الموارد الخارجية أو نهبها أو تخفيض قيمتها، كما هو الحال بالنسبة لأمبريالية اليوم التي تواجه خطر الانخفاض الدائم لعوائد استثمار رأس المال.
لكن السياسة الامبريالية لا تقتصر على الرأسمالية وليست بالضرورة لصيقة حتمية بها أو آخر أطوارها كما نظر لينين. إنها سمة جميع الدول القوية التي نشأت في الحقبة الكلاسيكية، وكانت قوتها وازدهارها يعتمدان بشكل رئيسي على توسيع رقعتها الجغرافية. ومن هنا ارتبط مصير الدول الامبرطورية وعظمتها بكثرة فتوحاتها الجغرافية وسعتها. وبالمثل، قامت قوة الامبرطوريات التجارية التي أعقبت العصور الوسطى في هولندا وبريطانيا والبرتغال وإسبانيا بالدرجة الاولى على السيطرة على طرق التجارة الدولية، أو مصادر الثروة التي توفر لها الموارد الضرورية للاحتفاظ بجيوشها وقدراتها العسكرية. وبالعكس يمكن للاقتصاد الرأسمالي المكتمل الذي يعتمد فيه الازدهار على التوسع الداخلي والعمودي، أي على تطوير إنتاجية العمل والفتوح التقنية والإدارية والتنظيمية، أن يقدم مخرجا نهائيا من الأمبريالية، التي تسم بالمقابل وبشكل أساسي جميع أشكال الرأسمالية البدائية أو المعاقة أو المتأخرة التي لا تستطيع تطوير آليات توسيع السوق الداخلية، سواء أكان ذلك لأسباب اقتصادية أو اجتماعية او سياسية. وهو ما يفسر ارتباط الرأسمالية الأولى بالاستعمار كما يفسر الانتقال في جميع الرأسماليات المكتملة نحو الديمقراطية، وإعادة بناء حقل العلاقات الدولية على أسس قانونية أو شبه قانونية.
هذا هو منشأ الامبريالية السوفييتية التي نمت على هامش السياسات الاشتراكية او بالأحرى سياسات رأسمالية الدولة السوفييتية. فقد كان التوسع في الخارج، وعلى حساب البلدان والمجتمعات الصغيرة الخاضعة المحيطة، هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على نظام اقتصادي ضعيف الانتاجية، وتعويض الهدر الحتمي في الموارد والطاقات الانتاجية الذي لا يمكن أن ينجو منه نظام سياسي يقدم قاعدة الولاء الزبائني والقبلي على قاعدة الكفاءة وروح المسؤولية.
لكن التناقضات التي يمكن أن تدفع نظاما اجتماعيا سياسيا إلى التطلع نحو سياسات امبريالية ليست بالضرورة ودائما من طبيعة اقتصادية، بل هي في الغالب من طبيعة سياسية. وبالنسبة للنظام السوري الذي ولد من رحم انقلاب 1963 البعثي، كانت المشكلة الرئيسية تتجسد في ايجاد مخرج للتناقض العميق الذي كان يعيشه النظام بين عقيدته وفلسفته وشعاراته الشعبوية وافتقاره في الوقت نفسه لأي قاعدة شعبية. وهذا يعني أزمة شرعية خطيرة لم يستطع النظام تجاوزها في فترة أولى إلا بالهرب خارج السياسة نفسها، نحو تعبئة العصبية الطبيعية، العشائرية أو العائلية أو الطائفية. وقد مكن هذا الحل، من خارج السياسة والمجتمع السياسي، وعلى حسابه، النظام من البقاء والاستمرار بقدر ما أمن له قاعدة مجتمعية متماسكة يمكنه المراهنة عليها لبناء قدرات قمع قوية والاحتفاظ بالسيطرة العسكرية السياسية على المجتمع.
لكن لم يكن هذا اللجوء إلى منطق العصبية البدائية حلا بقدر ما كان هربا إلى الأمام فاقم، بالرغم من تأمينه وسائل حماية أفضل للنظام، من اغتراب السلطة، وأضعف صدقيتها السياسية. كما أن توسيع القاعدة الزبائنية الذي مثلها هذا الهرب سيشكل حافزا إضافيا للبحث عن حلول جديدة. ومع تزايد التحديات والضغوط الداخلية والخارجية، سيزداد ميل النظام إلى استخدام التوسع الخارجي، بما يمثله من نجاح لسورية وتأكيد لعظمة قيادتها، كمصدر لشرعية بديلة، تعوض النظام عن ضياع شرعيته الثورية الناجم عن إخفاق برامج التحويل الاجتماعي والاقتصادي الطموحة التي وعد بتطبيقها.
من هنا سيأخذ الدور الهيمني الذي تلعبه سورية على الساحة الإقليمية قيمة جديدة، تتجاوز نطاق السياسة الخارجية لتصب في مشروع أكبر لبناء الشرعية وتجاوز التناقضات التكوينية. وبقدر ما ستصبح السياسة الخارجية مصدرا لإنجازات تؤمن التأييد والعطف الشعبيين، سيتحول صانعها وملهمها إلى مركز استقطاب لولاء وتقدير متزايدين. وستولد جدلية تعزيز متبادل تجعل الإشادة الدائمة والمبالغ فيها بإنجازات السياسة الخارجية تعزيزا لمركز الرئيس ومكانته، وبالعكس، تجعل التركيز على مواهبه الاستثنائية وقدراته الخارقة تأكيدا لصواب الخيارات السياسية الخارجية، مهما كانت تكاليفها ومخاطرها. وبقدر ما ستنسب النجاحات الخارجية إلى الرئيس، سوف تعاد محورة العقيدة السياسية الجديدة من حول شخصيته، كما ستتحول هذه الشخصية إلى الكافل الوحيد للنظام، وسياساته جميعا. فمن حول شخصية الأسد الكاريزمية سوف تبنى شرعية النظام، بعد تهافت ايديولوجية البعث التقليدية التي تقوم علىمباديء الوحدة والحرية والاشتراكية. ومن حول هذا الدور الإقليمي المتميز لسورية الأسد سوف تبنى أسطورة الرئيس نفسه، ويعاد صوغ صورته كقائد ملهم، قادر علىكفالة النظام وضمان صلاحة ونجاعته، في مواجهة الإخفاقات الداخلية المتعاقبة، وبالرغم من كل صنوف الفساد التي تحيط به. وهكذا سيغطي الأسد، بأسطورية ذكائه وحداقته على ركاكة رجال النظام وأركانه، وبنشاطيته وحضوره الدائم على غياب الدولة وعطالة المؤسسات، وبحسه بالمسؤولية على استقالة الطبقة السياسية الحاكمة وتهتكها. وهذا ما يفسر القدسية التي سيوليها النظام لأقوال الرئيس وأفعاله، والحساسية المفرطة التي سيظهرها أنصاره إزاء أي تشكيك بخياراته[13]. كما يفسر الشراسة التي ستدافع بها دمشق عن ما سيسميه خلفاء الأسد أوراق سورية الإقليمية، أي عناصر وادوات وطرق تدخلها ونفوذها في القضايا العربية والإقليمية.
والواقع، لم تكن سياسة الأسد الخارجية أساسية لتأمين شرعية بديلة قائمة على التعبئة حول الانجازات الخارجية بعد الفشل الداخلي، ولا للحفاظ على توازن النظام ومساعدته على تجاوز تناقضاته، وبشكل أساسي، تمكينه من ضبط الحركة الاجتماعية وضرب حصار على الحياة السياسية، والإمساك بكل خيوط الممارسة الداخلية فحسب. لقد كانت لا غنى عنها أيضا في إعادة إنتاج الطبقة التي يعتمد عليها في وجوده. فبقدر ما عمل ارتهان البلاد لخيارات السياسة الخارجية على حرمان المجتمع وفئاته المختلفة من التفكير في الخيارات الداخلية، وبالتالي من السعي إلى تطور البنية الانتاجية للاقتصاد، عمل التوسع الخارجي على تعظيم العوائد الريعية، وتبرير منطق التوزيع الذي تقوم عليه أرستقراطية الدولة والحزب، والرد على حاجات توسعهما وتنامي كلف الحفاظ على النظام وضمان استقراره. وكانت المساعدات المالية الكبيرة التي قدمتها دول الخليج النفطي في إطار حرب عام 1973 وما بعدها، قد أطلقت شهية رجالات النظام في دمشق في نيل حصة أكبر من فوائض المنطقة الريعية. وفي موازاة المهمة السياسية التي نفذها الجيش السوري في لبنان، وبالتمفصل معها، سوف تتطور شبكات مصالح مالية أساسية استفاد منه آلاف المسؤولين السوريين من عسكرين ورجال أمن وعاملين أيضا، من الذين شاركوا في مشروع وقف الحرب الأهلية في لبنان[14].
سيحدث تدفق العوائد الريعية، الخارجية، وفي ما بعد الداخلية، الناجمة عن نمو صادرات النفط السوري وازدياد حجم تحويلات السوريين العاملين في الخليج والخارج عموما، تغييرا جذريا على اقتصاد المجتمع نفسه، سيتضاءل بسببه وزن الاقتصاد الداخلي الطبيعي وحجمه داخل الاقتصاد الريعي القوي الناشيء على هامش السياسات الإقليمية. وأكثر فأكثر، ستصبح السيطرة الخارجية شرطا لتأمين العوائد التي لا بديل عنها لإنتاج الطبقة أو الطبقات السائدة وممارسة سياسة توزيعية على قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى الملحقة، أو المطلوب إلحاقها لضمان استقرار النظام وبقائه.
هكذا سترتبط سياسة التوسع السياسي والعسكري بنشوء طبقة ريعية لا تعيش على استغلال الاقتصاد الداخلي وفوائضه الاقتصاديه بالدرجة الأولى، وإنما على فوائض الاقتصاد الإقليمي الريعي، التي تتجاوز بما لا يقاس ما ينجم عن فرص الاستغلال الداخلية. لذلك لن يتردد المسؤولون السوريون، عندما كان الآخرون يذكرونهم بتبدل أوضاعهم المعيشية من النقيض إلى النقيض، وانتقالهم من حالة الفقر إلى الإثراء، في القول إن ثرواتهم وثروات أقاربهم الطائلة ليست منتزعة من الداخل وإنما ذات مصادر خارجية. فهي بالفعل ثمرة العلاقات الزبائنية التي أقامتها فئات عديدة من النخبة مع بلدان الخليج وشيوخه الأغنياء، كما هي ثمرة توسيع دائرة التجارة الدولية بالسلاح والمخدرات، وعوائد المشاركة في الحروب، ووضع اليد على بعض ثروات ومصالح النخب القديمة. ومن هنا لن يخامر هؤلاء الذين انتزعوا السلطة باسم الفقراء والعمال والفلاحين، وضد الاستغلال، ولم يتركوا صفة سلبية لم يلحقوها بالبرجوازية القديمة، أي تأنيب ضمير من جراء انخراطهم في سياسات الإثراء الشخصي على نطاق لم تعرفه أي نخبة سابقة. بل لقد نشأ لديهم بدل ذلك شعور قوي بالرضى عن النفس وربما بالعظمة أيضا. فهم لم يبنوا ثرواتهم عن طريق استغلال العمال والفلاحين، وإنما قاموا بإدخال مزيد من الثروات إلى البلاد، بصرف النظر عن طبيعة هذه الثروات ومصادرها والمستفيدين منها. وبسبب ذلك، نما لدى هؤلاء من دون شك شعور بأن لديهم الحق الكامل في التصرف بها كما يشاؤون. وكان هذا هو المدخل لسياسات التبذير والتساهل مع إنفاق الموارد العامة، وكذلك لتبرير سياسات التوزيع الواسع على أصحاب الولاء، من الأقارب والمحاسيب والازلام، مما يبدو في المعايير الدولية ونظر الرأي العام، بمثابة تعميم للفساد وهدر المال العام وتبذير الثروة الوطنية على مشاريع غير منتجة ولا قيمة اقتصادية أو اجتماعية لها[15].
. وشيئا فشيئا سوف يتحول الشعور بالانجاز الكبير إلى ما يشبه حق الفتح في الامبرطوريات التاريخية، ويصبح مصدرا لتميز اجتماعي وطبقي شبه ارستقراطي، ومن ثم لتبرير سياسات احتكار السلطة وتأبيدها.
لكن سرعان ما ستنتقل أساليب التسلطية الخارجية الحبلى بالعوائد، وكذلك أشكال اقتسامها مع مافيات المال والأعمال الحليفة هنا وهناك، إلى الداخل لتطبق على العلاقة مع المنتجين المحليين، فتولد السيطرة الخارجية علاقة سيطرة داخلية من نوع جديد يتحول فيها السكان بالفعل إلى رعايا في سلطنة لها كل سمات السياسات الامبرطورية، من السلطة الاتوقراطية الشخصية، إلى تعميم علاقات الولاء لها في ماوراء مؤسسات الدولة، وجعل الفتوحات الخارجية الأجندة السياسية الوحيدة للدولة والنظام، وتحويل العمل إلى سخرة والأجور والمرتبات إلى مكرمات. وهذا ما سيدشن أسلوبا جديدا أيضا في تعبير الشعب عن الولاء والخضوع للأب القائد والملهم، ستتجلى من خلال حفلات الرقص والدبك والتغني بخصائصه وإنجازاته وأفضاله ونعمه في كل مناسبة. وستتحول هذه الاحتفاءات الذاتية بالعيش في ظل رئيس استثنائي لا مثيل له ولا قرين، إلى أعراس جماعية تحل محل الأعياد والاحتفالات الوطنية وتقضي عليها.
4- ثمن الامبرطورية
لا يمكن فصل هذا التطور عن سياق الصراع الطويل الذي طبع العلاقات داخل المنطقة بين الحركات الوطنية والقومية العربية عموما وإرادة السيطرة الاستعمارية، وفي الحقبة الأخيرة الأمريكية الاسرائيلية بشكل خاص. والواقع أن ما حصل في سورية لا يختلف كثيرا عما حصل في العراق. وهو ما يشكل سمة خاصة بتطور النظامين البعثيين في البلدين المتجاورين. فقد عمل الصراع الطويل من دون نتيجة واضحة بين النظم القومية التي نشأت في المنطقة المشرقية والإمبريالية الأمريكية والاسرائيلية على إجهاض الوطنية المحلية ووضعها في طريق مسدود، وولد عند النخب الحاكمة، كرد فعل وكتعويض عن الإنجازات الوطنية معا، ميولا إمبريالية داخل هذه النظم نفسها، تمثل، في الوقت نفسه، ترجيعا لأصداء الإمبريالية الأم وتمثلا لأساليب عملها وأنماط تصرفها، ومنافسة لها على احتلال موقع الوصاية الاستراتيجية الإقليمية.
كما لا يمكن فصل هذا التطور عن السياق الإقليمي والمحلي أيضا. فلم يكن من الممكن بالتأكيد، ولا كان من المتاح تكوين طبقة شبه ارستقراطية، أو بالأحرى ريعية – تنقصها تقاليد وقيم النبالة الكلاسيكية - وإعادة إنتاجها، من دون توفر ظروف اقتصادية واستراتيجية وسياسية استثنائية، في مقدمها ترنح الامبرطورية السوفييتية في نهاية عصر الحرب الباردة وزيادة اعتمادها لتأكيد نفوذها على توابعها، وانهيار الحركة الناصرية القوية التي سيطرت على المشرق العربي خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، والازدهار الملفت للاقتصاد الريعي في عموم المنطقة بعد الارتفاع الذي طرأ على أسعار النفط منذ عام 1973، وأخيرا فشل نظم الأبوية العشائرية الغنية في الخليج في الخروج من شرنقتها وتطوير سياسات تنمية إقليمية تساعد على ملء الفراغ الذي تركه انحسار الحركة القومية الشعبية والشعبوية معا، واعتمادها بالمقابل، في سبيل الحفاظ على الاستقرار والأوضاع القائمة، على رشوة النخب العربية المحيطة، ومشاركتها في النهب العائلي للعوائد النفطية.
ومن هذه الظروف أيضا الفراغ الايديولوجي الذي تركه انحسار العقيدة القومية العربية، وسهولة مصادرتها، بعد انفصالها عن قاعدتها الشعبية، من قبل النظام لغايات بناء الامبرطورية. فلم يساعده استملاك هذه الموارد الرمزية على إبراز سياسات التدخل في شؤون الأطراف العربية الأخرى على أنها تهدف إلى تحقيق مصالح الأمة العربية بأكملها فحسب، وإنما، أكثر من ذلك، على اكتسابه شرعية إضافية، كونه النظام العربي الوحيد الذي لا يزال ينطلق في سياساته من عقيدة قومية. فلم يعد التدخل في الشؤون الداخلية للأطراف العربية حقا لأصحاب النظرة الوطنية، ولكنه أصبح أيضا واجبا للدفاع عن المصالح العربية وتأكيدا على قومية السياسة السورية وبرهانا عليها. ولذلك لن يتردد النظام في الدخول في نزاعات عنيفة مع اطراف عربية لصالح أطراف أخرى، ولا في شن الحرب الطويلة على العرفاتية داخل منظمة التحرير وخارجها[16]، في نطاق الكفاح المستمر ضد الأمبريالية.
وقد ظهرت النتيجة الرئيسية لهذه السياسة الامبرطوية أو السلطانية في التبدل العميق الذي طرأ على مفهوم المصلحة الوطنية وإعادة تعريفها في اتجاهين: اختزالها إلى أجندة ذات بند واحد هو تأمين شروط المواجهة الاستراتيجية، كما برز من خلال تركيز خطاب السلطة الدائم على "الهجمة الأمبريالية" وتركيز محور الجهد على العلاقات الخارجية. ثم مطابقتها الشكلية مع المصالح العربية القومية. والواقع بقدر ما تصبح الوطنية مساوية لمعاداة الاستعمار والصهيونية أو لمقاومة قوى الرجعية والاستسلام العربية، سيكون من الصعب التمييز بين الأجندة الوطنية السورية والأجندة العربية، أي الأجندة الوطنية لشعوب لبنان وفلسطين والأردن والعراق إلخ.
وما كان من الممكن للتركيز المستمر على مسألة الصراع الإقليمي والدولي إلا أن يقود إلى إخضاع جميع المصالح الاجتماعية والوطنية العديدة، بل التضحية بها، لصالح مصلحة واحدة وحيدة هي التي تنسجم مع ضمان استمرار النفوذ الخارجي وما يرتبط به من عوائد سياسية واقتصادية ورمزية تضمن سيطرة النخبة الحاكمة وإعادة إنتاجها. من هنا ستفقد السياسة الداخلية معناها وقيمتها، ولن تعود هناك أي أهمية لتحقيق تنمية إقتصادية تعمل على تحسين شروط حياة السكان، او على خلق فرص عمل أو تحديث الدولة والإدارة، أو تطوير الخدمات الاجتماعية الضرورية، من صحة ونقل وتعليم وتأهيل مهني. ولن يبقى هناك وقت كي تعنى الدولة بتطبيق القانون أو بضمان تمتع الأفراد بأمنهم وسلامتهم، وممارسة الحد الادنى من حقوقهم المدنية والسياسية. فجميع ذلك لم يعد يدخل في دائرة المصالح الوطنية، ولكنه أصبح تجسيدا في نظر المسؤولين لمصالح خاصة وثانوية، تعنى بشروط حياة الأفراد اليومية، ولا تفيد في تحديد مصائر الدول والأمم والشعوب التاريخية، ولا في زيادة فرص التفوق والسيادة والندية ومقارعة القوى العالمية. هكذا تغير معنى الوطنية ومقياسها، وامكن تجريد شعب كامل من حقوقه السياسية والمدنية. فصار كل ما لا يخدم المواجهة مع الإمبريالية وحلفائها العرب، ليس مصلحة وطنية، وربما ادى الاهتمام به إلى الانشغال عن بناء الاستراتيجية الكبرى التي تحتاج إلى مراكمة كل ما يمكن من اوراق داخلية وخارجية لبناء أوضاع إقليمية جديدة وسمت في وقتها باسم التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل. وفي هذا التساهل الكامل مع حاجات المجتمع الأساسية يكمن سر الجمود والتأخر، والوصول إلى الحالة المزرية التي وصلت إليها البلاد على الأصعدة الاقتصادية والتقنية والإجتماعية والعلمية، بالمقارنة حتى مع المناطق التي تمارس فيها سيطرتها ونفوذها[17].
وقد شكلت هذه السياسة الخارجية من دون شك قناعا اختفت وراءه التحولات العميقة التي كانت تحدث في صلب النظام البعثي نفسه، وتدفع به بعيدا عن منطلقاته الاجتماعية، الاشتراكية والقومية، في اتجاه بناء بنية اقتصادية وسياسية وايديولوجية ملكية أو سلطانية، وتكوين الإقطاعات الخاصة المرتبطة بها، وتأمينها ضد أي شكل من أشكال المراقبة او المحاسبة أو النقد. فبينما كان الرئيس منشغلا بقضايا الحرب والسلام وبناء التحالفات الخارجية، التي أصبحت مشروعه الخاص والشخصي، لم يبق لدى أتباعه ومساعديه ومريديه الأوفياء الذين اختارهم من بين المقربين والأقارب ما يشغلهم عن بناء امبرطورياتهم الخاصة ولا ما يحد من قدرتهم على وضع اليد على موارد البلاد ومصالحها. وسرعان ما تحول هؤلاء، في ظروف تمديد حالة الطواريء والقوانين العرفية وغياب الحياة السياسية وسيطرة الأجهزة الأمنية، إلى مراكز استقطاب للولاءات الشخصية، ونجحوا في تكوين إمارات حقيقية قائمة بذاتها، وكونوا لأنفسهم، من القوات العسكرية أو خارجها، ميليشياتهم الخاصة والضاربة، المجهزة بسجونها وأدوات سيطرتها التابعة لها[18]. وقد أدرك هؤلاء جميعا الفائدة الكبيرة التي يمكنهم جنيها من وراء تعميم صورة الرئيس القائد والزعيم الملهم القائم بنفسه ولوحده على شؤون البلاد والعباد جميعا، وتخليد فكرة المواجهة الخارجية، وفي ما بعد فكرة المقاومة والممانعة، في سبيل تأبيد الأوضاع الاستثنائية وتكريس أنفسهم أوصياء على المجتمع، في فكره ومشاعره وأحلامه وآماله، التي طمحوا إلى أن يصوغوها له بأنفسهم. كما سعوا، بجميع ما يملكونه من وسائل، إلى منع أي تغيير أو إعادة نظر في السياسات والقوانين واللوائح التي ارتبطت بنشأة النظام، وحفظت لهم مواقعهم والمناصب التي يحتلونها ويطمحون إلى توريثها لأبنائهم ومن والاهم أو تبعهم.
ومع مرور الزمن، وترسخ قوة النظام، سينتقل هذا المفهوم الجديد للوطنية الذي يقوم على التعبير الدائم والواضح عن الولاء للنظام ورئيسه وخياراته، بصرف النظر عن سلوك الفرد الاجتماعي والقانوني ومواقفه الأخلاقية وأعماله، إلى قطاعات واسعة من أصحاب المناصب والإدارات العمومية. فيقضي لديهم على أي شعور بمسؤوليتهم العامة، أي تجاه المواطنين الآخرين والدولة معا، ويحررهم من أي التزام أو اهتمام بمصير هؤلاء ومستقبلهم. فقد غاب الناس تماما عن أعين المسؤولين صغيرهم وكبيرهم، وأصبح واجب الجميع الرئيسي طاعة أولى الأمر، وترداد شعاراتهم والسير في مسيراتهم. ولأنه لم يعد للمصالح المجتمعية المختلفة أي ذكر ممكن في أجندة الوطنية وسجلها، لم يعد لها مكان أيضا وبالضرورة في أجندة النظام "الوطني".
وشيئا فشيئا سيفقد الشعب نفسه حسه السياسي الحديث، الذي ينظر إلى الدولة بوصفها أداة التنظيم الجماعي، وإلى السياسة كمجموعة من الصلاحيات والمسؤوليات. وسينكص نحو مفاهيم قرسطوية تختزل الدولة في القوة والسلطان، ولا يرى لنفسه دورا في تغيير الأحوال سوى الدعاء للحاكم بمزيد من القوة والتأييد الإلهي. ولم يعد الجمهور يرى في تدهور شروط المعيشة وزيادة الفقر والبطالة، وتفاقم الفساد وسوء الإدارة، وتسيب اجهزة الدولة، واحتكار ضباط الجيش والأمن القرارلت السياسية، وتحكمهم بتوزيع موارد البلاد، ثمرة لسياسة الدولة ولا نتيجة لتخليها عن مسؤولياتها، وإنما كارثة طبيعية، وفي أحسن الأحوال مصاعب مؤقتة سببها الضغوط الخارجية.
والنتيجة تحييد المجتمع والرأي العام وإخراجهما نهائيا من الصورة السياسية. ومن ثم استفراد النخب الحاكمة بالسيطرة على موارد البلاد ومطابقة حكمها ومصالحها مع المصالح الوطنية، وتجاهل مصالح الفئات الأخرى أو اعتبارها ثانوية، من الممكن تأجيلها، وبالتالي إلحاقها مؤقتا بمصالح العاملين لاسترجاع الكرامة والأرض المحتلة. ومع تراجع الامل في تحقيق هذا الهدف ومرور عقود طويلة عليه، زاد ميل المكلفين بتسيير الدولة والاقتصاد، من إداريين وعسكريين ورجال أمن ومسؤولين حزبيين ونقابيين بيرقراطيين، إلى استثمار الوضع الاستثنائي وقانون الطواريء، وما تبعه من استبعاد كامل للمجتمع والشعب من الحياة العامة، لخدمة مصالحهم الشخصية وتعزيز إمبرطورياتهم العسكرية والسياسية والمالية والجنسية أيضا. وشيئا فشيئا تحول هؤلاء إلى أمراء حرب في حلة جديدة، ومن دون حرب، سوى عبر الإذاعات والتلفزيونات والخطابات العامة. وصاروا يسلكون في علاقتهم مع الدولة والمجتمع كإقطاعيين يتحكمون بإداراتهم ومواردها، ويتصرفون بها كما لو كانت من أملاكهم الشخصية[19]. هكذا انفلتت السلطة من أي قيد، وفقد المسؤولون أية معايير معروفة وواضحة للتعامل مع السلطة والتصرف بالمؤسسات ودوائر الدولة وتنظيم شؤونها. واختلطت المصالح الشخصية والرسمية، والسياسة بالقرابة، والقانون بالاستثناء، والوطنية بالخيانة الاجتماعية. ولم يبق أثر للقواعد والقيم والمعايير التي لا تقوم من دونها جماعة مدنية أو سياسية.
لقد أنتج نشوء شبه الامبرطورية، مهما كانت مواردها وإمكاناتها، عالما جديدا مختلفا كليا عن عالم الثورة الاجتماعية الذي ساد في حقبة البعث الأولى، التي تستحق بحق أن تسمى حقبة البعث الساذجة. وفي العالم الجديد الذي ولد من رحم السياسة الامبرطورية، انقلبت الأفكار والقيم رأسا على عقب، وأصبح الإثراء هو القيمة العليا، بينما صار التمسك بالمباديء السياسية أو الأخلاقية رديفا، في نظر الطبقة الجديدة، للغباء والبلادة[20]. ولم تتردد بسبب ذلك في ايداع أصحاب هذه المباديء السجون حتى وفاتهم أو خروجهم على مشارف الموت. وبعد أن كان الوصول إلى الحكم وسيلة لتطوير الدولة والمجتمع والارتقاء بهما نحو عالم الحرية والعدالة والمساواة الإنسانية، كما تشير إليه أدبيات الحزب الحاكم وعقيدته، أصبح الاحتفاظ بالسلطة هدفا قائما بذاته لما يضمنه من الأمن والاستقرار، أي لضبط المجتمع ومواجهة مخاطر تمرده.
5 – في أسباب فشل سياسة الهيمنة الإقليمية
لكن لن يطول الوقت قبل أن تدخل السياسة الامبرطورية وتدخل سورية معها في مازق عميق. فلا موارد البلاد كافية لمتابعة مثل هذه السياسة، ولا النفوذ الخارجي الكبير الذي تحقق في العقود الماضية قائم على قوة ذاتية حقيقية. ومع تغير الظروف سوف تصبح هذه السياسة أكثر فأكثر عبئا على أصحابها. وهكذا، بعد أن كانت الأوراق الإقليمية، أي أدوات الضغط والنفوذ والتحالفات الخارجية وسائل لتحقيق أهداف قومية ووطنية عليا، تحولت هي نفسها إلى هدف وغاية في ذاتها. وصارت مصدرا للخلافات والانقسامات وتفتيت الجهد الوطني والقومي وإثارة الفتن والنزاعات والحروب. فقد تغيرت شروط الصراع ولم تعد الأساليب القديمة صالحة لتحقيق الاهداف ذاتها. وهذا ما يفسر لماذا تتخذ السياسة بشكل أكبر صورة المغامرة والمقامرة المستمرة، وتدفع سورية إلى التورط في مزيد من النزاعات مع أشقائها وأصدقائها، بينما لا تتوقع المخرج إلا في السلام الموهوم مع أعدائها.
كانت سياسة الهيمنة الإقليمية السورية مقبولة طالما لم تكن تهدد مصالح استراتيجية حقيقية للدول الكبرى أو لإسرائيل. وكان المعسكر الاسرائيلي الأمريكي الأوروبي ينظر إليها كما لو كانت نوعا من التعويض لسورية عن غياب آفاق تسوية سياسية تمكنها من استعادة الجولان، بعد توقيع القاهرة على اتفاقات كمب ديفيد (17 سبتمبر 1978)، وفي الوقت نفسه غياب أي مشروع لإعادة تنظيم الشرق الأوسط أو التفاهم عليه من قبل الدول الكبرى. بل إن هذه الدول قد وجدت، في النزوع السوري إلى الهيمنة الإقليمية دورا ايجابيا كبيرا في سياق الافتقار لهذا التفاهم وغياب السلام. وحاولت أن تستوعبه في سعيها إلى دعم الاستقرار على أرضية الحفاظ على الأمر القائم. وهكذا أقر لدمشق بدور ايجابي في لبنان بالرغم من دعمها لحزب الله ونشاطاته المعادية لاسرائيل. كما تم التساهل معها في تحالفها مع الأطراف الرديكالية في المقاومة الفلسطينية، طالما كان ذلك يتم من حساب الأطراف العربية الأخرى وليس على حسابها.
بيد أن الامر تغير تماما منذ أن أقرت الإدارة الامريكية مشروعا جديدا لتحقيق الاستقرار الذي تنشده ويضمن مصالحها في الشرق الأوسط، وتفاهمت مع تل أبيب على حسم مسائل النزاع العربي الاسرائيلي، والخروج من حالة اللاحرب واللاسلام التي سادت في العقود الماضية، لصالح دعم الخيارات الاسرائيلية والقضاء النهائي على آمال تحرير الأراضي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي ربطتها بوجود القومية العربية. وسوف يحصل هنا ما حصل مع تركيا من قبل، أعني العمل على انتزاع الأوراق الإقليمية من يدي سورية بالتهديد والضغط، وإجبار دمشق على الإنكفاء على حدودها الوطنية. كان هذا الهدف واضحا منذ بداية الهجوم الأمريكي في مطلع العقد الأول من هذا القرن، ثم تحول إلى هدف للسياسة الغربية بل الدولية، بعد أن انضمت باريس إلى واشنطن في رعاية قرار مجلس الأمن القاضي بانسحاب الجيش السوري من لبنان 1557. وتحول هذا الهدف إلى واقع عند تحقيق الانسحاب عمليا، بعد مقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري عام 2005. وفي سياق القضاء على أي أمل يراود دمشق في الاستمرار في استخدام لبنان كورقة مناورة استراتيجية في الصراع من أجل الجولان، جاءت حرب يوليو الاسرائيلية على حزب الله عام 2006. وبالرغم من أن هذه الحرب لم تأت بنتائج حاسمة بالنسبة لاسرائيل والولايات المتحدة، إلا أنها نجحت في جعل المسألة أكثر صعوبة بالنسبة لدمشق، مع تصويت مجلس الامن على القرار 1757 الذي يقضي بوضع قوات دولية على الحدود الاسرائيلية اللبنانية ويطالب بنزع سلاح المقاومة وتأكيد استقلال لبنان.
ولا يختلف مصير هذه السياسة التدخلية في فلسطين. فقد استخدمت دمشق المعارضة الفلسطينية خلال عقود طويلة لتضيق من هامش المبادرة السياسية لدى منظمة التحرير الفلسطينية، ثم لدى السلطة الفلسطينية النابعة من اتفاقات أوسلو. وقد نجحت في أن تمنع هذه السلطة من السير بعيدا عنها أو من التوصل إلى تسوية تضر بمصالح سورية. غير أن الانقسام العميق الذي حصل داخل الصف الفلسطيني وقاد حماس إلى السيطرة على غزة وطرد عناصر فتح وتكوين ما يشبه السلطتين المستقلتين في غزة والضفة الغربية، قد غير معالم اللعبة السياسية كلها لغير صالح دمشق، واضطرها إلى تأكيد نفيها لسياسة استقلال حماس بالسيطرة على القطاع.
ومن الواضح إذن أن هذه السياسة القائمة على استخدام النفوذ داخل الأطراف العربية لمنع تسويات محتملة لا تراعي أسبقية المصالح السورية قد وصلت إلى طريق مسدود. وما كان من الممكن أن تقود إلى طريق آخر. والسبب أنها قامت على خيارات سلبية، تراهن على الاستفادة من نقاط ضعف الخصم لزيادة نفوذها وقدرتها على المبادرة، بدل أن تراهن على بناء سورية قوية من الداخل، أي أن تقوم على مراكمة القوة الذاتية. وهي لم تعش طويلا في الواقع إلا لأن القوى الدولية الفاعلة قد غضت النظر عنها، طالما كانت لا تتعارض مع استراتيجيتها الإقليمية والدولية، بل تنسجم في الكثير من الأحيان معها. ولهذا السبب أيضا ما كان من الممكن لها أن تحقق الغاية المنشودة منها، أي تقريب سورية بشكل أكبر من احتمال تحقيق أهدافها الوطنية، وفي مقدمها استعادة الجولان، وإنما أبعدتها بشكل أكبر عنها. فلم تكن غايتها بالنسبة للدول الكبرى التي تعاملت معها تحقيق مثل هذه الأهداف، وإنما التعويض عن ذلك بمظاهر العظمة والنفوذ والقوة الفارغة التي تسمح للنظام، الباحث عن مصدر للشرعية والشعبية معا، أن يعزز مواقعه الداخلية، ويكرس سلطته السياسية. وهذا ما حصل بالفعل. فلم تساهم هذه الاوراق الإقليمية، بالرغم مما أنفق في سبيل مراكمتها وصيانتها من تضحيات بشرية ومادية ومعنوية، في إحراز أي تقدم في تحقيق الأهداف الوطنية.
وقد قاد السعي إلى الاحتفاظ بها منذ السنوات الأولى من هذا العقد، والرهان على استعادة ما فقد منها، سورية إلى نزاع وحرب مفتوحة مع قوى وأطراف عربية وإقليمية ودولية عديدة، كما دفع بها ولا يزال إلى تبني خيارات استراتيجية جديدة للدفاع عن سياستها تضر بمصالحها العميقة وتهدد مستقبلها. وكان من الواضح، بعد خروج القوات السورية من لبنان، أن على دمشق أن تعيد النظر في فكرتها عن الأوراق الإقليمية التي يستهدفها المذهب الاستراتيجي الأمريكي الجديد الذي لا يريد لواشنطن شركاء في الشرق الأوسط باستثناء إسرائيل، وإلا فإنها سوف تغرق في معركة الدفاع عنها وتجعل منها عبئا عليها بدل أن تكون رصيدا لها. فبدل أن تعزز هذه السياسة موقع سورية وتزيد من قوتها في إقليمها، أصبحت مصدر المخاطر الأكبر عليها، بقدر ما رهنت مصير سورية ومستقبلها لمعركة الدفاع عن أوراق ليس فيها أي فائدة استراتيجية، بل لم تعد موجودة أصلا، وتحولت إلى ذرائع لفرض العزلة العربية وتبرير التدخلات الأجنبية.

6 – إعادة تعريف المصالح الوطنية السورية
لكن ما كان من الممكن لمثل هذه السياسة أن تستمر وتتجنب النقد والمراجعة، لولا نجاحها في تسويد مفهومها المختزل للمصالح الوطنية السورية. فقد تلخصت هذه المصالح في نظرها في تأمين دور فاعل للنظام في المحيط الإقليمي والدولي، على أمل أن يساهم ذلك في خلق شروط استعادة الأرض المحتلة. وانتهت في آخر المطاف في المحافظة على مظاهر القوة والعظمة الشكلية. والحال أن لسورية مصالح وطنية متعددة ومتنوعة لا يشكل توسيع النفوذ الإقليمي ولا حتى استعادة الأرض المحتلة وتأكيد السيادة الوطنية، أي ما يمكن أن نجمله تحت اسم المصالح الاستراتيجية. والتضحية ببقية المصالح، او تجاهلها لحساب نوع واحد منها، حتى لو كان أساسيا وذا أسبقية، لا يضر بسورية وشعبها فحسب ولكن بالمصالح الاستراتيجية ذاتها. فالبلد الذي يفقد فرص التنمية الاقتصادية وتترهل مؤسساته الإدارية والقانونية والعلمية والتقنية، وتتفاقم فيه التوترات والتناقضات والانقسامات الطائفية والسياسية والمذهبية، وتتراجع إرادة أبنائه في الحياة المشتركة، وتغيب روح المسؤولية عنهم، وتتخبط قواه وتتنازع في ما بينها بسبب غياب قواعد واضحة ومقبولة للعمل والتنافس على السلطة وعلى مناصب المسؤولية والوظيفة، وتنهار قدراته على خلق فرص العمل واستيعاب الأجيال الجديدة وتأهيلها وتقديم إطار مقبول للحياة الإنسانية لها في وطنها، وتزيد فيه مظاهر الفقر والبؤس والبطالة، وتنحط ثقافة سكانه ومعارفهم وسلوكهم، وتسوء علاقاته مع جيرانه والمنظومة الدولية، ويصبح مثالا للفشل في تأمين شروط الحياة الكريمة لأبنائه، يفقد بالضرورة أي أمل في الاحتفاظ بقدراته الاستراتيجية ونفوذه الإقليمي والدولي.
هذا يعني أن مصالح سورية الاستراتيجية، سواء نظر إليها من زاوية المقاربة الواقعية السياسية أو من زاوية المثالية القومية، لا ينبغي أن تطمس المصالح الوطنية الاخرى التي لا تقل أهمية عنها، ولا أن تكون ذريعة للتضحية بها. وهو ما حصل للأسف خلال العقود الطويلة الماضية التي تحكمت فيها فكرة استعادة الأرض المحتلة ومواجهة التحدي الاسرائيلي، اعتقادا بأن كل المصالح الأخرى تستطيع وينبغي أن تنتظر حتى تتحق المصلحة الأكبر والأبدى. وقد كان لهذا الخيار الذي طبع حكم الرئيس السابق حافظ الأسد بأكمله منطقه في مرحلة تفجر فيها النزاع العربي الاسرائيلي، على شكل حروب متواصلة، وساد فيها، بعد توقيع اتفاقيات كمب ديفيد بين مصر وإسرائيل، في نهاية السبعينات، الاعتقاد بأن المنطقة تعيش لحظة الحل النهائي للنزاع العربي الاسرائيلي الطويل، وفي موازاته انفجار حرب التسوية بين الأطراف العربية التي تريد انقاذ نفسها بحلول منفردة على الطريقة المصرية، وتلك التي تسعى إلى إحباطها لصالح تسوية شاملة.
لكن الوضع تغير الآن. فلم يعد نوع التسوية، منذ انهيار أسسها في جنيف عام 2000، موضوعا رئيسيا للصراع، بل لم تتحقق وليس في الأفق على ما أظن أي مشروع تسوية نهائية لا شاملة ولا منفردة، لا في فلسطين ولا في سورية ولا في لبنان. وبالإضافة إلى ذلك، زاد ضغط التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتغيرت الأجندة الوطنية. فلم يعد أحد منا يعتقد بأن تحرير الجولان هو المدخل إلى التنمية الاقتصادية أو إلى تحسين شروط العدالة الاجتماعية والاعتراف بالحقوق الطبيعية المدنية والسياسية للمواطنين. بل لقد انعكس الأمر تماما فصار الرأي العام السوري يعتقد بأن تحقيق التنمية والرد على حاجات المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتعزيز الوحدة الوطنية وبناء سورية قوية سياسيا واقتصاديا، هو المدخل إلى تحرير الجولان. ولا يعني القول بأن أجندة التنمية الانسانية هي التي تسيطر اليوم على مجتمعنا أنه لم يعد هناك أهمية للقضية الوطنية الخارجية، أو أن تحرير الجولان وحماية الاستقلال أقل أهمية من خلق فرص العمل للشباب العاطل والمهدد بالضياع. فليس الأمر استبدالا لهدف بهدف آخر، وإنما تحديد نظام الأولويات الذي يؤمن تحقيق الأهداف المترابطة والضرورية جميعا. وهو يعني أن تحرير الجولان وحماية الاستقلال والسيادة الوطنية يمران اليوم حتما عبر بناء القدرة الذاتية وتحرير المجتمع وإطلاق طاقاته ودفعه إلى المشاركة في المسؤولية والتضحية من أجل إخراج البلاد من الأزمة التي تعيشها. ومن دون ذلك لن يكون الحديث عن تحرير الجولان وحفظ الوحدة والسيادة الوطنيتين، بالرغم من الأهمية الاستثنائية التي يتمتعان بها، إلا دعاية سياسية لا أمل في تحقيقها على أرض الواقع. والسبب أن أحدا لا يهتم بتحقيق سلام مع بلد فاقد لأسباب القوة والمنعة الداخلية، مهما كانت قوة الاوراق التي جمعها أو يمكن أن يجمعها في الخارج.
والحقيقة إن ما ميز عهد الرئيس بشار الأسد وجعل منه محط آمال قطاعات واسعة من الرأي العام هو تركيزه منذ البداية على هذه الأجندة الوطنية المخفية، واستعادة ذاكرتها بعد أن دفنت تماما تحت ركام "الحروب القومية". فقد أدرك بحدس رجل السلطة أنه لا يستطيع أن يحلم بتكوين مصدر قوي للشرعية مع الاستمرار على النهج القديم، الذي لم يثمر في ايجاد حل لمسألة احتلال الأراضي السورية ولكنه عمل على تفاقم مشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهكذا استبدل بشعارات الحكم القديم البالية شعار الاصلاح والتطوير والتحديث الذي يركز الجهد جميعا على إعادة البناء الداخلي، والاقتصادي منه بشكل خاص، ليبعث الحياة في مجتمع كاد يفقد الأمل بالعودة إلى الحالة الطبيعية، بما تعنيه من اهتمام الدولة بتحسين شروط حياة السكان المادية والمعنوية، والاهتمام بتوفير فرص العمل للشباب، وبناء المؤسسات السياسية والقانونية الضرورية لتنظيم الحياة الاجتماعية، وإدماج السكان في حياة مدنية سليمة، قائمة على استيعاب مفهوم الحقوق والواجبات، وتأسيس القاعدة العلمية والتقنية لمواجهة تحديات الاندماج في دورة الاقتصاد والحضارة العالمية. ومما زاد من الشعور بالأولويات الداخلية العجز المتراكم في إصلاح الأحوال والمؤسسات وقواعد العمل خلال عقود طويلة متتالية من التركيز على المسألة الوطنية الخارجية[21].
وانطلاقا من أولويات الاصلاح اكتشفت السلطة البعثية فضيلة السياسة الاقتصادية الليبرالية، ولم تر حرجا في تطبيقها، بعد أن كان الحديث فيها يثير أزمة داخلية. وفي السياق نفسه تم التأكيد على الخيار الاستراتيجي السلمي لحل مسألة الجولان، ووجهت الدولة جهدها في السنوات الأولى من العهد الجديد نحو برامج تؤكد مضمون الأجندة الوطنية الجديد: تطوير المصالح الاقتصادية (التنمية الانسانية) والاجتماعية (الفقر والبطالة وإعادة توزيع الثروة والدخل عن طريق الاهتمام بالنظام الضريبي وتحسين الخدمات الاجتماعية من تعليم وتأمين صحي وتأهيل مهني)، والسياسية (الانفتاح على المجتمع والبحث عن صيغ لاستيعاب قوى جديدة، بل الحديث عن تعددية حزبية تضمن التعاون بين الأفراد وتحويل النزاعات المفتوحة إلى منافسة على أسس وقواعد قانونية وأخلاقية).
وارتبطت بتطبيق هذه الأجندة الوطنية الجديدة، توجهات موازية في العلاقات الخارجية. فلم تعد العلاقة مع أوروبة ولا الدول الرأسمالية، ولا التعاون مع الولايات المتحدة الامريكية نفسها، يثير تساؤلات أو ردودا سلبية. وقاد الشعور بنقص الخبرة والكفاءة، نتيجة إهمال قضايا التنمية والتطوير والبحث في العقود الطويلة الماضية، السلطات إلى طلب المعونة الخارجية في سبيل تحقيق الاصلاحات الداخلية وتحديث القطاع المصرفي والإدارة والقضاء. ولم يشعر أحد، لا في الحكم ولا في المعارضة ولا في النظام، بأن مثل هذه المساعدة تشكل تهديدا أجنبيا أو تمثل مدخلا للنفوذ الخارجي. وشاركت سورية في مفاوضات الشراكة الأروبية المتوسطية وقدمت تنازلات كثيرة من أجل توقيع الاتفاقية السورية الاوروبية[22].
تغير الوضع فجأة وحدث ما يشبه الانقلاب الزاحف على الخيار الإصلاحي، بدأ مع الحرب الأمريكية على العراق والقضاء على نظام البعث فيه عام 2003، وأنجز تماما بعد انحياز باريس، التي كانت دمشق لا تزال تراهن عليها في الاستمرار ولو جزئيا في برامجها الاصلاحية، إلى جانب واشنطن وتبنت معها مشروع القرار الذي يطالبها بالخروج من لبنان واحترام استقلاله وسيادته. ومنذ ذلك الوقت عاد النظام إلى آليات الحكم والعمل نفسها التي كانت متبعة خلال العقود السابقة. فحاول فرض الأجندة القديمة التي تركز الجهود من جديد على مسألة السيادة الخارجية على حساب المصالح الوطنية الكبرى الأخرى، وتعيد أو تستعيد في السياق نفسه أجواء المواجهة والحرب القومية.
لكن بعكس ما كان عليه الحال خلال العقود السابقة من حكم الرئيس حافظ الأسد، تحمل هذه العودة إلى الأجندة القومية التقليدية في الظروف الراهنة مخاطر كبيرة على النظام نفسه. فهي تأتي في سياق تحرير للاقتصاد أحدث تحولات عميقة في بنياته وقواعد عمله وطبيعة القوى التي تتحكم بقراره. وإذا استمرت ديناميكيات التحرير والتحولات هذه في إطار النظام السياسي والقانوني، أو بالأحرى غير القانوني، القديم نفسه، أي في إطار السيطرة البيرقراطية الشكلية والفاسدة معا، ولم يرفد ببناء مؤسسات سياسية وإدارية موازية، قادرة على ضبطه وتوجيهه، فسوف تكون النتيجة فوضى اقتصادية واجتماعية عارمة. ثم إن العودة إلى مثل هذه الأجندة القومية لم تعد مقنعة، حتى بالنسبة لأولئك الذين يتمسكون بمكاسب سورية الإقليمية ويؤيدون استمرار المقاومة للضغوط الاجنبية. فهي لن تخفف موضوعيا من أولوية المصالح الاقتصادية والاجتماعية والتنموية عموما ولا من ضغطها، ولكنها توهم بتخفيفها، وتحرم نفسها من رؤية ما ينجم عن تجاهلها من تناقضات وتحولات عميقة تجرى على مستوى القوى الاجتماعية، من وراء مظاهر التأييد والتاكيد على أولوية المعركة القومية. وسوف تظهر السياسة الجديدة القديمة، أكثر فاكثر، على أنها وسيلة للتغطية على التراجع عن الوعود بالاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، من كونها ردا مبررا على تهديدات ومخاطر خارجية حقيقية. ومن المحتمل أن لا يفسر التشديد على موقع النظام ونفوذه الإقليمي وقوته التدخلية المرتبطة بهذه السياسة على أنه برهان على استعادة النظام شوكته، وإنما كدليل على اختيار النظام وضع مصالح الحفاظ على بقائه، كما فعل بعد حرب يونيو حزيران 1967، قبل مصالح الدولة والمجتمع وفي مواجهتهما. وهذا هو اختيار الهرب إلى الأمام المناقض تماما للخيار الأول الصحيح الذي أعطى للرئيس الجديد كثيرا من التأييد والشعبية في بداية عهده.
7 - نحو سياسة خارجية ايجابية
لم تكن السياسة الهيمنية القائمة على التلاعب بأوراق الآخرين الإقليمية واللعب على تناقضاتها منتجة في العقود الماضية وليست ناجعة أكثر اليوم. وإذا كانت قد قادت إلى طريق مسدود سابقا فهي تهدد بان تقود إلى الفوضى والحروب والخراب وانهيار أي سيطرة على الموقف في المستقبل. وهي ليست حتمية ولا مفروضة بأي شكل. وليست مرتبطة بخيار الاستقلال والدفاع عن السيادة الوطنية بقدر ما هي ثمرة تصورات مفقرة وضعيفة للمصالح الوطنية، تردها إلى مسألة النفوذ الخارجي والقدرة على التاثير، وهو من سمات السياسة الامبرطورية، وتطابق بينها وبين الحفاظ على استقلالية النظام وسعة هامش مناورته الاستراتيجية تجاه النظم والقوى الخارجية الأخرى.
وتستطيع سورية أن تحقق أكثر إذا اتبعت سياسة خارجية ايجابية قائمة على التوازن والتعاون وتوسيع دائرة المصالح المشتركة. بل إن مثل هذه السياسة هي وحدها التي تعطيها الأمل في أن تسترجع أراضيها المحتلة وتحتفظ بهامش مناورة إقليمية حقيقية قائمة على اعتراف الآخرين بدورها ومكانتها لا على الخوف من أذاها، والتربص بمواقعها كما حصل حتى الآن، وتمكنها من تحقيق مصالحها الوطنية الرئيسية والملحة في توسيع فرص وقاعدة التنمية الانسانية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية.
وأقصد بالسياسة الايجابية الانتقال من خيار استغلال ضعف الآخرين، بما في ذلك البلدان العربية القريبة، والتهديد بايقاع الأذى بها، أو استخدامها كوسيلة لايقاع الأذى بالقوى الدولية، إلى خيار العمل الجدي على بناء القوة الذاتية، العسكرية والاقتصادية والتقنية والعلمية والانسانية. ولدى سورية موارد وإمكانيات بشرية وطبيعية وموقع جيوسياسي يؤهلانها من دون مناقشة في أن تحتل مركزا مرموقا ورئيسيا في إقليمها وان تكون مثالا يحتذى به من جيرانها.
ويتطلب هذا مراجعة مفهوم المصلحة الوطنية، ووضع مصالح تحسين شروط حياة المجتمع وترقية أفراده من حيث الوعي والثقافة والتعليم والتأهيل والعمل معا قبل مصالح إظهار عظمة الدولة وقوة شوكتها وجبروتها، إن لم نقل قبل مصالح النظام، أي الفكرة التي يمثلها، والمصالح الخاصة للقائمين على أمره، في السلطة والجيش والأمن والإدارة وغيرها من المؤسسات الاقتصادية العامة. فما دام مفهوم المصلحة الوطنية مقتصرا في ذهن النخبة الحاكمة على الدفاع ضد الضغوط الخارجية، بما يضمن للنظام استقلال مبادرته الاستراتيجية، فليس هناك ما يدفعها أو يحثها على ايلاء أي اهتمام إلى ما يطرأ على شروط حياة المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والسياسية، التي تبدو في هذا المنظور مصالح خصوصية، ثانوية، وقتية، يمكن تأجيلها بل التهاون فيها والتضحية بها بسهولة[23]. وهو ما حصل بالفعل حتى الآن. وليس لسواد هذا المفهوم أي مصدر آخر سوى تقديم مصالح النظام وأصحابه من أبناء الطبقة شبه الارستقراطية التي تكونت على هامش التجربة "الاشتراكية"، على المجتمع والدولة معا، وجعل الحفاظ علي هذه المصالح وتكريس قواعد عمل النظام وتثبيت مبادئه وتخليده، وتعظيم قادته ومؤسسيه، هو محور الحياة العامة بأكملها. وهو ما يقود بالفعل إلى حالة الاستلاب الكبرى التي تعيشها البلاد والتي تتميز بوضع المجتمع والدولة معا في خدمة النظام وتعديل شروط وجودهما وبنياتهما بما يفيد بقاء هذا النظام وازدهار أصحابه وتسيدهم، بدل أن يكون النظام في خدمة المجتمع.
تستدعي هذه السياسة توجهات مختلفة في الداخل والخارج على حد سواء قائمة على تثمين مبدأ التعاون والتشاور والمشاركة والندية والشراكة الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية. وبإمكان سورية، بعد السنوات العاصفة التي قادت البلاد إلى أزمة شاملة، أن تراهن على تراجع القوة الامريكية والاسرائيلية، في المنطقة، للبحث عن نقاط تفاهم وإجماع مع بقية البلاد العربية، تمكن سورية من استعادة الامل باسترجاع أراضيها المحتلة والتصالح مع بيئتها العربية والإقليمية، والانفتاح على المنظومة الدولية لاستئناف مسيرة التنمية الانسانية الحضارية. وليس من الصحيح أن مثل هذا الخيار يستدعي الخضوع لإرادة القوى الكبرى أو التخلي عن الاستقلال والسيادة والقضايا القومية والوطنية. إن التعاون والتبادل والبحث عن مصالح مشتركة، والتوصل إلى تسويات في هذه المصالح يشكل القاعدة التي تقوم عليها العلاقات الدولية، والتي تعتمدها جميع الدول وتستفيد منها. وباستثناء عدد محدود من النظم التي تعاني من أزمة في علاقاتها الخارجية، لأسباب تتعلق غالبا بانسدادات واختناقات داخل نظمها السياسية، لا تشعر أي منها أن هذا التعاون يهدد استقلالها أو يمس بسيادتها. ولا بديل عن هذه السياسة التي لا تعني التسليم بالمصالح الوطنية ولكن الدفاع عنها في إطار الشرعية القانونية والأخلاقية التي تتضمن أيضا مقاومة العدوان والغش والغبن في العلاقات الدولية. وكما أن من الممكن أن تقتصر علاقتنا مع المنظومة الدولية على تلقي قرارات مجلس الأمن العقابية، من الممكن أن نوسعها لنستفيد من مئات المؤسسات المالية والتقنية والثقافية والعلمية التي تمد يد المساعدة للدول الفقيرة كي ما تنهض بنفسها وتعالج بعض نقاط قصورها وتأخرها. وكل ما نحتاج إليه هو إدارة مخلصة ونبيهة فاهمة لقواعد العمل على الساحة الدولية وقادرة على التقاط الفرص وتثمينها.
وبالمقابل لن يفيدنا التركيز على سلبيات النظام الدولي التي لا تحصى، وترصد زلاته، وتصيد مناسبات الصدام المحتمل معه، كثيرا في خدمة مصالحنا الوطنية، سواء اكانت خارجية أو داخلية، استراتيجية أو اقتصادية. ولن تقودنا الإرادة السلبية، النابعة من تراكم الاحباطات والوعود المغدورة والخطط العدوانية العديدة، مهما كانت مشروعة، إلا إلى التعنت والقطيعة المتزايدة مع العالم الخارجي، ثم مع المجتمع نفسه الذي لن يرى تقدما في شروط حياته اليومية. وهو ما انتهى بنا حتى الآن إلى تبني سياسة الهرب إلى الأمام وما نتج عنها من عزلة وحصار، وربما تقودنا في المستقبل، إذا لم نحسن إدارة أزمة علاقاتنا الدولية الآن، إلى حرب جديدة لا نريدها ولن يستفيد منها إلا أعداؤنا.
يضعنا هذا الوضع أمام مسؤوليات تاريخية كبيرة، ويستدعي من جميع السوريين الخروج من حالة الصمت والتردد والتسليم للمقادير، والمشاركة في الإجابة على الأسئلة العديدة المطروحة في إطار المراجعة المطلوبة. ومن هذه الأسئلة تحديد المصالح الوطنية وأجندة تحقيقها والطرق الأمثل لذلك. هل تختصر بالحفاظ على نظام الحكم القائم وخياراته السياسية، من وراء التلويح بقضية الحفاظ على مكانة سورية الاستراتيجية والدفاع عن مواقع لم تنفع السيطرة عليها في تحقيق أي من الأهداف الوطنية، بل دفعت البلاد إلى الغرق أكثر في التاخر والضعف والهامشية والعزلة، أم تكمن في تطبيق أجندة وطنية تشمل، إلى جانب الأهداف الاستراتيجية والأمنية، من الحفاظ على السيادة الوطنية إلى استعادة هضبة الجولان المحتلة، أهدافا إنسانية مجتمعية، من خلق شروط تنمية ونهضة إقتصادية واجتماعية، ومواجهة مشكلات الحياة اليومية التي يعاني منها الشعب بأكمله، وفي مقدمه أجيال الشباب، من بطالة وفقر وغياب الآفاق وتدهور في نوعية الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية؟ وهل استرتيجية المراهنة على مراكمة مواقع النفوذ والأدوار الإقليمية، وهو المقصود اليوم بشعار الممانعة، هي الطريق الأفضل لتحقيقها؟ وهل من الصحيح أنه ليس هناك خيار ثالث سوى الخضوع لسياسة الولايات المتحدة الامريكية وإملاءاتها أو التمرد عليها وعلى حلفائها من الدول الأوروبية والعربية المؤيدة لها أو القريبة منها في توجهاتها؟ وهل من الصحيح أن جميع الدول العربية والعالمية التي لا تقف في مواجهة السياسات الأمريكية والاوروبية والاسرائيلية بصورة مباشرة أو صدامية، قابلة بخيارات واشنطن حتما وعميلة لها؟ وهل هناك أمل فعلا في أن تخدم سياسة المواجهة الراهنة مع الولايات المتحدة الأمريكية مصالحنا الوطنية الكبرى أفضل مما يمكن أن تخدمه المقاربات الدبلوماسية والسياسية، كما حصل في حقبة سابقة؟ لا ينبغي أن نخدع بالمظاهر والشعارات. فمن الممكن، من دون علمنا، أن نخوض في معارك ونتبع سياسات تبدو لنا ثورية وتقدمية في لحظتها، لكننا نكتشف سريعا أن نتائجها كانت سلبية جدا. ولا شك أن سياسة التركيز على القضايا الاستراتيجية لوحدها او جعلها بديلا للقضايا الاقتصادية والاجتماعية قد أضعف إلى حد كبير موقفنا الاستراتيجي وبدأ يهدد استقرار بلادنا ويذرع بذور الانقسام والانشقاق داخل المجتمع نفسه. ومن الممكن لخيارات استراتيجية خارجية خاطئة أن تكون سببا في تفجير المجتمع وتدمير أسسه الوطني، كما حصل مع العراق القريب جدا منا.
ليس هناك شك في أن سورية لو اتبعت سياسات خارجية تقوم على مبدأ التفاهم والتعاون والشراكة في المصالح على الساحات العربية والإقليمية والدولية، وانطلقت من تقدير واقعي لموازين القوى، أكثر اهتماما بالحاجات والمصالح السورية الحقيقية وأقل خضوعا للحسابات السياسوية الشعبوية وللإثارة القوموية، لكانت نجحت في السنوات الخمس الماضية في تحقيق معظم اهدافها في تحقيق الاصلاح السياسي والاقتصادي والاستفادة من طفرة أسعار النفط لمراكمة عشرات مليارات الاستثمارات القادمة من الخليج والباحثة عن أسواق استثمار مربحة لتعزيز هذا الاصلاح والانتقال بسرعة وسهولة من اقتصاد ريعي إلى إقتصاد منتج وديناميكي، وتحولت إلى دولة نموذج في الشرق الأوسط ومثال للتقدم والانجاز يثير الاحترام[24]. وكانت مثل هذه السياسة ستمكنها بسهولة من كبح جماح عدوانية إدارة الرئيس جورج بوش الابن واحتوائها، كما فعلت بقية الدول العربية، وتؤهلها لمراكمة ما يكفي من رصيد النفوذ والقوة والمثال الايجابي والاحترام الذي يسمح لها باستقطاب الدعم الشعبي والعربي والعالمي الواسع لفرض التنازل على اسرائيل واستعادة الجولان، والمساهمة أيضا في تعظيم فرص ايجاد حل للقضية الفلسطينية.
الآن نحن أبعد من أي فترة أخرى عن هذه الأهداف.
لقد أدى إخضاع السياسة الخارجية لأهداف سياسة داخلية والالتفاف على الاصلاحات الوطنية العاجلة من خلال إظهار نشاطية خارجية غير ضرورية ولا مفيدة، إلى خسارة جميع الرهانات. فبدل أن نتحول إلى دولة محترمة يحسب حسابها في المنطقة أصبحنا دولة منبوذة يطلب تهميشنا أو لا يتم الحوار معنا، إذا تم، إلا لحرفنا عن سياساتنا أو لتجنب أذانا. وبدل أن نعزز وحدتنا الوطنية أحدثنا في هذه الوحدة ثغرات لم نكن بحاجة إليها، ومثالها انفتاح الوضع الكردي على كل الاحتمالات، وتعامل بعض أطراف المعارضة المنشقة عن النظام بصراحة مع الإدارة الأمريكية، إضافة إلى مخاطر الانقسامات التي تنطوي عليها التعبئة الطائفية والمذهبية. وخسرنا بتحييد جبهة الجنوب اللبناني، وتحويل حزب الله إلى قوة سياسية تصارع على السلطة مع الاطراف الأخرى، ورقة الضغط الوحيدة التي كانت في يدنا للتأثير على الرأي العام الاسرائيلي والتذكير بقضية الجولان المحتل. لكن الأخطر من ذلك هو خسارة رهان الاصلاح الشامل الذي سيترجم في السنوات القليلة القادمة بمزيد من البطالة والفقر والانقسامات الاجتماعية والطائفية وانتشار الجريمة وغياب القانون، أي بفناء آخر ما يمكن أن يجعل منا مجتمعا وطنيا، تجمع بين أعضائه أهداف وغايات مشتركة، ويخضع الفرد في سلوكه فيه إلى بعض القيم والمعايير والقواعد المدنية والسياسية، ولا يتصرف من منطلق الصراع الأعمى من أجل البقاء.
لا ينبغي التذرع دائما بسوء الأوضاع أو بانتظار الفرص المناسبة للخروج من سياسة الأسوأ التي تجد أقصى إنجازاتها في تكبيد الآخرين الهزائم او الحيلولة دونهم وتحقيق أهدافهم، حتى لو كانت نتائجها على أصحابها هم أنفسهم أكثر سوءا. فهذه الفرص لن تأتي من تلقاء نفسها. علينا نحن أن نخلقها ونبني الشروط التي تسمح لنا بتغيير توجهات الآخرين نحونا. وهذا يستدعي أن نبدأ نحن أنفسنا بتغيير توجهاتنا وأساليب نظرنا وعملنا لمشاكلنا ومشاكل المجتمعات الأخرى المحيطة بنا.
ولا ينبغي أن نحتج أيضا بالتوجه الجديد للعديد من الدول العربية الرئيسية وجهة الاستراتيجية الأمريكية. فلم يجر هذا التوجه بمعزل عن توجهاتنا. فقد تطرف الآخرون في اتجاه التماهي مع الاستراتيجية الأمريكية بقدر ما تطرفنا نحن في اتجاه التخلي عن المنظومة العربية وقبلنا بالعمل في إطار سياسة الرئيس الايراني أحمدي نجاد الذي يقود المنطقة إلى المواجهة، مثله مثل الرئيس الأمريكي. فهو ينطلق من مصلحة ايران القومية من دون أي حسابات إضافية أو اعتبار لمصالح الشعوب والأمم الأخرى، تماما كما ينطلق الرئيس الأمريكي من مصلحة الولايات المتحدة القومية بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى، سياسية أو دولية أو أخلاقية. فكلاهما يطمحان إلى إخضاع العالم بأكمله لإرادتهم الفردية.
وأول ما يستدعيه كسر جدلية التصعيد والخروج من منطق الهرب إلى الامام توسيع حلقة المناقشة حول أهداف هذه السياسة وسبل تطويرها. فلا يمكن أن تبقى السياسة الخارجية التي تتمحور من حولها سياسة سورية الوطنية ومصيرها مستبعدة من المناقشة النظرية والسياسية، ولا التعامل معها على أنها من اختصاص رئيس جمهورية يعتبر أي تفكير في خياراته انتقاصا من قدسيته وتشكيكا في الولاء له. بهذه الوسيلة انتزعت السياسة الخارجية من ملكية المجتمع والرأي العام وأصبحت من المحرمات التي يمنع الحديث فيها حتى لمستشاري الرئاسة ومنظريها. وشيئا فشيئا ارتبطت قضايا الأمن الخارجي الاستراتيجي بالأمن الداخلي، أي بأمن النظام، وصارت المصلحة الوطنية، ثم الفكرة الوطنية مطابقة لمفهوم الحفاظ على هذا الأمن، على افتراض ان إطلاق الحريات السياسية قد يعيق حرية المبادرة لدى السلطة السياسية، او يسمح للعدو باللعب في صفوفنا ويقسمنا. فصار الأمن بمعناه الهوسي، أي ضبط حركة الأفراد ومراقبة سلوكهم ومنعهم من المبادرات الخاصة ألتي لا تتفق مع سياسة الحكومة أو تهدد بنظرها استقرارها أو تظهر احتكارها للسلطة، هو مصلحة وطنية، بل المصلحة الوطنية بامتياز. ولم يعد من الممكن لأي سوري نقاش أي مسألة أخرى بمعزل عن مسألة الأمن، بمعناه الداخلي والخارجي. بل لم يعد من الممكن نقاش أي قضية تعنى بمسائل السياسة أو الاقتصاد او الثقافة او العلم أو الإدارة مع شخصيات أخرى غير رجال الأمن. وشيئا فشيئا أخضعت جميع المصالح الاجتماعية لاجندة السياسة الأمنية، فصار هدف الدولة في جميع نشاطاتها خدمة هذه الاجندة والتكيف معها و تأكيد صحة خياراتها، بصرف النظر عن ثمن ذلك وتكاليفه الاجتماعية والسياسية، وعن آثاره، سلبية كانت أم ايجابية، على الأهداف الوطنية الأخرى، بما في ذلك الوحدة الوطنية أو الاستقرار الاجتماعي.
ويستدعي ثانيا إعادة تعريف المصالح الوطنية بما يحرر الوطنية من الارتهان للقضايا القومية المتعلقة بالسيادة والاستقلال والاستراتيجية والحرب والسلام، ليجعل منها سمة لجميع المصالح التي يتعلق بتحقيقها مستقبل السكان وتقدمهم ومسايرة شروط حياتهم لشروط الحياة السائدة في مجتمعات العالم الأخرى. فالتنمية الانسانية الاقتصادية والاجتماعية مصلحة وطنية، والدول التي لا تنجح في تحقيق هذه المصلحة فتتفاقم فيها معدلات الفقر والبطالة والبؤس والجريمة والتحلل الثقافي والأخلاقي والعنف، تخسر رهانها وتتحول إلى دول فاشلة، وربما تفتح الباب أمام حروب أهلية تنزع عنها صفة المدنية. وبالمثل إن تحقيق حكم القانون وضمان نزاهة القضاء والعدالة والتوازن بين السلطات مصلحة وطنية. فكل ذلك من مقومات الجماعة الوطنية وأسباب وحدتها وتفاعل عناصرها وإبداعها وتقدمها. وفي سورية التي عانت بشكل خاص في العقود الماضية من نتائج سياسة تعسفية أخضع فيها القانون للمصالح السياسية، والدولة لمنطق الولاءات الحزبية، يستدعي تحقيق حكم القانون العمل بالتوازي على ورشتين رئيسيتين: الأولى القضاء على عوامل الفرقة والانقسام السياسي والطائفي والإتني التي خلفتها عقود طويلة من التمييز والتهميش وتكريس نخبة حاكمة على قاعدة الزبائنية، على حساب معايير الوطنية والكفاءة والشعور بالمسؤولية. وهو ما يتطلب "عهد أمان جديد" يعيد بناء القواعد السليمة التي تحكم العلاقات بين السوريين في ما بينهم، بصرف النظر عن أصولهم ومنابتهم ومذاهبهم، وبينهم والدولة أو السلطة العمومية، أي إقرار مبدأ المساواة الذي يؤسس لتفاهمهم العام، وبالتالي لوحدة إرادتهم وروحهم الوطنية. والثانية تعبئة جميع الطاقات العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية في سبيل خلق الظروف التي تمكن من إعادة الجولان إلى وطنه الأم والقضاء على قرار الضم والإلحاق الاسرائيلي الذي حول المحافظة السورية إلى منطقة استيطان استعماري منذ ما يقارب الأربعين عاما، وإزالة الانطباع الذي ينمو عند الرأي العام العالمي والاسرائيلي بأن قضية الجولان يمكن أن تحل بالتقادم أو النسيان. فالوحدة الوطنية بمعنييها ليست قائمة مسبقا، يكفي من أجل الحفاظ عليها عدم الخروج على حكم القانون ومبدأ المساواة بين الأفراد، وإنما ينبغي العمل على بنائها من خلال ترسيخ حكم القانون المغيب والعمل على تأكيد قاعدة المساواة بين الأفراد واحترام حقوقهم الأساسية وحرياتهم. ومن غير ذلك يصبح الحديث عن الوحدة الوطنية شعارا يستخدمه طرف داخلي في سبيل تحقيق انتصار على طرف آخر. ومثل هذا الاستخدام يفاقم من الأزمة الوطنية ويعزز قوة الاحتلال للجولان ويهدد بتفجير الأوضاع وزعزعة استقرار البلاد ووحدتها.
ويستدعي ذلك ثالثا اكتساب عادات وتمثل قيم وتوجهات جديدة لا تنطلق من افتراض أن الإرادة السيئة هي التي تتحكم بالعلاقات بين الدول والشعوب. وتؤمن بالمقابل بأن هناك أرضية ممكنة، وإن كانت هشة، لبناء علاقات ايجابية قائمة على التعاون وتبادل المصالح ومراكمة المنافع والأرباح، في الوقت نفسه، من قبل جميع الاطراف. لا يعني هذا استبعاد النزاع والصراع والنية السيئة عند أي طرف، ولكن النظر إلى النزاعات نفسها بوصفها تعبيرا عن السعي إلى زيادة هذه المنافع والأرباح أو مراكمتها على حساب الآخرين إذا أمكن. وفي هذه الحالة يكون السؤال كيف يمكن بناء علاقات تضمن أن يكون التبادل في المنافع على قدر أكبر من التكافؤ والمساواة. وهو ما ينبغي أن يدفع الدول والبلدان الصغيرة إلى التفاهم في ما بينها والتعاون لتكوين تكتلات قادرة على الصمود في وجه التكتلات الاقتصادية والعسكرية الكبرى، والمساهمة في تطوير وسائل التحاور بشيء من الندية بين جميع الأطراف الدولية لضمان حد أدنى من المساواة والتكافؤ في التبادل. وتوفير شروط قيام علاقات تبادل متكافئة هو المحور الرئيسي أو ينبغي أن يكون المحور الرئيسي لأي سياسة خارجية جدية وناجعة، في سورية والبلاد العربية وجميع البلدان النامية الأخرى.
ويستدعي ذلك رابعا، تخلي جميع الأطراف، حكومة ومعارضة ورأيا عاما، عن موقف الاستقالة السياسية وتحمل مسؤولياتهم، واستبدال سلوك الانقسام والمزاودة بمنطق البحث عن رؤية مشتركة للمصالح الوطنية في السياسة الداخلية وفي السياسة الخارجية. فهذا هو المعيار الرئيسي لقيام جماعة وطنية تتمتع بالحد الأدنى من الوحدة الفكرية والسياسية. وإلا فإن مصيرنا سيكون مثل عربة تجرها أحصنة يشد كل منها في اتجاه معاكس للآخر، ولا يمكن ان تغادر مكانها إذا لم تنقلب على ركابها. وينبغي تنمية هذا الحد الأدنى من الرؤية الفكرية والسياسية من خلال الحوار والنقاش والمحاججة العقلية، والمحافظة عليه، واعتباره مرجعية وطنية ثابتة، لكن قابلة للتعديل والتطوير أيضا بفعل المناظرة الوطنية المستمرة، بصرف النظر عن أي خلافات أخرى تتعلق باختيار الحاكم، أو بأساليب الحكم، أو بشكل توزيع السلطة أو السلطات، مما يشكل ميدان الصراعات السياسية الشرعية والمشروعة في أي مجتمع. علينا أن ندعم جميع تلك الخيارات التي تعزز هذه المصالح وننبه إلى تلك التي تهدد بجرنا إلى منزلقات خطيرة أو تهدد مصالحنا. وهذا هو الحد الأدنى من التعاون البناء المطلوب بين الحكومة والمعارضة، ومن دونه ليس هناك سياسة وطنية ولا كيان وطني.
9- مسؤوليات الحكم والمعارضة
لا يرتب تدشين هذا الأفق الجديد عبئا كبيرا وواجبا مهما على الحكومة فحسب، لكن على المعارضة السياسية أيضا. فلا ينبغي للمعارضة أن تزاود على النظام وتدفع به إلى الإمعان أكثر في سياسات متطرفة تقود إلى مواجهات عبثية مضرة بسورية. فمن الممكن أن نجد أنفسنا في وضع عراقي من دون احتلال القوات الأمريكية، وبأياد سورية محض. على المعارضة بالعكس، وأعني هنا بالتاكيد فئات منها، أن تبلور سياسة وطنية واعية، قائمة على التعامل مع الوقائع القائمة على الأرض، لا على المراهنات والمضاربات الايديولوجية. لسنا اليوم في وضع ثوري، ولا في سياق إشعال مقاومة شاملة لتصفية النفوذ الغربي في المنطقة. إشعال النار في أي مكان سيقود إلى صراعات طائفية وإتنية، بعكس ما كان عليه الوضع في الخمسينيات، وذلك بسبب استنزاف المشاعر الوطنية وتفاقم الانقسام والضغينة والاحباط. نحن في وضع محافظ كليا، وعلينا أن نسير في اتجاه الحفاظ على السلام الأهلي وتشجيع الاعتدال ضد الرديكالية، بانتظار أن نعيد ترميم النسيج الوطني فكريا واجتماعيا وسياسيا، عن طريق إحياء الثقة وتنمية الاقتصاد ونكء جراح الماضي واستعادة روح التعاون الداخلي.
وتستطيع المعارضة أن تؤكد وجودها ودورها بتقديم اقتراحات بناءة وواقعية في ما يتعلق بمسائل السياسة الخارجية، أي العلاقة مع الولايات المتحدة وأوربة وإسرائيل وحكومات المنطقة العربية والدول الشرق أوسطية المجاورة. مما يعني أن هناك حاجة كبيرة لإعادة تعريف وتحديد أهداف السياسة الخارجية السورية من قبل المعارضة وليس من قبل النظام فحسب. لا أعتقد أن من المفيد الخلط بين العداء لأمريكا والعداء لسياسات إداراتها المختلفة. فمن الممكن أن لا نكون، ونحن لسنا بالتأكيد، أعداء أمريكا، ولكننا نقف ضد سياساتها التوسعية العدوانية القائمة على الانفراد والسيطرة وتاكيد القيادة بالقوة. وبالمثل ليس هناك ما يجعلنا نفكر من منطلق العداء لأوروبة، وليس من مصلحتنا أن نضع أوروبة في الكفة نفسها مع أمريكا، أو أن نحول منطقتنا من جديد إلى مسرح لحرب باردة جديدة بين المعسكر الغربي ومعسكر الصين روسيا الناشيء في إطار الصراع على السيطرة على الموارد والأسواق والطاقة. علينا أن نعمل بالعكس على بناء علاقات تعاون وتعايش قوية ومستمرة مع هذا القطب الحضاري الكبير الجار، أعني اوروبة. ومن اجل ذلك نحن نحتاج إلى خلق شروط التعاون، بما يعني ذلك من تفهم مصالح الغير، وتغيير في سلوكاتنا بما يحول دون تهديد هذه المصالح. لا تقوم الصداقة على الكلام الفارغ ولكن على التفهم المتبادل للمصالح الخاصة والمشتركة. هذا ما ينبغي ان نفكر فيه ونعمل عليه بالنسبة لنا أيضا.
بالمثل نحن لسنا او لم نعد، بعد التفاهم العربي حول العديد من مبادرات السلام، ابتداءا بمبادرة الملك فهد في الثمانينات حتى المبادرة الأخيرة هذا العام، أعداء الشعب الاسرائيلي، ولم نكن أصلا في أي فترة أعداء الشعب اليهودي. نحن في حرب مع إسرائيل مستمرة منذ أكثر من نصف قرن بسبب انتهاك حكوماتها الدائم لحقوق الشعب الفلسطيني واتباعها سياسات عدوانية توسعية، ورفضها الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، بما فيها الجولان، وتطبيقها خططا استيطانية عنصرية تعود بمفهومها إلى القرون الوسطى، وتجاهلها كل نداءات السلام والتفاهم العربية. نحن ندعو الشعب الاسرائيلي إلى التخلي عن هذه السياسات حتى يضمن لنفسه السلام الذي لم ينجح في تحقيقه بالحرب، ويفتح باب التفاهم والتعاون مع شعوب المنطقة. وهنا أيضا على المعارضة أن لا تتهرب من مسؤولياتها وأن تشرح للشعب والرأي العام مضمون هذه السياسة القائمة على مبدأ قبول التسوية التاريخية مع الشعب الاسرائيلي، ولا أقول مع إسرائيل كما هي، فهي دولة قائمة في بنيتها الراهنة على العنف والأنانية والعنصرية معا. والواقع أن المعارضة مثلها مثل الرأي العام لا تزال تهرب من الحديث عن هذه التسوية، وتعيشها كما لو كانت ذنبا تسعى دائما إلى التغطية عليه. على المثقفين والمعارضات والقوى الواعية من الرأي العام أيضا مسؤوليات في إدارة الصراع ضد إسرائيل، وفي عدم ترك المسألة حكرا على الحكومات أو على القوى الجهادية والتكفيرية، وورقة تستخدمها في سياستها الداخلية والدولية. ولعل أكثرنا يخشى أن يتحول قبولنا بمبدأ التسوية التاريخية، في الوقت الذي لا تكف فيه الحكومات الاسرائيلية عن تحدي المشاعر العربية والاسلامية، إلى نوع من الاستسلام والقبول بالتوسع الاسرائيلي، وبالتالي إلى تفريط بحقوقنا التاريخية في فلسطين. والحال أننا نتجنب الحديث عن هذا المبدأ في العلن، لكننا نقبل به في السر، ونترك الأمر للحكومات التي تستخدم ورقة رفض الرأي العام العربي لاسرائيل لتحقيق تسويات قائمة على التفاهم بينها وتل أبيب على حساب المصالح الوطنية والعربية. وما هو أخطر من ذلك، نترك لإسرائيل استخدام ورقة رفض الرأي العام العربي لها للضغط على الرأي العام الاسرائيلي والدولي وتبرير سياساتها العدوانية ورفض التسوية السياسية. بمعنى آخر، لا يفيد هذا الموقف المشوش للعرب إلا في تأكيد تخوف الاسرائيليين أو تأكيد دعاية متطرفيهم في أن السلام الحقيقي مع العرب مستحيل. نحن وحدنا الذين نخسر من عدم تأكيد التزامنا الحقيقي والعميق باختياراتنا، وقدرتنا على التنازل عن جزء من حقوقنا، بدافع سياسي وأخلاقي معا، بهدف الخروج من محنة صراع لا حل له من دون ذلك. باختصار لامهرب لنا من خوض معركة كسب الرأي العام الاسرائيلي وعزل التيارات المتطرفة والعداونية فيه. وهذه ليست مهمة الحكومات ولكن الصحافة والمثقفين وغيرهم من أصحاب الرأي وقادة الرأي العام العربي.
علينا أن نفصح تماما عما نفكر به، ونتجاوز الازدواجية بين ما نقوله وما نفكر به. اعترافنا بالشعب الاسرائيلي في قسم من فلسطين هو تأكيد على إرادة السلام لدينا وتعبير عن مساهمتنا في حل المسألة اليهودية التاريخية، أو هكذا ينبغي أن ننظر إليه، حتى لو أننا لم نكن المسؤولين عن إثارتها وطرحها.
علينا ان نحدد سياستنا أيضا مع الدول الشرق أوسطية غير العربية. تركيا وايران والدول الأفريقية المجاورة. لقد غذت الأدبيات القومية التي انتشرت في العقود الماضية شعورا بأن هذه الدول عدوة تقليدية لنا لأنها تنافسنا على السيطرة الإقليمية. وحاولنا أن نضع العروبة في مواجهة النظام الإقليمي حتى عزلنا أنفسنا كليا عن دول الجوار. فقط أولئك البراغماتيين مثل حافظ الأسد فهموا خطأ هذه السياسة، ولم يترددوا في التفاهم مع ايران الاسلامية، وأن يعقدوا معها اتفاقات حققوا أعظم الفوائد منها. علينا أن ندرك أيضا أن هذا التجاهل كان سياسة خاطئة. وأن مستقبلنا نحن كعرب متعلق بقدرتنا على التفاهم مع جيراننا وبناء علاقات تعاون وتفاهم معهم. بل إن علينا تقع مسؤولية التقريب بينهم، ليس لأننا المجموعة الثقافية الأكبر فحسب، ولكنا لأننا نقع في قلب النظام الديني، أي الرمزي، الذي نشترك فيه معهم. ونحن نتوسط هذه الدول المجاورة ونفصل أو نربط في ما بينها على الصعيد الجغرافي أيضا. علينا أن نكون مركز رؤية إقليمية جديدة بعيدة عن النرجسية القومية، وقادرة على جمع الشعوب الاسلامية من حولنا، وتقديم رؤية لعمل إقليمي مشترك يعزز هامش مبادرتنا تجاه القوى والتكتلات الدولية الأخرى.
وبالمثل علينا أن لا نفصل أنفسنا ولا نبتعد عن الدول العربية مهما كانت مشاعرنا تجاه سياسات بعضها الوقتية. لقد مررنا بحقبة انقسم فيها العرب بين تقدميين ورجعيين. ثم حصل تفاهم بينهم تحت مظلة الهيمنة الأمريكية في الثمانينات والتسعينات. ولكن هذا التفاهم ما لبث أن انفرط عقده بعد تغيير واشنطن سياساتها الإقليمية، وأصبح النزاع والعداء هو جوهر العلاقة السائدة مع معظم دول الجوار. ويريد الامريكيون أن يكرسوا هذا العداء والانقسام الجديد بالتمييز بين دول معتدلة ودول رديكالية. وريما أعجب البعض الانتماء إلى الفريق الرديكالي لما فيه من مغريات رمزية تجعله يشعر أنه أكثر استقلالا من الدول الأخرى. والواقع أننا لسنا مستقلين أكثر عن الولايات المتحدة عندما نكون في حرب معها. إنها تستلب إرادتنا وتجعلنا لا نفكر إلا في مواجهة خططها وسياساتها العدوانية. التفاهم مع الدول العربية، ورفض التمييز المفروض علينا بين معتدلين ورديكاليين، هو أفضل وسيلة لتوسيع هامش مبادرتنا جميعا، ومنع واشنطن وغيرها من القوى الأجنبية وغير العربية من اللعب على تناقضاتنا، وبث الفرقة والنزاع في ما بيننا، وإضعاف كل واحد من بلداننا. هنا أيضا على الحكومة كما على المعارضة الكف عن المزايدات السياسية، والتفكير من منطلق حماية المصالح العربية العامة، وفي مقدمة هذه المصالح وحدة الصف العربي والتفاهم والتعاون البناء والايجابي بين دولنا.
ومن واجبنا كذلك أن نعيد تعريف مصالحنا مع الشعوب الأكثر قربا منا، في فلسطين ولبنان والعراق والأردن. فليس من الطبيعي أن تكون علاقاتنا مع البلدان التي تربطنا بها روابط استثنائية، بحكم القرابة الثقافية الوثيقة والجوار وتشابك القضايا الوطنية، هي الأكثر سوءا من بين جميع علاقاتنا العربية والدولية، والأكثر استعصاءا على الفهم والحل معا. السبب الرئيسي لذلك هو من دون شك رؤيتنا الاستراتيجية التي تجعلنا نفكر في ما يحيط بنا كساحة لاستعراض قوتنا ونفوذنا، ووسائل يمكن أن نستخدمها لتأمين مصالحنا الوطنية أو الدفاع عنها، بصرف النظر عما إذا كان مثل هذا الفعل يتفق مع مصالح هذه الدول والشعوب أم يتضارب معها، وعما إذا جاء ذلك برضاها أو بالرغم منها. ولم تكن نتيجة هذه السياسة ايجابية بأي شكل، فهي لم تساعدنا على تحقيق أي مصلحة من مصالحنا الوطنية، لا الاستراتيجية ولا الاقتصادية ولا السياسية، ولكنها عزلتنا عن شعوبها، وعمقت عند بعض جماعاتها مشاعر العنصرية تجاهنا، وأساءت إلى علاقاتنا العربية والدولية، ودفعتنا إلى الوقوف كالمجرمين أمام مجلس الأمن الذي صوت حسب البند السابع على قرار المحكمة الدولية. لقد كرس هذا القرار التهم الموجهة إلينا بوصفنا بلدا تدخليا لا يحترم الشرعية الدولية ولا يتردد في استخدام وسائل العنف لتحقيق مصالحه الخاصة في المنطقة.
سياسة المواجهة التي جعلتنا نسلك مع الزمن سلوك القلعة المحاصرة، اليائس والانتحاري معا، هي التي ساهمت وتساهم اكثر في دفعنا إلى التخلي عن منطق بناء العلاقات الايجابية والشراكات الاقتصادية الثابتة والمتينة، لصالح اقتناص الفرص واستثمار زلات أرجل الشعوب المحيطة بنا، لتعظيم قدرتنا على المناورة في حرب لم نعد نسيطر على أهدافها ولا يشغلنا مآلها. وشيئا فشيئا بدأنا نعتاد على وجودها ونعتقد أن مناخ الصراع هو الأفضل لنا للحفاظ على الاستقرار، وتكريس المصالح القائمة، ورفض الانفتاح والاصلاح، وتبرير إخفاقاتنا أو عجزنا عن بناء إقتصاد حديث، هو شرط نشوء مجتمع مستقر ومنتج، راض عن نفسه وقادر على المبادرة والابداع والفعل في الساحة الداخلية والخارجية. لم نعد نتساءل في ما إذا كانت هذه المواجهة ستقودنا إلى أي مكان. المهم أن نظهر الممانعة وأن نثبت لأعدائنا أننا صامدون وأنهم لن يستطيعوا النيل منا. لا يهم ما أثر ذلك على حياة شعوبنا ولا على استقرار وتقدم مجتمعاتنا.
بالرغم من مظاهر القوة الخادعة التي توحي بها، لا تملك هذه السياسة أي صدقية، ولا يمكن أن تقود إلى تحقيق أي مصلحة وطنية. كل ما يمكن أن تساهم فيه هو تأجيل الاستحقاقات التاريخية من تنمية اقتصادية، وانفتاح سياسي يعيد الشعب إلى دائرة القرار، مما لم يعد من الممكن تجاهله أو تأجيله، وإصلاحات إجتماعية، وتحديث مؤسسات الدولة والإدارة والتعليم، وبناء شبكة العلاقات الدولية الكفيلة بتقريبنا من هدفنا الوطني الأكبر في استعادة الجولان. وبانتظار ذلك تستطيع شبكات المصالح الخاصة العديدة أن تستفيد من حالة الفراغ السياسي والقانوني، والاستبداد الأمني السائد باسم حماية السيادة الوطنية، وأن تسرح وتمرح كما تشاء، من دون خوف ولا مساءلة.
ربما تخدعنا الشعارات الطنانة، وتسكرنا النعوت الخلابة، فنعتقد أننا في سبيلنا لفرض إرادتنا على العالم، وإجباره على الاعتراف بنا والتسليم بمطالبنا. والحال أن أحدا لن يكافيء سياسة يعتبر أنها تخدم غايات سلبية، وتستخدم وسائل لا أخلاقية ولا سياسية. لن تنقذ مثل هذه السياسة النظام، ولكنها سوف تزيد من تكبيله بالقيود والاتهامات، وتفاقم من عزلة سورية وفقرها وتراجع اقتصادها، ولن يفيدها شيئا دفاع ايران عنها، ولا تحالفها معها، ولا تقديم المساعدات لها. ولن يتغير الموقف هذا لو حصلت الحرب وتعرضت فيها اسرائيل لضربات مؤلمة وموجعة، ولكن ستزداد إرادة الدول الكبرى والدول المجاورة أيضا في عدائها لنا ودفعنا إلى العزلة. سنخسر جميع الفرص التي تمكننا من تحقيق شروط تنمية سريعة، نحن بأشد الحاجة إليها لامتصاص البطالة والفقر، ولتحصين مجتمعاتنا ضد أخطار الانقسام والتصدع والتفكك والاقتتال، الذي يحيط بنا من كل جانب، ويهدد بالانتقال إلى داخل حدودنا. ولن تمكننا المواجهة من تحقيق مصلحة وطنية عليا أخرى، تكمن في نزع فتيل الأزمة الاجتماعية، التي تزيد من احتمال تفجيرها انعكاسات الحروب العربية المجاورة، المادية والنفسية والسياسية معا. ولن تقدم لنا سياسة القطيعة والمواجهة أي فرصة لفكفكة النزاعات والتوترات والأحقاد المذهبية والدينية والفكرية الكامنة أو الدفينة، ولكنها تهدد بتغذيتها، وربما إشعالها في أول مناسبة تزل فيها قدم بعضنا أو تتغلب عليه عاطفة الأنانية على العاطفة الوطنية والانسانية.
لا يعني ذلك أن نتغافل عن أغراض السياسة الأمريكية والاسرائيلية، او نقبل بأهدافها أو نقر بنتائجها. فليس المطلوب التخلي عن مقاومتنا للسياسات العدوانية ولا تكيفنا معها، وإنما تغيير أساليب هذه المقاومة، وتوسيع دائرتها بحيث يصبح لنا أمل أكبر في أن ننتصر فيها على مخططات خصومنا ونوقف مفاعيلها. وبالمثل ليس المطلوب من تأكيد تعاوننا مع الدول الإقليمية وتعزيز تفاهمنا مع الدول العربية أن نتخلى عن أهدافنا، أو أن نأخذ بخيارات الدول العربية الأخرى. إن المطلوب هنا أيضا تغيير أسلوبنا في ابراز خلافاتنا والتعامل مع الأطراف الأخرى لتحقيق أهدافنا. فنحن لسنا الوحيدين الذين لديهم رؤية وطنية خاصة، ويدافعون عن مصالح وطنية محددة. هذا هو حال الدول والبلدان جميعا، طالما أن لكل شعب ظروفه وخصائصه ومشاكله ومصاعبه وحاجاته، وبالتالي رؤيته لتحقيق ما يعتقد أنه أفضل له. فلا تختلف سياسات الشعوب على أساس التمييز بين من له منها مصالح خاصة ومن ليس له مصالح خاصة، وإنما على أساس أسلوب الدفاع عن هذه المصالح والوصول إلى ضمانها واحترامها. وربما كان خطؤنا الرئيسي في العالم العربي، الذي قطع علينا طريق الوحدة أو الاتحاد، بل التعاون الأدنى، هو اعتقادنا أنه لا يمكن التفاهم ولا التوصل إلى موقف عربي موحد ما لم تتطابق تماما مصالح الدول المختلفة جميعا، وتذوب أجنداتها الوطنية في أجندة عربية واحدة، وهو أمر مستحيل. فليس من الممكن أن تتطابق مصالح بلد خليجي كالمملكة العربية السعودية، مع مصالح بلد مثل سورية. لكن ليس هناك أبدا ما يمنع، بل هناك ما يدفع إلى بناء أرضية للتفاهم حول مصالح مشتركة واسعة، سواء ما تعلق منها بمواجهة مخاطر التدخلات الاجنبية او التوصل إلى تسوية عربية إسرائيلية أو التعاون في مجالات التنمية والعلوم والتطوير التقني وغير ذلك. هكذا تخدم المصالح الوطنية.
وليس هناك أي شك في أن سورية تستطيع أن تحقق اهدافها بصورة أفضل إذا نجحت في بناء علاقات ثقة وتعاون ايجابية مع الأقطار العربية، من دون أن تتجاهل خلافات المصالح القائمة فيما بينها. وكانت ستساهم بشكل أكبر في تعزيز استقلال تلك الدول الميالة إلى الخضوع للسياسات الأمريكية لو تبنت إزاءها مواقف ايجابية. وكان مثل هذا الوضع سيساعدنا جميعا على توسيع هامش مبادرتنا الاستراتيجية وإضعاف قدرة الدول الأجنبية والكبرى وإسرائيل على التلاعب بنزاعاتنا الداخلية والتأثير على سياساتنا الخارجية. وبالعكس أدى ابتعاد سورية عن دول المحور العربي الذي استند إليه الموقف العربي الرسمي، شبه الاستقلالي، وانخراطها في تحالف استراتيجي، أو ما يشبه ذلك، مع ايران التي يثير نظامها مخاوف بلدانه، إلى دفع بلدان الخليج إلى الالتصاق أكثر بسياسات الولايات المتحدة، بقدر ما أصبحت تشعر بخطر أكبر على استقرارها وتتطلع إلى مساعدة واشنطن على مواجهة التحديات الإقليمية.
وما يقال عن العلاقة مع الدول العربية يقال عن العلاقة مع ايران. فليس المطلوب هنا أيضا التخلي عن علاقات التعاون مع طهران. وهي علاقات ترجع إلى عقود طويلة سابقة، ولا يستطيع عاقل أن يشكك بفائدتها وانعكاساتها الايجابية على المصالح الوطنية السورية. إنما المطلوب وضع هذه العلاقات في انسجام مع العلاقات السورية العربية، كما كان عليه الحال خلال فترة طويلة سابقة. وهذا يستدعي أن تلعب دمشق دورا مختلفا قائما على التقريب بين وجهة النظر والمصالح الايرانية ووجهة النظر والمصالح العربية، وهو دور ايجابي ضروري ومطلوب من أجل تجاوز الحزازات القومية في المنطقة، وتعزيز التوجه نحو تعاون إقليمي يضم إلى جانب العرب، الدول الإسلامية الكبيرة المجاورة. والحال أن سياسة المواجهة التي تبنتها دمشق، والتي جمعتها أكثر مع طهران التي تواجه أيضا مشكلة في علاقاتها مع الغرب بسبب مشاريع تقنيتها النووية، لا تلائم مثل هذا الدور. بل إنها تدفع بالعكس إلى تعميق الانقسام الإقليمي بين العرب والايرانيين، بقدر ما تشعر العرب بأنهم فقدوا بسببها أحد أقطاب منظومتهم، سورية، لصالح دولة مجاورة تحمل، بالإضافة إلى ذلك، مشروع هيمنة قومية إقليمية. وهذا الانقسام وما رافقه من نمو المخاوف والشكوك المتبادلة هو الذي ساهم في تعميق أزمة العلاقات السورية العربية ودفع مسؤولين كبار إلى استخدام عباراات غير لا ئقة لوصف زملائنهم العرب العرب الآخرين، زادت من تعقيد الأزمة وتعميقها.
ليست سورية دولة صغيرة ولا ضعيفة. إنها دولة مركزية في منظومتها العربية والإقليمية. وهي مسؤولة وقادرة معا. وتستطيع إذا امتلكت الإرادة والرؤية أن توقف مسار التصدع العربي والانقسام الجارف، وأن تساهم بشكل فعال في إعادة بناء السياسة العربية والإقليمية، ودفعهما في الاتجاهات السليمة التي تخدم أهداف جميع الأطراف وتوسع من هامش المبادرة الاستراتيجية والأمنية لعموم المنطقة تجاه القوى الخارجية وعلى رأسها إدارة الولايات المتحدة الطائشة. نحن نعيش الآن مفصلا في تاريخنا. وهي فرصتنا الأخيرة لمراجعة سياساتنا قبل أن ندخل في أتون حروب أهلية وإقليمية وعربية عربية طاحنة لن نخرج منها قبل نصف قرن.
وبالرغم من المشاكل الكثيرة العالقة التي تكاد تجعل من إمكانية تطبيع علاقتنا العربية والدولية مسألة مستحيلة، إلا أنه لا بديل لنا عن استعادة المبادرة والعودة إلى مسيرة الإصلاح. وبدل أن نستغل إنهيار الاستراتيجية الغربية في العراق والمشرق عموما من أجل الإنغماس بشكل أكبر في سياسات المواجهة العقمية التي تهدد بخلق بؤرة جديدة ودائمة للحرب الإقليمية والعربية، علينا بالعكس أن نستفيد منها للعمل على إعادة الروح إلى المنظومة العربية وتجنيبها خطر الاستسلام والتسليم للقوى الخارجية، وإطلاق الحوار بين شعوب المنطقة وقومياتها المختلفة لبناء أسس العلاقات الإقليمية الجديدة، وتدشين سياسات داخلية وخارجية قائمة على علاقات الثقة والروح الايجابية والتعاون والتفاهم، بدل الشك والسلبية والمراهنة على القدرة على الأذى المتبادل والنزاع.
هوامش:
------------------------------------------------------
[1]ومقالات هؤلاء هي التي يعاد نشرها في الصحافة وبثها في وسائل الاعلام السورية على نطاق واسع لغش الرأي العام وحرف نظره عن النتائج الحقيقية لهذه السياسة على الصعيد الدولي.
[2] تلبية لنداء رئيس الجمهورية اللبنانية سليمان فرنجية، أرسلت دمشق عام 1976 قواتها إلى لبنان لحماية القوى المسيحية التي كانت في وضع صعب أمام قوى التحالف التي أطلق عليه الاسلامي التقدمي بقيادة كمال جنبلاط. وفي 16 أكتوبر 1976 عقدت الدول العربية الرئيسية مؤتمرا في الرياض (مؤتمر الرياض) بهدف التوصل إلى حل للحرب الاهلية اللبنانية. وقد كرس المؤتمر الحضور السوري العسكري والسياسي في لبنان وأضفى عليه شرعية عربية. لكن الحرب الأهلية لم تتوقف. وبدأت العلاقات السورية المسيحية بالتدهور منذ 1978 بسبب رفض دمشق السماح للأخيرة بتحقيق انتصار على خصومها وتطبيق سياسة المحافظة على التوازن. وفي 23 أكتوبر 1989 نجحت الأطراف اللبنانية في الرياض في التوقيع على اتفاق يضمن توزيع السلطة بين الطوائف الرئيسية سمي اتفاق الطائف، وألغي بموجبه ما كان يسمى بالميثاق الوطني اللبناني لعام 1943. وقد رفض الجنرال عون هذا الاتفاق ورد عليها بما أطلق عليه حرب التحرير ضد القوات السورية.
[3] كان انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان بطريقة منفردة هو الرد المباشر على إخفاق مؤتمر جنيف. فقد كانت إسرائيل تعتقد أنها ستحرم بهذا الانسحاب سورية من أداة ضغطها العسكري الوحيدة عليها، وتنهي بذلك مسألة المفاوضات حول الجولان كليا. ولم يخف المسؤولون السوريون انتقادهم لهذا الانسحاب من جانب واحد والتلويح بمخاطره على إسرائيل. لكنهم سرعان ما اكتشفوا الرد بطرح مشكلة مزارع شبعا التي ستسمح لدمشق باستمرار الضغط على إسرائيل من خلال حزب الله.
[4] في 16 أكتوبر 1976 عقدت الدول العربية الرئيسية مؤتمرا في الرياض (مؤتمر الرياض) بهدف التوصل إلى حل للحرب الاهلية اللبنانية. وقد كرس المؤتمر الحضور السوري العسكري والسياسي في لبنان وأضفى عليه شرعية عربية. وكانت دمشق قد أرسلت قواتها إلى لبنان لحماية القوى المسيحية بعد نداء صدر عن رئيس الجمهورية سليمان فرنجية. ولكن الحرب الأهلية استمرت، ومنذ 1978 تدهورت العلاقات السورية المسيحية نتيجة الدور الذي حاولت دمشق أن تلعبه في المحافظة على التوازن القائم ومنع تغلب فئة على الأخرى.
وفي 23 أكتوبر 1989 تم التوقيع من قبل الأطراف اللبنانية في الرياض نفسها على اتفاق الطائف الذي سيحل محل الميثاق الوطني اللبناني لعام 1943 الذي يضمن توزيع السلطة بين الطوائف الرئيسية. بينما اعلن الجنرال عون رفضه للاتفاق ومتابعته حرب التحرير ضد القوات السورية.
[5] ففي عام‏ 1976‏ قام الجيش السوري بضرب وحدة عسكرية فلسطينية. وبعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان قام السوريون بتنظيم ثورة ضد عرفات داخل منظمة فتح، حيث تحالفت المقاومة الفلسطينية مع اليسار اللبناني بينما كان الدعم السوري للمقاومة الفلسطينية يهدف إلي الضغط علي اليمين اللبناني والضغط علي إسرائيل‏.‏وكانت بداية القطيعة الحقيقية بين الطرفين في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام‏ 1982 وما تعرض له عرفات ورفاقه علي يد القوات السورية‏.‏ وزاد من هذه القطيعة قبول عرفات بمخطط السلام الذي أعلنه رونالد ريغين عام 1982. وبعد هزيمة قوات منظمة التحرير في صيف 1983، رعت السلطة السورية انشقاق داخل فتح بقيادة أبو موسى الذي نجح بالدعم العسكري السوري في متابعة الحرب ضد قوات المنظمة في طرابلس وإجبارها على الرحيل. وكانت مفرزة من الامن السوري قد قامت بطرد عرفات (24 حزيران 1983) من دمشق بعد قدومه لها لمحاولة فتح حوار مع المنشقين. وتدهورت العلاقات بشكل أكبر بعد التوصل إلى اتفاق أوسلو عام 1996 وقد دعمت سورية باستمرار المنظمات الفلسطينية المنشقة عن منظمة التحرير أو المعادية لعرفات، خاصة الجبهة الشعبيه القيادة العامة لأحمد جبريل، وفتح الانتفاضة التي قادها أبو موسى، وشاركتها في حروب 1986 و 1988 وفي حصار المخيمات. وتثار شكوك اليوم في ما إذا لم تكن سورية وراء استيلاء فتح الاسلام على فتح الانتفاضة بمساعدة خالد العملة وشاكر العبسي. وهي الحركة التي وقفت وراء حرب مخيم نهر البارد في خريف ذ007. صبحي عسيلة، أبو مازن وإصلاح العلاقات السورية الفلسطينية، مركز الدراسات الاستراتيجية في الاهرام، 1/1/2001
[6] حول مختلف مراحل المفاوضات السورية الاسرائيلية انظر ايتامار رابينوفيتش : على حافة السلام: مفاوضات الاإسرائيلية السورية ، مطبعة جامعة برنستون، 1999، هيلينا كوبان، المحادثات السلام الاسرائيلية السورية 1991-1996، واشنطن، المعهد الأمريكي للسلام 2000، دونيس روس، السلام المفقود: القصة الداخلية للقتال من أجل السلام في الشرق الأوسط، نيويورك، فارار ستراوس وجيروكس 2004
[7] في 20 أكتوبر 1998، وقعت سورية تحت التهديد بالاجتياح العسكري اتفاقية تعاون مع أنقرة يعرف حزب العمال الكردستاني بأنه منظمة إرهابية ويلزم سورية بمنعه من استخدام أراضيها لأي نشاط سياسيا كان أم لوجستيا أو حتى للعبور العادي. وعلى إثر هذا الاتفاق اضطرت دمشق لطرد عبد الله أوجلان قائد الحزب من أراضيها مما اضطره إلى البحث عن ملجأ آخر، وما سيقوده إلى الوقوع في قبضة الأمن التركي في شباط 1999 والحكم عليه بالاعدام..
[8] نشر موقع سيريا نيوز في 7 /12/2005، بعد التوقيع على الاتفاقية السورية التركية، مقالا أشار فيه إلى آخر خريطة نشرتها سانا الوكالة السورية الرسمية للأنباء مستبعدة منها لواء اسكندرون. وهو ما اعتبرته العديد من الاوساط السورية تأكيدا لسحب الحكومة السورية مطالبتها التاريخية باستعادة اللواء. انظر http://www.syria-news.com/newstoprint.php?sy_seq=16160
[9] وصف وزير خارجية سورية غزو العراق من قبل الولايات المتحدة بذريعة البحث عن أسلحة الدمار الشامل بالسطوا المسلح. جاء ذلك في خطاب
فاروق الشرع في مجلس الأمن في 7 / 3 / 2003. وقد تردد ذلك كثيرا في ما بعد في الصحافة السورية وعلى لسان العديد من المسؤولين الكبار. وبدأت دمشق مشاورات متواصلة مع زعماء العشائر والأحزاب العراقية قبل الغزو وبعده لتنظيم المقاومة وتأمين ملجأ لها، وكان عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية المكلف بهذا الملف.
[10] في أعقاب زيارة رئيس الوزراء السوري محمد ناجي العطري أعلنت دمشق وطهران في 16 شباط 2005 عن قيام جبهة مشتركة في مواجهة التحديات والتهديدات الامريكية في المنطقة. واعتبر هذا التاريخ بداية لتكوين محور سوري ايراني يقف في مواجهة المحور الأمريكي ويشكل تطويرا ملفتا في طبيعة العلاقة التي كانت تجمع بين البلدين في عهد الرئيس حافظ الأسد. فقد كانت دمشق خلال تلك الفترة التي شهدت تعاونا مستمرا مع طهران تشكل أحد أقطاب التحالف العربي المشرقي مع القاهرة والرياض، في حين أن تحالفها الراهن مع طهران يشكل بديلا عن تحالفها العربي، وربما يضعها في خصام مع أطرافه.
[11] حول التحالف السوري الايراني انو شروان احتشامي وريموند هانيبش، سورية وايران قوى متوسطية في نظام إقليمي متداخل، لندن، روتلدج 1997

[12] حول مصدر هذه الاستقلالية، انظر مقالنا "الأسدية في السياسة"، في كتاب معركة الاصلاح في سورية، تحرير رضوان زيادة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، القاهرة 2006
[13] هذا هو المنطق الذي يفسر أيضا رد فعل النظام العنيف على إعلان دمشق بيروت بيروت دمشق، واعتقاله العديد من المثقفين السوريين الذين وضعوا توقيعهم عليه. فقد نظر إليه النظام باعتباره دعما للموقف اللبناني على حساب سورية، واتهم محرريه بتجاهل التضحيات التي قامت بها دمشق من أجل لبنان، بالرغم من أن هدف الإعلان الواضح وتعبيره يشير بشكل صريح إلى ضرورة إقامة علاقات متوازنة وقوية بين البلدين الشقيقين.
[14] لقد نجح تعميم منطق التوزيع والبحث عن الغنائم لدرجة أصبح فيه أي رجل أمن عادي يعتقد، في الثمانينيات بشكل خاص، أن من حقه أن يتقاسم مع المسافرين العابرين للحدود ما يجده من متاع في صناديق سياراتهم الشخصية، بما في ذلك الكتب والممتلكات الخاصة العادية. المهم أن لا يمر أحد من أن تفرض عليه خوة ما.
[15] قسم كبير، إن لم يكن الأكبر من المشاريع الصناعية التي أقيمت في السبعينات والثمانينات كانت بدافع الكومسيونات الكبيرة أكثر من أي دافع آخر. وهو أحد المصادر الرئيسية أيضا للإثراء الشخصي لرجالات الحكم.
[16] ولا من اعتقال مواطنين أردنيين وفلسطينيين ولبنانيين وعراقيين كما لو كانوا سوريين تماما، ومحاكمتهم على آرائهم من دون أن يعلم حكوماتهم أو أي سلطة قانونية أخرى بما يجري لهم. وكانت قضية المعتقلين اللبنانيين في سورية قد أثيرت بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان من قبل منظمات حقوقية لبنانية وسورية قدرت عددهم ب 440 لبنانيا اعتبروا مفقودين او معتقلين في سورية منذ سنوات. لكن رئيس الحكومة السورية محمد ناجي عطري اعتبر في مقابلة مع صحيفة البايس الاسبانية في مايو 2005 أن اللبنانيين المعتقلين منذ سنوات في سورية هم ارهابيون .
[17] بلغ متوسط الناتج المحلي الخام للفرد عام 2005 مبلغ 1384 بينما بلغت في الأردن 2426 وفي لبنان 6186 وفي تركيا 4704 وفي المملكة العربية السعودية 24 117.
[18] على سبيل المثال، القوات الخاصة التي كانت تابعة لعلي حيدر، وسرايا الدفاع لرفعت الأسد، وسرايا الصراع لعدنان الأسد، والحرس الجمهوري، ثم العديد من أجهزة الامن والمخابرات التي تعمل بشكل مستقل ومواز حتى اليوم.
[19] وصلت الامور إلى حالة من الاستهتار بمصالح الدولة والشعب إلى درجة لم يعد يشعر المسؤولون فيها عن الحاجة إلى التغطية على سلوكهم. وحسب شهادة أحد الوزراء السابقين، أتت فترة في التسعينيات كانت فيها اجتماعات مجلس الوزراء مخصصة بشكل رئيسي لتوزيع الصفقات بين الوزراء والمسؤولين، وبصورة علنية وشفافة، من دون أن يثير ذلك دهشة احد.
[20] يتناقل الناس في سورية قصة طريفة تقول إن بعض المسؤولين الاقتصاديين تحدثوا أمام محمد حيدر، نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية في حكومة عن ضرورة رفع الأجور المجمدة فكان جوابه: أن الجميع يسرق ويرتشي، وليس هناك أي داع لرفع الاجور من أجل حفنة من الحمير الذين لا يعرفون كيف يسرقون. وكان لقب محمد حيدر مسيو عشرة بالمئة لأن هذه النسبة كانت حصته الإلزامية من أي مناقصة عامة. وقد هرب من سورية في ما بعد وأقام في الولايات المتحدة ولا يزال.
[21] حول عهد بشار الأسد، فلاينت ليفنت، وراثة سورية، اختبار بشار بالنار، ترجمة د. عماد فوزي شعيبي، مركز المعطيات والدراسات الاستراتيجية، دمشق 2005
[22] على سبيل المثال، معركة الاصلاح في سورية، تحرير رضوان زيادة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، القاهرة، 2006
[23] هذا ما كان يعنيه إغلاق الحدود بين سورية والعراق البعثيين خلال ما يقارب الثلاثة عقود، من دون أي مراعاة لمصالح الناس وأرزاقهم مع العلم أن شبكات التجارة والتبادل بينهما لم تنقطع خلال قرون طويلة، قبل الدولة الاسلامية وبعدها. وهذا ما يعنيه اليوم التهديد بإغلاق الحدود مع لبنان لمعاقبة حكومته على أخطائها. وهي سياسة لا تقتصر لسوء الحظ على سورية البعثية وحدها وربما لن تقتصر على العراق ولبنان. كيف يمكن في ظل مثل هذا التفكير أن تتحقق تنمية عربية ولا تتفكك عرى المشاعر القومية الموروثة عن الماضي بدل تحويلها إلى محرك للقومية والوحدة العربية؟
[24] لم تكن نتائج سياستنا المتطلعة لمراكمة الأوراق الخارجية مضرة على المستوى السياسي والإداري فحسب، ولكن نتائجها كانت سلبية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي أيضا، بعكس ما يعتقد المستفيدون من الريوع الخارجية. وحققنا تقدما أقل من جميع الدول المحيطة بنا. فقد بلغ متوسط الناتج المحلي الخام للفرد عندنا عام 2005 مبلغ 1384 دولارا بينما بلغت في الأردن 2426 وفي لبنان 6186 وفي تركيا 4704 وفي المملكة العربية السعودية 24 117.