mardi, octobre 27, 2009

تحية تقدير لمحمد السيد سعيد في أربعينه

الاتحاد 21 اكتوبر 09

اكتشفت محمد السيد سعيد من خلال مداخلاته ومقالاته الصحفية قبل أن تجمعنا صداقة الفكر والممارسة والعمل السياسي والانساني. وكان محمد السيد في نظري باحثا لامعا تميز بنزاهة علمية نادرة وبسداد رأي استثنائي. فهو أحد ألمع المفكرين العرب المعاصرين وأبرز مثقفي جيله وأكثرهم نشاطا وإخلاصا وصدقية

ففي مجتمعات عربية ضلت أو تشعر غالبية أبنائها أنها ضلت طريق التقدم الذي كانت تحلم به قليل من المثقفين أو أصحاب الرأي لم يتعرض للاحباط واليأس. وبينما اختار القسم الأكبر من هؤلاء الانحناء للأمر الواقع، ومسايرة الوضع متخلين عن أحلامهم التغييرية، القومية أو الاشتراكية أو الديمقراطية، وانقلب قسم آخر على مواقفه السابقة أو تنكر لها باسم الواقعية أو التحولات التاريخية أو الانفتاح على العالم، ورضي قسم آخر بالانسحاب والانكفاء على النفس، بقيت أقلية من المثقفين، ومنها محمد السيد سعيد مصرة على الاختيارات التي ألهمت الحركات الاجتماعية والوطنية في البلاد العربية منذ بداية النهضة العربية أو ما نطلق عليه اسم النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعني الايمان بإمكانية تحويل العالم العربي والارتقاء به إلى مصاف المجتمعات الحديثة وتجديد بنياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية.

وبعكس المثقفين الآخرين الذين تخلوا بشكل أو آخر وعلى طريقتهم الخاصة عن أحلام التغيير ومشاريعه، أو أولئك الذين احتفظوا بعكس الأوائل، بأفكارهم ومواقفهم كما هي ورفضوا الاعتراف بالأمر الواقع، طرح هذا الموقف منذ البداية ولا يزال، أعني موقف التمسك بمشروع التغيير والتجديد والتحديث، تحديا نطريا وعمليا كبيرا، صرف محمد السيد سعيد، كما فعلت القلة القليلة التي سلكت الطريق نفسه في مصر وغيرها من البلاد العربية، كل وقتهم لمواجهته والرد عليه. فبينما لا تستدعي مسايرة الأمر الواقع القائم سوى تشغيل ملكة التكيف البسيط، التي تبررها الواقعية والابتعاد عن الأحلام التي لا يمكن تحقيقها، ولا يطرح الحفاظ على المواقف التقليدية أي تساؤل جديد، يتطلب الحفاظ على حلم التغيير، في سياق الانكفاء والردة وانحسار الآمال، جهدا استثنيائيا وهذا ما نسميه بالتكيف أو التكييف الإبداع بين الحلم والواقع، وما يترتب عليه من مراجعة مزدوجة يتعلق جزء منها بإعادة تقويم الحلم نفسه ومراجعة فكرته والجزء الآخر بإعادة تحليل الواقع نفسه والتمعن في ما تبدل فيه وجعل الأفكار والشعارات المطروحة في مرحلة ما مقطوعة عنه أو بعيدة المنال.

باختصار، كيف يمكن الاستمرار في معركة التغيير العربي، الاجتماعية والسياسية والثقافية، في واقع الهزيمة وتراجع المجتمعات نفسها عن أحلامها القديمة وسيطرة الأفكار المحافظة ونزعة الارتداد عن مشروع الحداثة وعليها سعيا وراء هوية ثابتة أو أصالية؟ وبمعنى آخر كيف يمكن الحفاظ على حلم التغيير وقيمه وإبقاء شعلة التحرر الانساني قائمة في مواجهة موجة اليأس الكاسحة التي لا تعني شيئا آخر في نهاية التحليل سوى التسليم للأمر الواقع والاستسلام؟ الرد على هذا التحدي هو الذي شكل محرك تفكير محمد السيد ومحتوى نضالاته العملية وغايته في آن. وهو الذي لا يزال يشكل محور تفكير وعمل الكثير من المثقفين الآخرين الذين رفضوا القبول بالهزيمة، أي التسليم بالأمر الواقع والتعامل مع إجهاض مشروع الحداثة العربية كما لو كان أمرا محتما ونهائيا.

وفي سياق هذا الرد انصبت جهود هؤلاء، وفي مقدمهم السيد سعيد على محورين:

الأول إعادة البناء النظري لمشروع التغيير نفسه،وترشيده، أي إخضاعه للنقد التاريخي والعقلي وإبراز ما كان جوهريا فيه يرتبط بحاجات اندراج المجتمعات في عصرها وتاريخ حضارتها، وما كان ثانويا أي ثمرة الظرف الخاص الذي ولد فيه ولم يعد موجودا ولا راهنا ولا مهما. وليس مثل هذا العمل بالأمر البسيط والواضح. ذلك إن التقدم فيه يستدعي مقدرة على أخذ مسافة عن أفكارنا المسبقة وعن العقائديات والتصورات السابقة التي درجنا على تبريرها والدفاع عنها إن لم على تقديسها خلال حقبة طويلة. وهذا ما يصعب تحقيقه من مقدرة موازية على الارتفاع عن النماذج المجردة وإعادة النظر إليها على ضوء القيم والمقاصد العليا التي يبرر الحفاظ عليها وحده عملية التضحية بها والتجرؤ على تبديلها هكذا لم يكن من الممكن، على سبيل المثال، مراجعة فكرة القومية التي ارتبطت بالوحدة والقوة والاستقلال من دون إبراز فكرة الشعب والأمة وحقوقها السياسية والمدنية، أي من دون الاسترشاد بالمواطنية كقيمة سياسية وأخلاقية وطنية معا. وما كان من الممكن التخلي عن النماذج السوفييتية وشبه السوفييتيه التي ارتبطت بالاشتراكية من دون العودة إلى قيم العدالة الاجتماعية والمساواة السياسية والأخلاقية وأخلاقيات الحرية التي تأسست عليها سياسة الأمم الحديثة. وبالمثل ما كان من الممكن مراجعة الفكرة العربية كما تبلورت في الخمسينات وأشكال تجسيدها وسبل العمل لتحقيقها كما خطت على يد أصحاب الدعوة القومية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين وقادت إلى إخفاقات وخيبات أمل كفرت قطاعات واسعة من الرأي العام العربي ، أقول ما كان من الممكن ذلك من دون إعادة بناء فكرة العروبة بارتباطها بالقيم العصرية الجديدة التي حولتها إلى محور لاستراتيجية تقارب وتقريب بين الأقطار العربية وتأسيس لجغرافية سياسية تفتح آفاق التنمية الاقتصادية وترسخ أسس الاستقرار والسلام في المنطقة، وبين الشعوب العربية

والثاني، تجديد أسس الممارسة وأساليب العمل وأهدافه المرحلية. وكما كان الرجوع إلى قيم التغيير وغاياته، مما لا يتوفر إلا لأصحاب المباديء طريقا لأعادة النظر في التصورات والصيغ والنماذج الجاهزة الموروثة للتغيير، كان الرجوع إلى معيار النجاعة والفاعلية والتواصل مع الكتلة الاجتماعية المستهدفة في أي مشروع تغيير منطلقا لتجديد أساليب العمل وإبداع مقاربات استراتيجية جديدة لضمان استمرار حركة التغيير وتقدمها. وهذا ما أدى بنا إلى اكتشاف العمل على صعيد المجتمع المدني وتطوير وسائل التواصل المختلفة مع جمهور يشكل عزله وتهميشه وإسكاته الشرط الأول لأعادة إنتاج النظم الاجتماعية والسياسية القائمة.

في هذا النقد المزدوج النظري والعملي للوضع القائم، كان محمد السيد من دون أدنى شك رائدا. وقد كانت مجلة البديل التتويج الأخير لفكره وعمله. ولا تشير البديل هنا إلى نظام آخر غير النظام الاجتماعي القائم فحسب ولكن إلى بديل آخر للعمل النقدي أو للنقد العملي وللمعارضة بالمعنى الجديد أيضا.

فمن باب الوفاء لفكرة العدالة والمساواة أعاد محمد السيد سعيد النظر في أنماط التفكير الاشتراكي واليساري عموما، وربطها بالديمقرطاية وبالمجتمع المدني، حتى جعل من هذه الأبعاد الأخيرة محور عمله ونشاطه، السياسي والمدني. ومن باب الوفاء لقيم الحداثة والتنمية والاستقلال الوطني والسيادة القومية أعاد النظر أيضا في الفكرة القومية العربية الناصرية وغير الناصرية، ولم يوفر فرصة لتأكيد خيار التقارب والتكامل والاندماج بين البلاد العربية وبعكس الكثير من المثقفين وأصحاب الرأي الذين دفعهم اكتشاف الديمقراطية إلى الانخراط في ما ينبغي تسميته نزعة العداء للهوية والافتتان بالنزعة الليبرالية الاستعمارية أو شبه الاستعمارية، دافع محمد السيد بكل قوة واقتناع عن الارتباط الذي لا ينفصم بين قيم الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. وبعكس الكثير من المثقفين الذين مرت عليهم خدعة مشاريع الدمقرطة التي أطلقتها إدارة الرئيس بوش الأمريكية، وأيدتها الدول الأوروبية، بقي ايمان محمد السيد لا يتزعزع في استقلالية حركة التغيير العربية، وفي الارتباط الذي لا ينفصم بين مطلب الديمقراطية ومطلب السيادة الوطنية.

كان من الطبيعي والحالة هذه أن يتخطى محمد السيد خطوط الفصل القاطعة التي اصطنعها مثقفونا وأحزابنا في مجتمعاتنا السياسية، تلك التي تكرس إعادة إنتاج الوضع القائم أيضا، بتكريسها القطيعة والعداء بين القوميين والقطريين، والعلمانيين والاسلاميين، والليبراليين والاشتراكيين، وأن يبني لنفسه موقعا في ما وراء ذلك، يتجاوز هذه المواقف ويجمع بينها معا، معياره التغيير والنجاعة والفعل، وأن يطمح من خلال ذلك إلى تحرير آجيال الشباب من رواسب صراعات الماضي الميت ونقاشاته المكبلة، ويسعى إلى تعبئتهم وشدهم إلى معركة التغيير وتجديد مجتمعاتهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية. بهذا المعنى كان محمد السيد، كما ذكر هو عن نفسه، يساريا بين الليبراليين وليبراليا بين اليساريين، قوميا بين القطريين ومصريا بين القوميين، أي صلة الوصل بينهم أيضا. وجوهر هذه الصلة هو ابتداع خطة عملية لدفع عملية التغيير، بمعناه العميق، أي تغيير الواقع نفسه لا فكرته.

وهذا التغيير هو الذي جعل محمد السيد يكتشف أيضا الحركة المدنية وينخرط فيها كما لم يفعل أي واحد منا. لقد كان السيد مفكرا عمليا وثوريا بالمعنى الحقيقي للكلمة، لم يترك فرصة للتأثير في الواقع، نظرية كانت أم عملية، لم يستغلها ويستثمرها. وكان لهذا السبب أيضا حاضرا في كل المناسبات النضالية، واثقا من عمله متفائل العقل، بالرغم من صعوبات العمل وتحديات الواقع الكبيرة جميعها.

ولأنه وهب نفسه لمشروع تغيير الواقع العربي لم يترك ميدانا للعمل لم ينخرط فيه، من المقالة إلى السياسة إلى المقاومة والمظاهرة والاضراب. لكن إخلاصه لمبادئه وذكائه الاستثنائي الذي جنبه خداع الذات وتغذية الأوهام التي غالبا ما يقع فيها الناشطون العموميون، السياسيون والمدنيون، عن أنفسهم وعن الآخرين وعن الواقع الاجتماعي أيضا جعلت منه رجل بصيرة استثنائي. فكان بامتياز رجل علم من دون ادعاء التجرد عن الايديولوجية والاختيارات السياسية والفكرية، ورجل سياسة من دون أي تطلع لمواقع السلطة. لقد كان رجل قيادة فكرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، مثقف الكلمة الحرة والفكرة الثورية والمنهج الحواري والعقلاني الهاديء والوفي في الوقت نفسه. رجل التضحية والشجاعة والتواضع ونكران الذات والمسؤولية

dimanche, octobre 25, 2009

فشل المصالحة إمعان في الانهيار

الاتحاد 25 اكتوبر2009

د. برهان غليون
لم يكن هناك شك عند أي مراقب للوضع الفلسطيني في أن تأجيل نقاش تقرير جولدستون سوف يعرض المصالحة الفلسطينية لامتحان خطير. وجاء خطابا كل من خالد مشعل ومحمود عباس في 11 نوفمبر الجاري، وما تلاهما من تصريحات لمسؤولي “فتح” و”حماس”، ليؤكدا ذلك وليضعا نهاية مأساوية لمحاولات رأب الصدع التي قامت بها شخصيات وقوى محلية ودولية عديدة للخروج من الأزمة الفلسطينية، وبهدف إيجاد شروط أفضل لإطلاق مفاوضات التسوية مع إسرائيل. فرغم إعلان عباس تمسكه بالمصالحة الوطنية وتأكيده على رفض تأجيل موعد التوقيع عليها، كما حددته الخارجية المصرية في 26 من الشهر الجاري، فإنه لم يوفر فرصة لمهاجمة “حماس” واتهامها بأشنع الأفعال، بما في ذلك العمل لصالح إسرائيل، كما لم ينس التذكير بـ “الانقلاب الظلامي” الذي قامت به في القطاع، ووصفها بالقول إنها قوة متمردة على الشرعية الفلسطينية.
ولم يكن خطاب مشعل أقل اتهامية وعنفاً من خطاب عباس، إن لم يكن أشد منه؛ فقد حمل على ما سماه “الفريق المسيطر على السلطة الفلسطينية”، متهماً إياه بالعمل لخدمة إسرائيل والتفاهم معها، في قطيعة مع تاريخ “فتح” ومع إرادة الشعب الفلسطيني ومصالحه الوطنية. واشترط مشعل لتوقيع المصالحة الوطنية محاسبة القيادة الفلسطينية الراهنة ووضع مرجعية وطنية تحول دون ارتكاب أخطاء جديدة في المستقبل وتحافظ على الثوابت الفلسطينية. ولم ينس أيضاًِ أن يذكر بموقف “حماس” القائل بأن المقاومة خيار استراتيجي بالنسبة لها، وأنها لن تفرط في الثوابت الفلسطينية كالقدس وحق العودة ورفض الاستيطان.
كان واضحاً من الخطابين أن أياً من الرجلين لم يكن مهتماً أو حريصاً على الاحتفاظ بخط الرجعة أو ترك الباب مفتوحاً للمصالحة. بل ظهر بوضوح تام، من خلال الخطابين، أن المصالحة لم تكن بالفعل مسألة مركزية في تفكيرهما وسياستهما معاً، وأنها ليست نابعة من اقتناع عميق بأهميتها بالنسبة لمواجهة الوضع الذي تمر به القضية الفلسطينية حالياً. لقد كانت ولا تزال تكتيكاً اتخذه الطرفان لتحقيق أهداف جزئية وظرفية، وبشكل خاص إرضاءً للأطراف العربية التي تخشى أن يؤدي الانقسام الفلسطيني إلى انكشاف خطير للموقف العربي بأكمله، وتوريطها هي أيضاً في أزمة تجاه رأيها العام.
وليس التأكيد المشترك من قبل عباس ومشعل على أنه لا حل للأزمة ولا مصالحة في النهاية إلا من خلال انتخابات شعبية تسمح للفلسطينيين بحسم الموقف، وتزيل الانقسام القائم، وتلغي الحاجة إلى تسوية بين مواقف فلسطينية لا يمكن التوفيق بينها… أقول ليس هذا التأكيد من قبل الطرفين على أولوية الانتخابات إلا دليل على غياب التفاهم وانعدام وجود أي تسوية سياسية فعلية، قبل قضية التقرير ومأساته.
من هنا يمكن القول إن كلا الطرفين وجدا في تأجيل مناقشة تقرير جولدستون فرصة للتراجع عن “التزاماته” السابقة بخصوص المصالحة، والعودة إلى مواقفه الأساسية.
فبدل أن يعترف عباس بالخطأ الذي وقع نتيجة قرار خاطئ اتخذه على الشعب الفلسطيني وقضيته، فضل التعبير عن غضبه من الجدل الصاخب حول ذلك القرار، مذكراً من جديد -لتبرير قراره- بتوافق مختلف المجموعات في مجلس حقوق الإنسان (العربية والإسلامية والأفريقية وعدم الانحياز) حول سحب التقرير. وكان بإمكانه أن يعترف بالخطأ ويعلن تحمله المسؤولية.
وبالمثل، ليس مقنعاً ما ذكره مشعل لتبرير التراجع عن المصالحة، ومن ورائها كما ظهر في الخطاب، التشكيك في إمكانية أي مصالحة مع فريق عباس. فلا يعني السير في المصالحة، كما قال، الموافقة على قرار عباس أو إضفاء الشرعية على الأخطاء التي تقوم بها سلطته. فالجمهور الفلسطيني والعربي يعرف موقف “حماس” كما يعرف موقف السلطة الفلسطينية، ولن يخلط بين الأمرين. بل يمكن لـ “حماس” أن تربح نفوذاً سياسياً أكبر لو أبدت حرصاً أكثر على المصالحة والوحدة في هذا الظرف الصعب. فالمفترض أن “حماس” لا تقوم بالمصالحة مع عباس أو الفريق الذي تتهمه بالوقوف مع القرار، وإنما تعمل من خلال المصالحة على تجاوز الصدع الفلسطيني الذي مس الأرض والمؤسسات والقوى الفلسطينية، أي الذي قسم الفلسطينيين وسمح لإسرائيل باللعب على تناقضاتهم ومحاولة تعبئة قسم منهم ضد القسم الآخر. وهي الوسيلة الوحيدة لإفشال ما سعت إليه إسرائيل منذ الاحتلال وأخفقت في تحقيقه حتى وفاة ياسر عرفات، أعني تفجير الحرب الفلسطينية الفلسطينية التي تريد من إشعالها التخفف من عبء الاحتلال ودفع الفلسطينيين إلى تبديد جهودهم بدل توحيدها ضد عدوهم المشترك والوحيد.
وما كان وفد “حماس” ليخسر شيئاً لو ذهب إلى القاهرة في الموعد المحدد، بل لكان استفاد من جو الغضب الشعبي الراهن ضد قرار تأجيل التصويت على تقرير جولدستون، وأظهر للرأي العام الفلسطيني والعربي أنه مؤمن فعلا بضرورة توحيد الجهد الفلسطيني بأي ثمن. لكن في اعتقادي أن “حماس” خسرت فرصة كبيرة لإظهار أنها ليست فريقاً فلسطينياً يدافع عن نفسه ومصالحه ضد فريق آخر مستفرد بالسلطة ومستفيد منها، بل إنها قيادة وطنية حريصة وقادرة على الجمع وتوحيد الشعب والإرادة الفلسطينيين!
وفي ماوراء انحسار أمل الوحدة الوطنية وتأكيد الانقسام، حتى بعد تصويت مجلس حقوق الإنسان على التقرير، الجمعة الماضي، يكمن الواقع المر الذي لا يمكن من دونه فهم ما يجري داخل الصف الفلسطيني، والعربي أيضاً، أعني انهيار آفاق مفاوضات التسوية السياسية العربية الإسرائيلية بعد أن أظهرت إدارة أوباما، والتي بُنيتْ عليها آمال عريضة طوال عدة أشهر، أنها غير مستعدة لثني إسرائيل عن متابعة مشروعها الاستيطاني الشامل، والذي يلغي أي احتمال لإمكانية قيام دولة فلسطينية.

ذلك في نظري هو السبب الأعمق للنزاع الفلسطيني الداخلي. لكن هل جوابنا المطلوب على انهيار مفاوضات السلام، وعلى فشل أوباما وإدارته في تأهيل إسرائيل، هو الاستمرار في النزاعات الفلسطينية والعربية الداخلية، أي الإمعان في الانهيار؟

mercredi, octobre 07, 2009

العلاقات السورية التركية ودرس الديمقراطية

الاتحاد 7 اكتوبر 09

التطور الذي تشهده العلاقات السورية التركية منذ بعض السنوات يثير الاهتمام والتأمل من عدة زوايا. الاولى والأهم تنبع من أنه يشكل، بما يميزه من روح الاستمرارية، والالتزام بالاستحقاقات والأسس القانونية، والتقدم المطرد على ميادين عمل متعددة، استراتيجية وسياسية واقتصادية وعلمية، الحالة الوحيدة الناجحة من التعاون بين قطرين في المنطقة، بما في ذلك بين الأقطار العربية. والثانية ترتبط بدور الايديولوجية ومكانها في نمو العلاقات بين الدول والشعوب. فمن المعروف أن جزءا كبيرا من تراث القومية العربية التي لا تشكل عقيدة الحكم فحسب ولكن الشعب، أو غالبيته، أيضا، في سورية، قد نما في الصراع مع الفكرة الطورانية والتشهير بسياسة العثمانيين الأتراك وتحميلهم مسؤولية انحطاط الثقافة والحضارة العربيتين. والزاوية الثالثة تحيل إلى تاريخ من العداء الدائم تقريبا منذ تكوين الجمهوريتين السورية والتركية في مطلع القرن الماضي حتى سنوات قليلة سابقة. وإذا كان هذا العداء قد تركز في بداية الاستقلال السوري على ذكرى الاضطهاد العثماني ثم ضم تركيا مقاطعة لواء اسكندرون عام 1938 فإنه لم يلبث حتى شمل قضايا كثيرة أخرى، وأهمها من دون شك الاختيارات الاستراتيجية المتعارضة للبلدين، الاطلسية في تركيا واليسارية في سورية. وفي هذا الإطار دخل البلدان أكثر من مرة في حالة نزاع كادت تفضي لحرب مدمرة. وليس هناك شك في أن الخوف من اجتياح عسكري تركي لسورية عام 1957 قد لعب دورا كبيرا في دفع الضباط السوريين المتنافسين على السلطة في دمشق إلى الذهاب إلى مصر وتوقيع اتفاقية الوحدة السورية المصرية عام 1958. وقد اتهمت مصر في ذلك الوقت أنقرة بالعمل لصالح الولايات المتحدة وبريطانيا لقلب الحكومة السورية القائمة، وهي حكومة ليبرالية، في إطار سعيهما المشترك لفرض حلف بغداد على العرب في إطار الحرب الباردة. وقد نظر الغرب بالفعل إلى حكومات سورية، منذ حرب السويس وتدمير أنابيب نفط العراق المارة عبر الأراضي السورية على أنها حكومات خاضعة لضغط اليساريين وسائرة بتوجيههم، خاصة بعد أن عقدت دمشق صفقة شراء السلاح من تشيكوسلوفاكيا عام 1955 وتقربت من الاتحاد السوفييتي في عهد رئس الوزراء خالد العظم.

وقد تجدد النزاع السوري التركي في التسعينات من القرن الماضي. واتهمت دمشق أنقرة بحجزها مياه الفرات عنها، وإرسالها المياه الملوثة عبر النهر، وتجفيف نهر الخابور، وطالبت بتوقيع اتفاقية لتقاسم المياه على أسس دولية رفضتها أنقرة حتى الآن. وتصاعدت حدة النزاع السوري التركي بسبب التعاون العسكري المتنامي بين تركيا وإسرائيل، واعتبرت دمشق، مثلها مثل الدول العربية جميعا، أنقرة أحد العواصم المعادية للقومية العربية والمتحالفة مع خصومها. وقد وصل النزاع إلى ذروته عام 1998 عندما هددت تركيا باجتياح الأراضي السورية لوضع حد لهجمات حزب العمال الكردستاني الذي كان يتلقى الدعم من سورية. وقد أسفرت الأزمة عن توقيع اتفاقية أضنة قبلت دمشق بموجبها وقف التعاون مع الحزب الكردي كما تراجعت عن المطالبة التاريخية باسترجاع لواء اسكندرون الذي كان نقطة خلاف دائمة وأبدية بين حكومات دمشق وأنقرة جميعا. لكن عهد التقارب الجدي الذي سيقلب الاتجاه شيئا فشيئا، محولا حالة العداء التاريخي إلى حالة من اللقاء الاستثنائي، إن لم نقل إلى ما يشبه الوحدة بين البلدين، بدأ عام 2004 عندما دفعت العزلة التي فرضتها الدول العربية وفي طليعتها مصر على النظام السوري، بل القبول بتقديم نظام الأسد كبش فداء للإدارة الأمريكية التي كانت عازمة على التخلص من أنظمة البعث السورية والعراقية في إطار إعادة ترتيب أوراق السيطرة على المنطقة. فلم تجد سورية خلال سنوات العزلة والحصار الطويلة، خاصة بعد اغتيال الحريري، سوى أنقرة للعب دور الوسيط بينها وبين الغرب، ومساعدتها على عبور المرحلة الصعبة.

هكذا، خلال أقل من خمس سنوات، كسرت العلاقات التركية السورية كل المحظورات وبوتيرة ملفتة. فتجاوز الحكام البعثيون في دمشق حواجز الثقافة والعقيدة السياسية، الرسمية والشعبية، وضغط الذاكرة التاريخية الحافلة بالمآخذ على أنقرة، بل وبالأحكام المسبقة عن الأتراك، فأقاموا مع هؤلاء، بصرف النظر عن استمرار تعاون أنقرة مع إسرائيل وعضويتها في الحلف الاطلسي، علاقات ثقة تتنامى كل يوم بشكل اكبر، حتى أصبحت أنقرة راعية المفاوضات السورية الاسرائيلية الرئيسية، والمدافع الأكثر حماسا عن النظام السوري في وجه الاتجاهات الغربية، الأمريكية والأوروبية، العدائية. ولم يتوقف التعاون على الميدان السياسي ولكنه سرعان ما انتقل إلى الميادين الاقتصادية والاستراتيجية. فبعد التوقيع عام 2004 على اتفاقية التجارة الحرة ، والبدء بتطبيقها عام 2007 ، أعلن البلدين، أثناء حفل إفطار أقامه رئيس الوزراء التركي للرئيس السوري في منتصف الشهر الماضي، عن فتح الحدود بين البلدين من دون سمة دخول. كما أعلنا عن تكوين مجلس للتعاون الاستراتيجي يجتمع بشكل منتظم، ويضم كبار مسؤولي الدولتين، بالإضافة إلى عشرات الاتفاقيات الأخرى. وما يلفت النظر في كل ذلك هو أن الاتفاقات الموقعة تنفذ بحذافيرها وفي موعدها المحدد إن لم تستبقه، ولا ينتهي مفعولها، كما هو الحال بالنسبة لمعظم الاتفاقيات الموقعة بين أعضاء الجامعة العربية، مثل اتفاقية منطقة التجارة العربية الكبرى بانفضاض حفل التوقيع. ويستطيع المرء معاينة ذلك من خلال التبادل المستمر للوفود من رجال الأعمال السوريين والأتراك، والإعلان عن استثمارات وشركات مشتركة بينهم، وبشكل خاص من خلال حضور البضائع التركية الكثيف في الأسواق السورية. وليس هناك شك في أن حجم التجارة السورية التركية الذي وصل خلال سنوات معدودة إلى ما يقارب الملياري دولار، والذي يتوقع أن يصل إلى خمس مليارات دولار خلال الأعوام القليلة القادمة يجعل من تركيا الشريك التجاري الأول لسورية.

ليس هناك سر في التقارب السوري التركي. فدوافعه واضحة ومعروفة بالنسبة للطرفين، والمصالح المتبادلة كبيرة أيضا لا يمكن لأحد أن يشك فيها، في الميادين السياسية والاقتصادية والتقنية والعلمية معا. السؤال:

لماذا نجحت تركيا في ما أخفقت فيه الدول العربية، وفي طليعتها القاهرة والرياض اللتين شكلتا مع دمشق المثلث الذي استند إليه استقرار المشرق العربي لعقود طويلة ماضية؟ بل لماذا أخفقت طهران أيضا في تقديم مرفأ آمن لسفينة دمشق الحائرة؟

السبب لأن تركيا بعكس العرب دولة مستقلة وناجحة، وبعكس ايران أيضا ذات علاقة قوية بالغرب. وإذا كانت طهران مفيدة لدمشق في أي مسعى للتمرد والاحتجاج، فأنقرة هي الجسر الوحيد نحو هذا الغرب الذي لا يزال يملك وحده مفاتيح الحل والربط في المنطقة. والأفراد يسيرون في النهاية وراء أصحاب الملاءة والفاعلية أملا في الاستفادة منهم، ولا يهتمون بمن هو أضعف منهم أو من يحتاج هو نفسه إلى من يساعده.

لكن إذا كانت تركيا دولة فاعلة اليوم تشد إليها سورية وغيرها فلأنها حلت مشاكلها الداخلية، ونجحت في سياستها الاقتصادية، واتبعت طريقا صحيحا في التعاون الدولي. فتركت منطق المجابهة لصالح العمل الايجابي الصعب والصبور والطويل المدى، فاكتسبت رصيدا كبيرا وثقة ثابتة، بينما لا تزال حكوماتنا العربية منقسمة بين أصحاب خط المزاودة القومية الفارغة من المضمون والمعنى، أو خط المناقصة وتقديم التنازلات المجانية على حساب استقلاليتها باسم الواقعية والفائدة. وسبب المزاودة والمناقصة في سياساتنا الخارجية واحد: افتقار نظمنا للشرعية الشعبية، وتوزعها بين من يبحث عن التعويض عن ذلك في الالتحاق بشكل أكبر بالدول الكبرى والدخول تحت حمايتها وقبول استراتيجياتها ومن يسعى إلى تعزيز سيطرتها الداخلية من خلا من خلال التلويح بورقة توت الوطنية الكاذبة وتضخيمها.

عندما تحل مسألة السلطة بشكل صحيح في بلادنا العربية، سيكون من الممكن الأمل بولادة سياسات خارجية عربية سليمة، عقلانية بالفعل وفاعلة، أي قادرة على تحصيل مكاسب وانتصارات، وبالتالي على جذب الآخرين واستقطابهم كما تفعل اليوم السياسة التركية.

لذلك لا ينبغي ان نشك في صدق اردوغان عندما يقول لزواره العرب إن أساس تقدم تركيا الاقتصادي والاجتماعي وتوسع نفوذها الخارجي هو الديمقراطية. فهي الكفيلة، وحدها فعلا، بتغيير قدر البلاد العربية وتخفيف البؤس المادي والسياسي الذي تعيش فيه جماهيرها الواسعة .

هارا كيري في القيادة الفلسطينية


الجزيرة نت 7 اكتوبر 09
كائنا من كان المسؤول الفلسطيني الذي اتخذ قرار مطالبة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتأجيل مناقشة تقرير غولدستون بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن ما حدث لا يشكل استهانة لا حدود لها بحياة الفلسطينيين الذين قضوا بسلاح الدمار الشامل الذي استخدمته إسرائيل، ولا بحياة أولئك الذين سيقضون به بعد الآن، ولكنه يمثل أكثر من ذلك ضربة أليمة للقضية الفلسطينية برمتها، وبشكل خاص لجميع أولئك الذين يكافحون في بيئة دولية معادية ومنحازة لتل أبيب في السراء والضراء، للكشف عن حقيقة ما يجرى في فلسطين، وتسليط الضوء على ما يعانيه شعبها من هدر للحقوق، وما تعتمد عليه إسرائيل، في سعيها لتوسيع رقعة الاستيطان وللابقاء على الاحتلال، من انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان.
جميع الأسباب التي يقدمها مسؤولون فلسطينيون لتبرير قرارهم الفريد مرفوضة من قبل الرأي العام العربي ولا تصمد أمام أي تحليل سياسي، سواء ما تعلق منها بالضغوط الأمريكية القوية التي ذكرت صحيفة ها آرتس أنها مورست على الرئيس الفلسطيني باسم حماية مفاوضات السلام من التردي، أو التهديدات التي ذكرت بعض المصادر الدبلوماسية أنها وجهت إلى رئيس وزرائه بقطع كافة المساعدات التي تمنحها الإدارة الأميركية للسلطة الفلسطينية، وكذلك توقيف إسرائيل عائدات الضرائب التي تعتمد عليها السلطة في دفع رواتب موظفيها، أو المخاوف من أن تنعكس نتائج ذلك على الأداء الاقتصادي في الضفة الغربية. أما التذرع بقبول الدول العربية والاسلامية بالقرار أو مشاركتها فيه، وهو ما ثبت بطلانه بعد التصريحات التي صدرت عن العديد من ممثليها، فهو حجة أقبح من ذنب. ذلك أن المسؤول عن مصير الشعب الفلسطيني والمخول في اتخاذ القرار المطلوب للحفاظ على حقوقه هو القيادة الفلسطينية. ومن واجبها أن تتخذ القرار الصائب سواء حصلت على تأييد الدول العربية والاسلامية أم لا.
فالحال أن الرأي العام العربي، الملدوغ أكثر من مرة من جانب العدالة الدولية، بالكاد صدق صدور مثل هذا التقرير واحتمال تحويله إلى مجلس الامن. فقد وقعت إسرائيل لأول مرة تقريبا في الفخ، ووجدت نفسها، بسبب مغالاتها في الاستهتار بالرأي العام العالمي، واعتدادها بمقدرتها على طمس الحقائق، ونتيجة صورة المعاناة القاسية التي نقلتها أجهزة الإعلام عن الحرب غير المشروعية وغير المبررة التي خاضتها ضد شعب غزة، وتحت ضغوط قوية ومتواصلة لقطاعات واسعة من الرأي العام ومئات منظمات حقوق الانسان الدولية، أقول وجدت إسرائيل نفسها أمام ما يمكن أن نسميه احتمال التعرض لمحاسبة سياسية وقانونية وأخلاقية نادرة الحصول على ممارساتها اللاإنسانية المستمرة في فلسطين منذ أكثر من خمسين عاما. وكان العرب، مثلهم مثل أنصار الحق الفلسطيني في العالم كله، ينتظرون بفارغ الصبر مثل هذه الفرصة ليضعوا حكومات العالم "الديمقراطي والحر" التي تدعم إسرائيل، وتغض النظر عن جميع ما تقوم به من تصرفات، وترتكبه من جرائم أمام الحقيقة، وتوقف مساعيها الدائمة لحماية إسرائيل وتجنيبها المحاسبة والعقاب.
في هذا السياق النادر الحصول، أمكن لأول مرة تشكيل لجنة تحقيق دولية ونشر تقرير من قبل وفد تابع للأمم المتحدة، أنيطت رئاستة بشخصية جنوب أفريقية لا يستطيع أحد من أنصار إسرائيل أن يتهمها بالانحياز للعرب أو الفلسطينيين. وصدر التقرير المنتظر يندد، بالرغم من نقائصة العديدة، بسياسة الحرب الاسرائيلية، وينتقد استخدام إسرائيل لأسلحة دمار شامل، مثل قنابل الفوسفور الأبيض والقذائف المسمارية في مناطق مأهولة بالسكان. ويبين على لسان أطباء أجانب إن الجيش الإسرائيلي استخدم قنابل دايم ضد المدنيين، منبها إلى خطورة هذه القنابل رغم أنها غير محظورة في القانون الدولي، كما يشير إلى احتمال استخدام الجيش الاسرائيلي قنابل اليورانيوم المنضب وغير المنضب. ولا يخفي التقرير ما قام به الجيش الإسرائيلي من اعتداءات على أسس الحياة المدنية في قطاع غزة، وتدميره البنية الصناعية التحتية، وشبكات الإنتاج الغذائي، ومنشآت المياه، ومعالجة مياه الصرف الصحي والسكن. وهو ما يشكل -حسب التقرير- انتهاكا للقانون الدولي، ويمكن أن يشكل جريمة حرب.
بانكشاف مثل هذه الحقائق للرأي العام، لم يكن هناك أدنى شك في أن إسرائيل كانت ستتعرض لإدانة علنية، وربما إلى ملاحقات قانونية لبعض قادتها ومسؤوليها العسكريين الذين أثبت التقرير أنهم قاموا بجرائم حرب عندما استخدموا المدنيين الفلسطينيين دروعا بشرية، وقصفوا مؤسسات يعرفون أنها تحولت إلى ملاجيء للمدنيين الفارين من القصف الهمجي، وفي مقدمها مقر الأونروا الذي كان يحوي ما بين 600 و700 مدني، ومستشفى الوفاء في مدينة غزة وتقاطع الفاخورة قرب مدرسة تابعة للأونروا في جباليا كانت تؤوي 1300 مدني.
وبالكاد يصدق الإنسان أن القيادة الفلسطينية اتخذت مثل هذا القرار الذي ستكون الخاسرة الوحيدة منه. فهو لن يعزز سلطتها المترنحة منذ وقت طويل ولكنه يوجه لها ضربة قاضية من الصعب أن تقف على رجليها بعدها. وبعكس ما اعتقد أصحاب هذا القرار، لن يدفع التبرع بإخراج إسرائيل من هذا الفخ تل أبيب إلى تليين موقفها أو التعامل بصورة أفضل مع السلطة الفلسطينية ولكنه سيزيد من استهتارها بها واحتقارها لها بقدر ما سيعزز ثقة قوى التطرف الاسرائيلية القابضة على الحكم في إسرائيل، بصحة سياساتها ونجاعتها. وقد أعلنت قيادات حماس منذ الآن أن من المستحيل عليها الجلوس مع من اتخذ هذا القرار، مما يعني أن أحد أسوأ آثاره تعطيل عملية المصالحة الوطنية الفلسطينية التي كدنا نعتقد باستحالتها قبل أن يعلن بعض المسؤولين الفلسطينيين عن قرب انعقاد مؤتمرها في القاهرة في نهاية هذا الشهر. وبقدر ما سيشجع هذا القرار المشؤوم إسرائيل على الاستمرار في سياستها التقليدية المستهترة بأي قانون، سوف يحبط جميع أولئك الذين يعملون من أجل العدالة والإنصاف في العلاقات الدولية، وفي مقدمهم المنظمات المدنية التي بذلت وتبذل جهودا استثنائية من أجل كسر جدار الصمت والحماية المحيط بإسرائيل. وقد أجهز هذا القرار منذ الآن على معنويات جميع أولئك الذين كانوا يراهنون على تفعيل القانون وتفعيل ضغط الرأي العام من أجل الدفع في اتجاه حل تفاوضي يقطع الطريق على الحرب والتطرف معا. ومما يزيد من أثر المأساة أن قادة فلسطينيين كان من المنتظر منهم أن يستغلوا مثل هذا الحدث أقصى إستغلال للضغط على إسرائيل وحرمانها من إمكانية التستر الدائم على جرائم انتهاك حقوق الفلسطينيين كانوا شركاء في جريمة قتل القانون وإجهاض التضامن العالمي مع حقوق الفلسطينيين وإحباط كل من يأمل بحل سياسي للنزاع الدموي القائم.
لا شيء يمكن أن يعوض الخسائر الكبرى الناجمة عن هذا القرار الذي حرم الشعب الفلسطيني من حقه في أن يعرف الرأي العام بمعاناته التاريخية وما يتعرض له يوميا من تنكيل واضطهاد، بمثل ما حرم الرأي العام العالمي من حقه في معرفة ما يجري في فلسطين من مصادر لا يشك أحد في احتمال انحيازها للعرب والفلسطينيين.
ماذا تستطيع تصريحات المسؤولين الفلسطينيين التي تسعى إلى التخفيف من وقع الصدمة الفضيحة بالتأكيد على أن القرار يقضي بتأجيل النقاش على التقرير ولا يعني إلغاءه؟ وفي أي مناخ سوف تحصل مناقشة التقرير في آذار مارس القادم بعد أن جاءت الضربة القاسية للدول والمنظمات المدنية المدافعة عن حقوق الفلسطينيين من الفلسطينيين أنفسهم؟ وأي جدوى لاستمرار العمل على فضح انتهاكات اسرائيل لحقوق الانسان إذا كان قادة الفلسطينيين هم أول المساهمين في تجنيب إسرائيل المساءلة وفي الاستهتار بحقوق شعبهم والتضحية بها؟ وماذا يستطيع تشكيل لجنة تحقيق أن يفعل بعد أن تم إجهاض التقرير، وانهارت الثقة بالسلطة الفلسطينية التي اتخذته، ودخلت قضية الوحدة الوطنية في أزمة جديدة حادة، وأثبتت الولايات المتحدة أيضا، بهذه المناسبة، أن أسلوبها في العمل من أجل السلام، والقائم على تأكيد حرصها على مصالح إسرائيل وإرضاء قادتها مهما كانت مطالبهم وممارساتهم، لا يعمل من أجل تحقيق تسوية عادلة تنهي النزاع الشرق أوسطي ولكنه يقود بشكل مستقيم، وهذا ما يحصل منذ سنوات، إلى تقويض ثقة الشعب الفلسطيني بقيادته وتكريس الوضع القائم الذي تريده اسرائيل لاستكمال مشروعها الاستيطاني العلني والرسم؟
ليس هناك ما يمكن أن يعيد للرأي العام الفلسطيني الثقة ويطمئن المنافحين عن حقوق الفلسطينيين في العالم العربي والخارجي معا سوى تقديم أولئك المسؤولين لاستقالاتهم وإفساح المجال أمام جيل جديد من القادة، أكثر إحساسا بمعاناة الفلسطينيين واحتراما لمشاعرهم وتفكيرهم، للحلول محلهم. فنحن لسنا هنا أمام سياسة يمكن فهمها وتبريرها وإنما أمام ما ينبغي تسميته "هارا كيري" فلسيطيني سوف يترك آثارا لا تمحى على مسار القضية الفلسطينية لأعوام عديدة قادمة. ولا تستطيع القيادة القائمة بعد الآن أن تتحدث باسم الفلسطينيين ولم تعد تملك الصدقية التي تخولها الدفاع عن حقوقهم.

العلاقات السورية التركية ودرس الديمقراطية

الاتحاد 7 اكتوبر 09
التطور الذي تشهده العلاقات السورية التركية منذ بعض السنوات يثير الاهتمام والتأمل من عدة زوايا. الاولى والأهم تنبع من أنه يشكل، بما يميزه من روح الاستمرارية، والالتزام بالاستحقاقات والأسس القانونية، والتقدم المطرد على ميادين عمل متعددة، استراتيجية وسياسية واقتصادية وعلمية، الحالة الوحيدة الناجحة من التعاون بين قطرين في المنطقة، بما في ذلك بين الأقطار العربية. والثانية ترتبط بدور الايديولوجية ومكانها في نمو العلاقات بين الدول والشعوب. فمن المعروف أن جزءا كبيرا من تراث القومية العربية التي لا تشكل عقيدة الحكم فحسب ولكن الشعب، أو غالبيته، أيضا، في سورية، قد نما في الصراع مع الفكرة الطورانية والتشهير بسياسة العثمانيين الأتراك وتحميلهم مسؤولية انحطاط الثقافة والحضارة العربيتين. والزاوية الثالثة تحيل إلى تاريخ من العداء الدائم تقريبا منذ تكوين الجمهوريتين السورية والتركية في مطلع القرن الماضي حتى سنوات قليلة سابقة. وإذا كان هذا العداء قد تركز في بداية الاستقلال السوري على ذكرى الاضطهاد العثماني ثم ضم تركيا مقاطعة لواء اسكندرون عام 1938 فإنه لم يلبث حتى شمل قضايا كثيرة أخرى، وأهمها من دون شك الاختيارات الاستراتيجية المتعارضة للبلدين، الاطلسية في تركيا واليسارية في سورية. وفي هذا الإطار دخل البلدان أكثر من مرة في حالة نزاع كادت تفضي لحرب مدمرة. وليس هناك شك في أن الخوف من اجتياح عسكري تركي لسورية عام 1957 قد لعب دورا كبيرا في دفع الضباط السوريين المتنافسين على السلطة في دمشق إلى الذهاب إلى مصر وتوقيع اتفاقية الوحدة السورية المصرية عام 1958. وقد اتهمت مصر في ذلك الوقت أنقرة بالعمل لصالح الولايات المتحدة وبريطانيا لقلب الحكومة السورية القائمة، وهي حكومة ليبرالية، في إطار سعيهما المشترك لفرض حلف بغداد على العرب في إطار الحرب الباردة. وقد نظر الغرب بالفعل إلى حكومات سورية، منذ حرب السويس وتدمير أنابيب نفط العراق المارة عبر الأراضي السورية على أنها حكومات خاضعة لضغط اليساريين وسائرة بتوجيههم، خاصة بعد أن عقدت دمشق صفقة شراء السلاح من تشيكوسلوفاكيا عام 1955 وتقربت من الاتحاد السوفييتي في عهد رئس الوزراء خالد العظم.
وقد تجدد النزاع السوري التركي في التسعينات من القرن الماضي. واتهمت دمشق أنقرة بحجزها مياه الفرات عنها، وإرسالها المياه الملوثة عبر النهر، وتجفيف نهر الخابور، وطالبت بتوقيع اتفاقية لتقاسم المياه على أسس دولية رفضتها أنقرة حتى الآن. وتصاعدت حدة النزاع السوري التركي بسبب التعاون العسكري المتنامي بين تركيا وإسرائيل، واعتبرت دمشق، مثلها مثل الدول العربية جميعا، أنقرة أحد العواصم المعادية للقومية العربية والمتحالفة مع خصومها. وقد وصل النزاع إلى ذروته عام 1998 عندما هددت تركيا باجتياح الأراضي السورية لوضع حد لهجمات حزب العمال الكردستاني الذي كان يتلقى الدعم من سورية. وقد أسفرت الأزمة عن توقيع اتفاقية أضنة قبلت دمشق بموجبها وقف التعاون مع الحزب الكردي كما تراجعت عن المطالبة التاريخية باسترجاع لواء اسكندرون الذي كان نقطة خلاف دائمة وأبدية بين حكومات دمشق وأنقرة جميعا. لكن عهد التقارب الجدي الذي سيقلب الاتجاه شيئا فشيئا، محولا حالة العداء التاريخي إلى حالة من اللقاء الاستثنائي، إن لم نقل إلى ما يشبه الوحدة بين البلدين، بدأ عام 2004 عندما دفعت العزلة التي فرضتها الدول العربية وفي طليعتها مصر على النظام السوري، بل القبول بتقديم نظام الأسد كبش فداء للإدارة الأمريكية التي كانت عازمة على التخلص من أنظمة البعث السورية والعراقية في إطار إعادة ترتيب أوراق السيطرة على المنطقة. فلم تجد سورية خلال سنوات العزلة والحصار الطويلة، خاصة بعد اغتيال الحريري، سوى أنقرة للعب دور الوسيط بينها وبين الغرب، ومساعدتها على عبور المرحلة الصعبة.
هكذا، خلال أقل من خمس سنوات، كسرت العلاقات التركية السورية كل المحظورات وبوتيرة ملفتة. فتجاوز الحكام البعثيون في دمشق حواجز الثقافة والعقيدة السياسية، الرسمية والشعبية، وضغط الذاكرة التاريخية الحافلة بالمآخذ على أنقرة، بل وبالأحكام المسبقة عن الأتراك، فأقاموا مع هؤلاء، بصرف النظر عن استمرار تعاون أنقرة مع إسرائيل وعضويتها في الحلف الاطلسي، علاقات ثقة تتنامى كل يوم بشكل اكبر، حتى أصبحت أنقرة راعية المفاوضات السورية الاسرائيلية الرئيسية، والمدافع الأكثر حماسا عن النظام السوري في وجه الاتجاهات الغربية، الأمريكية والأوروبية، العدائية. ولم يتوقف التعاون على الميدان السياسي ولكنه سرعان ما انتقل إلى الميادين الاقتصادية والاستراتيجية. فبعد التوقيع عام 2004 على اتفاقية التجارة الحرة ، والبدء بتطبيقها عام 2007 ، أعلن البلدين، أثناء حفل إفطار أقامه رئيس الوزراء التركي للرئيس السوري في منتصف الشهر الماضي، عن فتح الحدود بين البلدين من دون سمة دخول. كما أعلنا عن تكوين مجلس للتعاون الاستراتيجي يجتمع بشكل منتظم، ويضم كبار مسؤولي الدولتين، بالإضافة إلى عشرات الاتفاقيات الأخرى. وما يلفت النظر في كل ذلك هو أن الاتفاقات الموقعة تنفذ بحذافيرها وفي موعدها المحدد إن لم تستبقه، ولا ينتهي مفعولها، كما هو الحال بالنسبة لمعظم الاتفاقيات الموقعة بين أعضاء الجامعة العربية، مثل اتفاقية منطقة التجارة العربية الكبرى بانفضاض حفل التوقيع. ويستطيع المرء معاينة ذلك من خلال التبادل المستمر للوفود من رجال الأعمال السوريين والأتراك، والإعلان عن استثمارات وشركات مشتركة بينهم، وبشكل خاص من خلال حضور البضائع التركية الكثيف في الأسواق السورية. وليس هناك شك في أن حجم التجارة السورية التركية الذي وصل خلال سنوات معدودة إلى ما يقارب الملياري دولار، والذي يتوقع أن يصل إلى خمس مليارات دولار خلال الأعوام القليلة القادمة يجعل من تركيا الشريك التجاري الأول لسورية.
ليس هناك سر في التقارب السوري التركي. فدوافعه واضحة ومعروفة بالنسبة للطرفين، والمصالح المتبادلة كبيرة أيضا لا يمكن لأحد أن يشك فيها، في الميادين السياسية والاقتصادية والتقنية والعلمية معا. السؤال:
لماذا نجحت تركيا في ما أخفقت فيه الدول العربية، وفي طليعتها القاهرة والرياض اللتين شكلتا مع دمشق المثلث الذي استند إليه استقرار المشرق العربي لعقود طويلة ماضية؟ بل لماذا أخفقت طهران أيضا في تقديم مرفأ آمن لسفينة دمشق الحائرة؟
السبب لأن تركيا بعكس العرب دولة مستقلة وناجحة، وبعكس ايران أيضا ذات علاقة قوية بالغرب. وإذا كانت طهران مفيدة لدمشق في أي مسعى للتمرد والاحتجاج، فأنقرة هي الجسر الوحيد نحو هذا الغرب الذي لا يزال يملك وحده مفاتيح الحل والربط في المنطقة. والأفراد يسيرون في النهاية وراء أصحاب الملاءة والفاعلية أملا في الاستفادة منهم، ولا يهتمون بمن هو أضعف منهم أو من يحتاج هو نفسه إلى من يساعده.
لكن إذا كانت تركيا دولة فاعلة اليوم تشد إليها سورية وغيرها فلأنها حلت مشاكلها الداخلية، ونجحت في سياستها الاقتصادية، واتبعت طريقا صحيحا في التعاون الدولي. فتركت منطق المجابهة لصالح العمل الايجابي الصعب والصبور والطويل المدى، فاكتسبت رصيدا كبيرا وثقة ثابتة، بينما لا تزال حكوماتنا العربية منقسمة بين أصحاب خط المزاودة القومية الفارغة من المضمون والمعنى، أو خط المناقصة وتقديم التنازلات المجانية على حساب استقلاليتها باسم الواقعية والفائدة. وسبب المزاودة والمناقصة في سياساتنا الخارجية واحد: افتقار نظمنا للشرعية الشعبية، وتوزعها بين من يبحث عن التعويض عن ذلك في الالتحاق بشكل أكبر بالدول الكبرى والدخول تحت حمايتها وقبول استراتيجياتها ومن يسعى إلى تعزيز سيطرتها الداخلية من خلا من خلال التلويح بورقة توت الوطنية الكاذبة وتضخيمها.
عندما تحل مسألة السلطة بشكل صحيح في بلادنا العربية، سيكون من الممكن الأمل بولادة سياسات خارجية عربية سليمة، عقلانية بالفعل وفاعلة، أي قادرة على تحصيل مكاسب وانتصارات، وبالتالي على جذب الآخرين واستقطابهم كما تفعل اليوم السياسة التركية.
لذلك لا ينبغي ان نشك في صدق اردوغان عندما يقول لزواره العرب إن أساس تقدم تركيا الاقتصادي والاجتماعي وتوسع نفوذها الخارجي هو الديمقراطية. فهي الكفيلة، وحدها فعلا، بتغيير قدر البلاد العربية وتخفيف البؤس المادي والسياسي الذي تعيش فيه جماهيرها الواسعة .