lundi, janvier 25, 2010

طريق السياسة المسدود

الاتحاد 27 يناير 10

وصل النقاش الدائر حول الدولة منذ أكثر من ثلاثة عقود في العالم العربي إلى طريق مسدود، لسببين غموض مفهوم الدولة ذاته أو تشوشه، والمطابقة المتزايدة في ذهن الرأي العام، في السياق الاستعماري وما بعد الاستعماري لظهورها، بين الدولة والهوية الجمعية، الدينية أو الإتنية أو الثقافية.

هكذا، عندما يتحدث الاسلامي المعاصرعن دولة إسلامية فهو يقصد في الواقع ما تسميه الأدبيات الفقهية الكلاسيكة، الإمامة. وهي تعنى بشروط تنصيب قائد الجماعة المسلمة، صفاته وطريقة اختياره، وحقوقه على الرعية وحقوق الرعية عليه. وليس لهذه الدولة المجسدة لنظرية الإمامة، أو بلفظ آخر الخلافة، والتي تتعلق بسلطة الامر، أي بتعيين من يستحق احتكار القرار العمومي، أي علاقة في الواقع بالدولة المؤسسة التي يتحدث عنها الليبرالي أو المتأثر بالفكر الليبرالي في عصرنا، والتي تنبع فكرتها أساسا من معارضة احتكار القرار العمومي من قبل فرد مهما كان. فالفكر الليبرالي يرى غاية الدولة في حفظ الحريات الفردية، ويعتقد أن حفظ هذه الحريات لا يتحقق إلا بفصل السلطات، وأن هذا الفصل هو أساس قيام بنية مؤسسية ترفع الدولة عن أهواء الأشخاص الذين يتقلدون مناصب القرار والمسؤولية فيها، وتمكن الأفراد من المشاركة في القرارات العمومية والولاء لقانون الجماعة، وتزيد بالتالي من نجاعة السلطة العامة واستقرارها وديمومتها. فهي نظام لاتخاذ القرار العمومي يجمع بالضرورة بين سلطة مركزية منتخبة ومجتمع يخضع لها بمقدار ما يشرف عليها ويضبطها ويخضعها لقيمه ومعاييره وحاجاته. وهذا ما دفع إلى تسميتها في النظرية الحديثة بالدولة الأمة التي تستمد السلطة فيها سيادتها من الشعب ولا تستمر إلا بفضل الشرعية التي تؤمنها لها الانتخابات أو الاستشارات الدورية. وبمقدار ما تجسد الدولة هنا إرادة المجتمع، وتعبر عن خياراته الممثلة في الأغلبية، فهي تنظر إلى نفسها على أنها دولة المجتمع، والمسؤولة الأولى عن تنظيم شؤونه وضمان حقوقه، والتنسيق بين المصالح المتباينة فيه، وتحقيق غاياته لا غايات فئة أو طبقة أو نخبة خاصة منه، سواء أكانت نخبة دينية أو ارستقراطية أو قبلية أو حزبية.

ويختلف الأمر عن ذلك عند أصحاب النظرية الماركسية الكلاسيكية التي ترى في الدولة أداة منفصلة بالضرورة عن المجتمع وقائمة فوقه تكاد وظيفتها تقتصر على إعادة إنتاج السيطرة الطبقية، وبالتالي إخضاع الطبقات الدنيا للطبقة السائدة والمالكة. وهذا ما يجعل من الدولة في نظر هؤلاء التعبير عن الاستلاب السياسي الذي تعيشه المجتمعات ما قبل الشيوعية، الناجم هو نفسه عن الانقسام الطبقي الذي يمثل البنية الأساسية للمجتمعات حتى وقتنا الراهن. والسياسة ليست في هذا المنظور شيئا آخر سوى تحقيق الدولة لوظيفتها، أي إخضاع طبقة لطبقة أخرى وتعزيز سيطرتها عليها. وهو ما قاد إلى دولة الحزب الواحد وديكتاتورية البروليتاريا الشهيرة، التي قامت وترسخت، في البلدان التي انتصرت فيها هذه الفلسفة، بالرغم من تركيز الماركسيين على أن التحرر الانساني، الفردي والجماعي، مربوط بتلاشي الدولة أو انطفائها. وقد عبر ماركس عن ذلك بجملة مشهورة يقول فيها إن نهاية حقبة الانقسام الطبقي داخل المجتمعات سوف تشهد ولادة تنظيم اجتماعي تحل فيه إدارة الأشياء محل حكم الأشخاص. فالإدارة ترتبط بتنظيم شؤون المجتمعات المادية أما الحكومة فهي تعمل على إعادة إنتاج انقساماتهم الطبقية، أي سيطرة طبقة على طبقة أخرى، من خلال تنظيمات تتجاوز الأشياء وتدخل في شؤون الأفراد والأشخاص العيانيين.

وأكثر من ذلك، هناك اليوم من يعتقد أن وجود الدولة نفسه لم يعد ضروريا من أجل قيام مجتمعات إنسانية منظمة ومتسقة ومنتجة، ومن الممكن، بل والضروري، كما يرى ديفيد فريدمان، استبدالها بوكالات خاصة تقدم خدماتها "السياسية" للأفراد، تماما كما يحصل في الخدمات والمنتجات الأخرى التي يتعامل بها السوق. ولا يبتعد فكر فريدمان الفوضوي الجذور كثيرا في الواقع عما نادت به بعض أطروحات اليمين النيوليبرالي، التي سيطرت في العقود الماضية، قبل الازمة المالية الكبرى، والتي نزعت إلى تجريد الدولة من وظائفها الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، وتعميم علاقات السوق على جميع أنواع الخدمات من قضاء وبريد وشرطة وأمن. وكان الانتربولوجي الفرنسي بيير كلاستر قد بين، في سياق آخر، أن الدولة ليست ضرورية لوجود السياسة، وأن غيابها، من حيث هي سلطة مركزية مهيمنة، وتراتب للسلطات، ومؤسسة متميزة ومنفصلة عن المجتمع، لا يفضي بالضرورة، كما بينت دراسته لمجتمع الاسكيمو، إلى غياب وظيفة التنظيم والتنسيق والتفاعل والتوحيد داخل المجتمع، ولا يترك هذا الأخير في فوضى عارمة.

ثم إن كثيرا من الدول التي نعرفها والتي ظهرت في الخمسين سنة الماضية أو أكثر، على أثر انحسار الموجة الاستعمارية، ليست جميعا دولا بمعنى واحد، حتى لو أنها استلهمت غالبا النظرية الليبرالية الشائعة. فالقليل منها من يقترب من النموذج النظري أو يسير في اتجاه تحقيق مشروع الدولة الحديثة. أما غالبيتها فليست في الواقع دول إلا بمعنى مجازي، أو شكلي. فهي إما ناقصة التكوين أو غير منجزة أو غير مستكملة لشروطها، وقسم كبير منها يسمى اليوم دولا مجهضة أو فاشلة.

لا يكفي الحديث إذن عن الدولة ولا الاعتداد بوجود سلطة مركزية موحدة وقاهرة. وإذا أردنا التقدم خطوة ولو صغيرة، على طريق حل أكبر قضية تقسم رأينا العام وتشتته اليوم، لا بد من تحديد طبيعة الدولة التي نتحدث عنها عندما نضع وجها لوجه ما نسميه أو يسميه بعضنا اليوم دولة إسلامية في مقابل دولة حديثة، أو دولة قومية أحادية الفكر والسلطة مقابل دولة ديمقراطية. وإذا كنا نقصد بالدولة مجرد وجود سلطة مركزية تنجح في إخضاع المجتمع لأمرها، بصرف النظر عن الوسائل المستخدمة، أي مهما كانت بدائية هذه الوسائل، وبصرف النظر عن رأي الأفراد وإرادتهم، فلن يكون هناك فرق بين الدولة السلطانية التي سيطرت على تاريخنا الماضي، وشكلت جزءا أساسيا من تراثنا السياسي بالفعل، وبين الدولة الحديثة الوطنية أو المواطنية. لكن في هذه الحالة سنظل ندور في حلقة مفرغة ولن نصل إلى أي نتيجة. والأمر يختلف عندما نعني بالدولة تلك المؤسسة الجامعة، التي أنتجت مفهوما جديدا للسياسة في العالم الحديث، وكانت إطارا لتكوين أمم هي اليوم في طليعة الشعوب الناجحة والمنتجة والمبدعة، أعني الدولة التي تقوم فيها السلطة على مشاركة جميع أعضاء الشعب، وتعمل لصالحهم، وتستمد شرعيتها من رضاهم وقبولهم وتأييدهم. وهو ما يستدعي وجود مجتمع سياسي مكون من مواطنين أحرار ومتساوين هم أدوات السياسة وغايتها. في هذه الحالة ينبغي أن نقبل أن دولة الحرية والاستقلال والتقدم والانتاج لا يمكن أن تقوم من دون أفراد أحرار، مستقلين في الرأي وفي السياسة، مكونين ومؤهلين للعمل والانتاج والابداع، أي من دون غرس قيم الحرية والسيادة والعمل والمسؤولية. مما يساوي في بلادنا ثورة ثقافية جديدة. وهذا ما نهرب منه غالبا، للأسف، من وراء شعارات دينية أو قومية أو ديمقراطية تكاد تكون ألفاظا فارغة.

mercredi, janvier 13, 2010

لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين

ربما كان أوباما من أول الرؤساء الأمريكيين الذين أعلنوا في حملتهم الانتخابية، والتزموا بعد نجاحهم بما أعلنوه، أولوية التوصل إلى حل للنزاع العربي الاسرائيلي ضمن الأجندة الخارجية الأمريكية. ولا شك أن أفكار أوباما وسلوكه وكذلك أصوله الإتنية وثقافته الشخصية المزدوجة، كل ذلك أثار التفاؤل عند العرب جميعا، مسؤولين ورأيا عاما من دون استثناء، وأمل الكثير منهم، كما فعلوا في المرات السابقة، أن تكون إدارة أوباما قادرة على لي ذراع اللوبي الاسرائيلي في الكونغرس وفرض قواعد جديدة لعملية المفاوضات تمنع إسرائيل من التهرب من التزاماتها وتفرض عليها خوض مفاوضات جدية مع الفلسطينيين. وفي سبيل إظهار مدى تمسك واشنطن بإطلاق مفاوضات جدية تقود إلى نتيجة واضحة على المدى القريب، أعلن أوباما عن ضرورة وقف الاسرائيليين للاستيطان بكامله وعن أهمية أن تناول المفاوضات، بعكس ما كان يحصل في السابق، مسائل الحل النهائي، بهدف الوصول خلال سنتين إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب الدولة الاسرائيلية. ولتعزيز موقفه تجاه العرب الذين فقدو الثقة تماما بواشنطن ورؤسائها، أحاط سياسته الجديدة بأجواء ايجابية عندما أعلن من جامعة القاهرة عن مصالحة أمريكية إسلامية، ولم يترك مناسبة إلا استغلها للتعبير عن تقديره للاسلام والمسلمين وحرصه على التعاون معهم على قاعدة الاحترام والندية. لكن لم تمض أشهر قليلة على التعبير عن هذه النيات الحسنة من قبل أوباما حتى وصلنا إلى طريق مسدودة . فقد رفض رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو وقف الاستيطان. ولم تنجح جميع جهود الدبلوماسية الدولية في زحزحة نتنياهو عن مواقفه قيد أنملة. وبدل ذلك أتبعت الحكومة الاسرائيلية برامج بناء الوحدات السكانية ببرامج جديدة، كما لو كان الهدف هو تحدي الإرادة الدولية، وبشكل خاص وضع أوباما في مأزق وتهديم سياسته الشرق أوسطية منذ البداية. وما زاد الطين بلة أن هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الامريكية، ناقضت رئيسها وصرحت أن وقف الاستيطان أو تجميده ليس شرطا لبدء المفاوضات، ولو كان محبذا من قبل الولايات المتحدة. مما شكل ضربة كبيرة لصدقية الرئيس الامريكي والإدارة الجديدة برمتها. وكان من الطبيعي في هذه الحالة أيضا أن يرفض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس التراجع عن شرط وقف الاستيطان إذا لم يشأ أن يبدو كدمية أو لعبة في يد الدبلوماسية الأمريكية. أما عودة نتنياهو في 25 نوفمبر 2009 إلى الحديث عن قبول إسرائيل تجميد الاستيطان لعشرة أشهر، باستثناء القدس، فهو مناورة مكشوفة لم تنطل على أحد، وبشكل خاص على الفلسطينيين. هكذا تبدد حلم البدء بمفاوضات جدية قادرة على الوصول بالأطراف إلى حل سياسي يسفر عن قيام دولة فلسطينية خلال عامين، وعدنا إلى الطريق المسدود نفسه الذي عرفناه خلال العقدين الماضيين بعد إطلاق عملية التفاوض في مدريد عام 1991. تساءلنا في ذلك الوقت: هل يمكن أن تنتهي سياسة أوباما الشرق أوسطية بهذه السرعة وتبدو كما لو كانت فقاعة هوائية فحسب؟ وهل من الممكن أن يقبل الرئيس الأمريكي بهذه الضربة المهينة معرضا صدقية إدارته ومن ورائها صدقية الولايات المتحدة ذاتها لخطر الشرشحة والسخرية؟ أم أن لديه إمكانية وفرص للرد على نتنياهو وإستعادة المبادرة؟ وما هي هذه الإمكانيات؟ وما هي مقدرة إسرائيل على مقاومة الإدارة الأمريكية والوقوف ضد ما تعتبره هذه الإدارة مصالح حيوية واستراتيجية أمريكية؟ لا شك أن لإسرائيل أنصار أقوياء في الولايات المتحدة، في الكونغرس وفي مواقع قرار أخرى. ومن دون ذلك ما كان رئيس الوزراء الاسرائيلي ليتجرأ على تحدي أوباما بالطريقة التي تحداه فيها، ضاربا عرض الحائط بهيبة الرئيس الأمريكي وإدارته بأكملها. ومن الواضح اليوم أن أوباما لم يمتلك الإرادة والتصميم اللازمين لمواجهة حاسمة، لا يزال الأمريكيون يتجنبونها منذ سنوات طويلة. والحسم يعني تقرير في ما إذا كانت الأولوية في السياسة الأمريكية الشرق أوسطية ستعطى للمصالح الاسرائيلية، وهي مصالح توسعية بامتياز وليست أمنية كما تدعي الحكومة الاسرائيلية، أم للمصالح القومية الأمريكية التي تمر، كما عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي نفسه، بالمصالحة مع العالم العربي والاسلامي، ووضع حد للتوسعية الاستيطانية الاسرائيلية. ولم يبق من مخرج من المأزق الذي وضعته فيه تصريحاته المتفائلة وتحدي نتنياهو له سوى في طلب الدعم من جديد من العرب لإقناع الفلسطينيين بالقبول بمفاوضات من دون انتظار وقف الاستيطان. وبذلك نكون قد عدنا إلى نقطة الصفر، كأننا يا هند لا رحنا ولا جينا. مهما كانت نوايا الرئيس باراك أوباما والتزامه بالمباديء القانونية والإنسانية، سيكون من المستحيل تحقيق نتائج أفضل في دورة المفاوضات الجديدة المقترحة بين العرب والاسرائيليين إذا واصلنا نحن العرب تسليمنا، كما هو الحال منذ عقود، بأن التوصل إلى تسوية سياسية هي مهمة الدول الكبرى والامريكيين بشكل خاص، واستثنينا أنفسنا من المشاركة وهربنا من مسؤوليتنا. فباراك أوباما وأنصاره المنادين بأولوية المصالح القومية الامريكية وبالتالي بالضغط على إسرائيل للقبول بتسوية قابلة للحياة، لن يستطيع إضعاف خصومه والانتصار عليهم داخل المؤسسة الأمريكية، إذا بقي العالم العربي كالجثة الهامدة، غير قادر على التدخل بأي شكل كان في معركة هي بالأساس معركته قبل أن تكون معركة أوباما. ولا ينبغي المراهنة على فكرة أن الامريكيين مضطرين لعمل شيء حتى يحتفظوا بصداقة الدول العربية المعتدلة أو تأييدها. فهم واثقون أيضا، وبإمكانهم وإسرائيل إبراز ذلك بوضوح، أنه لا خيار آخرا لهؤلاء، أو أنه ليس من واجب رئيس الولايات المتحدة الامريكية أن يكون عربيا أكثر من العرب أنفسهم. ومساعدة الرئيس الأمريكي لا تكون بالتسليم له وللأمريكيين بحسم النزاع، ولا من باب أولى بإظهار الاستعداد لتنازلات إضافية في فلسطين والقدس وغيرها، وإنما بالعكس في إبراز موقف عربي قوي ومستقل، يقنع الطرف الأمريكي المماليء لاسرائيل بأن الاستمرار على سياسة إطلاق يد إسرائيل في المشرق يعني التضحية الفعلية بمصالح أمريكا القومية. وهذا يحتاج من الحكومات العربية إلى الاجتماع والتفكير الجدي والرصين لاستكمال مبادرة السلام العربية بمبادرة "مواجهة محتملة" تكون بديلا جاهزا لها إذا فشلت أو لم يقبل مضمونها. ولا تعني المواجهة هنا بالتأكيد إعلان النزاع العسكري وإنما بلورة رزمة من الإجراءات القسرية والانتقامية التي تعطي للسياسة العربية أو تعيد لها بعض الصدقية. هذا هو المطلوب إذا لم نشأ أن نعيد تجربة جولة المفاوضات السابقة التي ركن فيها العرب إلى تدخل الدول الكبرى، ووضعوا ثقتهم فيها واعتقدوا بالفعل أن من مصلحة هذه الدول، حفاظا على مصالحها الحيوية في البلاد العربية، ايجاد مخرج للقضية الفلسطينية. وفي الحديث لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.

dimanche, janvier 03, 2010

وضع العرب أسوأ مما تقوله التقارير الدولية

حوارات مركز الجزيرة للدراسات

3 جنفييه 2010

المحور الأول: العرب وجيرانهم

1. كيف تفسرون الحضور التركي المتنامي في المنطقة، بما في ذلك في الرقعة العربية ؟

غليون:

لأن تركيا اليوم دولة فاعلة. والدولة الفاعلة تجذب غيرها تماما كما يجلب النجاح الشهرة والجاه. وهكذا بعد عزلة طويلة عن محيطها، دفعتها إلى الالتصاق بالكتلة الغربية، قبل أن تتحول إلى حليف استراتيجي لاسرائيل، عادت تركيا إلى بيئتها الجيوسياسية الطبيعية وأخذت تلعب دورا متميزا في شؤونها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية.

والسبب الذي جعل منها دولة فاعلة تجذب إليها الدول المحيطة بها أو المحتاجة لمساعدة أو دعم خارجيين، العربية منها وغير العربية، أنها نجحت في حل مشاكلها الداخلية، الثقافية والسياسية، ونجحت في سياستها الاقتصادية. فتركيا تحصد اليوم ثمرة الجهود التي بذلتها في العقدين الماضيين لإرساء أسس الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية، الصناعية والتقنية والعلمية، ومن وراء ذلك مصالحة تركيا مع تاريخها وثقافة شعبها وتراثه. هكذا نجحت في تجنب وتجاوز الحرب الأهلية المعلنة أو الكامنة التي عاشتها وتعيشها البلدان العربية، بين الاسلامية والعلمانية والتي تمزق الرأي العام وتشتت النخب الثقافية والسياسية وتحرم المجتمعات من تكوين أي إجماع وطني، أو حتى أغلبية سياسية يمكن من خلالها إقامة نظام سياسي مستقر قائم على أسس ثابتة من الشرعية الدستورية. وهذا ما أنتج أول تجربة سياسية فريدة في المنطقة أمكن فيها لحكومة إسلامية تعبر عن تيار الأغلبية الشعبية أن تستلم الحكم في إطار دولة علمانية، أو مع القبول بحيادية الدولة من الناحية العقدية والفلسفية، ومن دون الصراع معها أو تهديد نظامها. ولم يتحقق ذلك إلا بفضل التنازلات المتبادلة التي قبل بها طرفي الصراع. فقد قبلت النخبة العسكرية التي نصبت نفسها منذ قيام الجمهورية عام 1924 حارسا على السيادة الوطنية إلى التسليم بالأمر الواقع وقبول الشرعية الانتخابية، كما لم يتردد قادة حزب الرفاه الذي اصطدم بالعسكريين، في التراجع عن العديد من مواقفهم، بل في إعادة بناء الحزب الاسلامي على أسس ليبرالية جديدة، وتغيير اسمه للحفاظ على الخيار الديمقراطي والاستمرار في تطبيق برنامج العمل الوطني، بينما نادرا ما تجد بين الاسلاميين العرب إلى اليوم من لا يسخر من الديمقراطية ويسفه العلمانية ويكفر القائلين بها. وليس هناك شك أن وراء هذه التنازلات المشتركة التي عبرت عن نضج النخب التركية يكمن تطور مفهوم المصالح الوطنية التركية، لا من حيث هي تعزيز لوضع النخبة العسكرية وتأكيد هيمنتها، أي لا من حيث هي عنتريات سيادية شكلية ومظهرية، وإنما كبحث عن فرص تحسين شروط حياة الأتراك الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ومثلما نجحت تركيا في ايجاد طريقها لتحقيق الديمقراطية وما تعنيه من استقرار سياسي مشجع على المشاركة وبذل الجهد والاستثمار، نجحت أيضا في تحقيق وتائر تنمية صناعية واقتصادية مرتفعة ومنتظمة منذ ما يقارب العقدين. فتحولت إلى قوة إقليمية فعلية، اقتصادية وسياسية، وازنة في بيئتها. ونجحت أخيرا في تلقف الفرصة التاريخية وملء الفراغ السياسي والاستراتيجي الذي نجم عن إخفاق القوى الإقليمية أو تراجع نفوذها، وفي طليعتها القوى الغربية التي أفقدها تخبطها في حروب العراق وموقفها في فلسطين صدقيتها، وضعف السياسة الخارجية الايرانية وتفكك العالم العربي نتيجة إخفاقه في تحقيق أي شكل من أشكال التكتل الاقتصادي أو السياسي وتشتت شمل دوله وأقطاره ودخولها جميعا في ازمات سياسية واقتصادية وأحيانا شاملة جعلتها تلهي بمشاكلها الداخلية وتعزف عن أي مشاريع عمل إقليمية.

هكذا بمقدار ما تبلور مشروع وطني تركي يتمحور حول السيادة والاستقلال والحفاظ على الديمقراطية وتعزيز فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو مشروع حداثة حقيقية، تطورت بموازاته سياسة إقليمية جديدة تهدف إلى خدمته. وبدأت أنقرة التي كانت أعظم حليف إقليمي عسكري وسياسي لاسرائيل خلال عقود طويلة سابقة تشعر بمسؤوليتها تجاه مشاكل المنطقة ونزاعاتها. فناهضت سياسات إدارة بوش العدوانية، واستفادت من علاقتها التقليدية بتل أبيب من أجل فك العزلة السورية والسعي إلى تحقيق تسوية تضمن عودة الجولان المحتل، وعبرت أكثر من مرة عن دعمها لحقوق الشعب الفلسطيني واستعدادها للعب دور في أي تسوية سياسية. وأدانت الحرب الاسرائيلية الهمجية على غزة عام 2008. ولم يتردد وزير خارجيتها في زيارة غزة ثم في إلغاء أنقرة المناورات العسكرية المشتركة التي كانت تجري، مع الجيش الاسرائيلي، على حدود سورية الشمالية. ولا يترك زعماء تركيا العدالة والتنمية مناسبة من دون أن يظهروا اهتمامهم بمصير منطقتهم وحرصهم على المساعدة في بسط الاستقرار والسلام فيها. وهم يحققون بسبب ذلك مكاسب استراتيجية واقتصادية وسياسية وثقافية متواصلة لا تحلم بها أي من الدول العربية الرئيسية. فتركيا تحصد اليوم ثمار عملها لأنها عملت أولا ولأنها تظهر بالملموس التزامها بمنطقتها ومقدرتها على حمل المسؤولية، أي قبول بعض المخاطر والتضحيات لصالح تحقيق الاستقرار في منطقتها ومحيطها، بينما لا تكف الأقطار العربية عن تمنين بعضها البعض أي جهد تبذله هذه أو تلك لدعم قضية من القضايا القومي

2. في مقابل هذا الصعود المتنامي للدور التركي يلاحظ تراجع مريع في الدور العربي بما في ذلك في مجاله الحيوي، فما السبب في ذلك؟

غليون:

هذه هي النتيجة الطبيعية أيضا لإخفاق العرب في إنجاز المهام الثلاث التي نجحت تركيا في أيجاد حل مناسب لها، ضمن لها الاستقرار والتقدم المضطرد والهامش الكبير من الاستقلال والمبادرة الخارجية. فبينما كانت تركيا تجرب وتطور سياسات جديدة تماما، داخل تركيا وتجاه المنطقة المحيطة بها، العربية وغير العربية، بقيت الأقطار العربية، وبلدانها المركزية في المقدمة، ندور في الحلقة المفرغة ذاتها، وتعجز عن الخروج من المآزق الفكرية والسياسية والاقتصادية التي وضعت نفسها فيها، وتهرب من متطلبات الاصلاح بإغلاق أشد لمنظومات الفكر وللنظم السياسية وللمبادرات الاقتصادية. وبالإضافة إلى الفخ الذي نصبناه لأنفسنا في الخمسينات والستينات حول الهوية القومية والهوية الوطنية والمفاضلة بينهما، وحول نمط الوحدة المطلوبة قومية مركزية أم اتحادات إقليمية، أدخلت النخب العربية المأزومة الرأي العام في فخ الاختيار بين الهوية الاسلامية والهوية العربية أو القطرية، وصار محور جهدنا موجه لتمييز الدولة الاسلامية عن الدولة العلمانية والعكس، أي للمماحكات النظرية والسياسية. ولا تزال النزاعات بين العلمانينن والاسلاميين تفتت، منذ أكثر من ثلاثة عقود، الجمهور العربي وتمنع من قيام أي إجماع وطني، أو أغلبية سياسية تسمح بإقامة نظام سياسي يحظى بالشرعية ويحسم نهائيا أزمة التداول على السلطة، أي الاتفاق على قاعدة واضحة، هي بالضرورة الديمقراطية. ولذلك بقي الحكم عندنا من حظ الأقوى والأكثر مقدرة على الغش والخداع والتفاهم مع القوى الخارجية. ولم يعد حتى الوصول إلى هذه القاعدة هو محور النقاش العربي في الشؤون السياسية وإنما أصبح في الأقطار العربية الجمهورية، والملكية أحيانا، يدور حول أحقية الأبناء في وراثة مناصب أبائهم وكيف يمكن الحيلولة دون تعميم نموذج ما أطلق عليه البعض اسم الجملكية، أي تحويل الجمهوريات إلى ملكيات وراثية. والحال أن نظمنا السياسية بدل أن تتقدم في اتجاه الديمقراطية كما حصل في تركيا تراجعت إلى نمط من السلطة السلطانية أو المملوكية التي لا تعنى لا بموضوع الشرعية ولا بالرد على حاجات تطور المجتمعات السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

لقد همشت الدول العربية المركزية التي كان من الممكن أن تلعب دور استقطاب للدول الأصغر نفسها بمقدار ما راوحت في مكانها في القضايا المحورية، من قضية التنمية واستغلال فرص الاندماج الإقليمي، إلى قضية الديمقراطية وبناء إطار قانوني واضح لتداول السلطة وممارستها على جميع الأصعدة، إلى قضية التفاعل الايجابي مع حاجات محيطها وتقديم يد المساعدة للشعوب المنكوبة فيه، وفي مقدمها قضية الاحتلال للاراضي العربية، وتقرير مستقبل الشعب الفلسطيني..

ويكفي في هذا المجال أن نقارن على سبيل المثال بين خيارات السياسة الخارجية التركية، وقد ذكرنا أهمها فوق، وخيارات مصر ما بعد الناصرية، وهي الدولة العربية الأكبر والأم، لنعرف أسباب التفاوت في دور البلدين. وربما كان المفتاح لفهم الفارق الحاسم بين هذه الخيارات موقف كل من البلدين من المساومة على سياسته الإقليمية. فبينما حرصت مصر، لقاء تنازلات مستمرة عن مسؤولياتها الإقليمية، وهذا مطلب رئيسي أمريكي إسرائيلي، وتقوقعها على حدودها ومصالحها القطرية، على ضمان استمرار المعونة المالية الأمريكية التي حصلت عليها ثمن توقيعها اتفاقات كمب ديفيد وفرطها التحالف العربي، وهي لا تتجاوز ملياري دولار، رفض البرلمان التركي عرض الولايات المتحدة مبلغ عشرة مليارات دولار للسماح لها باستخدام أراضيها في حربها ضد العراق عام 2003 ، من دون أن تستطيع واشنطن التأثير على أنقرة أو ثنيها عن قرارها. وكان هذا الرفض تأكيدا لإرادة الاستقلال التركي الذي سيكون رأسمال أنقرة الرئيسي في مبادراتها الإقليمية في السنوات القليلة الماضية التي شهدت تصاعد دورها ونفوذها. لكن حتى عندما رفضت أن تساوم على استقلال قرارها، لم يمنعها هذا الموقف من الاستمرار في طلب الاندماج في الاتحاد الأوروبي والتعامل الايجابي مع الغرب عموما وتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة. بينما نحن نخضع للأمريكيين والغربيين عموما ونشتمهم في الوقت نفسه فنخسر على الجبهتين. والواقع أن من الصعب فصل خيار أنقرة الاستقلالي والسيادي عن الخيارات الديمقراطية الداخلية للنخبة السياسية التركية على مختلف مشاربها.

ليس هناك إذن أي سر في تراجع دور الدول العربية الرئيسية التي كان يعول عليها لإعادة بناء المنطقة العربية وإدماجها، مثل مصر والسعودية وسورية وغيرها، وانحسار نفوذها جميعا في المنطقة، ما خلا ما تحقق بالقوة والقهر، وفي المقابل تقدم تركيا وتنامي دورها في الشرق الأوسط والعالم العربي خاصة. فمعظم الدول العربية اختارت التفريط بالاستقلال والسيادة للحفاظ على دعم الولايات المتحدة وأوروبة لنظمها ا لسياسية أو لحق أبنائها في توريث السلطة، وأدارت ظهرها للديمقراطية في سبيل تأكيد استقرار خادع تساوي بينه وتخليد الوضع القائم بالقوة، لتنتهي إلى إرساء تقاليد شبه امبرطورية. وبدل العمل على توفير شروط الارتقاء بمستوى حياة السكان الثقافي والعلمي وتحسين شروط معيشتهم وإرساء أسس المجتمع الصناعي الحديث، قبلت النخب السائدة بسيطرة اقتصاد زبوني قائم على الاحتكار والمضاربة وتقاسم المنافع بين أقلية اجتماعية محدودة على حساب سعادة الأغلبية ومستقبل أبنائها، وهو نقيض مشروع الحداثة وعكسه. واختارت أخيرا، دعما لهذا المشروع السلطاني، سياسات سيادية مريضة لا تعني في الواقع سوى الانفصال عن محيطها العربي ورفض تحمل أي مسؤولية في ضمان مستقبل المنطقة ومستقبل أبنائها. ولا يزال التبرؤ من العروبة أو شتمها نغمة سائدة لدى أكثر من نخبة عربية سائدة تريد التنكر لالتزاماتها ومسؤوليتها والتفاهم من وراء ظهر الأقطار الأخرى لتحقيق مصالح آنية. والنتيجة لا تزال الشعوب العربية نعيش في أطر النظم ذاتها التي قامت في الستينات والتي عرفت درجات متفاوتة من الانحطاط والاهتلاك، بينما لم ننجح في تحقيق أي تنمية اقتصادية أو اجتماعية أو علمية أو تقنية. كل قطر يعيش في أزمة داخلية تمنعه من التفكير في ما وراء مسائل حماية السلطة وتأمين ديمومتها وشحذ شوكتها في مواجهة المخاطر الحاضرة والقادمة معا، ولا أحد يفكر منها بشيء آخر.

3. وما هي نظرتكم للعلاقات العربية الإيرانية؟ وهل إيران صديق يعتمد عليه أم أنها عدو يخشى منه؟

غليون:

ايران دولة أساسية في الشرق الأوسط، تتمتع بموارد مادية ومعنوية كبيرة، وتحظى بنخب سياسية أكثر نضجا والتزاما بالمصالح القومية من نظيراتها العربية. ومن الطبيعي أن تدفع بها الثورة الاسلامية التي وضعتها على طريق الاستقلال عن الهيمنة الأمريكية إلى الطموح إلى لعب دور متزايد في المنطقة. والمشكلة لا تكمن في نظري في وجود أجندة قومية أيرانية ولا في إرادة التوسع والنفوذ التي تحركها نحو البلاد المحيطة، وفي مقدمها نحو البطن الرخو الذي تمثله البلاد العربية التي أصبحت تفتقر إلى عمود فقري بسبب إخفاقها في إقامة أي شكل من أشكال الاتحاد أو التعاون المنتج في ما بينها. فهذا هو الأمر الطبيعي الذي يسم سلوك جميع الدول القومية.

لكن بالرغم من ذلك كان من الممكن أن تكون إيران الاسلامية ظهيرا كبيرا للعرب في مقاومتهم للسياسات الاستعمارية وشبه الاستعمارية ومشاريع الاستيطان والتوسع الصهيونية. إلا أن مواقف ايران التي تصب في صالح العرب قد تحولت إلى وسيلة إضافية لتعميق الانقسام العربي بمقدار ما فشل العرب في فهمها والتعامل الايجابي معها من وجهة نظر عربية. فبسبب افتقار العرب لأجندة قومية أو إقليمية، حتى في مواجهة عدوان الدولة الصهيونية وحروبها، ظهرت السياسة الايرانية المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني كما لو كانت وسيلة ضغط كبيرة على بعض الدول العربية اليائسة أو المنسحبة والمنكفئة على نفسها، بينما وجدت دول عربية أخرى في التحالف معها وسيلة لتعزيز موقفها تجاه نظيراتها العربيات وتحديهم والمزاودة عليهم.

باختصار، إن سيطرة الانقسامات والحروب داخل الصف العربي وبين أقطاره وغياب أي أجندة قومية عربية مشتركة، لم يمنعا العرب ققط من الاستفادة من رصيد الدولة الايرانية الذي صب في صالحهم بعد أن كان في حساب الدولة الصهيونية، وإنما حولا هذا الرصيد الايجابي ذاته إلى لغم يفخخ بشكل أكبر العلاقات العربية العربية ويغذي الحروب الدائمة في ما بينها. وليست ايران هي المسؤولة عن ذلك إنما الدول العربية: المعتدلة التي صارت ترى في السياسات الايرانية الجديدة احراجا لها بعد تخليها عن فكرة المواجهة مع إسرائيل ومراهنتها الاستراتيجية على المفاوضات السياسية، والممانعة التي استخدمت الرصيد الايراني لتزيد في أوراق ضغطها على البلاد العربية الاخرى لتحقيق مصالح سياسية ضيقة. وهذا ما عمق الشرخ القائم بين المحاور العربية وأراح إسرائيل وجعلها تتفرغ للقضاء على القضية الفلسطينية ومستقبل شعبها في ظل الحرب العربية العربية التي أصبحت العلاقات مع ايران أحد أهم محاورها وجبهاتها.

هذا يعني لن تصبح ايران وسياساتها المعادية لإسرائيل والغرب رصيدا للقضية الفلسطينية والعربية إلا عندما يتفاهم العرب على أجندة واحدة في القضايا الإقليمية ويكفوا جميعا عن استخدام ايران كفزاعة أو كقوة حليفة، في صراعاتهم الداخلية، الأهلية والمابين عربية.

4. مكانة العرب في الكثير من التقارير المتعلقة بالتنمية الاقتصادية أو البحث العلمي كتقرير التنمية الإنسانية العربية مثلا هي مكانة متدنية إلى أقصى حد فهل تعطي هذه التقارير صورة دقيقة عن الأوضاع العربية أم أنها تميل إلى الانتقاء والمبالغة كما يقول البعض ؟ وإن كان تشخيصها دقيقا فما سبب هذا الفشل العربي؟

غليون:

ليست التقارير مهما بلغت من الدقة تصويرا طبق الأصل للواقع، وليس هذا هو مطلوب منها. إنها تقدم مؤشرات مبنية على وقائع نسبية، لكن صادقة أيضا بمقدار ما يعتمد في رسمها على طرائق الرصد والملاحظة والتحليل العلمية. وفي اعتقادي أن الاتجاهات التي تدل عليها هذا التقارير وتبينها المؤشرات التي استخدمت فيها صحيحة وليست مبالغا فيها. بل انا أعتقد أن وضع العالم العربي أسوأ مما تقوله التقارير، لأن الكثير من التقارير التي تهتم كثيرا بالأرقام الإحصائية تبقى على السطح ولا تستطيع أن تنفذ إلى الديناميكيات العميقة التي تعمل داخل المجتمعات. وفي نظري إن أزمة المجتمعات العربية تتجاوز حاصل جمع الازمات الاقتصادية والسياسية والوطنية والفكرية، وتمتد في العمق إلى الأساس الذي تقوم عليه، أي إلى ما يجمع بين أفرادها ويحولهم من غبار أو ذرات متجاورة إلى عضوية حية ويجعل لهم قلبا وإرادة ووعي يسيرونهم ويوجهونهم ويوحدونهم فيصبح بإمكانهم عندئذ بلورة سياسات ووضع خطط للمستقبل ومواجهة التحديات وحل الأزمات والمشاركة في تقرير مصيرهم. هذه اللحمة او الاسمنت الذي يجمع ذرات الأفراد بعضها إلى بعض ويؤلف منها مجتمعا حيا متضامنا ومتفاعلا وفاعلا، أي منتجا ومبدعا، تكاد تكون اليوم غير موجودة أو هي في طريق الانحلال نهائيا تاركة الأفراد من دون سند ولا رؤية ولا مقدرة على التوجه في الواقع والمستقبل. هذا يعني أن الأزمة سوف تستمر وتتفاقم، ومعها الأرقام والمؤشرات التي لا يستطيع التقرير رصد احتمالات نموها وزيادة سوئها. وأنا لا أعتقد أن هناك حل في الأفق المنظور للفوضى الفكرية والعقيدية التي تعيشها الشعوب العربية، ولا لنظام الحكم والإدارة المبني على القهر والإخضاع ومحو الشخصية، بما تعنيه من وعي وإرادة مستقلين، ولا لتجاوز اقتصاد رأسمالية المضاربة العائلية أو شبه المافيوية وهدر الموارد وتوزيعها على المحاسيب والأقارب، وما ينتجه من تدهور مضطرد في مستوى معيشة السكان وأسلوب حياتهم وقيمهم وأفكارهم وعقائدهم.

وفي اعتقادي أيضا أن السبب الرئيسي لهذا الوضع الذي وصلت إليه المجتمعات العربية هو الانحطاط الرهيب الذي أصاب النخب الاجتماعية، والسائدة منها بشكل خاص، نتيجة عقود طويلة من سياسة العسف وتقييد الحريات والحجر على التفكير وتخريب العقول وحكم الشعوب بالتخويف والإرهاب، وإكراهها على الانكفاء على ما يشبه الأوكار التي حلت محل الأوطان. وهو ما ساهمت فيه قوى متعددة، عربية واجنبية، كان لها ولا يزال مصلحة في تهميش الشعوب العربية وإخماد جذوة تفكيرها وكفاحها، وإعادتها، كما قيل أثناء الحرب الأمريكية العراقية، إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية. وليس ضمان وجود إسرائيل وتوسعها وتأمينها على نفسها ومستقبلها بعيدا عن هذا الذي جرى ولا يزال يجري. وقد حصل ما يشبه ذلك في المرحلة الأولى من تأسيس إسرائيل حيث كان غض النظر عن قيام إسرائيل واستيطانها هو الثمن الرئيس لتكريس النخب في مواقع الحكم وتأمينها على نفسها واستقرارها.

لكن جميع ما ذكرت لا يغير من واقع أن المسؤولية السياسية في استمرار التدهور في شروط حياة المجتمعات العربية ومواقعها الإقليمية والدولية تقع قبل أي فرد آخر على النخب العربية الحاكمة. فهي التي تحافظ على الوضع القائم وتدافع عن إعادة إنتاجه وتقمع أي فكرة أو حركة تهدده أو تسعى لتغييره، ضمانا لمصالحها الخاصة وحماية لها.

5. لقد راهن النظام الرسمي العربي على ما أسماه بإستراتيجية السلام واليوم يقر بأن هذا الخيار قد وصل إلى مأزق على نحو ما صرح بذلك الأمين العام الجامعة العربية مرات عدة، فما هي الخيارات المتاحة أمامه اليوم؟

غليون

هذه هي إحدى التحديات التي يواجهها هذا الذي تسميه نظاما وهو لم يعد كذلك، وإنما أصبح فوضى فالتة، ولا احد فيه يشعر بمسؤولية عن شيء ولا بالتزام بقضية، أعني تحدي غياب أي اختيار آخر. فقد وضعت الحكومات العربية نفسها، منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 الذي قبلت فيه بتقديم تنازلات استراتيجية ومبدئية، وأقرت فيه بأن حرب اكتوبر 1973 هي الحرب الأخيرة مع إسرائيل، ولن يكون هناك حل للنزاع إلا بالمفاوضات، أقول وضعت نفسها في طريق ملغومة، إن لم يكن في فخ، وتركت لإسرائيل الحرية في أن تطبقه عليها. وهو ما لم تتردد هذه في فعله برفضها أي صيغة من صيغ السلام واستمرارها في عملية الاستيطان التي تكاد تقضي على أي أمل بإقامة دولة فلسطينية. ومن ينظر إلى الوراء في تاريخ العقود الماضية يرى حقيقة ما حصل وما سيحصل في المستقبل. فبينما تخلى العرب عن سلاح الحرب، أي في الواقع عن التهديد بالحرب، وهي وسيلة الضغط الوحيدة لتحقيق السلام، لم تكف إسرائيل عن شن الحروب في لبنان وفلسطين وكل قطر يتحدى إرادتها التوسعية. والنتيجة أن إسرائيل استفردت بحق شن الحرب بعد أن ألزمت العرب أو ألزموا أنفسهم بالتخلي عن سلاحهم، وأجبرت العرب على التفاوض من دون سلاح وتحت ضربات سلاح الخصم.

إذن أمام هذا اللانظام، حيث كل يهرب بنفسه وينسحب من المسؤولية، ليس هناك خيارات. كما أن هذا اللانظام لا يبحث عنها أصلا. فهو مسلم بما يحصل ولا يهمه ماذا ستفعل إسرائيل في فلسطين. لقد اسقطها في نظري من الحساب واعتبرها منذ سنوات من جملة الخسائر والمفقودات.

الخيارات لا توجد إلا بتجاوزه والخروج من الحرب العربية البينية والتقدم، كما فعلت البلدان المجاورة، نحو إعادة بناء الوطنية العربية، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من إعادة اعتبار للفرد المواطن، وللدولة وللاقتصاد، ومن إحياء قيم المسؤولية السياسية والمدنية التي لا تقوم من دون احترامها والدفاع عنها جماعة مدنية وسياسية.

المحور الثاني: الدولة والمقاومة

1. يثير الوضع الفلسطيني والحالة اللبنانية كذلك علاقة الدولة بالمقاومة الكثير من التساؤلات حول صلة المقاومة بالمساومة السياسية فهل هناك تناقض بين الأمرين؟ وأيهما الأقدر على القيام بالتزامات القضية الفلسطينية واستحقاقاتها أهو الطرف المقاوم أم الطرف المفاوض?

غليون:

مأساتنا تنبع بالضبط من فصل حركة المقاومة عن بعدها السياسي وعملية المفاوضات السياسة عن المقاومة. فالمقاومة من دون أفق مفتوح للحل، وبالتالي لقبول تسويات ولو مرحلية، وهو ما يضمنه الاستعداد للتفاوض، تصبح من قبيل العبث والاقتتال من دون جدوى ولا نتيجة واضحة أو محتملة. والسياسة أو التفاوض السياسي من دون مقاومة حقيقية واستعداد للتضحية يتحول لا محالة إلى مساومة، ولا يستطيع ان ينتج إلا تنازلات بعد تنازلات. فالفصل بين المقاومة أو قطعها عن السياسة والسياسة المنزوعة من أي مقاومة لا تحرم كليهما من تحقيق أي نتائج فحسب، وهذا ما تعيشه القضية الفلسطينية منذ عقود، وإنما ينقل الحرب من جبهة العدو إلى الجبهة الداخلية. وهذا هو معنى النزاع الراهن والمستديم بين حماس وفتح أو بالاحرى ما يسمى السلطة الفلسطينية.

كلاهما إذن عبث وطريق مسدود. وكلاهما متخلفان عن وعي الشاعر العربي الذي أنشد منذ قرون: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو اول ولها المكان الثاني. والرأي يعني هنا السياسة أو الحكمة السياسية، وتعني الشجاعة الاستعداد للتضحية ولو بالنفس. وشعب فلسطين والشعوب العربية غنية بالإثنين معا، لكن ضيق صدرالنخب وقصر نفسها وغياب بعد النظر، والخوف من الفشل واستبدال رد الفعل الآني بالفعل الطويل النفس والمتأني، والبحث عن الانتصارات الرمزية السريعة في إطار الصراع على السلطة ومن أجل البقاء في إطار حصار لا إنساني ومتوحش، كل ذلك أفقدنا جميعا البصيرة وجعلنا نرى ماءا قريبا حيث لا يوجد غير السراب.

2. ما هو الرد المناسب على تكريس الهيمنة الأمريكية في المنطقة وسعيها إلى القضاء على أية مقاومة تقف أو يمكن أن تقف في وجهها، وما هي الخيارات المتاحة امام العرب؟

غليون:

كدت أقول أن الهيمنة الأمريكية قد انتهت، أو هي في طريقها إلى الانتهاء بعد حرب العراق وأفغانستان والازمة المالية الكبرى، لولا أنني خشيت أن يساء فهم هذا الكلام من قبل التفكير البسيط والمبسط. لكن إذا كانت هذه الهيمنة لا تزال موجودة فليس ذلك بسبب ما تتمتع به واشنطن من قوة قهر وردع وإقناع وإنما بسبب الطلب المحلي المتنامي عليها. فقد خسرت الولايات المتحدة معركة الهيمنة العالمية، بخسارتها معركة السيطرة الأحادية على الشرق الأوسط، وقبلت بأن تدخل شريكة للقوى الأخرى في إدارة شؤون المنطقة، بما في ذلك قوى إقليمية محلية. وهي تتخبط في أفغانستان ولا تعرف كيف تنسحب من دون إراقة ماء الوجه من العراق. وكما انها لم تنجح في فرض إرادتها في بلد صغير كلبنان لنزع سلاح حزب الله، فشلت أيضا في حصار بلد فقير وضعيف ومحدود الموارد كسورية. ولم تستطع إدارة بوش المتهورة أن تفعل شيئا أمام رفض البرلمان التركي السماح لقواتها باستخدام الأراضي التركية، بالرغم من أن أنقرة عضو في حلف شمال الأطلسي. وهاهو رئيس الوزراء الاسرائيلي يتحدى الإدارة الامريكية ويرفض الإذعان لضغوطها بشان تجميد الاستيطان، ولا تجد وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، مخرجا لهذا التحدي إلا في لحس تصريحات رئيسها وسحب شرط تجميد المستوطنات. أما في ايران فتجد واشنطن نفسها أمام لا خيار سوى التمديد في المفاوضات أملا في أن تقبل طهران مع الوقت بتسوية في مسالة إنتاج الطاقة النووية.

كل هذا يدل على أن الهيمنة الامريكية في مرحلة أفول وأفول سريع. والمشكلة أنه لا توجد عند العرب قوة، تتحلى بحد أدنى من الصدقية الاستراتيجية والسياسية والأخلاقية، يمكن أن تملأ الفراغ الذي يتركه أفولها. وهذا ما يفسر الصعود المستمر والسريع للنفوذ الايراني ثم التركي في العالم العربي. وما تبقى لواشنطن من هيمنة يرجع الفضل الرئيسي فيه إلى إرادة النخب العربية. فمعظمها حتى لا نقول جميعها تشعر بأن كفالة أمريكا ضرورية لها اليوم أكثر من أي أي شيء آخر لضمان استقرار الأنظمة وأمنها، ولتزويدها، بسبب ما تعاني منه من اهتلاك وإفلاس شاملين، بحد أدنى من الصدقية السياسية والاستراتيجية في مواجهة الدول الصاعدة في المنطقة، وهي ايران وتركيا وإسرائيل. ونتيجة الكساح الذي فرض على نخبها، أصبح دعم الولايات المتحدة أيضا أمل أي معارضة محلية تتعرض لبطش الأنظمة وقهرها.

هكذا صارت هيمنة واشنطن نتيجة أوضاعنا المريضة في البلاد العربية عنصرا أساسيا من عناصر توازن النظام في كل بلد عربي واستقراره. ولو لم توجد حقا لكان على العرب إيجادها، وهم يشترونها بأثمان باهظة أيضا. يكفي لإدراك ذلك مقارنة سلوك تركيا وايران واسرائيل وسلوك حكوماتنا تجاه واشنطن وتجاهنا نحن الشعوب العربية.

والقصد أن المشلكة اليوم ليست في الهيمنة الامريكية وإنما في النظم العربية التي تستدعي هذه الهيمنة وتطلبها، بمقدار ما أصبحت تفتقر، بسبب خياراتها السياسية والاستراتيجية الخاطئة منذ عقود، لأسباب الحياة الطبيعية والشرعية الدستورية. وإذا لم ننجح في معالجة أزمتنا العربية التاريخية، والخروج منها نحو آفاق جديدة، ستكون الفوضى هي الثمرة الوحيدة لإخفاقنا في بناء مجتمعاتنا، ولن يكون للاستقلال نفسه في هذه الحالة ولا للوطنية والقومية أي قمية ومعنى، وستتحول المقاومات والمساومات جميعا إلى استراتيجيات خاصة للصراع على السلطة والموارد في عالم عربي يفتقر لأي رؤية أو مشروع رؤية وطنية

المحور الثالث: العرب والغرب:

1. كيف ترون موازين القوى في المنطقة العربية اليوم بعد مأزق الاحتلال الأمريكي للعراق وبوادر إخفاق مماثل في أفغانستان؟ فهل نحن نشهد مقدمات تراجع دور القوة الأمريكية في الشرق الأوسط؟

غليون:

نعم نحن نشهد ذلك وهذا ما ذكرته للتو. لكن ليس لصالحنا بالضرورة. فتراجع الأمريكيين وانحسار نفوذ الغرب في بلادنا ومنطقتنا يستحث قوى أخرى، من خارج المنطقة وداخلها على ملء الفراغ والحلول محله، طالما أننا غير قادرين، بسبب ما وصفت من أوضاعنا حتى الآن، الاستراتيجية والسياسية والمعنوية، على الارتقاء إلى مستوى القوى الإقليمية المؤثرة، أي طالما لم نبلغ بعد سن الرشد في مواضيع السلطة والسيادة ونتحول إلى فاعل تاريخي. وإذا استمرت أوضاعنا على تدهورها، سوف نتحسر على الهيمنة الامريكية لأن سياسات القوى الصاعدة تجاهنا لن تكون أرحم منها ولا أكثر رأفة بنا واحتراما لمصالحنا.

2. في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما ووعوده والآمال العربية والإسلامية المعلقة على تلك الوعود، هل ترون أن باستطاعة أوباما أن يحقق سبقا لم يصدر عن رئيس أمريكي قبله فيما يتعلق بالسلام العربي الإسرائيلي أم أنها مجرد وعود انتخابية؟

غليون:

كان هذا أملا ضائعا. لقد أظهرت الوقائع أن النظام أقوى من الفرد، وإرادة أوباما لا تستطيع أن تتغلب على عطالة النظام والإدارة الأمريكيين، المتصلين اتصالا عميقا بقوى مؤيدة لإسرائيل وحريصة على أمنها وتوسعها. ونحن العرب لم نساعد أوباما، ولا ساعده الاوروبيون الذين أصبح موقفهم بعد وصول نيقولا سيركوزي للسلطة أكثر تأييدا لاسرائيل من الإدارة الامريكية الجديدة. فلم يقف هؤلاء معه لبناء موقف صارم من حكومة نتنياهو. اما العرب فقد قدموا مبادرتهم العتيدة للسلام وكفى الله المؤمنين القتال. في هذه الحالة لا أرى مبررا كي تكون الإدارة الامريكية ملكية أكثر من الملك. على العرب أولا أن يظهروا استعدادا لتغيير استراتيجيتهم والعودة إلى منطق العلاقات الدولية الطبيعي، أي استخدام القوة او التهديد باستخدامها، وقبول حد ادنى من المخاطر والتضحيات المحتملة، حتى يمكن ثني عزيمة إسرائيل وتحسيسها أن مبادرة السلام خطوة جدية، وأن لرفضها تكلفة على إسرائيل ومن يدعمها من الدول الغربية وغير الغربية أن يقدرها ويتحملها. وإلا فلا يمثل ما نقوم به خطة سلام ولا سياسة ولا استراتيجية.

3. كيف تنظرون إلى الشراكة المتوسطية (الأوروبية –الشرق أوسطية) ولصالح من هذه الشراكة: الأوروبين ومعهم إسرائيل أم لصالح العرب؟

غليون:

ما قلته عن ايران يصلح أيضا لموضوع الشراكة الاوروبية المتوسطية. فأوروبة كايران قوة مجاورة، ولا يمكن لنا أن نتجاهلها ولا يمكنها أن تتجاهلنا، خاصة في عصر الانفتاح العالمي الراهن. ومن الطبيعي أن تكون بيننا علاقات متعددة وأن تتبلور خطط طويلة المدى للتعاون الاقتصادي والاستراتيجي والسياسي. واتفاقيات الشراكة القائمة لا تصل إلى هذا المستوى الذي نطمح إليه. إنها كناية عن برنامج بسيط للمساعدات الاقتصادية يهدف إلى تحسين علاقات أوروبة بجوارها، وإذا أمكن الحصول على أداة للضغط على هذا الجوار، عندما تتطلب ذلك المصالح الأاوروبية، خاصة في مسائل مثل الهجرة والتعاون الدولي وحقوق الانسان. بيد أن أوروبة تدرك أنها لن تستطيع أن تشتري الدول العربية المتوسطية بمليارات محدودة، ولا أن تربطها بها، وأن لهذه الدول مصالح وإمكانية للتعامل مع تكتلات عالمية أخرى تخطب ودها، كالولايات المتحدة والصين وروسيا وغيرها من الدول الصاعدة. وكان بإمكان مثل هذه المساعدة الاوروبية أن تكون مفيدة لو أصبحت جزءا من مساعدات عالمية متعددة من جهة، وصبت في مجال عربي متفاهم ومتعاون من جهة ثانية وقادر على التصرف كطرف وفاعل دولي مدرك لمسؤولياتها من جهة ثانية. في الوضع العربي المتفسخ الراهن أخشى أن لا تكون حصيلة الشراكة الأوروبية المتوسطية سوى تشجيع الأنظمة على الاستمرار في المنهج السائد، وتأخير زمن استعادة الوعي العربي بضرورة تجاوز الوضعية المأساوية التي خلفتها نزاعات القرن الماضي، وإعطاء أوروبة ورقة ضغط مجانية للمشاركة في صوغ السياسات الإقليمية.

المحور الرابع: العروبة والإسلام

1. ذهبتم في بعض كتاباتكم إلى القول إن العرب اليوم يغتالون فكرة الدولة ويفرغونها من مضمونها، وهو أمر يهددنا بالعودة إلى القرون الوسطى، أو بولادة قرون وسطى جديدة. فلما ذا وصلنا إلى هذا المستوى؟

غليون:

نحن لم نعرف الدولة بالمعنى الحديث للكملة لاننا عشنا قرونا طويلة في ظل سلطنة او خلافة أو إمبرطورية، وهي التي تقدم لنا نموذج الجماعة السياسية. وهو نموذج فقير تقوم السلطة فيه على العنف والشوكة والرهبة وادعاء حماية الدين، وفي الغالب يتم فيه تداول السلطة من خلال الاستيلاء بالقوة العسكرية، حتى عندما يتعلق الأمر بنظم ملكية وراثية بسبب تنازع الأبناء والأحفاد وغياب التقاليد المؤسسية. ولا يساعد مثل هذا النموذج الذي لا يزال مزروعا في المخيال الجمعي عندنا، على تمثل معنى الدولة في العصر الحديث وقيم الاجتماع السياسي الوطني وأهدافه وغاياته. لذلك بدل أن يعمل استنبات النمط الحديث للدولة، بما يعنيه من مركزة السلطة واحتكار العنف وشعبنة السياسة أو تعميمها، على تعزيز فرص انعتاقنا وتحرير أفرادنا وتنمية ملكاتنا السياسية في المشاركة والمناظرة والإنضاج الجماعي للقرارات المتعلقة بالشان العام، أقول بدل ذلك، تحولت الدولة إلى أكبر وسيلة استلاب لنا، وصارت القيد الرئيسي الذي يقف أمام طموحات مجتمعاتنا ونيلها حقوقها وحرياتها. فهي اليوم أداة القهر والتشليح والإذلال الجماعي عندنا، والصراع من حولها يمسخ جميع النشاطات المدنية الاخرى ويفرغها من قيمتها، ويجعل من رجل السلطة، لا من المنتجين والمبدعين والمضحين بعرقهم وجهدهم، الشخصية الرئيسية في حياتنا الفكرية والسياسية والاقتصادية، بمقدار ما يحول هذه الشخصية إلى شخصية أمنية، ويجعل من تطوير وسائل القمع والقهر والإرهاب والتخويف والتعذيب، محور نشاط الدولة ورجالها، حتى صار التحكم بالأفراد وتقييد حرياتهم وإخضاعهم لإرادة خارجية عنهم غاية حكمنا والمضمون الرئيسي لإداراتنا السياسية. ولن نخرج من هذا الوضع الذي هو عودة من نوع جديد لقيم القرون الوسطى حين كانت المجتمعات في خدمة الملوك والسلطان وتحت رحمتهم، وحياة الفرد لا تعني شيئا، وكل فرد يقف عاريا امام رجل السلطة، من دون حماية سياسية أو قانونية، أقول، لن نخرج من هذا الوضع إلا عندما ننجح في السيطرة على هذه الآلة الوحشية، أي عندما نحول الدولة إلى دولة مجتمعها تخضع له وتستمد منه القوة والوجود والشرعية والتوجية السياسي. وليس هناك طريق آخر لتأهيل الدولة وأنسنتها وقومنتها بالفعل سوى استيعاب مفهومها والتحكم بها والاندراج فيها وتغيير برنامج عملها.

لكن حتى يتحقق ذلك ينبغي أن نتحول نحن انفسنا، الخاضعين لتلاعب الدولة الراهنة وقهرها وإرهابها، إلى مجتمع وشعب يتحلى بقيم وأفكار ويخضع في علاقاته فيما بين أعضائه، إلى معايير ثابتة وواضحة، أخلاقية وإنسانية. هذا هو مصيرنا، وهو ايضا محتوى معركتنا الحقيقية للعقود القليلة القادمة.

2. في بعض ما نشر لكم حول الهوية العربية تحللون مفهوما ربما يكون من ابتكاركم وهو "عروبة المستقبل" فهل للقارئ أن يعرف ما ذا تقصدون بهذا المصطلح؟

عروبة المستقبل تعني أنه لا ينبغي علينا أن ننظر إلى مسالة العروبة، من حث هي هوية أو دعوة إلى الوحدة القومية، من منظار الماضي والتراث، وما تركه لنا الأجداد من وشائج قربى ناجزة، وإنما من منظار المستقبل، أي من منظار ما يمكن أن يقدمه لنا القول بهوية عربية ووحدة سياسية جامعة من أدوات ووسائل وأطر تفيدنا في مواجهة تحديات الحاضرالمفتوح وضمان اندراجنا في التاريخ. فهي صحيحة بمقدار ما تساعدنا على العبور نحو المستقبل، وتحقيق حداثتنا المنتظرة، لا بدلالتها على الماضي ولا بما يمكنها أن تقدمه لنا للاحتفاظ بهذا الماضي أو استمرار الوفاء له أو الانتماء إليه. بهذا المعنى لا ينبغي أن ننظر إلى الدعوة العربية على أنها تكريسا لقرابة قائمة، ولا ينبغي أن تكون كذلك. ولا يشكل الاشتراك في التراث مبررا كافيا لتبني أي هوية او وحدة سياسة. بل قد تكون القرابة، من دون مشروع للمستقبل، غير ذات قيمة ولا فائدة، وأحيانا مصدرا للمنازعات الدائمة على الزعامة والمواقع التمثيلية، كما يدل على ذلك واقعنا العربي اليوم. وقد أثبتت التجربة التاريخية، تجربتنا، أن دعوة العروبة القائمة على وحدة الثقافة والتراث لم تشفع لأحد ولا أوصلت العرب إلى أي مكان. بالمقابل يمكن للعروبة أن تكون قاطرة رئيسية لدفع المجتمعات العربية نحو التفاهم والتلاقي والتعاون والطموح إذا كانت دعوة مستقبلية وارتبط تحقيقها بتاكيد قيم ومباديء وقواعد عمل إنسانية مرغوبة ومنشودة، وبالنجاح في الارتقاء بمشاركتنا في تقدم الحضارة وتعزيز حضورنا في التاريخ، تاريخ الأمم والشعوب، والعلم والثقافة والتقنية والصناعة.

3. الواضح اليوم أن الدولة العربية تعاني أزمة مريعة إن على صعيد التنمية أو السياسية والثقافة، فضلا عن الانقسامات العرقية والطائفية التي باتت تعصف بها، فهل هذا ناتج عن فشل دولة التجزئة العربية، وهل هذا يطرح أولوية مشروع الوحدة العربية مجددا؟

غليون:

هذا ناتح كما ذكرت عن فشل الدولة نفسها وإفساد مفهومها وتحويلها إلى أداة للسيطرة الخاصة ولتحقيق مصالح آنية ضيقة أيضا، في كل قطر وعلى صعيد السياسة ما بين القطرية. ولا يرجع هذا الفشل إلى الدولة نفسها أو إلى نموذجها، وإنما إلى الذين استخدموا الدولة وقاموا بتسييرها وإدارتها، أي إلى نخبنا السياسية التي هي جزء من نخبنا الاجتماعية عموما. وفي اعتقادي أننا كنا ولا نزال مستهلكين ومستعجلين على قطف الثمار، ومفتقرين للنظرة التاريخية البعيدة، ولمعاني الحياة السياسية والمسؤولية العمومية. الدولة سيطرت علينا ومسخت مجتمعاتنا بسبب ما ميز هذه المجتمعات من فقر أخلاقي وضعف في الرصيد السياسي والاجتماعي، وبالتالي بسبب الافتقار للنخب القادرة على الارتقاء بسلوكها داخل الدولة إلى مستوى الفعل الأخلاقي والسياسية الوطني وتجاوز إغراءات المصالح الفردية والخصوصية والمحسوبيات البلدية التقليدية. والمثل الشعبي يقول الموس في يد الجبان يجرح.

4. ذهبتم في بعض كتاباتكم إلى أن تاريخنا العربي يشكل ثقلا لا يمكن التحرر منه إلا في حالات الثورات الحماسية الكبرى التي تفجر الوعي الماضي، وتنشئ وعيا جديدا بالفعل. فلماذا علاقتنا بتاريخنا تبدو متأزمة إلى هذا الحد؟ ولماذا هذه الرغبة في تأسيس "القطيعة" مع الماضي؟

غليون:

ليس تاريخنا هو الذي يشكل ثقلا كبيرا علينا وإنما أي تاريخ. التاريخ يحد ذاته عطالة او عامل عطالة، أي تثبيت واستمرار وضمانة لإعادة إنتاج النظم والأوضاع كما كانت. لذلك يحتاج التجديد في النظم والأفكار وأساليب العمل والانتاج إلى قطيعة، أي إلى ابتعاد وانفصال، لهذا الحد أو ذاك، عن النماذج والقيم والأفكار وأساليب العمل الموروثة والشائعة والمتبعة، وإلا لن يكون هناك أي جديد. والتجرؤ على القطيعة مع الماضي تحتاج إلى قوة معنوية وأخلاقية ونفسية كبيرة، ومقدرة على مواجهة المخاطر وتحمل المسؤوليات، ومواجهة روح المحافظة الطبيعية وعدوان المحافظين. ولا تتحقق هذه الإمكانية على مستوى الجماعات إلا في فترات حماس استثنائية، كما يبرز ذلك تاريخ النبوة وتاريخ الفتوح المدهشة التي قادها رجال لم يخرجوا من صحرائهم أو من مدنهم الصحراوية، فصاروا فاتحين متميزين وملوكا معظمين.

لكن القطيعة لا تحصل مع التاريخ ولا ضده وإنما تحصل داخل التاريخ، وتبقى لذلك محتفظة بعناصر أساسية فيه. ففكر الاسلام شكل قطيعة مع فكر الجاهلية، لكنه استخدم الشعوب نفسها والشخصيات نفسها واماكن العبادة نفسها وأعاد تأويلها وتفسيرها وتحميلها بالمعاني والقيم والأفكار والدعوات الجديدة. وفكر النهضة العربية الحديثة مثل قطيعة مع الفكر العربي والإسلامي السائد في القرن التاسع عشر، لكنه لم يقطع مع التاريخ العربي وإنما استعاده في صيغة أخرى. فاكتشف مفكرين وفلاسفة وأدباء كانوا قد نسيوا، وفي مقدمهم ابن خلدون الذي كرس رائدا لعلم الاجتماع العالمي، وابن رشد وغيره من الفلاسفة والمتكلمين الذين عرفوا بمنزعهم العقلي، بالإضافة إلى كتاب ألف ليلة وليلة الذي لن يمل العالم الحديث من ترجمته والتأمل فيه. القطيعة داخل التاريخ لا تعني القطيعة مع التراث ولا مع الماضي، فالماضي يبقى، لكنه يتحول إلى تاريخ ماض نهائيا، أو يدخل في بناء التاريخ الحديث. وقديما قيل من لا قديم له ليس له جديد، والعكس صحيح.