mardi, décembre 19, 2006

من مشاريع الاصلاح إلى الحرب الأهلية

الاتحاد 19 ديسمبر 06
منذ بضع سنوات فقط كان هناك إجماع على أن الاصلاح والتغيير هو الأجندة الرئيسية في المنطقة، وأن هذا الاصلاح، بما يتضمنه من تقويم الحياة السياسية وفصل السلطات الثلاث وتعزيز المشاركة الشعبية في الحكم، هو المدخل الحتمي لمكافحة الفساد وإطلاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتقنية، وبالتالي من تحسين قدرة المجتمعات على مواجهة الأخطار الأمنية الناجمة عن تفاقم الضغوط الداخلية والخارجية. وحتى أولئك الذين كانت مصالحهم الاقتصادية والسياسية تدفعهم إلى الخوف من الاصلاح أو الوقوف ضده كانوا مضطرين إلى التكيف مع شعاره والحديث عن إصلاح يتقدم بوتيرة المجتمعات العربية أو ينبع منها.
ونظرة واحدة على ما يحصل في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها من بلدان المشرق تكفي لإدراك التحول الذي حصل خلال أقل من سنة. فقد أصبح الإصلاح آخر هم يشغل الحكومات الغربية التي أعلنت عن تبنيها الكامل له في السنوات الماضية، ورصدت له الميزانيات وعقدت له العديد من المؤتمرات والمنتديات، ومن باب أولى الحكومات العربية التي وقفت جميعها تقريبا ضده باعتباره بدعة أجنبية، بل جميع قطاعات الرأي العام العربي التي فقدت أي أمل بتحسن الأوضاع، بما فيها المعيشية، ولم يعد يشغلها سوى الحفاظ على الأمن والاستقرار وتجنب الحروب الأهلية والإقليمية الدموية. وكما تهم الدبلوماسية الغربية اليون باستبدال هدف الحفاظ على الاستقرار بمشروع الديمقراطية الذي انتحلته في السنوات الماضية للتغطية على مشاريعها الهيمنية، وهو ما يشكل جوهر اقتراحات فريق بيكر الأمريكي لإخراج السياسة الأمريكية من ورطتها العراقية، يحتل القلق على المصير لدى الرأي العام العربي أكثر فأكثر محل الأمل في انتزاع الحرية والكرامة الانسانية. المحافظة على البقاء هي اليوم شعار الجمهور الملوع بدوامة الحروب الأهلية المندلعة أو التي تشتعل تحت الرماد، تماما كما أن الحفاظ على الصدقية الاستراتيجية وما تبقى من نفوذ هو الهدف الأول للدبلوماسية الأمريكية والاوروبية.
لا يرجع هذا التحول الكبير الذي قاد المنطقة من طريق التفاؤل والانطلاق نحو طريق اليأس والإحباط في أقل من سنتين لسبب واحد وحيد، ولكن لأسباب متعددة ومتشابكة. أولها من دون شك السياسات والاستراتيجيات الخاطئة التي طبقتها الولايات المتحدة في المنطقة قبل أن تصادق عليها في ما بعد البلدان الاوروبية، وكانت تهدف من ورائها إلى تعزيز مواقعها فيها وتحصينها ضد المنافسات الدولية الأجنبية. فقد أعادت هذه السياسات إلى الأذهان، كما لم تفعل أي سياسة أخرى عدوانية سابقة، صورة السياسات ووسائل العمل الاستعمارية التقليدية، وفجرت مشاعر العداء للغرب ولكل ما يمكن أن يرتبط به من قيم ورموز وأنماط حكم وإدارة مدنية. وبدل أن تساعد على تعزيز فرص تحديث النظم ونماذج الحياة الحديثة، كما ادعت أو افترضت من عملها هذا، أعطت للقوى المحافظة دفعة ما كانت تحلم بها ومكنتها من السيطرة الشاملة على الجمهور العربي، بعد أن كانت تعاني من أزمة حقيقية في مشروعها الخاص، واجبرت جمهور القوى الاسلامية والقومية المعتدل والمتنور على الالتحاق بأكثرها تطرفا وإعلان الولاء لها، عازلة بذلك القوى الديمقراطية التي كانت بالأصل قوى محدودة القوة والنفوذ معا.
لكن السياسات الغربية الحمقاء ليست وحدها المسؤولة عن انهيار الوضع المشرقي. فما كان لمثل هذا التطور أن يحصل لو قبلت الحكومات العربية أو معظمها بالحد الأدنى من الاصلاح في نظم الإدارة والحكم يفتح آفاقا فعلية لجمهور الشباب اليائس والقانط معا. والواقع أن أغلب هذه الحكومات لم تقف موقف المتفرج من مشروع الاصلاح ولكنها اعتبرت إحباطه وإفشاله هو جوهر المعركة الوطنية. وفي سبيل ذلك لم تتردد في العمل على محورين: تقويض أسسه الأخلاقية والسياسية بتحويله إلى مشروع أجنبي مفروض من الخارج وتجاهل الضغوط الداخلية القوية لتحقيقه، حتى في ما يتعلق بما يشكل جوهر أي سياسة وطنية، أعني محاربة الفساد المعمم ونهب مال الدولة وسوء الإدارة وفساد القضاء الواضح وتعطيل القانون وانفلات يد الأجهزة الأمنية من دون ضابط ولا رقيب. وهو ما قاد إلى تفاقم الفساد وسوء الإدارة وانهيار هيبة الدولة التي تحولت إلى ما يشبه العصابة المنظمة. أما المحور الثاني فهو إعلان النظم القائمة الحرب وما يشبه التعبئة العامة النفسية والدينية والقومية ضد قوى الاصلاح العربية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من مشروع الاحتلال والسيطرة الأمريكية. ولم تتوان هذه النظم في سبيل تحقيق أهدافها عن العمل على محور تعبئة الأحقاد الطائفية، والمغامرة بتفجير المجتمع العراقي لإجبار الولايات المتحدة على التراجع ووقف الضغوط التي وجهتها للنظم العربية. وليس هناك مبالغة في القول إن النجاح كان من جانب هذه الحكومات العربية، ولو أن ما حصل كان على حساب وحدة الشعوب العربية واستقرارها ومستقبلها.
بيد أن ذلك لا يعني أن قوى التغيير الوليدة لا تتحمل هي أيضا قسطا من المسؤولية في ايصال الأوضاع المشرقية إلى ما وصلت إليه. فليس هناك شك، وهو ما كنت قد حذرت منه في أكثر من مناسبة، في أن قطاعا كبيرا منها قد خدع بشعارات الديمقراطية والاصلاح التي ازدحمت بها وسائل الإعلام وخطابات المسؤولين الغربيين، واعتقد الكثيرون عن حسن نية، من دون أن يخفف ذلك من عدائهم التقليدي والصحيح للهيمنة الأجنبية، بأن التغيير حاصل لا محالة، وبالتالي ليست هناك حاجة لتضييع الوقت في العمل الدؤوب والصابر على الأرض، وبذل الجهد اللازم والطويل لإحداث التغييرات الفكرية والسياسية الداخلية المطلوبة. ولعل هذا ما يفسر أيضا الضعف الذي أظهرته قوى التغيير في التكون والتبلور فكريا وسياسيا وتحقيق تحولات نوعية في ممارستها العملية. وهكذا بقيت هذه القوى مشتتة، تعيش حالة تنافس وتناحر مستمرين، وتفتقر لمنهاج عمل واضح وواحد في جميع الميادين. باختصار، إن مسؤولية القوى التغييرية تتجسد في إخفاقها في تجاوز نقاط ضعفها والتغلب على قصورها للارتقاء إلى مستوى التحديات المطروحة عليها. وكثير منها لا يزال أسير تصورات واستراتيجيات وشعارات وأفكار هي من تراث حقبة فاتت، ولم ينجح في التكيف مع الأوضاع الجديدة المتحولة، الخارجية والإقليمية والوطنية.
بعد أن انهار مشروع الاصلاح وانعدم الأمل بالخروج من الحلقة المفرغة التي تعيشها المجتمعات منذ عقود، حلقة تفاقم الفقر والبطالة والعزلة والتهميش والإحباط من كل نوع، لم يعد أمام الشعوب سوى المواجهة: مواجهة بعضها للبعض الآخر لتحقيق مكاسب وامتيازات وتقاسم منافع وموارد تتقلص أكثر فأكثر، لضمان شروط بقاء يزداد إشكالية يوما بعد يوم، ومواجهة مع خارج معاد متعدد الأوجه والحلقات، ثقافي وسياسي وعسكري واقتصادي واجتماعي، لا يزال، رغم الانهيار الكبير في مواقعه الاستراتيجية، يملك المفاتيح الأساسية لأي تحول بناء في عموم المنطقة. وهكذا تتقاطع الحروب الأهلية والحروب الوطنية، بقدر ما تنقسم الشعوب على نفسها، وتتضاءل فرص انخراطها في اقتصاد عصرها وحضارته، ويزداد بالتالي تهميشها وعزلها وضرب الحصار عليها، سواء أجاء ذلك باسم الحرب على الإرهاب أو الحرب ضد السيطرة الاستعمارية. وهو حصار مزدوج، مختار من قبل الحكومات المحلية ومفروض من قبل الدول الاستعمارية.
السؤال الذي يطرحه الجميع على أنفسهم اليوم هو التالي: إذا كان عدم التفاهم حول محتوى الاصلاح سبب اندلاع الصراع في السنوات القليلة الماضية بين النظم المحلية والدول الغربية الحامية لها، فهل يمهد التخلي عن مشروع الاصلاح بجميع أشكاله، كما تقترح ذلك أوساط كثيرة عربية وغربية، بعد أن أظهرت جميعها عجزها عن حسم المعركة لصالحها، إلى تفاهم جديد بين الأطراف المتنازعة، يعيد بناء الوضع الشرق أوسطي على أسس تضمن الاعتراف بدور أكبر للحكومات المحلية في تقرير مصيرها؟ وهل ينطوي مثل هذا الوضع على احتمالات أكثر لتنامي الفساد والعسف وسوء الإدارة والاستهتار بالرأي العام وتجيير الدولة ومواردها لصالح النخب الحاكمة، وبالتالي لتطوير سياسات أكثر امتهانا لكرامة الشعوب وحرياتها، أم أنه سيخلق فرصا أكبر لتحرر الشعوب وانعتاقها؟
الواقع المرئي المباشر يشير إلى أن هذا التفاهم سوف يتحقق على حساب الشعوب. لكن ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لمثل هذا التفاهم، إذا تحقق، حظ كبير في الحياة. بالعكس، كل الدلائل تشير إلى أن النظام العربي مثله مثل النظام الإقليمي الذي صاغه الغرب للمشرق العربي، هما وجهان لعملة واحدة. وأن كلاهما ينفقان، ولا سبيل لانقاذهما.

mardi, décembre 12, 2006

في استحالة الانتصار في المواجهة اللبنانية الحالية


يشكل الهجوم السياسي الواسع الذي نظمه حزب الله على حكومة الأغلبية المنبثقة من حركة أو انتفاضة 14 آذار، وفي صلبه تعزيز التحالف مع التيار الوطني الحر للجنرال ميشيل عون، الرد المباشر على نتائج الحرب الاسرائيلية التي شنت عليه في يوليو أغسطس الماضي. ومن الواضح أنه لا الهالة التي خرج بها الحزب من الصمود البطولي بالفعل أمام العدوان الاسرائيلي، ولا المدائح التي كيلت له من قبل الحكومة اللبنانية والرأي العام، كانا كافيين للتغطية على الحقيقة التي تفيد بان الانتصار العسكري المدوي لحزب الله لم يمنع إسرائيل في النهاية من تحقيق أحد أهداف حربها العدوانية الرئيسية، وهي كما ينص قرار مجلس الأمن 1701 نشر الجيش اللبناني في الجنوب، بعد رفض طويل من قبل حزب الله، وإقامة وضع قانوني وسياسي ضاغط على حزب الله وقضيته الرئيسية المتجسدة في الاحتفاظ بآلته العسكرية، بعد سد ذريعة المقاومة بإقفال الجبهة الجنوبية. ولم تخف هذه الخسارة السياسية عن قيادة حزب الله الذي أدرك أن اتجاه الأحداث يدفع في اتجاه تحييده في اللعبة الإقليمية، وتقويض الأسس السياسية والايديولوجية التي يقوم عليها تمسكه بسلاحه، وبالتالي حفاظه على وجوده المتميز، وتوسع نقوذه في الجنوب، داخل قاعدته الشيعية، وعلى مستوى الساحة الإقليمية أيضا.
لم يكن لدى الحزب، بسبب الضغوط الداخلية والإقليمة والدولية القوية، خيارات أخرى سوى القبول بهذه التسوية المتمثلة في تطبيق القرار 1701، والتي تشدد الحصار السياسي عليه، على أمل العودة عنها في أول فرصة سانحة. وقد جاءت هذه المناسبة مع تصميم دمشق في يوليو الماضي على تعطيل المحكمة الدولية التي قدمت الأمم المتحدة مشروعها إلى السلطة اللبنانية للتوقيع عليه.
بيد أن قرار خوض المعركة الحاسمة لم يكن ممكنا في مواجهة حكومة لبنانية منتخبة، تستند إلى قاعدة شعبية لا يمكن التشكيك فيها، وتحظى بدعم واسع على الصعيد العربي والدولي، من دون دخول دولة كايران، ذات قوة استراتيجية وموارد كبيرة ونفوذ واسع في لبنان أيضا، في صراع مع الولايات المتحدة التي تقود الحملة المناوئة لامتلاكها التقنية النووية. وهكذا التقت أجندة حزب الله الخاصة، التي تهدف إلى فك الحصار السياسي الذي يوشك أن يضرب عليه، مع أجندة النظام السوري الذي يخوض معركة بقائه أيضا من وراء معركة إسقاط المحكمة الدولية، مع أجندة الدولة الايرانية الهادفة إلى تأكيد حق طهران في النفوذ إلى أسرار التقنية النووية، لتجعل من لبنان مركز الحسم، وتقرر من وراء ذلك إعادة تشكيل خريطة القوة في المنطقة المشرقية، بعد انحسار النفوذ الأمريكي والغربي عموما. فهي بالتاكيد معركة ثلاثية الأبعاد، تحمل في حجرها ثلاث انقلابات لا انقلابا واحدا: الانقلاب على الوضع اللبناني الناشيء عن خروج الجيش السوري من لبنان بعد اغتيال الحريري، والانقلاب على الوضع الإقليمي الذي كرسه احتلال العراق من قبل التحالف الأمريكي البريطاني، ونتج عنه إحكام الخناق على النظام السوري ووضعه في عزلة شاملة، والانقلاب على الوضع الدولي الذي يقوم في ا لشرق الأوسط، أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، على التسليم بالسيطرة الغربية والأمريكية منها بشكل خاص والتعامل معها كحقيقة واقعة، وعلى القبول بازدواجية المعايير التي تستند إليها ومن ضمنها تلك التي تسمح لاسرائيل بامتلاك السلاح النووي وترفض ذلك لجميع الدول الأخرى.
وهذا المضمون الملتبس للانقلاب الحاصل الذي يحمل في الوقت نفسه تغييرات ينظر إليها الرأي العام العربي والاسلامي نظرة متباينة، هو الذي يفسر الانقسام الذي يسم موقف الجمهور العربي واللبناني عموما مما يجري. فهو بقدر ما يشكل ردا على سياسة الغطرسة الأمريكية والاسرائيلية التي زعزعت استقرار المنطقة، وقادتها إلى الدمار، وحرمتها من فرص التحول السلمي السياسي والاجتماعي، يحمل في طياته أيضا مخاطر تكريس نماذج حكم مرعبة تجاوزها الزمن، حتى الزمن العربي والاسلامي، وفي مقدمها نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية والنظام السوري ونموذج السلطة السياسية الدينية. فهو انقلاب يجمع بين قيم الشهادة والمقاومة للهيمنة الأجنبية التي يجسدها حزب الله، والمصالح الخاصة الأكثر ضيقا وأنانية لنظام السلطة السورية، إلى جانب النزعة القومية الايرانية الجامحة المختبئة وراء النزعة المذهبية. ولا يمكن أن يخرج من هذا التحالف الغريب أي مشروع ايجابي قادر على أن يملأ فعلا الفراغ الذي يتركه، كما ذكرت انحسار، النفوذ الغربي. وعلى الأغلب لن يخرج من هذا الانقلاب سوى تكريس النفوذ الايراني الذي سيدفع لا محالة إلى تجييش عربي مقابل في مواجهته، أي إلى مواجهة حتمية عربية ايرانية، لا يمكن إلا أن تعزز تمسك الدول العربية المحافظة، وهي الأكثرية، بالحماية الأمريكية. باختصار، ليس انتصار محور إقليمي، وبالتالي تكريس سياسة المحاور، هو الاستثمار الأفضل لانهيار قوة الردع والصدقية الاستراتيجية الأمريكية. بل إن سياسة المحاور سوف تعطي لواشنطن والدول الأطلسية فرصة ثانية لإعادة ترتيب أوراقها، وإعادة بناء نفوذها عن طريق توجيه المحاور الإقليمية والتلاعب بها.
ليس خطأ الحكومة اللبنانية أنها قبلت بالقرار الدولي 1701 فلم يكن لديها خيار آخر سوى الاستقالة السياسية والأخلاقية وترك لبنان يواجه مصيره لوحده امام إسرائيل والدول الكبرى. والدليل أن حزب الله نفسه لم يجد بدا من قبول التسوية الدولية المفروضة لوقف الحرب الاسرائيلية. ولا يكمن خطأها أيضا في أنها أظهرت العداء للنظام السوري او الايراني، فهي لم تفعل شيئا من ذلك، بالرغم من التصريحات الاستفزازية لبعض قادة ما يسمى بقوى 14 آذار، لكن في أنها وجدت في موقع يشكل نقطة الضعف الرئيسية في الوضع الجديد الناشيء بعد تغيير الولايات المتحدة سياستها في الشرق الأوسط، وأن إزاحتها عن هذا الموقع لا يجسد نزوعا قويا لملء الفراغ الذي تركه انحسار القوة الأمريكي فحسب وإنما يقدم أكثر من ذلك فرصا جديدة لاستكمال التحالف الثلاثي بين الجمهورية الاسلامية والنظام السوري وحزب الله انقلابه، وتغيير خريطة توزيع القوة في المنطقة.
ومن هنا ليس هناك حل للأزمة بانتصار أي فريق على الآخر في لبنان. فكل انتصار هو افتتاح لحصار جديد واقتتال. لا حل للأزمة خارج إطار التفاهم السياسي، ليس بين الأطراف اللبنانية فحسب، ولكن على المستوى الإقليمي بين العرب والايرانيين المرتبطين اليوم ارتباطا عضويا بالقضايا المشرقية أيضا. فإما أن ينجح اللبنانيون في التوصل إلى تسوية تضمن الاستقرار والتفاهم الطويل المدى، وهو ما يقتضي فصل الأجندة الوطنية اللبنانية عن أجندة الدول الأخرى، وبالتالي، كشرط له، تفاهما عربيا ايرانيا موازيا، أو أن لبنان سيتحول إلى مسرح لاستعراض قوة الأطراف المتنازعة إقليميا ودوليا، ويكون المركز الرئيسي للمواجهات المستمرة التي ستشهدها المنطقة خلال العملية الطويلة لإعادة بناء التوازنات الإقليمية، على أثر انهيار الاستراتيجية الأمريكية. وهو ما يعني أن لبنان مهدد بأن يتحول إلى ساحة حرب دائمة، وأن اللبنانيين سيتحولون إلى أدوات في يد القوى الخارجية، و لن يكون لأي فئة منهم عندئذ أمل في السيطرة أو الحكم، لا كأغلبية ولا كأقلية، كما لن يكون هناك لا سلام ولا استقرار في لبنان.

mercredi, décembre 06, 2006

المقاومة وشرط الديمقراطية المفتقد

الاتحاد 6 ديسمبر 06

ما نشهده في منطقتنا اليوم ليس إفلاس الدولة/الوكالة الأجنبية، التي نشات في ذيل الاستقلالات الشكلية الماضية فحسب. ولا انفتاح المقاومة، التي اتخذت أشكالا عصبوية، طائفية أو مذهبية أو أقوامية، على الفوضى، وإخفاقها في إعادة تشكيل وطنية جامعة أيضا، ولكن أكثر من ذلك، العودة الأليمة والمأساوية إلى منطق الصفقات التقليدية التي صاغت نظام العلاقات الدولية شبه الاستعماري في المنطقة بين النخب الحاكمة والدول الكبرى في العقود الماضية. وهو ما سوف يترجم بإعادة تكريس الدولة القهرية المعادية لمجتمعها والمقاومة العصبوية الفاقدة لأي إرادة وطنية جامعة تمكنها من تغيير موازين القوى المحلية والإقليمية لصالح الشعوب في مواجهة نخبها المتحالفة مع القوى الكبرى.
يطرح هذا التحول تحديا كبيرا على قوى التغيير التي نشأت في السنوات الماضية، سواء من تصدى منها للتغيير عن طريق إصلاح الدولة، بفرض التحولات الديمقراطية وتطوير قوى المعارضة السياسية الداخلية، أو من تمسك بخط مقاومة القوى الاجنبية، والكفاح ضدها كمدخل لعزل السلطة الاستبدادية والديكتاتورية أو تطويقها. ويدفع هذا التحدي أو ينبغي أن يدفع لا محالة إلى إعادة النظر في السياسة العربية ذاتها وبرنامجها، في شقها الاصلاحي وفي شقها المقاوم معا.
ليس التأكيد على راهنية التحويل الديمقراطي للدولة والمجتمعات هو أصل الخطأ في برنامج الاصلاح والديمقراطية الذي تبنته قوى المعارضة، التي التفت حولها قطاعات من المثقفين والطبقات الوسطى، ولكن رهانه على اندماج في الحياة الدولية لم تتوفر شروطه بعد، وارتباطه بالتالي بحسن نوايا قوى النادي الديمقراطي العالمي. وبالمثل، ليس التأكيد على أولوية الصراع لتحقيق السيادة والاستقلال هو الذي قاد المقاومة إلى طريق تعزيز الانقسام والفوضى العربيين، وإنما حصر المقاومة بالمهام الموجهة نحو الهيمنة الأجنبية. فكما أدى التفاؤل المبالغ فيه في استقلال النظم عن الاستراتيجيات الدولية الكبرى، وأحيانا الاعتقاد بتبدلها في اتجاه ايجابي، إلى المبالغة في تقدير احتمالات التحول الداخلية، قبل أن يدفع البعض إلى التعلق بأوهام الضغوط الخارجية، قاد التثبت على مفاهيم مجردة للسيادة والاستقلال إلى التقليل من مخاطر المقاومات العصبوية، ودفع إلى التغطية على الحروب الأهلية، أو الالتحاق باستراتيجيات النظم الاستبدادية التي كانت تعاني من ازمة في علاقاتها الدولية. ومن هنا، تعني إعادة النظر في السياسات التي وجهت عملنا في السنوات الماضية الرد على سؤال : كيف نبنى معارضة ديمقراطية لا يكون رهانها الرئيسي الضغوط الخارجية، وكيف ننظم مقاومة لا تقود إلى الفوضى وانقسام المجتمعات وتفكك عروتها الوطنية أو دعم النظم الاستبدادية.
يمكن تلخيص ما علمتنا إياه تجربة السنوات القليلة الماضية في نظري بأمرين: لا مجال لمعارضة ديمقراطية، في إطار دولة مستلبة الإرادة والسيادة، ولا مجال لمقاومة وطنية من دون بناء قيم القانون والمساواة والحرية والعدالة والاستقلال عند الأفراد. وهو ما يعني أن ما كان ينقص المعارضة ويضعف فاعليتها هو وجود روح المقاومة الفعلية للسيطرة الخارجية، وما كان ينقص المقاومة ويذهب أثرها هو تقدير صائب للترابط العميق بين الاستبدادات الداخلية والإملاءات الخارجية. فكما أن غياب القيم الوطنية يحول المقاومة للسيطرة الأجنبية إلى مقاومات عصبوية وفئوية بالضرورة، يلغي غياب مفهوم السيادة أيضا أي إمكانية لإصلاح مستمر ومتراكم للدولة.
والواقع، لا يعبر وجود برنامجي تغيير متناقضين، أحدهما يركز على التحول الداخلي والآخر على التغيير في العلاقات الخارجية، سوى عن غياب أجندة وطنية واحدة، داخل كل بلد عربي وعلى مستوى البلدان العربية مجموعة. وهو ما يعكس الأزمة العميقة التي تعاني منها الوطنية العربية نفسها.
في نظري، ما يدفع إلى التفكير في تبني مفهوم المقاومة ومنظورها تجاه القوى الخارجية هو نفسه الذي ينبغي أن يدفع إلى إعادة النظر في مفهوم المعارضة الداخلية، والتامل في مفهوم المقاومة بوصفها أسلوبا خاصا بمواجهة كل قوى أجنبية، أي مفروضة بالقوة، خارجية كانت ام داخلية. وفي هذه الحالة لن يعود هناك فرق بين معارضة داخلية ومقاومة خارجية تماما كما أن استمرار النظم الاستبدادية لا ينفصل بأي شكل عن استمرار نظم الهيمنة الأجنبية الخارجية. يتعلق الأمر في الواقع، كما بينت الأحداث، بنظام واحد للسيطرة والاستعباد، يتحرك على مستويات مختلفة، وتقوم بخدمته نخب متعددة الأصول والمشارب أيضا. وليس لأي مجتمع قدرة على مقاومته من دون توحيد جهود قوى التغيير والاصلاح جميعا فيه، تلك الحساسة لمسألة الحريات الداخلية والاصلاحات الديمقراطية، وتلك المتعلقة بشكل أكبر بقيم الاستقلال والسيادة والهوية.
يتطلب دفع قوى التغيير العربية في اتجاه بناء قوة مقاومة واحدة، تجمع بين مواجهة العنف الداخلي الموجه للمجتمع، والعنف الخارجي الموجه للأمة بأكملها، التخلي عن الكثير من الأوهام، والانخراط في عملية بناء طويلة، فكرية وعملية، لقوى المجتمعات، على مستوى البلدان ومستوى المنطقة معا. ومن ضمن ذلك، الكف عن النظر إلى المقاومة كممانعة سلبية تهدف إلى قطع الطريق أمام تحقيق مشاريع الآخرين، أو تقتصر على التصدي أحادي الجانب لمشاريع الهيمنة الخارجية. بالعكس، ينبغي للمقاومة أن تتجاوز شرط السلبية لتكون مصدرا لمشروع خاص بها، يتعلق بإعادة بناء الأوضاع الوطنية، المحلية والعربية. ولا يمكن أن تكون كذلك إلا بقدر ما تكون قادرة على توحيد الشعب بجميع قطاعات رأيه العام ومكوناته الدينية والأقوامية والسياسية. وهو ما لا يتحقق أبدا عن طريق فرض الرأي الواحد أو إلغاء الآخر أو العمل تحت شعارات مذهبية أو طائفية أو دينية. إن مقاومة وطنية بالفعل لا تقوم من دون عقيدة وطنية جامعة، سياسية، تتيح لأي فرد إمكانية الانتماء والانخراط فيها من دون تمييز، وتجعل من هذا الانتماء المفتوح على الجميع قاعدة لإعادة لحم الكسور المجتمعية. وبالمثل، إن مقاومة وطنية ناجعة لا تقوم من دون رؤية واضحة ومنطقية مقبولة ومشروعة بالنسبة للقسم الأكبر من الرأي العام، لإعادة بناء علاقات السلطة ونظم الحكم والإدارة والتنظيمات الاجتماعية، أي من دون رؤية لنمط الدولة المنشودة.
من هنا، لا تبني الشعارات الدينية أو الطائفية، مهما كانت، مقاومة وطنية، تشكل مشروعا لإعادة توحيد الإرادة الجماعية، وإحياء الوطنية وبعثها، ولا لإعادة بناء الدولة، وتعزيز فرص إقامة المؤسسات السياسية والقانونية، التي يقبل الجميع الخضوع لها، والعمل من ضمنها. ولا يبينها أيضا شعار الحفاظ على الأمن والاستقرار عن طريق كبت الحريات العامة وامتهان حقوق الأفراد والتسلط عليهم، بانتظار تحرير الأرض أو كسر الهيمنة الغربية. فبالاضافة إلى أن مثل هذا الموقف الذي ينظر إلى الأغلبية الشعبية وكأنها بالفطرة جاهلة أمية ولا أخلاقية، لا يمكن الثقة بها، وبالتالي لا يمكن القبول بالانفتاح عليها واحترام حرياتها ومعاملتها معاملة قانونية في وقت المواجهة مع السيطرة الخارجية، يخفي موقفا عنصريا واحتقاريا لا يمكن وصفه، فهو يقلب الحقيقة أيضا رأسا على عقب. فالواقع أن النخب الحاكمة لا تحرم الشعوب من حرياتها الأساسية، ولا توقف العمل بمبدأ حكم القانون خوفا مما يمكن أن ينجم عن معاملة السكان معاملة قانونية، والاعتراف بحقوقهم والتخلي عن ارهابهم، من جنوح إلى تجاوز المصالح العمومية، والتعلق بمصالح جزئية، طائفية أو طبقية، أو إلى التعامل مع القوى الخارجية، ولكن بالعكس، لأنها تريد أن تظل طليقة اليدين تماما أمام احتمال التوصل إلى تسويات مجحفة بحق المصالح الوطنية مع الدول الاستعمارية وأن تتفاهم مع هذه الأخيرة من وراء ظهر الشعوب على تقاسم المصالح والموارد المحلية.
هذا يعني أن الدمج بين برنامج مقاومة الضغوط الخارجية، والعمل على تحرير البلاد من شياطينها الاستبدادية والطائفية والمذهبية الداخلية، وتعميم رؤية ديمقراطية تؤكد على حقوق الأفراد وحرياتهم وعلى المساواة التامة في ما بينهم، هو محتوى برنامج المقاومة العربية المطلوبة، بقدر ما يشكل هو نفسه أساس بناء الوطنية، وتجاوز النزاعات والانقسامات العصبوية في أي مكان.