vendredi, octobre 31, 2014

المشرق المستباح، في جيوسياسة الديكتاتورية والحرب


نشأت الدولة الحديثة في المشرق العربي كما حصل في معظم بلدان العالم بذرة أو مشروعا استقطب اهتمام النخب الجدي التي حرر تفكيرها وتطلعاتها انحطاط الامبرطورية. ودفع الطموح إلى ملاقاة العصر في قيم الحرية والكرامة الانسانية التي بثتها الثورات السياسية في اوروبة، النخب الجديدة إلى جعل الدولة الحديثة مركز استمثارها الرئيسي، السياسي والفكري والمادي. ومن خلال هذا الاستثمار في الدولة وبواسطتها، تجاوزت المجتمعات هيمنة الولاء الطائفي والعشائري والمناطقي التقليدية، ودخلت في مناخ المواطنة وفكرة العدل والمساواة والقانون. لكن الدولة وعملية التحرر السياسي للأفراد لا تقوم في الفراغ، وإنما داخل بيئة إقليمية ودولية. وليس من الممكن فهم المصير الذي آل إليه لمشروع الدولة الحديثة في المشرق العربي من دون فهم هذه البيئة الإقليمية وما وضعته في طريق بناء دولة المواطنة الحديثة من عقبات ومصاعب، كان لها النصيب الأكبر في إجهاض المشروع بأكمله، والتراجع عنه نحو مناخات قرسطوية بالمعنى الحرفي للكملة.
شكل موقع المشرق العربي الجيوسياسي، كنقطة تقاطع بين القارات الثلاث وحضاراتها، مركز جذب دائم للامبرطوريات الكبرى منذ أقدم العصور. وباستثناء الحقبة التي أصبح فيها مركزا لأمبرطورية مستقلة على اثر الفتوح الاسلامية، كان المشرق عرضة لغزوات واجتياحات متقاطقة من الشرق والغرب والشمال والجنوب على مر التاريخ. وقد تضاعفت اهميته الاستراتيجية أكثر مع تشكل الامبرطوريات الاستعمارية منذ القرن الثامن عشر والتنازع الذي رافقها على الممرات ومناطق النفوذ. لكن السيطرة عليه تحولت إلى هدف أول للدول الكبرى في العصر الحديث بعد شق قناة السويس كطريق مائية استراتيجية، ثم اكتشاف النفط بكميات كبيرة في الجزيرة العربية، وبعد ذلك الإعلان الأحادي الجانب عن قيام إسرائيل، بعد انتصار الغرب في الحرب العالمية الثانية. وبعد تفكك الامبرطورية العثمانية، وبالنظر إلى حالة التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الكبير الذي عاشته الشعوب العربية خلال فترة احتضار هذه الامبرطورية الطويل، لم يكن من الصعب تحويل المشرق إلى منطقة تقاسم للنفوذ الدولي الواسع والعلني حتى تطابقت خريطة تشكيل دوله الحديثة مع خريطة توزيع مناطق النفوذ هذه، من قبل أصحابها أنفسهم، وربطها بالأحلاف الأجنبية. وهذا ما جسدته على أفضل وجه الاتفاقية المسماة سايكس بيكو التي لا تزال تشرط مسيرة تطور الدولة في المنطقة حتى اليوم، وتثير ضدها الكثير من التساؤلات والاعتراضات.
١. عندما تفقد الدولة السيادة
هكذا تشكلت المنطقة في سياق جيوستراتيجي جسد توازنات قوى ومصالح ليس لها علاقة كبيرة بشعوبها أو بالديناميات الداخلية أو الإقليمية، وخضعت لشروط جيوسياسية تعزز بشكل متزايد افتقارها البنيوي للحد الأدنى من الاستقلال عن قرارات الدول الخارجية الكبرى وصراعاتها. وسيكون لهذه البنية الجيوسياسية الإقليمية آثار ونتائج كثيرة وخطيرة في تطور المنطقة وتشكل دولها وتحالفاتها وفي تبذير طاقاتها في النزاعات والحروب التي صارت مزمنة فيها.
أولى هذه النتائج تمس الدولة نفسها وتشير إلى ولادة هذه الدولة كدولة منقوصة السيادة، أي لا تملك قرارها ولا تستطيع بالتالي أن تكون ممثلة في قراراتها لإرادة شعبها وأن تستجيب لطموحاته وتطلعاته وآماله إلا في حدود ما تسمح لها به الهوامش الضيقة والمحدودة التي تتيحها لها اللعبة الدولية. وهنا تكمن أول بذور سوء التفاهم، ثم القطيعة المتزايدة بين الحكومات، مهما كانت اتجاهاتها السياسية والايديولوجية، والشعوب، في تلك المنطقة، حتى كادت تهمة الخيانة لصالح الغرب تصبح السمة الغالبة على انتقاد الرأي العام لحكوماته ومحور المعارضة السياسية، حتى مجيء الثورات العربية الأخيرة، كما أصبح العداء للغرب جوهر الفكرة التحررية الوطنية والاجتماعية على حد سواء . وفي هذه البنية الإقلمية يكمن أيضا عجز النخب الوطنية عن بناء سلطة شرعية مستمدة من مشاركة الشعب وتأييده. فأصل مطلب السيادة للدولة هو ضمان سيادة الشعب أي استقلال قراره عن مصادر التدخل الخارجية. ولذلك كان شعار الدولة الحرة، أي ذات السيادة مرتبطا بشعار الشعب الحر. فلا شعب حر في دولة منقوصة السيادة، ولا سيادة لدولة لا يقف وراءها شعب حر قادر ومستعد دائما للدفاع عنها. ولا يفسر الديكتاتورية الطويلة التي سيطرت على المشرق العربي إلا استبدال السلطة الشرعية القائمة على الولاء الشعبي بسلطة الامر الواقع المحمية بالتحالفات الأجنبية.
هذه العاهة البنيوية والولادية في جيوسياسة الدولة المشرقية سوف تصبح مرضا عضالا ومتزايد الخطورة مع قيام الدولة الاسرائيلية. فقد أسقطت أجندة الغرب للحفاظ على أمن إسرائيل واستقرارها ومكاسبها الترابية وضمان التفوق الاستراتيجي الساحق لها كوسيلة ردع دائم للدول العربية عن مهاجمتها، وتقويض اسرائيل بالحروب والهجمات المتكررة والدائمة لصدقية الدول العربية وإفشالها، ورقة التوت الصغيرة عن عورة هذه الدولة وحطمت هيبتها كسلطة سيدة في الداخل وشجعت حركات التمرد والرفض والاحتجاج علىها.
٢. المنطقة المحكومة بقانون القوة والإذعان
والنتيجة الثانية تمس الإقليم ككل وتشير إلى غياب فرص تطور العلاقات الايجابية بين الدول وبناء أسس السلام والتفاهم داخل المنطقة والتقدم بها نحو حياة إقليمية سلمية ومشجعة على الاستقرار والتعاون والاستثمار. فقد بقيت منطقة المشرق محرومة من أي اتفاقات أو معاهدات جماعية حتى الآن، وباستثناء الاتفاقات الثنائية لا يوجد أي إطار حتى للتشاور في ما بين الدول المتعددة والمتعادية. فارتباط سياسات دول الإقليم بمحاور وحمايات وتكتلات خارجية يقوض فرص بناء أجندة مشتركة إقليمية، كما أن الدول منقوصة السيادة تعجز عن التعامل بندية وبناء علاقات تفاهم وتعاون ايجابية مع أقرانها من الدول المحيطة بها. وهذا ما يفسر جمود حقل العلاقات الدولية في المنطقة وتثبته على الصيغ والتحالفات والمحاور التقليدية القائمة على الالحاق وشراء الولاءات، وفشل كل محاولات تغييره الداخلية. وهو ما تسعى النخب الحاكمة إلى التغطية عليه بتشييئ مفهوم السيادة وتحويله إلى شعار لا علاقة له بواقع الحال الذي يشير إلى تراجع مستمر في قدرة هذه الدول جميعا على التحكم بقرارها ومصيرها، وبالتالي افتقارها المتزايد للمقدرة والسيادة.

في هذه البنية الجيوسياسية شبه الاستعمارية التي تحكم عمل الدولة المشرقية السايكس بيكية نجد الجذور الطبيعية لتطور النظم الديكتاتورية من جهة، وتفاقم النزاعات والتوترات والحروب المستمر بين دول المنطقة، وإخفاقها في التوصل إلى آي آلية لتشكيل جماعة مشرقية متعاونة ومتضامنة، كما حصل في أوروبة وغيرها، سواء أكان ذلك في إطار الفكرة العربية أو الفكرة الإقليمية المتجاوزة لها، من جهة أخرى. وفيها أيضا نجد بذور الحرب الأهلية التي ستفجر الدول من الداخل بعد نصف قرن، والحرب الإقليمية التي سيفجرها غياب الاتفاقات الدولية الإقليمية، وسعي الدول القوية إلى التوسع على الطريقة البسماركية، لدمج البلدان الصغيرة وإلحاقها بها لتوسيع هامش مبادرتها تجاه الدول الكبرى والحلول محلها في الهيمنة الإقليمية وبسط النظام. وفيها تكمن أسباب تكلس النخب والزعامات والمشيخات وتنامي المافيات المحلية المتنازعة والمتنافسة على الزعامة والمجد، وحالة الاستنقاع الشاملة السياسية والاقتصادية والفكرية والدينية التي عرفتها المنطقة برمتها.
٣. منطقة الانقلابات والتقلبات الدائمة
والنتيجة الثالثة لهذه البنية الجيوسياسية الاقليمية وتقويض فرص التفاهم داخل دول المنطقة وفي ما بينها، هي الحرب الدائمة الناجمة عن عدم الاستقرار الذي تعيشه الدول والشعوب معا نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة وتقاطعها وتعارضها، وانعدام فرص التنمية وغياب أطر التشاور والتعاون، والتوتر المستمر في علاقات الدول، وغياب الثقة المتبادلة، والبحث عن الحمايات الخارجية أو نزوع الدول إلى السيطرة، وفي النهاية، إخضاع أولويات الحكومات والدول معا وارتهانهما لمسائل الأمن، وتعظيم الانفاق على الجيوش والأسلحة. والواقع تغطي آليات القمع الداخلي والنزاع الخارجي على افتقار الدول لاجندة وطنية تجمع بين مصالح الأطراف المختلفة من مجتمعاتها وتوحد قرارها، كما تغطي على افتقار المنطقة عموما لاجندة إقليمية توحد مصالح دولها وتضمنها في مواجهة التكتلات الدولية الأخرى.
والآن، مع انفجار الازمة الإقليمية، الناجم عن ااندلاع ثورات الربيع العربي وسعي ايران إلى فك الحصار الذي فرضه الغرب عليها عن طريق تطويق الدول المشرقية واجتياحها وتكوين امبرطورية تابعة لها في المشرق ومعانقة قوى الثورة المضادة في المنطقة وخارجها، وغياب أي أرضية قانونية وسياسية لتنظيم العلاقات بين دول الإقليم، وتضارب التدخلات والمصالح الوطنية والدولية، تشهد المنطقة انهيارات الدولة المشرقية وتفكيك الاجماعات الوطنية داخل الدول واستتباع جماعاتها وأحزابها ومكوناتها، وتحويل الانقسامات والتوترات الكامنة فيها إلى نزاعات وحروب ومواجهات من كل الأنواع، مع استحالة حلها، لوجود القرار الحقيقي بين أيدي خارجية، وغياب التفاهم الدولي في الوقت نفسه. وفي كل يوم تغرق المنطقة أكثر وتصبح الدول نهبا للميليشيات المسلحة، وربما تجاوزت قوة هذه الأخيرة في الكثير من الحالات الجيوش الرسمية، كما هو الوضع اليوم في العديد من دول المنطقة في لبنان والعراق وسورية واليمن، إن لم تتحول الجيوش نفسها إلى ميليشيا تابعة للطغم الحاكمة.

٤. الديكتاتورية والحرب
هكذا قوضت هشاشة المنطقة الجيوسياسية واختراقها من قبل القوى الخارجية وحرمانها من بناء أرضية للمشاروات الإقليمية أسس قيام دولة وطنية تعبر عن إراده شعبها وتنظم شؤونه وتقود مسيرته على طربق الخروج من بؤس الماضي وقرون الانحطاط الطويلة نحو أفاق الحرية والكرامة والأمن والسلام والتنمية والتعاون الدولي والإقليمي. وفي المقابل، شجع ضعف الدولة وفقدانها السيادة، وعجزها عن حماية شعبها ورد العدوان عنه، وغياب القدرة على بناء سلطة شرعية وأجندة وطنية تعكس الحد الأدنى من الإجماع الوطني أو العقد الاجتماعي، وتعذر إقامة حياة قانونية سليمة فيها، توجه النخب والحركات السياسية نحو الحكم الاستثنائي وتعليق الدستور، ودمر الأسس التي لا تقوم من دونها دولة ولا تستقر بانعدامها أي حياة سياسية وطنية طبيعية، فأصبحت عاجزة عن النمو إلى دولة أمة فعلية، وعن تحقيق فكرتها في ما يخص علاقتها بالشعب الخاضع لها وعلاقتها بالدول المحيطة بها، وتحولت شيئا فشيئا إلى مركز لمجموعة مصالح خصوصية، تستخدم فكرة الدولة وشعار الوطنية وحماية القانون أدوات في تحقيق سيطرتها الأحادية على المجتمع والتحكم في مصيره وشروط حياته لحسابها الخاص وفي سبيل حفاظها على مواقعها ومصالحها.
تحولت الدولة إلى إمارة والإمارة إلى مزرعة تحكمها العلاقات الشخصية والاهلية وتتحكم بها المصالح الخصوصية.
وماحصل بمناسبة ما سميناه الربيع العربي هو هجوم الناس، الملوعين والمحرومين من الدولة ورعايتها والمحبطين من سوء أدائها على كل الأصعدة على هذه الدولة المزرعة ومحاولتهم انتزاع ملكيتها من مغتصبيها، وفي ما وراء ذلك انتزاع قرار المنطقة الجماعي من يد الدول الاجنبية التي صادرته خلال العقود الطويلة الماضية.

والخلاصة، في منطقة مستباحة دوليا، لا تخضع لقانون سوى القوة، مفتوحة لكل الغزوات وحركات الاستيطان والتدخلات والاعتداءات والحروب الخارجية، لا يمكن لمشروع دولة حرة أن يتحقق ولا لممارسة سياسة تحرير للشعوب أن تقوم. الاستباحة الدولية للمنطقة، هي الأرضية المؤسسة لاستباحة النخب والطغم الحاكمة للدول والشعوب، وغطاؤها في الوقت نفسه. لذلك لن يكون من الممكن إعادة بناء الدولة، التي هي الإطار القانوني والسياسي الأنجع في الوقت الراهن لتنظيم المجتمعات وتثمير جهود أبنائها وطاقاتهم وتلبية مطالبهم الاخلاقية والروحية والمادية، من دون إعادة بناء شروط الحياة القانونية والسياسية في المنطقة برمتها. ولن يتحقق ذلك من دون التوصل إلى اتفاقات ومعاهدات جماعية تنظيم شؤون الإقليم وتربط مصيره بقرار دوله ومجتمعاته وتفاهمهم، وتضع حدا للتدخلات الأجنبية، وسياسات الدكتاتورية البغيضة ومشاريع الهيمنة الإقليمية معا، وفي السياق ذاته للصراعات والنزاعات والمظالم التي أصبحت الخبز اليومي لأهل المنطقة، أفرادا وشعوبا.

vendredi, octobre 24, 2014

عن فوضى المشرق العربي وخرابه/العربي الجديد

بعد تقديم مداخلتي عن الأوضاع في المشرق العربي، في ندوة "المنطقة العربية بين صعود تنظيم الدولة والانخراط الأميركي المتجدد"، والتي نظمها في الدوحة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، اتصلت بي باحثة أميركية تستعد لإنجاز كتاب عن المنطقة، لتسألني ما إذا كان لدي الوقت للحديث معها في الموضوع. وكنت قد ركزت، في مداخلتي، على أثر البيئة الإقليمية في تدهور عمل الدولة واستقرارها، وعن العبث الذي تعرضت له منطقتنا من الدول الكبرى والأقل كبرا، والذي دمر كل توازناتها في العقود الخمسة الماضية، وحرم الإقليم نفسه من أن يصل إلى تفاهماتٍ، تعزز الاستقرار والسلام بين شعوبه ودوله. ولم أتردد في الاجابة بنعم، لأن هؤلاء الباحثين هم أفضل من ينقل الرسالة إلى الرأي العام العالمي، وربما إلى سلطات بلادهم. وعندما التقيتها، سألتها عن مركز اهتمامها مباشرة، فقالت: أثار اهتمامي تحليلكم مسألة انهيار الدولة في المشرق العربي، وأريد أن أعرف أكثر عن رؤيتكم للوضع، وهل هناك بعد أمل في الخروج من حالة الفوضى والانهيار، التي وصل إليها المشرق، وكيف يمكن أن يحصل ذلك في نظرك؟
بدأت حديثي بالقول إن من المستحيل فهم ما يحصل، إذا اتبع المرء البحث العلمي السائد في الغرب حول المجتمعات العربية، والذي يركز في تحليله للأوضاع على الجزئيات، ويفصلها عن سياقها التاريخي والجيوسياسي، ويتمسك بإحالة كل الأمور إلى الماهيات الثابتة، العربية أو الإسلامية. وهذا ما حرم الباحثين الغربيين من فهم ما يجري في المشرق العربي، منذ حصول دوله على الاستقلال، فقد مال معظمهم إلى التفسيرات المبسطة والعفوية، التي توحي لهم بأن كل ما يحصل للشعوب نتيجة طبيعتها الخاصة، أو ماهيتها، المرتبطة بثقافتها والقيم والمعاني التي تنتجها، وبعقيدتها الدينية، التي رأوا فيها جوهر هذه الثقافة، فتكاد هوية العرب تتلخص في التمسك بثقافة تقليدية متحجرة، قوامها القيم والاعتقادات والطقوس الدينية، التي لم تتغير، ولم تتبدل، ولم تتطور منذ قرون، والتي تتحكم بسلوك العرب، وتمنعهم من إمكانية الارتقاء في تفكيرهم، وتنظيم شؤونهم إلى مستوى مفهوم الدولة والقانون وأخلاق الحرية واحترام الفردية، وتدينهم بأن يستمروا متشبثين بالأشكال الجماعوية للتنظيم الديني الطائفي، أو العشائري، أي ما نسميه، في العلوم الاجتماعية، بالأشكال الأهلية والعرفية والعصبيات التقليدية، التي تنتج نفسها بنفسها، من دون تفكير ولا تغيير، فعلاقات النسب هي الشكل الأبسط للتعاون والتفاعل بين البشر، والتماهي عبر العقيدة هو الروح المحركة للأخوة الدينية التي تجمع بين الأنساب والعصائب والجماعات الأهلية المختلفة.
في هذا المنظور، الوضع المتفجر الذي يعرفه المشرق، اليوم، يكاد يكون أمراً طبيعياً، يعكس غياب مفهوم الدولة ونظريتها وقيم الحرية والفردية في الثقافة العربية، وتشبث المجتمعات المشرقية بالرابطة الدينية، من دون أية رابطة سياسية أو مدنية أخرى.
والواقع أن ما يبدو هنا وكأنه تفسير للواقع ليس إلا تشويهاً له، وتغطية على العوامل الحقيقية لتدهور الأوضاع المشرقية، والتي يمكن لمعرفتها، وحدها، أن تفتح أفق العمل على تغييره. ولو أخذنا بمثل هذا التفسير، لانقطع باب الأمل في بناء دولة وحضارة ومدنية في المشرق، وعند العرب والمسلمين، إلى الأبد، وليس لدى المسلمين والعرب فحسب، وإنما عند ثلاثة أرباع المجتمعات البشرية، التي لم تعرف الدولة الحديثة في ثقافاتها التقليدية، وعاشت كمجتمعات أهلية، قروناً طويلة سابقة، تحت مظلة الامبرطوريات والسلطنات الفضفاضة. ولو كان الأمر كذلك، لاقتصرت الحضارة والمدنية في أوروبا، وحتى داخل أوروبا، على المجتمعات القليلة التي بدأت بوضع أسس بذرة السياسة الجديدة، التي قادت إلى الدولة الحديثة. لكن، كل الباحثين يعرفون أن فكرة السياسة، بالمعنى الحديث الذي يربطها بالمواطنة ومشاركة كل فرد، لا بطائفة من الحاكمين الأبديين، لنبالة عرقهم أو أصولهم، والتي تشكل الدولة الجمهورية نواتها الأساسية، ومحور وجودها، لم تكن موجودة مسبقا في أية ثقافة أو دين من ثقافات البشر وأديانهم، وإنما هي ثمرة ثورة، وبالتالي قطيعة، داخل هذه السياسات والثقافات، بموازاة القطيعة، التي حصلت داخل النظم الاجتماعية القرسطوية، والتي أنتجت الشعب، بدل الرعية والرعاع، وحولت النبالة كطبقة إلى قشرة هامشية، وحولت الأفراد داخل الجماعة إلى مواطنين، يحكم علاقاتهم القانون، ويجمع بينهم عقد اجتماعي، أي مجموعة مدركة من المبادئ وقواعد العمل والغايات الكبرى، هو الذي يحدد أجندة العمل، للحفاظ على المجتمع والدولة والنظام العام.
وهذه القطيعة، التي حصلت في بعض المجتمعات القليلة، في البداية، وأنتجت الحداثة السياسية، الدولة الأمة والشعب والمواطنة، ومن ورائها الاعتراف بسيادة الفرد الإنسان، وأهليته للمشاركة في القرار والحكم، وطورت مفهوم الحرية السياسية المرتبط بحق السيادة والاختيار، واعتبرت ممارسة هذه الحرية، في اتخاذ القرار والمشاركة، شرطاً لتحقيق كرامة الانسان الفرد، والإنسان الجماعة معا، أقول هذه القطيعة لم تقتصر على المجتمعات الأولى، ولكنها انتقلت، بسرعة متفاوتة، إلى مجتمعات أخرى، ولا تزال تتوسع في انتشارها، ولو بشكل متأخر، وبأشكال مختلفة، تتحكم بها السياقات التاريخية والجيوسياسية الي ترتبط بها كل جماعة.
وفي المجتمعات الإسلامية والعربية، حصلت هذه القطيعة في سياق انهيار الامبرطورية العثمانية، فنشأت الدول الحديثة، ولو في ظروف مختلفة، وحسب معطيات متباينة، ففي تركيا، مركز الامبراطورية، ولدت الدولة الجمهورية الحديثة، من كفاح الأتراك الوطني، للحفاظ على استقلال الأراضي التركية ووحدتها، وبموازاة ثورة ثقافية وإدارية، خاضتها النخبة الجديدة ضد بقايا النظم الامبراطورية والسلطانية. وفي المناطق العربية، التي كانت تشكل محيط الإمبراطورية وأطرافها، اختلطت مطالب النخب العربية وكفاحاتها لتحقيق هذه القطيعة، والانتقال إلى دولة حديثة، مع حركة قومية للانفصال عن السلطنة، وما لبثت حتى تقاطعت مع مشروع سلطات الوصاية الأجنبية، الباحثة عن بناء هياكل دولة حديثة تمكنها من إدارة المجتمعات التي سيطرت عليها. ونشأت من ذلك كله مجموعة من الدول الحديثة، التي لا تزال في عهد المشروع، لكن المدعومة، من دون أي شك، بإجماع وطني حقيقي، هو الذي حرّر الأفراد من ولاءاتهم الأهلية التقليدية، العشائرية والطائفية، وسمح بقيام حركات ونخب وطنية، كافحت من أجل الاستقلال وحققته. هذا هو حال مصر وبلاد الشام والمغرب. وفي الجزيرة العربية، ظل مشروع الدولة الحديثة فترة حبيس الهياكل التقليدية والعصبيات الأهلية، التي كانت وراء تأسيس الدولة، فكانت النتيجة نشوء إمارات وممالك بمواصفات تقليدية، تم تطويرها وتوليد روح الدولة الحديثة فيها تدريجياً، من خلال تطور الإدارة، وفي مواكبة نمو العلاقات الاستراتيجية التي تربطها بعالم المدنية الصناعي.
باختصار، كما أنه لا توجد ثقافة على وجه الأرض كانت تحتوي، بالسليقة، على عناصر نشوء الدولة الحديثة، وأخلاقيات المواطنة المتساوية، وحكم القانون، وأولوية الحرية وسيادة الفرد على نفسه، منذ البدء، فليس هناك ثقافة عصية على إنتاج مثل هذه العناصر والمبادئ والقيم. والسبب أن الثقافة، أية ثقافة، لا تشكل ماهية ثابتة ترفض التحول والتغير. كل الثقافات الكبرى والصغرى، بما في ذلك ثقافات القبائل المعزولة في الغابات، قابلة للتطور، واستيعاب الأفكار والمعاني والقيم الجديدة. وهذه هي ثمرة انتماء جميع الشعوب إلى جنس واحد بشري، والذي يفسر أن إبداعات الحضارة لم تقتصر على شعبٍ، أو مجتمع، بشكل خاص، ولكنها تنتشر في كل الأرجاء، من الحضارة الرعوية إلى الزراعية إلى الصناعية إلى الحضارة التقنية العلمية الراهنة. ليست هناك حدود لتطور الثقافات، وتمازج الأفكار. ولولا ذلك، لما انتشرت الأديان السماوية، التي هي لصيقة بثقافة المجتمعات المتوسطية، بل والسامية، على مساحات واسعةٍ، تتجاوز الرقعة التي نشأت فيها، فانتشرت المسيحية، التي ظهرت في فلسطين وسورية بداية في قارات العالم الواسعة، في الغرب الأوروأميركي، وفي الشرق الآسيوي، وفي أفريقيا وغيرها. وهذا ما يميز، أيضاً، تاريخ الإسلام، الذي امتد من المتوسط إلى الصين، ولا يزال يوسع قاعدة انتشاره في أكثر من قارة ومكان. وفي كل مرة، تغير الإبداعات الفكرية، أو المادية، التي ترد إلى الحضارة، من طبيعة الثقافات التي تنتشر فيها، وتعيد بناءها، لاستيعاب القيم والمطالب الإنسانية والتوجهات الفكرية الجديدة.
إذا كان هذا صحيحاً، فكيف نفسر ما يسود، اليوم، في المشرق، من انتشار الفوضى السياسية والفكرية والاجتماعية، وتفكك الدولة وانهيار حكم القانون والمدنية نفسها، لحساب توسع دائرة الحروب الطائفية والنزاعات القومية، ونشوء إمارات الحرب وعصابات التشبيح والميليشيات الخاصة التابعة لهذا الفريق أو ذاك؟ هذا موضوع المقال المقبل.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/9c698d5d-a2bb-47f3-a611-8ceaee497a9f#sthash.1ZXbC8sq.dpuf

vendredi, octobre 17, 2014

إيران المشكلة وأميركا ليست الحل/العربي الجديد

الجمعة 17/10/2014 م (آخر تحديث) الساعة 4:29 (القدس) ،2:29 (غرينتش)
2014-10-17 | برهان غليون
منذ بداية الأزمة التي فجرها اجتياح "داعش" مناطق واسعة في العراق، واحتلاله الموصل، وإعلانه قيام "الدولة الإسلامية"، لم تبق دولة معنية بالموضوع، من دون أن يطالها النقد، فقد اتهم العرب عن حق الغرب، والرئيس الأميركي باراك أوباما خصوصاً، بتحمل المسؤولية عن انهيار الأوضاع، بسبب سياساته الضعيفة في المشرق. وردت الإدارة الأميركية، عن طريق نائب الرئيس، جوزيف بايدن، باتهام السعودية والإمارات وتركيا بالمسؤولية لدعمها المنظمات المتطرفة، بما فيها "داعش". الدولة الوحيدة التي بقيت بعيدة عن الاتهامات وتحمل المسؤولية هي إيران، وكانت مشاركتها في التحالف الدولي لمواجهة "داعش"، وربما لا تزال عند بعضهم، مسألة مطروحة للبحث. والحال أن جميع الأطراف، العربية والدولية، تعرف أن طهران هي المشكلة، والمزود الرئيسي بالوقود لكل ما يجري في المشرق من حروب ومنازعات داخلية وتهديدات ومؤامرات، تستهدف استقرار الدولة والسلام الأهلي، في أكثر من بلد عربي. وهي، نفسها، لا تخفي وقوفها وراء حركات زعزعة الاستقرار، وتقديمها الدعم، بالخبرة والمال والسلاح، لمليشيات محلية، تستخدمها أدوات لتنفيذ أهدافها الاستراتيجية في تحويل المشرق إلى بؤرة مشتعلة، باسم المقاومة ضد إسرائيل، أو تصدير الثورة الإيرانية، أو الوقوف ضد التدخل الغربي.
في لبنان، تمسك مليشيا حزب الله التي تشكلت بدعم مباشر وكامل من الحرس الثوري الإيراني، بالدولة من تلابيبها، وتفرض على الفرقاء الخيار بين الحرب الأهلية والانصياع لخيارات الحزب وسياساته التي تهدف، أولاً، إلى فرض الوصاية على الدولة اللبنانية، وإخضاعها لأجندة السياسة الإيرانية، بما في ذلك المشاركة في حروبٍ تخوضها إيران خارج حدود لبنان. وفي النهاية، تحييد الدولة اللبنانية، وإفراغها من حقوقها السيادية، وتحويل الحزب، ليس إلى دولة داخل الدولة، ولكن إلى الدولة الوحيدة المليئة على حساب الدولة الواجهة الفارغة والفاقدة أي سيادة، أو ملاءة، سياسية.
والواضح أن نجاح النموذج اللبناني في اختطاف الدولة، وتوظيفها في مشروع الهيمنة الإقليمية، شجع إيران على تعميمه في المشرق، لتقويض سلطة الدولة وتفكيك الوطنية المحلية، والتحكم في المجتمع بالتلاعب بالتمايزات الطائفية والقبلية. ومثال اليمن واضح، حيث نجحت طهران بتبنيها قضية الحوثيين في تشكيل حزب ومليشيا أنصار الله التي تكاد تكون نسخة مطابقة للطبعة اللبنانية، تماماً كما تشكل استراتيجية القضم التدريجي لسيادة الدولة، والتهديد بالحرب الأهلية، الطريق الأقصر لفرض وصايتها على الدولة اليمنية، وإجبار الجميع على قبول هذه الوصاية، لتجنب الحرب.
ولم يسلم العراق الذي سقط في حضن طهران ثمرة ناضجة من هذه الاستراتيجية، فبدل أن تساعد إيران السلطة الجديدة التابعة لها على إعادة بناء الدولة فيه، على أسس سياسية وطنية وقانونية، اختارت أن تغرق الدولة التي تسيطر عليها نخبة شيعية، مرتبطة مباشرة بها، وتابعة لسياساتها، بمليشياتها العديدة المرتبطة بالزعامات الدينية والحرس الثوري الإيراني. وحتى عندما تفجرت أزمة نظام نوري المالكي، المغرق في الطائفية، باجتياح "داعش" جزءاً كبيراً من أراضي العراق، وانهيار جيش المليشيات أمامه، لم تفكر طهران، وأتباعها، في تغيير الصيغة الطائفية والعصبوية للحكم، والعودة إلى دولة المواطنة التي تضمن إشراك الجميع بالتساوي، وفضلت صنع مليشيات جديدة في المناطق الثائرة. وهذا يعني، بدل أن تدرج العراقيين جميعاً في جيش وطني واحد، قررت أن تكلف مليشياتٍ، أتبعتها بالعشائر، بمواجهة "داعش"، بينما تدافع مليشيات الطوائف عن احتكار السلطة في بغداد.
وفي سورية التي ألحقتها بدولة حزب الله في لبنان، لم تكتف طهران بتحويل الجيش السوري إلى مليشيا ملحقة بالأسد، وخاضعة لتوجيه قادة الحرس الثوري الإيراني، لكنها استخدمت الأسلوب نفسه في تحييد الدولة ومؤسساتها، لصالح المليشيات، فأعلنت تشكيل جيش الدفاع الوطني الذي اعتبرته بمثابة الحرس الثوري الإيراني في سورية. ومع اشتداد ضغط الثوار على النظام، لم تتردد في زج مليشياتها العديدة، الموزعة على اتساع المنطقة، في حرب قمع الثورة السورية، إلى جانب الديكتاتور الدموي، بدءاً من حزب الله، إلى عصائب أهل الحق وأبو الفضل العباس وجيش المهدي، وغيرها من المليشيات العراقية والأفغانية والدولية، بالإضافة إلى عناصر من الحرس الثوري نفسه.
هذه النزاعات الدموية، المستمرة منذ سنوات في أكثر من بلد عربي، جزء من استراتيجية طهران لتفجير المشرق العربي وإخضاعه، لتكوين منطقة نفوذ حيوية لها، على مثال ما حلمت به ألمانيا الهتلرية، في منتصف القرن الماضي، في أوروبا، وللضغط على الدول الغربية، لإجبارها على الاعتراف بحق إيران في امتلاك السلاح النووي. وبالتأكيد، ليست سياسة طهران المسؤولة الوحيدة عن انتشار العنف في المجتمعات العربية، فانهيار التفاهمات الوطنية التي قام عليها استقرار الدول العربية، نصف القرن الماضي، وقوضتها الديكتاتورية الدموية وفساد النخب، فجّر أزمة سياسية عميقة، ووضع مجتمعات عربية عديدة على شفا الحرب الأهلية، لكن إيران دخلت على خط الأزمات الوطنية الداخلية، وبشكل أكبر، بعد ثورات الربيع العربي، لكي تضع بيضها فيها، وشحنتها بأفكار وقوى وأهداف، تزيد في إضرام النار فيها، وتقوّض رهاناتها السياسية الأصلية، وتحرفها عن أهدافها، وتدفع بها إلى أنفاقٍ، يصعب الخروج منها. إن ركوب طهران ظهر الصراعات السياسية العربية، من أجل تحقيق أهدافها الخاصة، المسؤول الرئيسي عن تحويل صراعات محلية داخلية وسياسية إلى حروب إقليمية ودولية، غير قابلة للحل، أو تملك طهران وحدها مفتاح التحكم بها، وإلى تعفن الوضع، واندلاع الحروب الطائفية، وحرق الأرض التي يمكن أن تعيش فيها أية أفكار، أو علاقات سياسية مدنية، أو إنسانية.
لم أكف، منذ بداية الثورة السورية، عن تذكير الغربيين بالمشكلة الإيرانية التي هي من بقايا حسابات السياسات الاستعمارية والإمبريالية المعلقة، وأنه من دون إيجاد حل لهذه المشكلة، لن يكون هناك حل للحروب الدموية التي تغذيها طهران، وتستخدمها للضغط على الدول الغربية، لإجبارها على القبول بمطالبها، وإلحاق البلدان المشرقية بها. والواضح أن الغرب الذي يئس من إمكانية التوصل إلى تسوية مع طهران، ولا يرغب في مواجهة مطامعها التوسعية، ودفع ثمنها، قد قبل بالتضحية بالمشرق العربي، ولم يعد يفكر في إمكانية إيجاد حل لمعاناة السوريين، أو اليمنيين، أو العراقيين، أو اللبنانيين. وهذا فهمته طهران، فتتصرف في بلدان المشرق، وإزاء دوله، كأرض مباحة، لا تحترم تجاهها سيادة ولا شرعية دولية ولا قانوناً. تدرب المليشيات وتسلحها علناً، وتنظم الحروب الأهلية التي يقودها ويخطط لها قادة عسكريون إيرانيون معروفون. هكذا تكاد سورية أن تصبح بلداً مدمراً بالكامل، بعد تحطيم دولتها وتشريد شعبها، من دون أن يثير عمل إيران اعتراض أحد، واليمن يدخل في الدوامة نفسها، مقدمة للتهديد الصريح بنقل الأزمة نفسها إلى دول الخليج، لاحقاً. ربما لا تستطيع إيران أن تهاجم الخليج مباشرة، وتضعه تحت سيطرتها، لأنها ستتعرض لهجوم مباشر، لكنها تستطيع تقويض استقراره وزعزعة دوله، وإشعال حرائق فيه، من الصعب إطفاؤها.
على استراتيجية إشعال الحرائق الإيرانية هذه في المشرق العربي، والتي تختلط في صياغتها غطرسة القوة، والشعور بالغبن، ومشاعر العظمة القومية، والاعتقاد باحتكار الحقيقة الدينية، وضرورة الهرب إلى الأمام، يكرر الغرب موقفه الاستسلامي، أمام النازية الألمانية، منتصف القرن الماضي، أي التضحية بالدول الضعيفة، لتجنيب نفسه تكاليف الحرب والمواجهة. ومن أجل إشغال الرأي العام عن المشكلة الحقيقية، ينظم حرباً "إلكترونية" على أطراف المشكلة، يذكّر من خلالها بقوته، ويطمئن الوحش على سلامة نيته.
لن تنقذ مثل هذه الحرب المشرق من مصيره المحتوم، ولا أمل له في مواجهة حرب التقويض الزاحف لأسس وجوده وبقائه، ما لم يفكر وينجح في تنظيم رد جماعي قوي ومتسق، يقنع طهران بوقف العدوان المستمر، ويقنع الغرب والشرق بأن لديه القدرة والإرادة والوعي، ليكون شريكاً يعتمد عليه، في بناء شرق أوسط مستقر، قائم على الاحترام المتبادل، لا عالة على النظام الدولي. وهذا يتطلب، قبل أي شيء، وقف حرب تصفية الحسابات العربية الداخلية، والجلوس على طاولة حوار عربي عربي، لإعادة بناء نظام المشرق نفسه، وقواعد عمله تجاه شعوبه، وبين دوله، على أسس سياسية وقانونية، غير القائمة على الولاءات الشخصية والالتحاق التي تسود منذ نشوئه.

لقاء على قناة أورينت الدكتور برهان غليون : قصص عن الأمل والواقع والسياسة


http://www.youtube.com/watch?v=iZEZkbMiExk&sns=em

jeudi, octobre 09, 2014

صحوة العلويين

أثارت التفجيرات التي ذهب ضحيتها، قبل أيام، عشرات من المدنيين السوريين، معظمهم من أطفال المدارس الصغار، موجة من الاحتجاجات والتساؤلات التي تجاوزت حي عكرمة الحمصي، ولا تزال تفاعلاتها مستمرة في أوساط الموالاة والمعارضة، وما حصل من مظاهرات، وما تردد في المناسبة من شعارات وتوجيه اتهامات وإدانة مباشرة للنظام في معسكر الموالاة نفسه، يشكل إرهاصات مهمة من زاويتين:
الأولى لما يظهره من التوتر العميق الذي تعيشه قطاعاتٌ متزايدة من السوريين العلويين الذين استمالهم النظام إلى صفّه، سواء بتغذية مخاوفهم على وجودهم، من جراء أي تغييرٍ، يمكن أن يطرأ على توازن السلطة وصيغة الحكم، أو من خلال وعدهم المضمر بأن تحقيق النصر على الثائرين يعني أخذ الدولة السورية والبلاد ومواردها جميعا غنيمة حرب، وإلحاق أغلبية العلويين الذين لا يزالون يعيشون في ظروف صعبة بـ "إخوتهم" من أعضاء المافيا التي تسيطر على البلاد منذ عقود وبزبانيتها ومحاسيبها المقربين. هكذا يتحولون، جميعاً، إلى أسياد ومتمولين، بعد كسر إرادة الثائرين "الخونة والطائفيين والتكفيريين"، الخارجين على إرادة سادتهم، وبعد إعادة وضع أيدي هؤلاء العبيد المتمردين وأرجلهم في القيود والأغلال.
والحال، بعد مرور ما يقارب السنوات الأربع على الحرب الأكثر وحشية في تاريخ البلاد، لم يبق في سورية ما يمكن تقاسمه من موارد أو امتيازات، حتى لو تحقق الانتصار، وقد أصبح من حكم المستحيل. وإذا استمرت الحرب سنوات مقبلة، لن يبقى، أصلاً، سوريون علويون ليرثوا شيئاً. أما كابوس الموت والإبادة الذي حذرهم منه النظام، إذا ترددوا في وضع أنفسهم في خدمته لدحر أعداء الوطن والدين، فلم يعد تهديداً محتملاً، أو خطراً جاثماً، بعد نجاح الثورة، لكنه تحول إلى واقع يومي، وحصاد مر لحربٍ لا تبقي ولا تذر، فهي لم تترك أسرة سورية علوية من دون أن تُفقدها واحداً أو أكثر من أبنائها، ولا يزال باب الخروج منها أو إنهائها بعيد المنال.
لم تحصل الإبادة التي حذروا منها نتيجة التنازل عن حماية عرش الأسد ونظامه، وإنما ثمناً لهذه الحماية نفسها، في الوقت الذي لم تبق في سورية المدمرة بالبراميل المتفجرة، وما أضيف إليها من قذائف التوماهوك أخيراً، أي غنيمة لمغتنم. ويدرك الجميع أنه لن يمضي وقت طويل، قبل أن يتسابق رجال النظام على الهرب من الجحيم الذي حولوا سورية إليه بأيديهم، باستثناء أولئك الذين تقتضي مصلحة إيران بقاءهم، ولو في مربع من كيلومتر واحد، لتأكيد وجود النظام واستمراره، وأعني بشار الأسد وحلقته الضيقة بالذات.
والزاوية الثانية التي تبدو منها الاحتجاجات الأخيرة ذات أهمية كبيرة، هي أن هذا التوتر، والخوف المتزايد من انفكاك القاعدة الاجتماعية العلوية الرئيسية لمعسكر الولاء، لا يترك للقطاعات الأكثر تطرفاً وتمسكاً بالنصر النهائي والإلهي في النظام، وعلى قمتها طهران وحزب الله وقادة الأجهزة الأمنية، خياراً آخر للجم مشاعر الخوف المعاكس عند العلويين من عواقب الاستمرار في القتال، حتى آخر قطرة دم من أبنائهم، سوى تنفيذ برنامج تفجيرات مروعة، تستهدف الأطفال والمدنيين، على أمل إحياء مشاعر الخوف والهلع عندهم، في سبيل استعادتهم إلى حظيرة النظام. كان الخوف من هذه الحرب الاستباقية التي تشنها الأطراف الأكثر تشدداً من ميليشيات النظام الداخلية والخارجية على السوريين العلويين، المنهكين والحالمين بالعودة إلى السلام، هو الذي جعلهم يكتشفون، بخبرتهم وغريزة البقاء، أو هكذا يظنون، أن أطرافا من معسكر النظام هي المسؤولة عن وضع المفخخات التي راح ضحيتها عشرات الأطفال الأبرياء.
لم تكن سورية أكثر ضياعاً، ولم يكن السوريون أكثر إنهاكاً، وخوفاً على مصيرهم، ويأساً من تدخل العالم الخارجي لصالحهم. وبالتالي، استعدادا لوقف القتال، والعودة إلى لغة الحوار والتسويات مما يبدون عليه الآن، بعد أن خبرت كل الأطراف أن العالم غير معني بمأساتهم، وأن أي حسم عسكري، حتى لو حصل، لن يعني أي انتصار، وأن وطنهم في طريقه إلى الذوبان كالملح بين أيديهم ليتركهم، في الداخل والخارج، ميتمين وشهداء وجرحى ومعاقين ومشردين ومهزومين، في وقت تكاد جميع الدول التي وضعت يدها على النزاع تتفق على شيء واحد، هو تحويل سورية، الوطن المغدور، إلى مسرح تصفية حساباتها وحسابات خصومها التي لا تزال مجمدة منذ سنوات، وبعضها منذ عقود، مستخدمةً ما تبقى من شباب سورية على قيد الحياة، لخوض آخر حروب تقاسم الهيمنة والنفوذ الاستعماريين في المنطقة والعالم.
لكن، طهران التي ترى في سورية واسطة العقد في الهلال الجيوستراتيجي الذي لا تزال تسهر على بنائه منذ عقود، لاحتواء المشرق العربي وإحكام قبضتها على المنطقة، والضغط على الغرب لانتزاع اعترافه بما تسميه حقوقها القومية المشروعة في التقنية النووية والقيادة الإقليمية، طهران هذه تقتل في المهد، وسوف تقتل كل حركة في اتجاه أي حوار أو تفاهم سوريين يمهدان لخروج البلاد من تحت نفوذها وسيطرتها الكاملة. وقد كانت سورية، بما لا يقاس، الاستثمار الأكبر لطهران في معركة صراعها على النفوذين، الإقليمي والدولي، في العقود الثلاثة الماضية، وثمن التنازل عنها ووقف نزيف الدم فيها لا يمكن أن يكون أقل من تخلي الغرب عن شروطه القاسية في الملف النووي الإيراني، وتسليم العرب لها بالدور القيادي الإقليمي.
سورية رهينة ثمينة في يد طهران، والسوريون العلويون رهينة أثمن في يد نظام الأسد المافيوزي، وكلاهما أداة في خدمة رئاسة بشار التي تضمن وحدها، في نظر طهران، "حقوق" إيران، أي قدرتها على الاستمرار في ممارسة سياسة الضغط والابتزاز للمنطقة والعالم. ولا يعني موت الرهينتين شيئاً كبيراً لقادة الجمهورية الإسلامية الذين استخدموا أطفال إيران وسائل لتفجير حقول الألغام التي زرعها صدام حسين في الحرب العراقية الإيرانية في التسعينيات. بالعكس، إن هذا الموت يمكن أن يوجه رسالة أساسية يعتقد قادة إيران من القوميين الدينيين المتشددين أن من المهم إرسالها إلى القريب والبعيد، وخصوصاً للإيرانيين أنفسهم، ولأهل الإقليم، وللغرب الرافض الاعتراف بمطامحهم، عن تصميمهم الأسطوري واستعدادهم للذهاب إلى الخيارات القصوى، لإنقاذ نظامٍ مدان، غارق في الوحول والدماء، ولم تعد لديه خيارات سوى الانتصار أو الانتحار.
بعد ضياع طويل، واكتشاف السوريين من علويي الموالاة إلى أي حد لا يعني مصيرُهم أحداً، لا طهران ولا الأسد الذي لم يعد، هو نفسه، ولي أمر نفسه والمتحكم بمصيره. حان الوقت كي تأخذ النخبة السورية العلوية الصامتة دورها، وتتحمل مسؤوليتها في المشاركة في إنقاذ سورية، وتقريب ساعة الحقيقة والخلاص من نظام المافيا التي لا تعرف ديناً ولا مذهباً ولا ملةً ولا وطناً غير عبادة السلطة وجمع المال، على حساب كل المبادئ والقيم والتطلعات السياسية والإنسانية لسورية وجميع السوريين من دون تمييز.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/1a26e95e-b073-49d5-85be-99da3f8ce659#sthash.tBItLAY0.dpuf

jeudi, octobre 02, 2014

حول تصريحات الرئيس أوباما ومسؤولية الإدارة الامريكية عن تفاقم الوضع


قال الرئيس باراك أوباما في آخر تصريح له أنه فوجيء بقوة تنظيم الدولة، وأن المخابرات الأمريكية قللت من خطر التنظيم. والحال نحن لم نكف منذ أكثر من سنتين، في لقاءاتنا سواء أكان ذلك مع الوزير جون كيري أو مع المسؤول عن الملف السوري السفير روبرت فورد وخلفه السفير روبنستين عن التحذير من أن ترك كتائب الجيش الحر من دون دعم يعني ببساطة دفع المقاتلين بالرغم منهم إلى الالتحاق بداعش لضمان الدفاع عن أنفسهم والاستمرار في القتال. ولا يمكن للمسؤولين والمحللين الأمريكيين أن يكونوا قد جهلوا كل هذه التحذيرات، أو أنهم لم يدركوا أن قطع المساعدات، بما فيها العربية، أو تجميدها خلال أشهر طويلة في وقت لم يتوقف فيه النظام عن تصعيد هجماته ضد مواقع الثوار، لن يترك لهؤلاء خيارا آخر سوى السقوط برصاص الأسد أو البحث عمن يستطيع أن يضمن لهم البقاء. 
لم تكن هناك أجوبة مطمئنة وواضحة على هذه التحذيرات. وما كان لدينا شعور بأن هناك استيعاب حقيقي لخطر مثل هذا التحول لدى المقاتلين. بل لعله كان مطلوبا بالفعل لهدف أو آخر. وبالمثل، منذ اليوم الأول لبدء الهجوم على داعش، حذرنا المسؤولين الامريكيين من توسيع دائرة الهجوم على تنظيمات غير داعش، مذكرين بأن مثل هذا العمل سوف يضعف الجيش الحر في مواجهة قوات الأسد، ويسمح للأسد باستثمار ضربات التحالف لصالحه، ويدفع المقاتلين إلى التضامن مع داعش، ويؤلب الرأي العام على التحالف. وأعتقد أن الرسالة قد وصلت في اليوم نفسه لكبار المسؤولين.
وبالرغم من خلو قرار مجلس الامن من ذكر الميليشيات الأجنبية الاخرى التي يشكل وجودها وقتالها إلى جانب النظام عدوانا سافرا على السوريين وسيادة بلدهم وعلى حقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم، ذكرنا مرارا إن ضرب داعش وترك الميليشيات الأخرى الداعمة للنظام لا يمكن إلا أن يقوض الأساس السياسي الذي تقوم عليه العملية. 
نحن لا نعرف كيف تسير الإدارة الأمريكية وكيف يتخذ القرار في مثل هذه الازمات. لكن لا يمكن لعاقل أن لا يكتشف بنفسه مثل هذه العلاقات والترابطات. 
إذا لم يكن ما حصل ناتج عن إرادة مقصودة في هدر الوقت وترك الأزمة تتفاقم، فمعنى ذلك أن ما يجري في المشرق وسورية بشكل خاص، وهو حرب إبادة حقيقية منذ ثلاث سنوات، لم يكن في مركز اهتمام البيت الأبيض ولا الإدارة الامريكية ولا الكونغرس، ربما باستثناء السناتور ماكين الذي لم يتوقف منذ بدء الأزمة عن التحقق بنفسه عما يجري.
لذلك أقول إن الإدارة الأمريكية مسؤولة عن ترك الوضع يتفاقم، ليس لأنها لم تتحرك بسرعة فهذا تقديرها، ولكن لأنها لم تقدم المساعدة الضرورية واللازمة التي كانت توعد بها للحد من تآكل قدرة الجيش الحر الذي كان يسيطر على ما يقارب ٦٠ بالمئة من الأرض، ولأنها منعت الدول الأخرى من تقديم المساعدة أو حددتها.

mercredi, octobre 01, 2014

بؤس السياسة الدولية : بين اللعب بنار الارهاب والهلع القاتل منه


تركت الدبلوماسية الدولية ومعها الإعلام العالمي كل شيء، وأجلا التفكير في كل المشاكل والتحديات الانسانية السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، للتركيز منذ أكثر من شهر، وبالتأكيد لأشهر طويلة قادمة، على داعش والارهاب. أصبحت تصريحات مراهق في بلجيكا يطلب من البلجيكيين وضع الحجاب ويهدد باحتلال بلجيكا من قبل المسلمين خبرا يتكرر كل ساعة على قنوات التلفزة وبيانا بمثابة إعلان حرب.
أمران: إما أن رجال السياسة الكبار في العالم يستهينون بالمسألة الارهابية ويستخدمونها كفقاعة إعلامية ونفسية لإشغال الرأي العام عن المشاكل الاخرى، أو أنهم مرعوبين بالفعل منها، وحائرين أمام وسائل مواجهتها، ويعتقدون أنها أم المشاكل الدولية والمدخل لحل كل الأمور.
وفي الحالتين نحن أمام مواقف تعبر عن الهزال الذي بلغته السياسة الدولية هذا الزمان
. الارهاب ظاهرة أخطر من أن تستخدم كفزاعة لضبط الراي العام، فمن الممكن أن تتحول فعلا إلى مرض عضال في النظام العالمي، لكنها أقل من أن تكون البعبع السري الخارج من أعماق التاريخ، الذي لا يمكن لأحد حل لغزه، والذي يجعلنا نجلس باهتين امامه، ولا نفكر إلا في طريقة الهرب منه. هناك قضايا أهم بكثير لا تحصى تحتاج إلى النقاش والبحث والمعالجة وأولها قضايا الفقر وتدهور شروط حياة الجماعات وانهيار الدول وسوء الإدارة ومصائر الأجيال الجديدة والمناخ وغيرها وهي أكثر إلحاحا وجوهرية.
الارهاب قوي لأننا لا نريد معالجة جذوره وشروط تكوينه، ونحوله بوعي أو من دون وعي، وبسبب الخوف أو اللعب بالنار، إلى معادلة مستحيلة الحل مرتبطة بالدين والتاريخ والثقافة والمجتمع والأرض. والواقع هو أقل من ذلك بكثير. إنه النبتة الطبيعية للمستنقع الكبير الذي أصبح عليه المشرق العربي والذي صنعناه بأيدينا محليين ودوليين. ويكفي أن نجفف هذا المستنقع، مستنقع العنف والظلم والمهانة والقهر والتسلط والاستهتار بكرامة الفرد وقوته وحياته، حتى تجف ينابيع التطرف والارهاب ويختفي من تلقاء نفسه.
ما هو مطلوب هو التصدي بقوة لمظاهر االتطرف من دون ضجيح، والعمل بجدية وصمت على تغيير الشروط السياسية والاقتصادية والجيوسياسية التي تكاد تحول التطرف والارهاب ظاهرة مستمرة وإلى دولة وعقيدة قائمة بذاتها، ومن الممكن أن تحولها أكثر، إذا استمر التعامل الانتهازي والتهويلي معها، إلى ظاهرة جوهرانية خطيرة وصلدة بالفعل لا يمكن معالجتها.