mercredi, avril 25, 2007

انتخابات ضد الديمقراطية

الاتحاد 25 أفريل 07

جرت في سورية منذ يومين انتخابات أعضاء مجلس الشعب تقول التقارير أنها لم تحظ باهتمام كبير إلا لدى بعض أصحاب المصالح الذين يتربصون بمقعد في البرلمان لاستخدامه مطية لتحقيق مآربهم الشخصية، ويعملون المستحيل لجذب بعض المحتاجين لتسديد فواتير حساباتهم الشهرية. وتجري انتخابات كل بضعة أشهر في البلاد العربية لا تختلف كثيرا في طبيعة تنظيمها عن الأولى، ولا يهدف معظمها، على عكس الغاية التي صيغت من أجلها، إلا إلى منع الشعوب العربية من اختيار ممثليها. هكذا تتحول الانتخابات التي ابتكرت لتجسيد السيادة الشعبية إلى وسيلة لتزوير الإرادة العامة والتمديد الأبدي للسلطات والنخب والأحزاب التي وصلت إلى الحكم بالوسائل الاستثنائية، العسكرية وغير العسكرية، وتريد أن تحتفظ به بأي ثمن، بعد أن وحدت تماما بين مصالحها الخاصة والمصالح العامة والوطنية. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يفقد المواطن الثقة بالنظام السياسي، ومن وراء ذلك بالسياسة نفسها، وبالطبقة السياسية التي تتعامل بها، وأن يراهن بشكل متزايد، من أجل التعبير عن آماله ومطامحه المشروعة، على قنوات أخرى أقل فسادا أو وقدرة على الإفساد مثل الجمعيات الدينية والعصبيات العشائرية والطائفية والمذهبية. فهنا يستطيع أن يحقق مشاركته وتواصله مع أقرانه على قاعدة أفضل من المساواة والندية، من دون أن يهزأ أحد منه أو يستهين بعقله وإدراكه.
ليست الانتخابات غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة لتحقيق غايات سياسية واضحة ومعروفة، وفي مقدمها تمكين المواطنين من اختيار من يعتقدون أنهم الأقدر تعبيرا عن تطلعاتهم السياسية وقدرة على تلبية مطالبهم وتحقيق أهدافهم ومصالحهم. وحتى يصبح من الممكن تحقيق هذا الاختيار ينبغي أن يتمكن جميع أفراد الشعب المحققين للشروط القانونية من تقديم ترشيحاتهم والتعبير عن برامجهم وتوجهاتهم وتنظيم أنفسهم في شروط متكافئة ومتساوية حتى تكون المنافسة بينهم سليمة ونزيهة. كما ينبغي أن يتمكن جميع الناخبين من معرفة برامج ممثليهم والتصويت بحرية لمن يرون فيهم الكفاءة وروح المسؤولية والقدرة على خدمة المصالح الوطنية. وهذا يتطلب كما هو واضح أن يتمتع الجميع، مرشحين ومنتخبين بشرط الحرية، الذي يمكنهم من المشاركة في النشاطات الفكرية والسياسية والتعبير عن آرائهم وتنظيم اجتماعاتهم ومناقشة بعضهم البعض الآخر. بذلك تعمل الانتخابات على ايصال من هو الأصلح والأكثر تجسيدا لإرادة الناخبين إلى السلطة، وتضمن لهذه السلطة لهذا السبب الشرعية التي تمكنها من الحصول على تأييد المواطنين لقراراتها والحصول على ثقتهم التي تحتاج إليها لتطبيق هذا القرارات بطواعية من قبل أفراد المجتمع، أي لضمان احترام القانون والتقيد به.
وليس لمثل هذه الانتخابات قيمة إذا كانت نتائجها محسومة سلفا، سواء بسبب التلاعب والغش التقليدي الذي تميزت به انتخابات العديد من النظم العربية التي تسيطر عليها سلطة أمنية تتحكم بكل نشاطات السكان، أو بسبب وجود نصوص قانونية تضمن مسبقا لطائفة من المرشحين، بسبب الانتماء إلى الحزب الحاكم أو إلى جبهة تقدمة أو غير تقدمية، أو بسبب امتلاك أفرادها لوسائل التأثير على الحكومة أو شراء أصوات الناخبين، النجاح ، أي سواء أكان ذلك تطبيقا لقوانين لا ديمقراطية أصلا أو نتيجة تزوير منظم لإرادة الناخبين. وبالمثل لا قيمة لأي منافسة انتخابية إذا افتقد المرشحون أو الناخبون شرط الحرية الذي يسمح لهم بانتقاء ما يعتقدون أنه الأصلح والاكثر مطابقة لصفات ممثل الشعب والامة. فلا منافسة انتخابية، أو باختصار لا انتخابات، عندما يخضع ترشيح المواطنين لمناصب النيابة إلى قيود سياسية، أو عندما يتضمن نص القوانين تمييزا واضحا بحق فئة منهم بالمقارنة مع الفئة الأخرى، سواء أكان هذا التمييز بسبب انتمائهم السياسي أو الايديولوجي أو الديني أو الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي، أو بسبب منعهم من الاتصال بناخبيهم والتعبير الصريح عن آرائهم ومواقفهم وبرامجهم السياسية. وبالمثل لا منافسة انتخابية، عندما تتعرض حرية الناخبين للانتقاص ويفرض عليهم بصورة مباشرة او غير مباشرة التصويت لنوع من المرشحين أو لقوائم مختارة من قبل السلطة.
في جميع تلك الحالات تسقط الانتخابات كوسيلة لتنظيم الحياة السياسية الديمقراطية، وتتحول إلى أداة في يد السلطة الحاكمة لتعزيز سلطتها وفرض الأمر القائم على السكان. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يشيح المواطنين بنظرهم عنها، وأن تكون مشاركتهم محدودة، أو أن لا يقبل المشاركة فيها، على مستوى الترشح والانتخاب إلا أصحاب المصالح الخاصة الذين يعرفون كيف يستفيدون من مناسبتها لتحسين أوضاعهم والدعاية لأنفسهم. وليس من قبيل الصدفة أن تتحول الانتخابات التي أعدت في الأصل لتحقيق مطلب تداول السلطة بصورة سلمية وإتاحة الفرصة لأصحاب الآراء والاجتهادات الوطنية للتعبير عن أنفسهم وتطوير رؤيتهم والاجتهاد في ايجاد الحلول الايجابية للمشاكل الاجتماعية، إلى وسيلة لتأبيد النظم القائمة والتغطية على حرمان المواطنين من المشاركة في انتخاب ممثليهم والمساهمة في السلطة، وأن لا تكون نتائجها الحقيقية سوى ضرب ثقة الجمهور بالدولة والحياة السياسية وتحويل العمل السياسي إلى تجارة خاصة لا تجذب إلا أولئك الأكثر تجردا عن المباديء الأخلاقية والوطنية والأكثر ميلا إلى استغلال النفوذ لتحقيق المآرب الشخصية. هكذا تتحول الانتخابات والنظام السياسي نفسه إلى مصدر إضافي لانتاج الفساد على أعلى مستوى من مستويات السلطة وتصبح الدورة الانتخابية مناسبة دورية لإعادة توزيع المنافع والحصص والعمولات والامتيازات على الأنصار والموالين وتجديد أسس التحالف بين قوى الفساد المنتشرة في الإدارة والدولة والقطاعات الاقتصادية والمؤسسات الامنية والعسكرية. وهذا ما يفسر لماذا تصبح البرلمانات العربية او معظمها أحد القلاع الرئيسية التي تقف في مواجهة إرادة الناخبين وتساهم في تجميد الأوضاع وقتل أي إرادة تغيير، بدل أن تكون الإطار الأمثل لتنمية حركة الإصلاح ومسايرة التجديدات السياسية والتشريعية العالمية.
الانتخابات التي تهدف إلى تثبيت اختيار السلطة الحاكمة بدل أن تتيح للشعب انتقاء ممثليه لا تكرس الفساد فحسب وتجعل منه أساس الحياة السياسية نفسها ولكنها تحرم المجتمع من الأمل بأي تغيير أو إصلاح، وتدفع به إلى دائرة اليأس والكفر بالدولة وبالنظام وقبول جميع التجاوزات السياسية والقانونية. إنها تعكس درجة درجة الاحتقار الذي تكنه النخب الحاكمة للشعب وعمق استهتارها برأيه وإرادته وكرامته وحقوقه. وهي أفضل تجسيد لانعدام المسؤولية والافتقار إلى الحد الأدنى من الأخلاق الانسانية. ولا يمكن أن تكون نتيجتها سوى تعميق مشاعر احتقار السياسة والسياسيين عند المواطنين وحرق الأرض التي يعيش عليها مترزقوا السياسة أنفسهم. والحكومات التي تقطع الطريق على أي تداول سلمي للسلطة يضمن للجميع الحظوظ المتساوية من النجاح في المستقبل هي التي تتحمل وحدها، وينبغي أن تتحمل، المسؤولية كاملة عما يحصل في البلاد من تدهور في شروط الحياة السياسية والمدنية، ومن توترات ونزاعات اجتماعية وانفجارات طائفية ومذهبية وإتنية.

vendredi, avril 13, 2007

العرب من إخفاق إلى إخفاق

الجزيرة نت
لا يستطيع أحد منا أن ينكر اننا لم نحقق في العقود الخمس الماضية التي أعقبت الاستقلال أيا من أهدافنا الوطنية، سواء ما تعلق منها بتحرير فلسطين أو حماية الاستقلال أو توحيد البلاد العربية كما حلم بذلك الآباء المؤسسون. وبدل ذلك نحن اليوم الهدف الرئيسي للحرب والتدخلات العسكرية وسياسات الوصاية والتمزيق الاتني والطائفي معا، من دون أن يكون لدينا أي خطة متسقة للرد.
لا ينبع ذلك من نقص في المصالح التي تربطنا بالآخرين، والتي كان من الممكن تثميرها لتحقيق أهدافنا. كما لا يكمن في خمود شعوبنا ورفضها تقديم التضحيات. ولا تكمن كذلك في ضعف مقاوماتنا أو غيابها. فنحن نملك أكبر احتياطي للطاقة في العالم يثير منافسة دائمة بين الدول الصناعية، ونحظى بأفضل المواقع الجيوستراتيجية الدولية، وتتميز منطقتنا بأنها الموطن الأول للترات الروحي لجزء كبير من الانسانية. كما أن شعوبنا لم تبخل في البذل خلال القرن الماضي بأكمله، إذ لم تتوقف ثوراتها ضد المحتلين ولا استكانت للعدوان الخارجي. ولا تزال المقاومة، بما فيها المسلحة، هي الشعار الأكثر تعبئة للرأي العام.
ما الذي يفسر إذن هذه الحصيلة المزرية لسياساتنا الخارجية؟ ولماذا حققت شعوبنا أقل بكثير مما حققته شعوب ليس لديها عشر الموارد الاستراتيجية التي نملكها، ولا تتمتع لا بموقع استراتيجي استثنائي، ولم يظهر جمهورها ما اظهره الجمهور العربي من إرادة مقاومة واستعداد للتضحية وإنكار الذات؟ قليلا ما طرحنا على أنفسنا مثل هذا السؤال. فقد اعتدنا على التغطية على إخفاقتنا بتصويرها أحيانا وكأنها انتصارات أو انتصارات مؤجلة، أو كما هو الحال اليوم، بالاستسلام والتسليم لفكرة مخدرة ومجهضة لإرادة التحرر عندنا هي أننا مستهدفين. وهذا ما جنبنا التساؤل عن صحة المناهج السياسية التي اتبعناها ونتبعها في التعامل مع العالم الخارجي الدولي، وعن السبب الذي صرنا فيه مستهدفين وتحولنا إلى مسرح لنزاعات الآخرين.

سيطرت خلال العقود القليلة الماضية مقاربتان على سياسات حكوماتنا وعلى تعاملها مع العالم الخارجي ليس لأي منهما حظ من المعقولية. ففي مقابل نزعة الأغلبية الساحقة من النظم العربية الحاكمة إلى الالتحاق بواشنطن والتكيف مع استراتيجياتها الإقليمية بل والدولية من دون نقاش، نمت في صفوف الرأي العام العربي نزعة معارضة تماما لهذه السياسات تثمن كل ما من شأنه تعميق القطيعة مع الغرب وإدانة سياساته والعداء له. وكما تبدو المقاربة الأولى للسياسة الخارجية العربية وكانها استسلام تمليه مصالح بعض النخب الحاكمة التي لا تفكر في مصالح شعوبها، تبدو المقاربة الثانية وكأنها تمسك بقيم الوطنية التي عبرت عنها في مرحلة سابقة الحركة القومية العربية، وتكاد تتميز في تجسيدها اليوم الحركات الاسلامية السياسية على مختلف اتجاهاتها، في مواجهة النخب المستلبة. وتستفيد بعض النظم الأكثر عزلة عن شعوبها من التماهي مع هذه المقاربة الثانية للحصول على مباركة الرأي العام العربي لاختياراتها السياسية، بما فيها الداخلية، وإخراس أصوات معارضاتها الداخلية، كما تستفيد منها بعض القوى المعارضة أيضا لعزل أنظمتها وتأكيد شرعية وجودها باسم قيادة حركة المقاومة الوطنية والقومية ضد السياسات العدوانية الغربية.
ينبغي أن نعترف اليوم، بعد عقود طويلة عاصفة شهدتها الشعوب العربية أن أيا من هاتين المقاربتين لم تحققا الإنجازات المطلوبة أو المنتظرة، لا على جبهة الصراع لاستعادة الحقوق الوطنية في فلسطين وغيرها، ولا على جبهة العمل لتقريب مصالح الشعوب العربية وتجاوز خلافات دولهم، ولا على مستوى تعزيز التبادل والتواصل بين هذه الشعوب وتحقيق الحد الأدنى من أهداف العرب التاريخية، أي تعزيز اواصر التضامن بين أبناء ما نطلق عليه حتى اليوم الأمة الواحدة. وبالعكس، بقدر ما عكس التباين بين المقاريتين القطيعة القائمة بين النخب الحاكمة والشعوب أضعف قدرات السياسة العربية الخارجية وأفرغها من مضمونها، فصار التفاهم مع الغرب يعني بالفعل التسليم للقوى الأجنبية بتقرير السياسات الإقليمية باسم الاعتدال، وتحول العداء لهذا الغرب نفسه باسم الرديكالية القومية والإسلامية إلى القبول أكثر فأكثر بالقطيعة مع العالم واستمراء الهامشية وتمجيد الانعزال باسم الخصوصية والاستقلال.
والواقع لا يمكن بناء سياسة خارجية منتجة وفعالة قادرة على خدمة المصالح الوطنية من دون بناء علاقات تفاهم وتعايش وثقة مع المنظومة الدولية، وفي مقدما الدول العظمى التي تتحكم بمعظم الموارد المادية واللامادية في العالم، وتملك الوسائل التي تمكنها من الحكم على الشعوب والجماعات بالعزل والتهميش بالفعل. لكن بالمقابل لا يمكن أن ينتج هذا التفاهم سياسات فعالة إذا قام على الثقة من جانب واحد. ومن المحتم أن يتحول إلى التحاق وإذعان إذا افتقر إلى الحد الأدنى من الندية والاحترام المتبادل حتى لا نقول الاستقلال. وهو ما يفسر الطريق المسدود الذي وصلت إليه سياسات مجموعة ما أطلق عليه منذ عقود اسم دول الاعتدال العربي، فصار الاعتدال يعني ببساطة التكيف مع أهداف الاستراتيجيات الغربية والخضوع لها طوعا ومن دون نقاش.
وبالمثل، لا نستطيع أن نبنى سياسة خارجية منتجة وفعالة تخدم مصالح شعوبنا إذا قبلنا مخاطر العزلة ومارسنا سياسات ونشاطات ينظر إليها الرأي العام الدولي على أنها لا قانونية أو لا إنسانية أو لا أخلاقية، أي لا مشروعة، تقدم الذرائع والحجج التي تسمح للدول الكبرى الاستعمارية أو شبه الاستعمارية بعزلنا وتشديد الحصار السياسي أو الفكري والنفسي علينا على الصعيد الدولي.
قد يقول البعض، وهذا هو لسان حال الغالبية العظمى من الرأي العام العربي، أن الدول الغربية الكبرى التي تسيطر على منطقتنا وتحتفظ فيها بمصالح حيوية، تتبنى تجاهنا سياسات عدوانية مكشوفة، ولا تقبل حتى بالحوار معنا، وربما لا تقبل بأن تتعامل معنا كطرف أصيل حقيقي في مواجهتها. وهذا هو رأيي منذ فترة طويلة أيضا. وهو السبب الرئيسي الذي يفسر أساسا انقلاب الرأي العام العربي نحو المواقف الرديكالية. لكن رفض هذه الدول للتعامل معنا على قاعدة الحد الأدنى من الندية والاحترام لا ينبغي أن يدفع بنا إلى التضحية بأدوات عملنا الدبلوماسية والسياسية والايديولوجية، أي أن يقودنا إلى موقف اليأس والتسليم بعزلتنا والقبول بالعمل كمتمردين على المجموعة الدولية، بصرف النظر عن حقيقة وجود هذه المجموعة وطبيعة القوى التي تتحكم بوعيها وما يسمونه بالشرعية الدولية. ليس ذلك تشكيكا بحقنا الطبيعي في مقاومة السياسات الظالمة، ولا تخليا عن تأكيد مواقفنا الصائبة، وإنما من أجل ضمان نتائج أفضل لهذه المقاومة وبالتالي استعادة الحقوق المرتبطة بها والتي تبررها. وقبولنا بمخاطر الانكفاء على الذات وقطع الأمل في العمل الدولي، انطلاقا من ايماننا بأننا ضحايا، وأنه لا ينفع لنا الانشغال بالرأي العام الدولي ومعرفة آليات عمله اللاعنفية وعمل المنظومة الدولية عموما، هو الذي يفسر الطريق المسدود الذي وصلت إليه سياسات الرديكالية العربية. أي كيف عملت هذه السياسات على تحويلنا إلى هدف معلن للحرب العالمية الجديدة، التي تساهم فيها وتشارك جميع الدول والشعوب، بما فيها الدول والشعوب العربية، من دون رغبتها أحيانا، أعني الحرب ضد الإرهاب.
لم نحقق شيئا من أهدافنا الوطنية والداخلية باتباع سياسات التسليم والاستسلام الموسومة باسم الاعتدال. كما أننا لم نحقق شيئا من هذه الأهداف نفسها من اتباع سياسات المقاومة السلبية أو ما نسميه اليوم الممانعة، لا في العراق ولا في ليبيا ولا في فلسطين ولا في سورية ولا في لبنان. وحتى حين نجحنا بفضل هذه السياسة في منع الخصم من تحقيق أهدافه أو بعضا منها، فقد كانت العواقب وخيمة على الشعوب، وكان ثمن ذلك باهظا جدا يتجاوز كل احتمال، وكل ما هو مقبول دفعه بقدر ما يتساوى مع انفراط عقد الشعوب وتدمير أسس اجتماعها نفسه.
لا يكمن الخطأ في السعي إلى التفاهم مع الدول الغربية المسيطرة على المنطقة، كما لا يكمن في مقاومة هذه السيطرة، فهما عنصران ضروريان لكل سياسة ترفض أن تكون خضوعا لإملاءات خارجية أو خروجا على الاجماعات الدولية. إن خطأها يكمن في القطيعة بينهما مما جعل التفاهم يتحول إلى استسلام والمقاومة تتحول إلى تمرد لا هدف له ولا خطة ولا آفاق. والواقع أن المقاربتين السياستين لا تتناقضان بالرغم من تباينهما، وإنما تكملان بعضهما بعضا. فكما تشكل الرديكالية تعويضا لسياسات التسليم والالتحاق، يجد الاستسلام تبريره في الخوف من رديكالية تعيش بعيدا عن الوقائع وتفتقر للنظرة الواقعية وعقلانية البناء. وكلاهما يعبران في انشقاقهما بين اعتدال التحاقي وتمرد انتحاري عن إزمة العمل الوطني وافتقارنا إلى أي مشروع جماعي، أي عن انقسامنا على أنفسنا في تحديد كل ما يتعلق بمصيرنا.

لا تستقيم سياسة عربية خارجية من دون نجاح النخب الحاكمة في فهم المصالح الوطنية العليا وأخذها في الاعتبار، حتى لو اضطرها ذلك إلى إبراز اختلافها مع الدول الأجنبية الحليفة التي تدعمها في وجه معارضاتها الداخلية، بل والقبول بمخاطر التصادم معها إذا احتاج الأمر. ولا تستقيم سياسة عربية خارجية كذلك من دون احترام الحد الأدنى من معايير التعامل الدولي ومنطق العلاقات الدولية، حتى لو كان هذا المنطق ليس منطق العدالة والانصاف، وإنما يعكس في عمقه موازين القوى الدولية. لكن هذه الموازين هي بالضبط الواقع الذي ينبغي التعامل معه. وعندما نقول الحد الأدنى فذلك بالضبط لأن المنطق الذي يحكم العلاقات الدولية ليس منطقا عادلا. ومن ثم لا يمكن ضمان المصالح الجارية من دون القبول بالتعامل الواقعي مع الواقع، لكن لا يمكن تغيير هذا الواقع الظالم أيضا من دون خيانة المنطق الذي يقوم عليه إلى هذه الدرجة أو تلك. وهذا ما يميز موقفنا عن موقف الدول الكبرى التي ترى فيه مثالا للعدالة والاستقرار، ولا تطرح على نفسها أية أسئلة تتعلق بتعديله أو تحسينه.
من دون الالتزام بأهداف ومصالح وطنية واضحة، تتحول السياسة الخارجية إلى صفقات مع أشخاص ومجموعات حاكمة، وتفقد احترام الدول والشعوب معا. ومن دون الالتزام بمعايير أخلاقية وسياسية وقانونية، تتحول المقاومة في نظر الرأي العام إلى تمرد وتفقد قدرتها على المراكمة والانجاب. لذلك لا يمكن أن تكون السياسية الخارجية ناجحة وتضمن التقدم ما لم تتحل أولا برؤية واضحة للأهداف والمصالح الوطنية العامة، وهو ما يتطلب تمييزها عن مصالح الحاكمين انفسهم والنظام. ولا يمكن أن تثمر إذا لم تقم على قاعدة متينة من علاقات التواصل والتعايش والاحترام بين الشعوب، سواء أكان ذلك في سبيل ضمان عمل القانون أو استخدام القوة تحت سقف القانون أو من أجل إصلاحه. فهي أبعد ما تكون عن مفاهيم التمرد والاستسلام التي تكاد تحكم علاقتنا بالعالم الخارجي وتفسر انتقالنا من فشل إلى فشل. فهي عمل في العلاقات الدولية وعليها، والعلاقات الدولية لا تقوم على القانون وحده كما لا تقوم على القوة المحضة وإنما تقوم على خليط من القوة والقانون. وكما تقتضي المقاومة، بعكس التمرد، استخدام القوة المادية والمعنوية لتحقيق أهداف ايجابية تهدف إلى البناء والإنجاز، يحتاج التفاهم بين الدول حتى يكون ناجعا ومنتجا إلى الحد الأدنى من الندية، أي احترام الذات وعدم الذوبان في الآخر أو التماهي معه.

mercredi, avril 11, 2007

الشرق الأوسط في الوقت الضائع

الاتحاد 11 أفريل 07
بالرغم من مظاهر الحركة الدبلوماسية الكثيفة التي عرفتها منطقة الشرق الاوسط في الأشهر القليلة الماضية التي أعقبت اعتراف واشنطن غير المباشر بهزيمتها في العراق، لا يزال التخبط الشامل، وما ينجم عن ذلك من الدوران في حلقة مفرغة من دون أفق منظور، هو المناخ السائد، تماما كما هو انعدام الخيارات عند جميع الأطراف. فلم يفتح تقرير بيكر هاملتون، الذي دشن حقبة المراجعة الامريكية لاستراتيجية القوة الأكبر في المنطقة، أي أمل في الوضع اليائس للاحتلال الامريكي للعراق. وكل ما آل إليه هو تبرير زيارة نانسي بلوزي، الناطقة باسم الكونغرس الامريكي إلى دمشق، حاملة رسالة من أولمرت للرئيس السوري حول استعداد إسرائيل، عندما تتاكد من اتخاذ دمشق إجراءات واضحة لمحاربة الإرهاب، والمقصود هو حزب الله هنا بالدرجة الأولى، للعودة إلى مفاوضات السلام، بينما لم يتردد ساكن البيت الأبيض في إدانة مبادرة الزعيمة الديمقراطية وتأكيد إصراره على إبقاء القوات الأمريكية في العراق حتى لو وقف الرأي العام الأمريكي كله ضد قراره ولم يبق من مؤيد له سوى زوجته. وفي المقابل تواجه المبادرة العربية للسلام التي أجمعت عليها الزعامات العربية في الرياض خطر التحول إلى ضربة في الهواء مع رفض اسرائيل الفعلي لها ومحاولتها الالتفاف عليها عن طريق التلويح لدمشق بمفاوضات محتملة حول الجولان. ولم تسفر الحركة الدبلوماسية الكثيفة عن نتائج مختلفة كثيرا عن ذلك في فلسطين ولبنان. فبالرغم من نجاح الوساطة السعودية في التوصل إلى اتفاق حكومة الوحدة الوطنية، وبداية تفكك الحصار المفروض على السلطة الفلسطينية من قبل بعض الدول الاوروبية، إلا أن إغلاق باب التفاوض من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، التي أظهرت استياءها من الاتفاق الفلسطيني، يضع الحكومة والتسوية الفلسطينية الفلسطينية معا في طريق مسدود. أما في لبنان فقد أصبح من الواضح للجميع أن من المستحيل التغلب على عقبة المحكمة الدولية. فكما أن من المستحيل على السياسة اللبنانية أن تستعيد صدقيتها وعلى الدولة أن تضمن وحدتها واستقرارها مع القبول بالتعايش مع عمليات الاغتيال بالجملة ومن دون عقاب، ليس من الممكن إقامة محكمة دولية أو ذات طابع دولي تمهد لإنزال العقوبة بالجناة مع انقسام المجتمع اللبناني الراهن وخوف النظام السوري من أن يكون رجالاته الضحايا الرئيسيين لهذا المسار. ولا يختلف الأمر كثيرا عن ذلك في ما يتعلق بالملف النووي الايراني. فالمقاربة السياسية التي تمثل العقوبات الدولية أحد أدواتها الرئيسية لم تفتح أي أفق للخروج من المأزق الراهن، وإنما زادت إصرار طهران على تطبيق برنامجها النووي السلمي، وهي تشجع الولايات المتحدة وإسرائيل وربما بعض الدول المجاورة الأخرى على التسليم أكثر فأكثر بحتمية الحل العسكري في أمد ليس ببعيد.
ومن هنا، وبصرف النظر عن الحركة الدبلوماسية المتزايدة، على المرء أن يتوقع تدهورا مستمرا للأوضاع الإقليمية يرافقه تسميم الاجواء والعلاقات بين الأطراف وتفاقم متزايد للتوترات. وربما لن يكون أمام الأطراف المتنازعة التي تجد نفسها جميعا في طريق مسدود، وتدرك مدى عجزها عن التأثير على الأحداث، مخرجا آخر سوى الاستسلام لمنطق المواجهة والنزاع والقبول بنتائج حروب أصبحت المخرج الوحيد من الموات والانسداد المدمر القائم. فنحن في وضعية لا تملك فيها الأطراف القدرة على التراجع في الوقت الذي فقدت فيه القدرة على التقدم، كما فقدت الأمل في تحقيق أهدافها، في الوقت الذي يرتب فيه الانتظار تكاليف كبيرة على الجميع. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية التي هي اللاعب الأكبر في هذه المنطقة تظهر عدم قدرتها على التحكم بالأحداث بل توجيهها أو التأثير فيها، سواء أكان ذلك بالقوة أم بالوسائل السياسية، وهو ما برهنت عليه الزيارات العديدة غير المجدية للمنطقة من قبل كوندوليزا رايس، فما بالك بالدول الأخرى الصغيرة، وبمعسكر الممانعة الذي يضم دولا ومنظمات تجد نفسها جميعا محاصرة داخل جدران بلدانها ومجتمعاتها نفسها، وتعتقد أن أملها الوحيد بالبقاء هو في الخروج إلى ما وراء حدود دولها سواء للتغطية على توتراتها الداخلية وعكسها على الخارج أو في سبيل تدفيع الدول المجاورة ثمن سياساتها وتحسين رصيدها أمام شعوبها وتجنب الاضطرار إلى تطبيق برامج الإصلاح الحقيقي.
يرجع انسداد الآفاق في الشرق الاوسط وانهيار مشاريع الاصلاح والحلول بالنسبة لجميع المشكلات التي لا تكف عن التفاقم منذ عقدين، إلى ثلاث أنواع من القطيعة العميقة التي تقود إلى انعدام الثقة لدى جميع الاطراف وسيطرة منطق قطع الطريق على الخصم إن لم يكن تعميم منطق التخريب المتبادل : الأولى هي القطيعة الناجزة بين النظم الحاكمة والمجتمعات، وما يعنيه ذلك من انعدام وجود أجندة وطنية، وبالمقابل إخضاع جميع السياسات الرسمية لأجندة حفظ النظام أو توريثه. وهو ما يفتح الطريق أمام جميع الممارسات العصبوية والطائفية والاستبدادية، ويمهد لجميع أنواع المساومات مع كل القوى الأجنبية، بما فيها الاسرائيلية. والتعبير الأوضح عن هذه القطيعة انحلال الروح الوطنية وزوال روح التضامن الداخلي والتخلي الكلي والشامل عن السياسية وتراجع مفاهيمها وقيمها وثقافتها. والثانية القطيعة بين الشعوب العربية والقوى الغربية، ومن ورائها النظام الدولي الذي تسيطر عليها هذه الدول، وهو ما يفسر اليأس والإحباط وانعدام الثقة الكامل بالمجموعة الدولية وبالقانون الدولي وبالحلول السياسية معا. والتجسيد الأكبر لهذه القطيعة حركات الرديكالية والعنف الاسلامية التي تكاد تجعل من العداء للغرب والتميز عنه وتصفية نفوذه في جميع صوره وأشكاله، بما فيها الرمزية، الأجندة القومية أو الجماعية الوحيدة للعالم العربي. والثالثة، وهي الأكثر جدة، القطيعة بين النخب الحاكمة العربية والقوى الدولية، وعلى رأسها الدول الغربية التي كانت الراعية الرئيسية لها ولسلطتها. وتتجسد هذه القطيعة في غياب إمكانية قيام أي سياسة إقليمية مستقرة، وتفاقم سوء التفاهم والتوتر والشكوك المتبادلة بين طرفين شكل التحالف بينهما لفترة طويلة ركن الاستمرارية والاستقرار الطويل في المنطقة. وما لم يحصل تحول حقيقي في نمط العلاقات بين المجتمعات والنخب الحاكمة من جهة، والمجتمعات العربية والغرب الذي يحتفظ لنفسه بمصالح استراتيجية حيوية في المنطقة من جهة ثانية، وفي العلاقات بين النخب الحاكمة والنظام العالمي من جهة ثالثة، فلن تكون هناك أي فرصة لحل أي مشكلة. بل لن نشهد سوى تفاقم النزاعات الداخلية والإقليمية والدولية في المنطقة ومن حولها. هكذا تفضح أزمة الشرق الأوسط المستمرة منذ عقود دون حل فساد النظم السياسية ما بعد الوطنية وتهافت النظام الإقليمي شبه الاستعماري السائد في المنطقة ولا فاعلية النظام الدولي والضرورة العاجلة لتجديده وتحريره من ابتزاز القوة. ومن هنا ريما لم يعد من المبالغة القول إنه لا أمل في التوصل إلى حلول لأزمات المنطقة المتنامية من دون مراجعة شاملة لنظام العلاقات الدولية نفسه، وإعادة النظر في وضع القوى الكبرى ودورها فيه.