lundi, novembre 16, 2009

سقوط جدار برلين من منظور عربي

الوطن 16 نوفمبر 09

في التاسع من تشرين الأول/نوفمبر احتفل العالم الغربي بأكمله بسقوط جدار برلين قبل عشرين عاما بوصفه مؤسسا لحقبة ما بعد الحرب الباردة التي شهدت توحيد القارة الاوروبية ودمج دولها جميعا، بما في ذلك تلك الخارجة من الحقبة السوفييتية، في نظام واحد، أعني في الاتحاد الاوروبي الذي أصبح ينافس اليوم بقوته الاقتصادية العملاق الأمريكي. وكان النظام الشيوعي الألماني قد أشاد الجدار الشهير في 13 اغسطس / آب 1961 لمنع هرب الألمان الناقمين على السلطة الشمولية نحو الغرب، ولتكريس الحدود الجيوسياسية التي نجمت عن اتفاقيات مالطا التي قسمت مناطق النفوذ بعد الحرب العالمية الثانية بين المعسكرين العظميين الخارجين من حرب طاحنة ضد ألمانيا النازية.

وفي جميع المناقشات التي قدر لي متابعتها بهذه المناسبة في التلفزيونات الأوروبية، تركزت الأضواء في شرح مغزى سقوط الجدار على الجانب السياسي، أي على انهيار الشيوعية، فتعاملت وسائل الإعلام الغربية مع الذكرى على أنها عيد الحرية، ليس في أوروبة فحسب ولكن في العالم أجمع. ونظر إلى هدم الجدار وكأنه رمزا لتحرير للشعوب من نير الشيوعية، وغيبت إلى حد كبير مسألة الحرب الباردة التي لم تكن مسؤولية المعسكر الغربي في استمرارها لما يقارب نصف قرن أقل من مسؤولية المعسكر الشيوعي. وحتى عندما تثار مسألة الحرب الباردة التي وضع سقوط الجدار حدا لها، تبرز نزعة قوية عند المحللين الغربيين، وعند الكثير من العرب أيضا للأسف، إلى تعميم نتائج هذا السقوط في أوروبة على العالم أجمع، كما لو أن نهاية الحرب الباردة في أوروبة والغرب عموما قد أنهى الحروب في كل مكان، أو كما لو أن مثال إعادة توحيد هذه القارة يمكن سحبه على جميع البلدان والقارات المقسمة أو المنقسمة على نفسها.

ويسعى البعض إلى استغلال هذه المناسبة لعقد مقارنة بين إرادة التحرر التي مكنت الشعوب الأوروبية من الانتصار على الأسوار وتهديم الجدران والانعتاق من أسر الشيوعية، وعجز الشعوب العربية عن التغيير أو ضعف إرادة التحرر عند أعضائها. كما لو كان المقصود تبرئة الدول الكبرى من نصيبها من المسؤولية عما يحصل في المشرق العربي وتحميل الشعوب، بسبب ثقافتها أو دينها أو تفكك بنياتها، المسؤولية الرئيسية في جمود الأوضاع وغياب فرص التغيير وانعدام الحرية وسيطرة النزاعات المذهبية والعرقية. والحقيقة أن الشعب الألماني، مثله مثل شعوب أوروبة الشرقية الأخرى، لم ينجح في تهديم الأسوار المادية التي كان يمثلها جدار برلين إلا لأن الأسوار المعنوية، أي الكامنة في الأفكار والمعاني، كانت قد سقطت قبل ذلك في الاتحاد السوفييتي نفسه، بعد انكشاف عطالة النظام وعدم نجاعته، على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية والعلمية. لقد سقطت الشيوعية ونظمها في المنافسة الاقتصادية والتقنية والعسكرية كما مثلتها استراتيجية حرب النجوم قبل أن تسقط في الواقع المادي. وهذا هو الذي سمح لمقاومة الشعوب الأوروبية أن تثمر بعد أن بقيت لعهد طويل عقيمة أو عاجزة عن الانجاز في بولونيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر وغيرها في الستينات والسبعينات.

وقد سارت الأمور على عكس ذلك في العالم العربي. فسقوط جدار برلين الذي أعلن نهاية الحرب الباردة في أوروبة والغرب قد فتح حقبة من الحرب الساخنة والباردة في المشرق العربي قوامها تعبئة الرأي العام الغربي والديمقراطي ضد العالم الاسلامي وتشويه صورته ومعتقداته، باسم الحرب العالمية على الارهاب، والخلط غير الأخلاقي بين الاسلام والتطرف والعنف وكره الآخر والعداء للغرب. وسقوط جدار برلين الذي أطلق موجة تحررية جديدة في أوروبة التي كانت لا تزال خاضعة لحكم النظم الشمولية، عزز بالعكس نظم الشرق الأوسط المطلقة وفي مقدمها نظام التفرقة العنصرية في إسرائيل، وأعطى دفعة قوية لإرادة السيطرة والتسلط والاستيطان اليهودي في فلسطين. وهكذا وجدنا جدار التمييز والتفرقة والقطيعة والإقصاء ينتقل من برلين إلى الضفة الغربية وغزة، كما وجدنا الحرب الأمريكية الأطلسية تزرع العنف والفوضى في العراق وتزعزع استقرار شعوب المنطقة وتهز توازناتها الأقليمية. وفي موازاة ذلك وتكملة له، جاءت حروب اسرائيل المتكررة التي هدفت إلى نشر الرعب ولدمار في فلسطين ولبنان وعموم المنطقة.

وسبب ذلك أن نهاية الحرب الباردة التي أعلنت تفكك المعسكر السوفييتي واندثاره قد فتحت شهية الدولة العظمى الوحيدة التي بقيت على وجه المعمورة، وأوحت لها بأن لها رسالة كونية تدعوها إلى عدم الخوف من إعلان قيادتها العالمية والسعي بجميع الوسائل لبسط سيطرتها ونفوذها في العالم والانفراد في كتابة أجندة السياسة الدولية. وهكذا وجد أصحاب نظرية صراع الحضارات والمحافظون الجدد طريقهم بسرعة إلى قلوب الأمريكيين مرورا بالبيت الأبيض نفسه. وكان من الطبيعي أن يكون الشرق الأوسط هو مسرح الحروب الجديدة، الساخنة والباردة معا، وأن تدخل إسرائيل شريكا استراتيجيا في الصراع ضد العرب مع التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة.

في هذه الحروب،حل الاسلام محل المعسكر السوفييتي، ووضعت الديمقراطية وعقيدة الحرية التي يدعيها المعسكر الغربي في مواجهة ما سمي تعصب المسلمين وتطرف الاسلام واستبداده. وعلى هامش هذه المواجهة ستنشأ وتترعرع الجهاديات الاسلامية والغربية معا، ويدخل الشرق الأوسط، والعالم العربي بشكل خاص، في دوامة عنف لم يخرج منها بعد، ولن يخرج منها بسهولة، جعلت من مجتمعاته استثناءا بين المجتمعات وأفقدت ثقة رأيه العام بنفسه ورسخت الاعتقاد بتخلفها وعجزها وبعدها عن المدنية والحضارة.

ليس من المبالغة القول إذن، إن العالم العربي كان الضحية الرئيسية لنهاية الحرب الباردة، لا بسبب فقدانه حليفا مهما ممثلا في الاتحاد السوفييتي كما يعتقد بعض المحلنين لذلك العصر البائد، وإنما لأنه تحول إلى مسرح الصراع الرئيسي على وسائل السيطرة العالمية. وتعرض من جراء ذلك إلى دمار معنوي وثقافي وسياسي واقتصادي لا حدود له زعزع أسس استقرار مجتمعاته وأفقد أبنائه الثقة بجدارتهم ومقدرتهم على الخلاص من المحنة بجهودهم الذاتية وبوسائلهم الخاصة. وهو أسوأ درس يمكن لشعب أن يأخذه من حادث سقوط جدار برلين وما يرمز إليه.

dimanche, novembre 08, 2009

لثورة في عصر الردة!

الاتحاد 8 نوفمبر 09

في الرابع من
شهر أكتوبر المنصرم، غيب الموت محمد السيد سعيد، الباحث البارز وأحد أنشط المشاركين في النقاش السياسي والاجتماعي الدائر في المجتمعات العربية حالياً. وبعكس كثير من المثقفين الذين تخلوا بشكل أو بآخر، وعلى طريقتهم الخاصة،عن أحلام التغيير ومشاريعه، وأيضاً بعكس الذين تمسكوا بأفكارهم ومواقفهم دون أن يأبهوا لتغير الواقع وتبدل الظروف… صرف محمد السيد سعيد، كما فعلت القلة التي سلكت الطريق نفسه، في مصر وغيرها من البلاد العربية، كل وقته للرد على التحدي الكبير الذي يطرحه السؤال: كيف يمكن الحفاظ على حلم التغيير وقيمه وإبقاء شعلة التحرر الإنساني حية في ظروف الردة الدينية الواسعة من دون الخروج على المجتمع والالتحاق بالاستراتيجيات الدولية؟ وسؤال ما زال يشكل محور تفكير وعمل كثير من المثقفين الذين رفضوا القبول بالهزيمة، أي التسليم بالأمر الواقع والتعامل مع هزيمة مشروع الحداثة العربية، كما لو كان أمراً حتمياً ونهائياً.
وفي سياق هذا الرد، انصبت جهود أولئك المثقفين، وفي مقدمهم السيد سعيد، على محورين:
الأول إعادة البناء النظري لمشروع التغيير نفسه، وترشيده، أي إخضاعه للنقد التاريخي والعقلي وإبراز ما كان جوهرياً فيه ومرتبطاً بحاجات اندراج المجتمعات في عصرها وتاريخ حضارتها، وما كان ثانوياً أي ثمرة الظرف الخاص الذي ولد فيه ولم يعد موجوداً ولا راهناً ولا مهماً. وليس مثل هذا العمل بالأمر البسيط والواضح. ذلك أن التقدم فيه يستدعي مقدرة على أخذ مسافة من أفكارنا المسبقة ومن العقديات والتصورات السابقة التي درجنا على تبريرها وتقديسها خلال حقبة طويلة. كما يتطلب مقدرة موازية على الارتفاع عن النماذج المجردة وإعادة النظر إليها على ضوء القيم والمقاصد العليا التي يبرر الحفاظ عليها وحده عملية التضحية بها والتجرؤ على تبديلها. فمثلاً لا يمكن مراجعة فكرة القومية التي ارتبطت بالوحدة والقوة والاستقلال، من دون إبراز فكرة الأمة وحقوقها السياسية والمدنية، أي دون الاسترشاد بالمواطنة كقيمة سياسية وأخلاقية معاً. وما كان من الممكن التخلي عن النماذج الاشتراكية من دون العودة إلى قيم العدالة الاجتماعية والسياسية وأخلاقيات الحرية التي تأسست عليها سياسة الأمم الحديثة. وبالمثل، ما كان من الممكن مراجعة الفكرة العربية، كما تبلورت في الخمسينيات، من دون إعادة بناء فكرة العروبة في ارتباطها بالقيم العصرية الجديدة التي جعلت منها محوراً لاستراتيجية تقارب وتقريب بين الأقطار العربية وتأسيس جغرافية سياسية تفتح آفاق التنمية الاقتصادية وترسخ أسس الاستقرار والسلام في الوطن العربي، وتجديد أسس الممارسة وأساليب العمل وأهدافه المرحلية.
وكما كان الرجوع إلى قيم التغيير وغاياته، مما لا يتوافر إلا لأصحاب المبادئ، طريقاً لإعادة النظر في التصورات والصيغ والنماذج الجاهزة الموروثة للتغيير، كان الرجوع إلى معيار النجاعة والفاعلية والتواصل مع الكتلة الاجتماعية المستهدفة في أي مشروع تغيير، منطلقاً لتجديد أساليب العمل وإبداع مقاربات استراتيجية جديدة لضمان استمرار حركة التغيير وتقدمها. وهذا ما أدى بنا إلى اكتشاف العمل على صعيد المجتمع المدني وتطوير وسائل التواصل المختلفة مع جمهور يشكل عزله وتهميشه وإسكاته، الشرط الأول لإعادة إنتاج النظم الاجتماعية والسياسية القائمة.
في هذا النقد المزدوج، النظري والعملي، للوضع القائم، كان محمد السيد سعيد، ومن دون أدنى شك، رائداً وصاحب سبق. وقد كانت صحيفة “البديل” التتويج الأخير لفكره وعمله. ولا تشير “البديل” هنا إلى نظام آخر غير النظام الاجتماعي القائم فحسب، ولكن إلى بديل آخر للعمل النقدي أو للنقد العملي وللمعارضة بالمعنى الجديد أيضاً.
فمن باب الوفاء لفكرة العدالة والمساواة، أعاد سعيد النظر في أنماط التفكير الاشتراكي واليساري عموماً، وربطها بالديمقراطية وبالمجتمع المدني، حتى جعل من هذه الأبعاد الأخيرة محور عمله ونشاطه السياسي والمدني. ومن باب الوفاء لقيم الحداثة والتنمية والاستقلال الوطني والسيادة القومية، أعاد النظر أيضاً في الفكرة القومية العربية الناصرية وغير الناصرية، ولم يوفر فرصة لتأكيد خيار التقارب والتكامل والاندماج بين البلاد العربية.
وبعكس الكثير من المثقفين وأصحاب الرأي الذين دفعهم اكتشاف الديمقراطية إلى الانخراط في نزعة العداء للهوية والافتتان بالليبرالية الاستعمارية، دافع سعيد بكل قوة واقتناع عن الارتباط الذي لا ينفصم بين قيم الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. وبعكس كثير من المثقفين الذين مرت عليهم خدعة مشاريع “الدمقرطة” التي أطلقتها الإدارة الأميركية السابقة، وأيدتها الدول الأوروبية، لم يتزعزع إيمان محمد السيد سعيد باستقلالية حركة التغيير العربية، وبالارتباط الذي لا ينفصم بين مطلب الديمقراطية ومطلب السيادة الوطنية.
كان من الطبيعي والحالة هذه أن يتخطى سعيد خطوط الفصل القاطعة التي اصطنعها مثقفونا وأحزابنا في مجتمعاتنا السياسية، تلك التي تكرس إعادة إنتاج الوضع القائم أيضاً، بتكريسها القطيعة والعداء بين القوميين والقطريين، العلمانيين والإسلاميين، الليبراليين والاشتراكيين… وأن يبني لنفسه موقعاً في ما وراء ذلك، يتجاوز هذه المواقف ويجمع بينها معاً، معياره التغيير والنجاعة والفعل، وأن يطمح من خلال ذلك إلى تحرير أجيال الشباب من رواسب صراعات الماضي الميت ونقاشاته المكبلة، ويسعى إلى تعبئتهم وشدهم إلى معركة التغيير وتجديد مجتمعاتهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية.
بهذا المعنى كان سعيد، كما ذكر عن نفسه، يسارياً بين الليبراليين وليبرالياً بين اليساريين، قومياً بين القطريين ومصرياً بين القوميين، أي صلة الوصل بينهم جميعاً. وجوهر هذه الصلة هو ابتداع خطة عملية لدفع عملية التغيير، بمعناه العميق، أي تغيير الواقع نفسه لا فكرته.
وهذا التغيير هو الذي جعل السيد سعيد يكتشف أيضاً الحركة المدنية وينخرط فيها. لقد كان مفكراً عملياً وثورياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، لم يترك فرصة للتأثير في الواقع، نظرية كانت أم عملية، إلا واستثمرها. لهذا كان حاضراً في كل المناسبات النضالية، واثقاً من عمله، متفائل العقل، رغم صعوبات العمل وتحديات الواقع وعوائقه.