jeudi, septembre 18, 2008

في مديح التعددية الإتنية والدينية

الجزيرة نت 18 ايلول سبتمبر 08

لا يكاد من يتابع ما يكتب من تحليلات حول الأزمة السياسية العامة التي تحيق بالمجتمعات العربية يجد مصطلحا أكثر استخداما من مصطلح الطائفية والعشائرية. وبينما ينظر البعض للطائفية والعشائرية بوصفهما عاملان أساسيان في تكوين الهوية السياسية للمجتمعات العربية، يرى فيهما البعض الآخر ثمرة تلاعب القوى الأجنبية وتجسيدا لإرادتها السرية والعلنية في تقسيم البلدان العربية وتفكيك الدول إلى دويلات غير قابلة للحياة. وقد جعلت أغلب الحركات الوطنية التي نشأت في بداية القرن العشرين من الكفاح ضد الطائفية والعشائرية شعارا رئيسيا من شعاراتها ونظرت بعداء شديد لأي شكل من أشكال التعبيرات الطائفية.
وفي وقتنا الراهن كثيرا ما يركز المحللون على الانقسام الطائفي، الإتني والديني، لتفسير الأزمة الطاحنة التي تواجهها معظم الدول والمجتمعات العربية في مساعيها لإقامة نظم ديمقراطية أو حتى لتجنب مخاطر الحرب الأهلية. ولا يزال الكفاح ضد الطائفية يشكل محور الأفكار التحررية التي تنادي بها الحركات القومية واليسارية التي ترى في استمرار وجودها عائقا رئيسيا امام تطور الولاءات الوطنية. ويقدم الوضع القائم في لبنان والعراق واليمن، والنزاعات العنيفة التي شهدتها هذه المجتمعات ومجتمعات عربية عديدة أخرى، في نظرهم، نماذج حية للدور السلبي الذي تلعبه الطائفية في قطع الطريق على نشوء الدولة القومية، وفي التمكين للاحتلال وسحب البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية، وفشل التحولات الديمقراطية.
لقد تحولت الطائفية، على مختلف أنواعها، في اللغة السياسية التقدمية العربية من ظاهرة تاريخية اجتماعية متحولة إلى لعنة أبدية، وعاهة مجتمعية لا يعرف أحد كيف يمكن احتواء تأثيراتها السلبية ولا التخلص منها. وأصبح الخوف من تفجراتها المحتملة عقبة أمام تطور المناقشة السياسية نفسها. فهي فتنة نائمة لا سيطرة لنا عليها، والحديث فيها بأي شكل جاء لا يمكن أن يكون إلا ايقاظا ملعونا لها وإطلاقا لبراكينها الكامنة. ولا يعادل الكره الذي تراكمه الثقافة السياسية العربية ضدها، بكل تياراتها اليسارية واليمينية، الاستبدادية والديمقراطية، سوى الخوف من التأمل الموضوعي فيها وفي أسباب بقائها وانتشارها. ولذلك استقر السلوك العربي على نوع من الانفصام في السلوك السياسي إزاءها. فنجد الفرد الذي لا يكف عن إدانة الطائفية والعشائرية والتبرؤ من شرورها لا يتردد في أغلب الأحيان في الانصياع لقانونها، والاندفاع في أحيان أخرى، بإرادته وأحيانا من دون إرادة، وراء رهانات وتلاعبات وحسابات طائفية لا حدود لها.
يخلق الحديث المتكرر عن الطائفية، وعيا شقيا لدى المجتمعات العربية، التي تشعر بأنها ضحية آلية عمياء جبارة تفرض عليها الانقسام بين عصبيات متنافرة، وتغلق أمامها أبواب التحولات السياسية الديمقراطية والوطنية. وبقدر ما يدمر هذا الشعور الثقة المتبادلة بين أبناء الطوائف المختلفة، التي تتبارى في اتهام بعضها البعض بإخفاء النوايا والرهانات الطائفية، يزرع الشك واليأس عند المجتمع بأكمله بإمكانية التعايش داخل الوطن الواحد، بل بإمكانية بناء مثل هذا الوطن الذي يفترض التضامن والتكافل والتعاون بين جميع أفراده، بقدر ما يجمعهم تحت سقف واحد، ويفرض عليهم مصيرا مشتركا.
والواقع أن التركيز على الطائفية والبنيات العشائرية في البلدان العربية لا يعكس إدراكا لمخاطر حقيقية وحتمية، بقدر ما يعبر عن الكسل والبؤس الذين اتسم بهما الفكر القومي والوطني المحلي الذي اتجه، في سعيه لإقامة دولة وطنية حديثة، وإضفاء المشروعية السياسية عليها، إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج بدل بناء مفهوم المواطنية، والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط الممارسة القانونية لها، وبالتالي ضمان حرية أبنائها ومساواتهم. فقد سعت الدولة المحلية إلى التعويض عن غياب برنامج بناء المواطنية في مشروعها، أي عن غياب مشروع الدولة الوطنية الحديثة بالفعل، بتضخيم الحديث عن الهوية والانتماءات الثقافية والتاريخية الأحادية. وكانت النتيجة توليد نزعة وطنية انصهارية صماء، تتطابق مع مفهوم العصبية الطبيعية أكثر مما تعبر عن نشوء فكرة وطنية وشخصية سياسية حقيقية.
هكذا أصبح التعدد الطائفي، الديني والإتني، يظهر على أنه نقمة إلهية أو كارثة طبيعية بدل أن يعاش، كما كان عليه الحال دائما في المجتمعات القديمة، كثروة وطنية. وأصبح الوضع الاعتيادي الذي عرفته مجتمعاتنا منذ قرون، وبنت من حوله نظمها الأخلاقية الرئيسية، بما تجسده من قيم التعايش والتسامح التاريخية التي ميزت المجتمعات العربية والاسلامية، حالة شاذة، أو تعبيرا عما يشبه الخطيئة الأصلية، بل كعاهة ولادية تعاني منها مجتمعاتنا منذ نشأتها، تميزها عن غيرها وتفصلها عن المجتمعات الأخرى الطبيعية، وتحط من قدرها وقيمها الأخلاقية الجوهرية.
والقصد، ليس تعدد الطوائف، ولا استمرار البنيات العشائرية، هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية، ولا هو المسؤول عن تعثر مشاريع الاندماج الوطني، وعدم تقدم مشاريع التحويل الديمقراطي. ولا يشكل كلاهما أي لعنة أبدية أو تاريخية. فجميع المجتمعات مكونة من جماعات متعددة، ويمكن تخفيضها جميعا إلى مجموعة لا نهائية من الأقليات الثقافية والدينية والعرقية والمهنية والجنسانية والحضرية والريفية وغيرها. والمجتمعات الصناعية المتقدمة أكثر تعددية اليوم طائفيا وعرقيا من المجتمعات العربية. وما تتميز به مجتمعات الصين والهند، وغيرها من المجتمعات الآسيوية عموما، يفوق بما لا يقاس ما تعرفه المجتمعات العربية، التي تبدو في هذا المنظور مجتمعات شديدة التجانس والأحادية الثقافية.
ويعبر هذا التعدد الواسع في المجتمعات الأسيوية، بعكس ما هو شائع، عن درجة الازدهار الحضاري الذي عرفته هذه المجتمعات في الماضي. فهذا الازدهار لا ينفصل عن نمو قيم التسامح والتعايش، وما يتيحه من إمكانيات التفاعل والتبادل والتواصل بين الثقافات، وما يفرزه من حريات فردية وجمعية. فبقدر ما يدفع إلى تكريس التعددية، ونمو القيم الانسانية، يؤسس لمفهوم التنوع الايجابي والمثري داخل المجتمع الواحد، يحث مجموعات الرأي والثقافة على التعايش وقبول الآخر. وهذا القبول بالتنوع والتعدد وما يرافقه من انتشار التسامح والألفة بين البشر، يفتح عقل الأفراد وأفق تفكيرهم، ويشجع أصحاب الطموح والعقول النيرة في المناطق الأخرى المغلقة بل "المتوحشة" على القدوم والاستثمار البشري والمادي في أرض الحضارة والمدنية. وهذا ما يجعل بلاد الحضارة مرتبطة في كل زمان ومكان بمجتمعات التعدد والتعايش والتنوع الثقافي والقومي.
لا حاجة للذهاب بعيدا لمعاينة هذه الديناميكية التاريخية الحضارية. فالعالم العربي هو اليوم أكبر منطقة طاردة للجماعات الأقلية المتميزة أو المغايرة، سواء أكانت جماعات دينية أم جماعات عرقية أم جماعات رأي وثقافة سياسية ومعارضة. وجميع هؤلاء يقصدون الدول الصناعية الكبرى المتقدمة، حيث يسود التسامح والحريات الدينية والفكرية، ويعززون من قدراتها الحضارية بما يحملونه معهم من رؤى وأفكار وتطلعات وطموحات خاصة، في الوقت الذي تنحو فيه المجتمعات العربية، مثلها مثل المجتمعات المتأخرة الأخرى، إلى الانغلاق وتقديس التجانس الديني والقومي، بأي ثمن، وكبت الاختلاف، والخوف من التعدد والتباين في الرأي، حتى داخل الطائفة أو الجماعة الإتنية أو العرقية الواحدة. وليس هذا من علامات التقدم الحضاري ولا التشكل الوطني ولا التسامي الديني بأي حال.
وبالعكس، يعبر استقبال المهاجرين والجماعات المغايرة عن ثقة المجتمعات التعددية بنفسها، أي بثقافتها ومستقبلها وقدراتها على الدمج والاستمرار، بينما يعبر طرد الأقليات، بصورة واعية أو غير واعية، عن استبداد القلق والشك وغياب الثقة بالنفس عند المجتمعات. فكما أن لوجود أغلبية ثقافية أو دينية متجانسة دور كبير في خلق شعور بالاستقرار والاستمرارية والثبات عبر التاريخ، تشكل الأقليات، المنفتحة باستمرار على الخارج، والعابرة عادة لحدود البلدان، ناقلا مثاليا للمكتسبات والابداعات والابتكارات التقنية والعلمية والفكرية، وبالتالي حاملا رئيسيا لديناميكية التفاعل والتواصل بين الثقافات والحضارات.
ليست التعددية، الدينية والطائفية والمذهبية والقومية، هي المسؤولة عن أي نزاع من النزاعات التي تعرفها المجتمعات العربية. وليس لوجودها أي نصيب في ما تعاني منه الدولة والحياة السياسية والعقائدية من توتر وتمزق واضطراب.إأن المسؤول عن كل ذلك هو استغلال التعددية، أي توظيفها من قبل النخب الاجتماعية في الصراعات السياسية والاقتصادية. ويدخل هذا الاستغلال مباشرة في حقل السياسة، لا في حقل المعتقدات أو الاختلافات القومية أو الجماعات الإتنية المتساكنة. وهو يعبر عن إخفاق الاستراتيجيات السياسية الوطنية، الليبرالية وغير الليبرالية، التي طبقت في بلداننا، ومن وراء ذلك هشاشة المشاريع السياسية المطروحة، بل والسياسة ذاتها كوعي وممارسة، في مجتمعات لا يزال أساس قيام الحكم والنظام العام فيها تهميش المجتمع وإقصاء الرأي العام عن أي مشاركة، واحتكار الرأي والسلطة معا، من قبل فئات ساقتها الأقدار وتوازنات القوى الداخلية والخارجية إلى مركز القيادة والقرار، وهي غي مؤهلة له، ولا تملك للمجتمعات التي أصبحت تتحكم بمصيرها لا رؤية ولا مشروع.

mercredi, septembre 10, 2008

"الربيع العربي" على خطى نيكولا سركوزي في دمشق

الاتحاد 10 ايلول سبتمبر 08
أثارت بعض الاجراءات التي اتخذتها الحكومات العربية في مطالع الألفية الثالثة، في اتجاه الانفتاح الاقتصادي والسياسي، انتعاشا كبيرا للآمال في منطقة بقيت، خلال ربع القرن الماضي، من أقل المناطق الاقليمية في العالم تأثرا برياح التغيير القوية التي هزت المعسكر السوفييتي والاشتراكي سابقا. وتفاءل الكثير من المراقبين بقدوم ما أسموه في ذلك الوقت بالربيع العربي، واعتقدوا أن وقت الديمقراطية العربية قد حان. فربط الأمريكيون مشروع تعزيز سيطرتهم على ا لشرق الأوسط ومنابع النفط فيه بالضغط على الأنظمة العربية وتأكيد أولوية التحولات الديمقراطية. بيد أن السنوات التي تلت ذلك بينت أن ما حاوله بعض الحكام العرب من انفتاح، تجلى عبر السماح بانتخابات تشريعية أو تكوين مجالس شورى لم تكن موجودة من قبل، لم يكن إلا من قبيل ذر الرماد في العيون، وأن خروج الدول العربية من نموذج نظم الغلبة السياسية، أي التي تقوم على قهر إرادة المحكومين بكل الوسائل، لا على التشاور والحوار والتفاهم معهم، لا يزال إشكاليا بالمعنى الحرفي للكلمة. فلا تزال السلطة فيها، بالرغم من المظاهر السطحية، حكرا على فئات محددة من السكان والطبقات، كما لا يزال استبطانها لمفهوم المواطن ضعيفا لدرجة يصعب على الأفراد فيها أن يتعرفوا على حقوقهم المدنية والسياسية، فما بالك بالدفاع عنها أو تكوين قوى سياسية منظمة لوضعها موضع التطبيق ·
وإذا كانت بعض الأوهام قد ساورت القليل من النظم العربية ودفعتها إلى الاعتقاد أن بإمكانها استخدام هذه الاجراءات لامتصاص الضغوط التي كانت موجهة إليها من قبل الدول الكبرى أولا، ثم من قبل قطاعات الرأي العام من المثقفين والطبقة الوسطى ثانيا، فسرعان ما أدركت أن الانفتاح المطالب به يحمل لها من المخاطر أكثر مما يجلب من الفوائد. وبدل أن يساعد على التخفيف من الاحتقان السياسي ويساهم في تحسين صورتها في أوساط الرأي العام الدولية، الرسمية والأهلية، من الممكن، بالعكس، أن يكشف عن هشاشة نظام الغلبة السياسي الذي لا يضمن بقاؤه سوى العنف والتلويح الدائم بانهيار الأمن وتعريض المجتمع بأكمله لعدم الاستقرار. وهكذا عادت المياه إلى مجاريها، واستعاد النظام أدوات عمله الطبيعية، وتشبث رجال السلطة بالحكم واحتكروا القرار والخطاب أكثر مما كانوا يفعلون في أي فترة سابقة، مع التأييد الصريح للدول الغربية التي أدركت هي أيضا خطل اللعب بنار التغيير السياسي، أو التحولات الديمقراطية، في منطقة لم يبق لها فيها، بسبب سياساتها شبه الاستعمارية بل الاستعمارية، صديق سوى أهل الحكم وأصحاب المصالح المكرسة.
لم يتحقق التغيير ولا حتى توسعت دائرة المشاركة الشعبية، كما كانت تطالب عواصم التحالف الغربي في تبريرها لحرب العراق أو تسويقها لها، وإنما تكرست أكثر صيغة النظم التسلطية الوراثية. ولم تساهم الضغوط الأجنبية التي مارستها هذه العواصم بقوة في السنوات القليلة الماضية في تحسين وضع الحريات ولا تعزيز قضية حقوق الانسان. بل من الصحيح القول إنها فاقمت من سوء الأوضاع السياسية والقانونية، وعرضت العديد من الناشطين الحقوقيين والسياسيين لانتقام السلطات، التي استغلت ادعاء واشنطن تبني مسألة الديمقراطية لتشويه سمعتهم لدى الرأي العام، وتوجيه التهم الباطلة لهم بالعمل لصالح الدول الأجنبية. وكم كان من الوهم تصور إمكانية قبول الأنظمة الأمنية بالانفتاح على شعوب لا ترى فيها إلا عالة عليها وبطونا استهلاكية، أو بالتنازل عن جزء من صلاحياتها أو احتكارها للسلطة، حتى لو كان ذلك لصالح الطبقة التكنوقراطية المسؤولة عن تسيير المؤسسات الإدارية والاقتصادية، فما بالك بإلزامها بالاعتراف بمبدأ تداول السلطة، أو تقاسم الصلاحيات بين النخب المختلفة، أو رفع الوصاية عن المواطن والاعتراف بأهليته السياسية؟
لكن إذا لم تنجح الضغوط الخارجية في تحقيق التحولات السياسية المطلوبة، هل يساعد تعويم الأنظمة التسلطية وإعادة تأهيلها وضمان استقرارها، بشكل أفضل، على حثها على الانفتاح وتوسيع دائرة المشاركة السياسية؟
هذا هو السؤال الذي تطرحه اليوم زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي لدمشق، في إطار سياسة انفتاح وتقريب لسورية من التحالف الغربي، بعد أن أخفقت سياسة العزل والحصار التي فرضتها عليها واشنطن، وخضع لها الاتحاد الأوروبي. وهو السؤال الذي يطرحه على أنفسهم أيضا العديد من النشطاء السياسيين والقانونيين الذي يتعرضون لأقسى أنواع التنكيل بسبب تمسكهم بحقهم في المشاركة السياسية ورفضهم الإذعان لسياسة الأمر الواقع والغلبة العسكرية.
والجواب في نظري نعم، لكن فقط إذا كانت الدول الضاغطة راغبة في ذلك، أي مؤمنة حقا بالديمقراطية للعالم العربي، وحريصة على تحسين علاقاتها بشعوبه ورأيه العام. لكن المشكلة أنه لا يوجد حتى الآن أي دليل أو مؤشر على أن هذا هو الواقع. وتجربة السنوات الخمس الماضية تثبت بالعكس أن الديمقراطية وحقوق الانسان قد استغلت من قبل العواصم الغربية، وواشنطن على رأسها، لتحقيق أجندة معادية في جوهرها وتفاصيلها لمصالح الشعوب العربية وأهدافها. فلو كانت قضية تعميم الديمقراطية هي بالفعل أحد أغراضها لكانت بدأت بترييح هذه ا لشعوب على جبهات التوتر التي هي شريكة أساسية فيها، وفي مقدمها جبهة الاحتلال والنزاع الفلسطيني الاسرائيلي.
يبدو لي اليوم أن العواصم الغربية لم تكن أبعد في أي فترة سابقة عن تبني الديمقراطية أو تمنيها للشعوب العربية مما هي عليه الآن. فالنكسة الكبيرة التي تعرضت لها سياستها الإقليمية، في السنوات القليلة الماضية، قوضت مواقعها أكثر من قبل، وجعلتها أكثر اعتمادا في الحفاظ على مصالحها على النظم القائمة من أي شيء آخر. وهي تعتقد اليوم، ربما أكثر من الأنظمة العربية التي تعرضت لأقسى انتقاداتها أمس فقط، بأن ضمان الأمن والاستقرار، وبالتالي التدفق الطبيعي لصادرات النفط، وتوقيع ا لصفقات الاقتصادية والتوسع في النفوذ، يتوقف في هذه المنطقة على تعميق التحالف مع الاستبداد والتعاون معه من دون حدود ولا شروط. وأن البديل الوحيد لسقوط شعار تطويع الأنظمة هو العمل معها يدا بيد لتطويع الشعوب وإخضاع المجتمعات. وفي هذا السياق، لا ينبغي أن ننتظر كثيرا حتى نرى اختصاصيي المشرق والعالم العربي يعيدون إلى الحياة نظرية الاستثناء العربي، التي كانوا قد دفنوها في نشوة النصر والتفاؤل تحت تراب نظرية الربيع العربي التي لم تعمر حتى بضع سنوات، ويتداولوا في سياقها الأطروحات السوقية حول الثقافات الجماعوية القرسطوية المغلقة، التي لا تعرف التمييز بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، وترفض الانفتاح على غيرها أو التواصل والتفاعل معه، وتنتشي بكل ما هو تعصب قومي وديني.