vendredi, novembre 23, 2007

في أصل الخوف العربي من التغيير

الجزيرة نت 23 نوفمبر 07

بالرغم من تفاقم القطيعة بين النخب الحاكمة والشعوب وفقدان هذه الأخيرة الثقة بالنظم التسلطية القائمة، إلا أن الغالبية العظمى من الرأي العام لا تزال تنظر بصورة سلبية، إن لم يكن بروح الشك، إلى مشروع التغيير. بل ليس من المؤكد أن لهذا المشروع معنى محددا وواضحا عندها، ربما سوى تغير اسماء الممسكين بالسلطة والقابضين عليها وأصولهم المذهبية أو الإتنية أو، في أحسن الحالات، الاجتماعية. وهذا ما يفسر عزلة حركات المعارضة العربية وضيق القاعدة الاجتماعية التي تستند إليها. كما يفسر، من وراء ذلك، مأزق التغيير وانسدادا آفاقه في المجتمعات العربية، بالرغم من الشعور العميق بالحاجة إليه وضرورته وحتميته عند جميع الأفراد، ليس في المجتمع فقط ولكن في الحكم أيضا. وبسبب غياب الأفق الفكري والأخلاقي للتغيير، لا تدفع الضغوط القوية التي يتعرض لها المجتمع إلى التحرك نحو الأمام كما هو الحال في المجتمعات السليمة البناء، وإنما يتجلى عبر توسع دائرة الانفجارات والنزاعات الداخلية الطائفية والمذهبية والأقوامية، وبالتالي عبر الدوران في حلقة مفرغة، مما يزيد من غرق المجتمع في الأزمة وإحباط فئاته الاجتماعية وغضبهم جميعا.
يرجع هذا الوضع في جزء كبير منه إلى نجاح السلطة العربية في العقود الماضية في القضاء على أي ثقافة مدنية سياسية دستورية حديثة كتلك التي نشأت في سياق النهضة والصراع ضد السيطرة الأوروبية الاستعمارية وعلى أرضية مفاهيم الحداثة السياسية. وقد أسفر ذلك عن عودة أشكال من الوعي ما قبل السياسي ترى في النظام الاجتماعي قدرا محتوما أو تجليا لإرادة عليا لا يمكن التحكم بها أو السيطرة عليها أو حتى فهم دوافعها وآليات عملها. فهو لا يبدو في نظرها ثمرة جهود إنسانية واعية وإرادية لأفراد المجتمع، وبالتالي نتيجة اختيارات سياسية وأخلاقية يمكن تغييرها أو مراجعتها من قبل المواطنين الذين تبنوها. ويرجع في جزء آخر منه إلى تشييء مفهوم السياسة وحصره في الاختيار بين نماذج اجتماعية جاهزة وناجزة، اشتراكية أو ليبرالية او إسلامية، تملك مفاتيحها نخب متميزة، لا مكان فيه لمشاركة شعبية ولا مجال لمناقشة أو مجادلة. فما على الرأي العام سوى الالتحاق بأصحاب هذا النماذج التي يرتبط تحقيقها بنجاح هذه الفئة أو تلك في الوصول إلى سلطة مفتاحها التفاهم بين الزعماء المحليين والدول الكبرى التي تتحكم بالمصير العالمي.
يخفي هذا التصور كما هو واضح انحطاط الحياة السياسية في موازاة انحسار الرابطة الوطنية، والاستقالة العميقة النظرية والسياسية والأخلاقية معا للرأي العام، سواء اجاء ذلك بسبب اليأس والإحباط من القدرة على التأثير أم بسبب الاقتناع المتنامي بالاستلاب للقوى الكبرى والحاكمة معا. لكن النتيجة واحدة هي النظر إلى التغيير على أنه ليس فعل إرادة ذاتية للشعوب، ولكنه ثمرة تضافر عوامل خارجية وداخلية خارجة عن إرادة الناس وقدراتهم.
لا تشجع هذه القيم السائدة بالتأكيد على انتشار أفكار الديمقراطية والتفاعل معها من قبل الرأي العام العربي. بل إنها تصصدم بعنف مع وعي الأكثرية ومفاهيمها، أو على الأقل لا تجد صدى لها فيهما. فالديمقراطية تفترض قيما معاكسة تماما لما استبطن في الوعي العام، قائمة على الاعتقاد بأن النظم الاجتماعية نظما تاريخية وأن وجودها هو ثمرة اختيار الناس ومشاركهم في الحياة السياسية وقدرتهم على التأثير فيها لا أقدارا طبيعية. ومن هنا تثير الفكرة الديمقراطية من القلق أكثر مما تبعث من آمال. فهي تطرح على الأفراد تحديات تكاد تكون غير قابلة للرد، لا تقتصر على االتغلب على العوائق الخارجية المرتبطة بالإجراءات القمعية للنظم وإنما على العوائق الداخلية المرتبطة بالقيم والتصورات والاقنتاعات العميقة والتقاليد السائدة. ولا يجد الأفراد المحرومين من فرص الارتقاء إلى مستوى الحياة السياسية الحرة أو إلى مستوى الحرية الشخصية التي تفترضها الديمقراطية، وسيلة للهرب من مواجهة هذه التحديات سوى في رد الديمقراطية نفسها ورفضها باعتبارها فكرة مستوردة أو أجنبية بالنسبة للبعض أو فكرة شيطانية وهدامة لدى البعض الآخر. ويتمحور هذا العداء والرفض حول فكرة الحرية الفردية نفسها التي لا ديمقراطية من دونها. ففي نظر الكثير من قطاعات الرأي العام، تنطوي الحريات الفردية على تهديدات حقيقية لهوية الجماعة والدين والقومية وتتناقض معها. ولذلك تبدو الديمقراطية للكثيرين على أنها أكثر سلبية من جميع ما أتى قبلها من ايديولوجيات حداثية.
ينبع سوء الفهم بشكل خاص من المطابقة في الوعي الجمعي الشائع بين الحرية الفردية والاباحة، وتفسيرها على أنها تعني حق الفرد في عمل كل ما يشاء أوما يخطر له، من دون اعتبار المحرمات الدينية أو التقيد بقاعدة أخلاقية أو مراعاة الأحكام القانونية. هكذا تظهر الحرية في هذا الوعي الجمعي السائد كتحرر من الالتزامات والمسؤوليات الجمعية، كما تبدو الديمقراطيةالقائمة عليها عنوان النظام السياسي الذي يدعو إلى إلغاء القيود الدينية والوطنية والاجتماعية أو يدعو إليها. لذلك لا تتورع بعض التيارات المحافظة الدينية عن اتهام الديمقراطيين، عندما يتحدثون عن الحريات الفردية وحقوق الانسان العالمية، بأنهم يريدون تحويل الانسان إلى ما يشبه البهيمة التي تتصرف بدافع غرائزها وترفض إخضاع سلوكها الغريزي لأي قيمة أخلاقية أو دينية.
لا تقود هذه التمثلات التاريخية السائدة في الوعي الجمعي العربي حول السياسة وحدودها إلى تشويه مفهوم الديمقراطية فحسب، ولكنها تقضي أكثر من ذلك، ومن خلال ذلك، على الفكرة الوحيدة الحاملة لمشروع تغيير فعلي وجدي في الوقت الراهن، بل على فرص التغيير. فليس للتغيير قاعدة ممكنة وضرورية اليوم سوى إعادة إدخال المجتمع في القرار العام، وبالتالي استعادة شروط بناء حياة سياسية سليمة وحية. وليس هناك إطار نظري وسياسي لتجسيد هذه المشاركة الاجتماعية الواسعة في بلورة الخيارات العمومية، المدنية والسياسية، وتشجيع الأفراد على الانخراط في الحياة العامة وتحمل مسؤولياتهم الجمعية، أي في إحياء الحياة السياسية بالمعنى النبيل للكلمة، سوى الديمقراطية التي تجمع بين إدخال الشعب في معادلة السلطة المحلية وإدراج الجماعة الوطنية نفسها في الحياة الدولية وفي الكونية الإنسانية.
والبديل الوحيد لهذا التغيير الديمقراطي، أي لإدخال الشعب في معادلة السلطة العمومية وإدراج الجماعة في أجندة الحضارة الكونية هو تعميم منطق الانقسامات الطائفية والإتنية وحل التناقضات والتوترات من خلال الانفجارات العشوائية، والتجديد المستمر من وراء ذلك لنظم القهر والديكتاتورية. وليس هناك أمل في تغيير وجهة الحركة الاجتماعية، ونقلها من مسار النزاعات الأهلية لتنفيس الضغوط الداخلية والخارجية، إلى مسار التحرك إلى الأمام والبحث عن تطوير بنية المؤسسات وتوزيع الصلاحيات وتقسيم العمل العام، وبالتالي التراكم المنتج، من دون إعادة الاعتبار لفكرة الديمقراطية وفي صميمها فكرة الحرية والقيم المرتبطة بها، من حرية الاعتقاد والمبادرة والتنظيم والمشاركة في الحياة العمومية. فلا ديمقراطية ولا نظام سلطة قانونية منضبطة خاضعة للمساءلة وحاملة لمعنى المسؤولية، من دون إحياء معنى الشخصية الفردية الفاعلة والمستقلة القادرة على المشاركة الفكرية والسياسية في المصائر العمومية. ولا شخصية من دون حرية تميز عمل الفكر والضمير والسلوك الأخلاقي. فهي شرط استرجاع الأفراد أهليتهم، أي ثقتهم بنفسهم وايمانهم بقدرتهم على التفكير الناجع والمساهمة الايجابية والمشاركة في المسؤولية العمومية واتخاذ القرارات المصيرية. وهي شرط التخلص أيضا من نزعة التمييز العنصري ضد الذات، الناجم عن الاستقالة العمومية، والذي يجعل أغلبية الأفراد يعتقدون أنهم غير أهل وغير كفؤ لتقرير مصيرهم، ويقبلون بتسليم زمام أمورهم إلى فئة يضفون عليها سمات الفهم والنبالة وروح المسؤولية، ويحولونها إلى ارستقراطية يسيرها العقل والقيم النبيلة، بينما ينظرون إلى أنفسهم كرعاع تسيرهم الغريزة.
والحال أن الديمقراطية تعني وتفترض نزوع الجميع إلى أن يعترف بهم كأسياد، أي كموطن وعي أخلاقي قادر على حمل المسؤولية والمشاركة في توجيه الحياة العمومية. ومطالبتهم بالحرية كشرط لهذه السيادة ومقوم لها.
فلا تعني الحرية التحرر من القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية، كما يفهمها الوعي البسيط الشائع، ويتمثلها بالتالي كفكرة خطرة وهدامة، وإنما تعني بالعكس اعتراف الجميع، أي كل فرد، بأنفسهم كرجال أهل قادرين، يشكل كل منهم موطن سيادة وقرار وإمكانية اختيار. وهو مؤهل لهذا السبب لحمل المسؤولية ومدعو للتصرف والسلوك حسب قواعد الأخلاق والقانون والمصلحة الجمعية، وقادر على تجاوز النظرة الأنانية. باختصار لا تعني الحرية هنا الانفلات من القيود وإنما العكس تماما: أي التقيد بمباديء وقواعد أخلاقية وتصرفات قانونية نابعة من اختيار طوعي يستند هو نفسه على اقتناع وايمان. وهذا ما يميز التقيد الذاتي عن التقييد الاجتماعي، الديني والأخلاقي، من الخارج الذي سيطر على مجتمعنا خلال القرون الطويلة السابقة. وهو ما يحول التقيد إلى شعور بالمسؤولية يرتب إلتزامات ويحدد مهام ليست مفروضة من قبل المجتمع بقدر ما هي نابعة من الذات ومرتبطة بسعي الفرد إلى تحقيق نفسه وتأكيد ذاته كمواطن، أي كإنسان حر واع ومسؤول، أي سيد بين أسياد. وهو أساس تشكيل الأمم السياسية ومحرك حياتها ومصدر حيويتها. فلا يصبح الفرد مواطنا إلا بقدر ما يظهر قدرته على تحمل المسؤولية العمومية جنبا إلى جنب وبالقدر نفسه مع شركائه الآخرين في الوطنية. ولا مسؤولية ولا مساواة في الوطنية من دون النجاح في استبطان القيم القانونية والأخلاقية المشتركة والسلوك بموجبها. ولا سلوك أخلاقي وقانوني من دون التمكن من شرط الحرية وما تعنيه من اختيار ووعي بمعنى الاختيار.
من هنا ينطوي الخيار الديمقراطي بالنسبة لي على أكثر من بناء نظام سياسي قائم على التعددية وتنظيم الانتخابات الدورية وممارسة الحريات الفردية كيفما يشاء الفرد. إنها ثورة أخلاقية وسياسية في الوقت نفسه لأنها تفترض في مجتمعاتنا إحياءا بعد موات لمعنى الأخلاق والحياة المدنية وما تفترضه من تكافل وتضامن ولفظ للأنانية والانتهازية، كما تفترض تغييرا عميقا في منظومة القيم الأساسية التي تقوم عليها الشخصية الفردية في ثقاتنا ومجتمعاتنا العربية، يقع في صلبه استعادة معنى المسؤولية.
هذا يعني أن الديمقراطية، قبل أن تكون نظاما سياسيا ناجزا، هي معركة طويلة لتحرير المجتمع والفرد من ثقافة العطالة والخنوع والتسليم والهرب من المسؤولية والانسحاق أمام القوة. وهي كنظام سياسي مدرسة عملية لتربية الأفراد على حمل المسؤولية والانخراط في الحياة العمومية والالتزام بقواعد قانونية وأخلاقية. وهي في الحالتين شرط لتأكيد معاني السيادة الشخصية والتحرر من الشعور بالدونية، وتحقيق مفهوم المواطنية بما يعنيه من مساواة وعدالة وتضامن وتكافل بين الجميع، وما يستدعيه من الارتقاء فوق المصالح الفردية. إنها عملية تحرير للانسان، خاصة للجمهور الشعبي العام الذي عومل خلال التاريخ كجمهور غريزي، لا يمكن أن يتصرف حسب العقل والأخلاق، ودفعته نظم القهر والاستبداد إلى استبطان قيم الدونية والانسحاب من المسؤوليات العمومية.
من هنا أيضا لا سبيل إلى بناء مجتمع ديمقراطي بعيد عن التسلط والتعسف وانتهاك حرية الآخر إلا بتربية المجتمع نفسه وتأهيله لاستيعاب معنى الحرية والمساواة والقانون. هذه هي الخطوة الأولى والضرورية لبناء قوى ديمقراطية فعلا قادرة على حمل النظام الديمقراطي وتسييره والدفاع عنه ومنع استغلاله من قبل شبكات المصالح المالية. وربما كان دور المثقفين أهم في هذا المجال بكثير من دورهم في قيادة حركة التغيير السياسي نفسها. المهم أن نعرف أن الديمقراطية هي النظام الذي يستند إلى تدخل الشعب ومشاركته القوية، وهذا ما يفترض أولا وجود شعب. والشعب ليس مجرد أفراد يعيشون مع بعض ولكن علاقة سياسية تجمع بين الأفراد على قاعدة العيش المشترك وأخلاقيات الاحترام والمساواة والتضامن والتكافل. الشعب نظام أخلاقي وثقافي وقانوني، أي وعي وطني أو مواطني يولد إرادة واحدة. فإذا انعدمت الأخلاقيات التضامنية والمواطنية وتحول الشعب إلى أفراد لا رابط بينهم سوى المصالح الخاصة، لا يشعرون بالألفة ولا الثقة المتبادلة ولا الفائدة من العيش المشترك، زالت الإرادة الموحدة وانقسم الشعب إرادات، وزالت إمكانية بناء نظام سياسي بالفعل. أما ما نعرفه في بلداننا فلا علاقة له بذلك وهو ليس نظام سياسة وإنما نظام تسلط بالقوة وفرض إرادة مجموعة من الحاكمين المستندين في حكمهم إلى الأجهزة الامنية والعسكرية. ولا تملك شعوبنا لا أخلاقيات سياسية حقيقية واعية ولا إرادة وطنية. إنها تعيش في نظام التبعية المطلقة للسلطة وللدولة "الأجنبيتين"، حتى لو كان أعضاؤهما من أهل البلاد الأصليين. لكن لا يجمعهم جامع مع بقية أبناء جلدتهم. ولا يستطيعون ضمان استمرار سلطتهم إلا بتعليم الشعوب استبطان دونيتها، وفرض صورة الحاكمين باعتبارهم طبقة متميزة مختلفة عن بقية السكان ومتفوقة عليهم . ولا تتردد بعض النظم الضعيفة في اللجوء إلى أقسى درجات العنف حتى تجبر السكان على استبطان علاقات السلطة القائمة على التمييز والإذعان للقوة.
ليس هناك شك في أن تمحور تفكيرنا ونقاشنا خلال أكثر من قرنين على مسائل الهوية والقومية في مواجهة العصبيات الطائفية والسياسات الاستعمارية، التي ابتلينا بها في هذه المنطقة أكثر من أي منطقة أخرى، قد حرمنا من فرصة التأمل في مسائل تحرر الفرد وانعتاقه وتحوله إلى مشارك فعال في الحياة العمومية، وبالتالي من فرصة فهم موقع الديمقراطية ومكانها في عملية التحويل الاجتماعي والتحديث الحضاري. بيد أن الرأي العام قد تعلم من التجربة الماضية كثيرا. وأصبح يدرك اليوم أكثر من أي حقبة ماضية أن تجاوز تشوهات التاريخ الماضي ومواجهة السياسات الامبرطورية الاستعمارية ما عادا ممكنين من دون التغلب على ثقافة الأنانية والصغار والخنوع والإمعية، والعمل على إحياء معنى الإنسان في كل فرد وتجديد وعيه والارتقاء بالوعي الجمعي إلى مستوى الحياة المدنية والأخلاقية.

mercredi, novembre 21, 2007

تجاوز الطائفية شرط لتحرير الدولة من المافيوية

الاتحاد 21 نوفمبر 07
في كتابي "نظام الطائفية... من الدولة إلى القبيلة" المنشور عام 1990، طرحت نظرية تقول بأن الطائفية تنتمي إلى مجال السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقاً موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس دفاعاً متعصباً عن دين أو مذهب. وفكرة السوق السوداء أو الموازية في السياسة تتنافى مع الاعتقاد السائد بأن الطائفية تقليد قديم ومستمر، وتجعل منها ظاهرة مرتبطة بحقبة الحداثة الجديدة وطابعها المفارق معاً. فنظام الملل التقليدي الذي عرفته المجتمعات الإسلامية، وأعطت الدولة العثمانية صيغته الأخيرة الراقية، يختلف كليا في مضمونه وطبيعته عن نظام الطائفية بالمعنى الذي نقصده اليوم. فعلاقة السلطة التقليدية بالمجتمع كانت تمر حتماً بالتجمعات الأهلية، بل كان احترام هذه التجمعات من قبل السلطة وحفظ مصالحها الخاصة، يفترض الاعتراف بها كملل أو كجماعات مستقلة ومتميزة، ويستدعي تنظيما لهذه المصالح يأخذ بالاعتبار تعددها وتباين مواقعها وعقائدها. وكان وجود هذه الجماعات الأهلية والاعتراف بها ضماناً لحرية الأفراد النسبية وأمنهم معاً. في حين كان الافتقار إلى مثل هذا الاعتراف بالتنظيمات الأهلية يعني في الدولة التقليدية خطر الإضرار الدائم بمصالحها، وتعريض أفرادها لكل المخاطر الداخلية والخارجية. ولهذا يشكل التنظيم المللي في المجتمعات القديمة التي كانت السياسة فيها حكراً على النخبة الأرستقراطية، النمط الطبيعي، بل المتقدم، لتنظيم العلاقة بين النخبة الحاكمة والمجتمع على أساس من العدل وحفظ المصالح الخاصة وتوازنها معا. ونظام الملل هو الذي حفظ التعددية الطائفية والقومية في الشرق، بينما حلت، حيثما غاب هذا التنظيم، الحروب الدينية ورفض التعددية وتشابك السلطة الدينية والزمنية، وتعسف السلطة الفردية التي تبيح لنفسها التلاعب بمصالح الأفراد والجماعات من دون رقيب ولا حسيب حسب حاجتها ومصالحها.
لكن الأمر اختلف كثيراً مع نشوء المجتمع السياسي الحديث الذي يفترض أن السلطة مستمدة فيه من الشعب بأكمله، وأن علاقة الأفراد مع الدولة علاقة مباشرة لا تمر بوسيط طائفي، وأن كل فرد هو في الوقت نفسه مواطن، أي مسؤول، وله حق المشاركة في صوغ السياسات المتبعة. وللمشاركة هذه أثر مباشر على تقرير المصير العام. وبنوعية هذه المشاركة تتحدد طبيعة السلطة القائمة، ويتوقف مستقبل السياسة نفسها، وربما استمرار الدولة أو عدم استمرارها كإطار وطني جامع، في ما وراء التمايز بين الجماعات الأهلية. ولا يعتمد الحفاظ على وحدة الدولة والجماعة السياسية هنا على وجود حاكم مترفع يقف موقف الحكم من جميع المصالح والتجمعات والأفراد، ويقضي في شؤونهم، كما هو الحال في الممالك والسلطنات القديمة، لكن على اختيار المواطنين أنفسهم، وصحة هذا الاختيار. فأي تأثير على الناخب أو المواطن المشارك في تقرير المصير العام، سواء عبر شراء الأصوات أو استخدام الولاءات الدينية والأقوامية، يعطل الهدف من الاختيار، ويفسد السياسة والدولة الحديثتين، بقدر ما يسمح بتكوين مراكز قوى أهلية داخل الإدارة السياسية تعمل على خدمة المصالح الخاصة، وتمنع من التعبير الشفاف عن إرادة المجتمع الكلي، أو من ترجمة وحدته، من حيث هو إطار سياسي قانوني يجمع بين أعضاء متساوين وينشئ بينهم مصلحة مشتركة، لا من حيث هو مجتمع أهلي يبحث فيه كل فرد عن مصالح خاصة. إن الطائفية ترد السياسي إلى الأهلي وتلغي إمكانية نشوء دولة من النوع الوطني الحديث.
فإذا كانت الدولة الإمبراطورية تقوم على عقد بين طوائف وجماعات متباينة ومتمايزة، يجسده التسليم لملك حكم، هو رمز السياسة والسلطة بامتياز، وظيفته السهر على استمرار التوازنات واحترام المقامات، وكان يطلق عليه اسم العدل، فإن الاجتماع السياسي الحديث، يقوم على عقد بين أفراد أحرار ومستقلين يجسده دستور واحد يخضع له الجميع، بما في ذلك الرئيس أو الحاكم، مضمونه المشاركة المتساوية في تسيير شؤون الدولة الجامعة. وموضوع الصراع الرئيسي في هذا النظام هو انتزاع الحق في المشاركة من قبل الجميع وسعي البعض إلى حرمان هؤلاء وأولئك منه أملاً في احتكار قسم أكبر من موارد الدولة. لذلك فكل ما يلغي المنافسة الحرة على مناصب المسؤولية، يهدد هذا العقد الوطني ويقود إلى تقويض أسس الدولة الحديثة واستقرارها، بقدر ما يعطل آلية بناء الصعيد العمومي أو المعبر عن عمومية الدولة وقدرتها على الارتفاع فوق جميع المصالح الخاصة والجزئية.
لا دولة مع الطائفية، وليست الدولة الطائفية دولة بالمعنى الحقيقي، بقدر ما هي فوضى سياسية وحرب أهلية، قائمة أو مؤجلة.
وأصل مفارقة الطائفية أن الحداثة السياسية تعمم فكرة المشاركة الفردية، وما تتضمنه من اعتراف بالحرية والمساواة، في الوقت الذي لا تزال فيه شروط تحقيق هذه المشاركة غير متوفرة عملياً، إما بسبب تأخر مؤسسات الدولة أو ضعف الثقافة السياسية عند الأفراد أو بسبب التوزيع الصارخ في تفاوته للموارد المادية والمعنوية، أو بسبب طبيعة العلاقات الجيوسياسية والجيوستراتيجية. وهذا ما يخلق تفاوتاً أو فراغاً تستفيد منه الأطراف الأقوى في المجتمع لاختطاف الدولة والتلاعب بالرأي العام وقطع الطريق على مشاركة الآخرين أو الالتفاف على حقهم في المشاركة المتساوية من خلال تعبئة العصبيات البدائية. هكذا يحول تأخر المجتمع المدني وضعف منظماته، دون الرأي العام وممارسة دوره في ضبط السلطة التي تراكمها الدولة الحديثة. وهو ما يجعل من هذه الدولة، بعكس وظيفتها الأصلية، أفضل أداة في يد جماعات المصالح للتحكم بالمصير العام وفرض أجندتها الخاصة، والإمساك بمؤسسات الدولة والمجتمع من الداخل لتفريغها من محتواها العمومي، وتقويض أسس العملية السياسية.
يقود هذا الوضع إذا استمر من دون أن تنجح المجتمعات في استعادة سيطرتها على الدولة والتحكم فيها إلى تحويل البلاد إلى مزرعة خصوصية لأصحاب السلطة والنفوذ وشبكات المصالح المتحالفين مباشرة أو ضمناً مع زعماء الطوائف والعشائر والجماعات القومية، وفي أعقاب ذلك وكنتيجة له، إلى إشعال فتيل حرب أهلية مستمرة، كامنة أو علنية، تتغذى من إرادة السيطرة المطلقة للجماعات الحاكمة ونزوع الجماعات الأخرى إلى منعها من الاستئثار بالثروة، أو إلى الطموح للاستئثار بها مكانها. وما لم تبرز قوى جديدة تخترق العصبيات المتحاربة التي تلعب على نزاعاتها شبكات المصالح المافيوية، وما لم يتكون رأي عام مدرك لأن الدولة ليست إطار تقاسم المغانم، وتنمية المصالح الخاصة وتعظيمها، وإنما هي، بالعكس، الإطار الوحيد لتجاوزها، وبناء فضاء العمومية، القانوني والإنساني، الذي لا قانون ولا نظام ولا سلام من دونه، سيكون من الصعب الخروج من الحرب الأهلية. ذلك أن كل صيغة للاقتسام يفرضها ميزان قوى قائم، ستكون معرضة بالضرورة للنقض من قبل القوى والجماعات التي خسرت في الجولة السابقة.
فالمطلوب للخروج من الحرب ليس قسمة عادلة للدولة، على منوال التوزيع الطائفي للحصص، ولكن بالعكس رفع الدولة عن مبدأ القسمة نفسه، وتحويلها إلى إطار الاستثمار المشترك في الأخوة الوطنية والإنسانية، أي بناء دولة المواطنة والمواطنية. فليس هناك دولة مع الطائفية، وليست الدولة الطائفية دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، بقدر ما هي فوضى سياسية دائمة وحرب أهلية، قائمة أو مؤجلة.

mercredi, novembre 07, 2007

معركة الحرية

الاتحاد 7 نوفمبر 07
ذكرت في مقال سابق أن إعادة بناء المجتمعات على أسس الوطنية الجامعة تستدعي تغيرا جذريا في موقع الشرق الأوسط باكمله في الجيواستراتيجية الدولية، بما يعزز الاعتراف بالحقوق الوطنية الطبيعية للشعوب واحترام القانون الدولي واتباع طريق الحوار والتفاوض في حل الخلافات، كما يستدعي تغيير المناخ الثقافي والنفسي في المنطقة، ووضع حد لانتشار الطاعون الأسود والرهان الوحيد على العنف. وهذا هو عمل المثقفين والحركات المدنية. فمن دون الجمع بين التحولات الفكرية والتحولات الجيوستراتيجية سيكون من الصعب التقدم على أي من مسارات التحرر الاجتماعي السياسية والمدنية. فلن تكون هناك فائدة من ثورة ثقافية، بل لا أمل في حصولها، في حال استمرار السياسات الأطلسية التي تحرض على العنف وردود الأفعال وثقافة الانكفاء على النفس والتعصب والانتقام. كما لا فائدة من تغيير علاقتنا الجيوستراتيجية وإخراج مجتمعاتنا من دائرة الحرب الدولية، إذا لم يحصل بموازاتها عمل ثقافي واسع يهدف إلى تحرير الشعوب من الخوف والاستلاب والنظرة الدونية للذات وإعادة ثقتها بنفسها وتعميق وعيها المدني والتاريخي وضمان مشاركتها الفعالة في عملية التنمية والبناء.
في هذه الحال، لا أجد حلا أمامنا اليوم سوى الاستمرار في تنظيم وتطوير مقاومتين في الوقت نفسه : مقاومة السياسات الدولية المدمرة لنا ولمجتمعاتنا، ولآمال الانخراط في مسار الحداثة والديمقراطية. ومقاومة السقوط في اليأس والقنوط عند الشعوب، أي، بمعنى آخر، مقاومة الاستسلام لخيار الفوضى والاقتتال الأهلي والدمار، باسم مقاومات مشتته لا أفق لها ولا مشروع. في سبيل مقاومة مرتبطة بمشروع إنساني واجتماعي وأخلاقي.
المقاومة للهيمنة الخارجية لا تشكل لوحدها مشروعا وطنيا واجتماعيا، لأنها لا تجيب على مشاكل الفقر والبطالة والحرية والعدالة والقانون والتنمية. كي تكون كذلك ينبغي أن ترتفع إلى ما فوق إطلاق الرصاص والتأكيد على الهوية الدينية أو القومية.
لكن إذا كان هذا لا يمنعنا ولا ينبغي أن يمنعنا من دعم المقاومة الموجهة للسياسات العدوانية والاستعمارية بأي شكل جاءت، فإنه يلزمنا في الوقت نفسه بعدم التسليم ولا الاستسلام للحركات الانغلاقية ونظريات الحرب والعنف الداخلي، سواء أكان طائفيا ام سياسيا أم اجتماعيا، ولأي هدف كان. مقاومة الهيمنة الخارجية تتطلب وتحتم مقاومة السياسات الداخلية التي تهدد أسس المدنية في مجتمعاتنا وتدفع بها نحو الانحطاط والسقوط في البريرية، سواء أجاءت من طرف النظم السياسية الفاسدة أو من طرف فئات ومنظمات وحركات أهلية.
هذا يعني أن مقاومة الهيمنة الأجنبية لا يمكن ولا ينبغي أن تكون مبررا لصرف النظر عن الطغيانات الداخلية والخروقات المتعددة لحقوق المواطن والانسان. فليس للصراع ضد هذه الهيمنة مبرر آخر سوى مصادرتها حقوقنا وحجرها على إرادتنا وتحويلنا إلى أدوات في استراتيجية ليس لنا أي مصالح فيها. وهو بالضبط ما تقود إليه النظم الاستبدادية اللامسؤولة وحركات التعصب الطائفية والمذهبية. والواقع أن هناك تضامنا ضمنيا عميقا بين الطرفين يبرهن عليه تعايشهما معا. فكما أن السياسات الاستعمارية لا تقف عند حد حرماننا من الحقوق الوطنية ولكنها تتجاوز ذلك إلى حرماننا في الوقت نفسه من إمكانية التحولات الديمقراطية، بقدر ما تقضي على سيادتنا (الشعبية)، كذلك فإن الاستبداد لا يقضي على حرياتنا وحقوقنا الإنسانية فحسب ولكن على حقوقنا الوطنية الجماعية أيضا، بقدر ما يقوض أسس هذه الوطنية في كل فرد فينا ويؤسس للتفرقة المذهبية والطائفية والاجتماعية.
إذا تجاهلنا المقاومة الداخلية، أو فصلنا بين مقاومة السقوط في البريرية والعسف وخرق القانون والعنف الموجه نحو الذات، عن مقاومة سياسات الهيمنة الخارجية، التي هي اليوم غربية، لكن يمكن أن تكون غدا صينية أو روسية، عززنا الاستبداد وأعطيناه مصداقية. فهو صاحب الفصل هذا، وهو يعيش منه وعليه. المقاومة للسياسات الاستعماربة وسياسات التبعية والالتحاق التي تتبعها النظم المحلية اللاشعبية، هي السلفة التي ينبغي تقديمها مسبقا من أجل تحقيق شروط الديمقراطية. إذ لا تقوم ديمقراطية على تبعية وإمعية. والوقوف ضد كل أشكال احتقار الانسان واستعباده من قبل أبناء جلدته هو الرأسمال الوحيد الذي نملكه ولا غنى لنا عنه، للاستثمار في الوطنية، أي في المقاومة الموجهة للسيطرة الخارجية.
الجمع بين تعزيز المقاومة للسياسات الخارجية الحمقاء والعدوانية، وتعميم ثقافة الحرية وممارستها اليومية: ترسيخ مبدأ التعددية في الفكر والسياسة والمجتمع والدين، احترام الفرد، حكم القانون، لفظ العنف، العدالة الاجتماعية، المساواة والسلم الأهلي والسلام العالمي، هذا هو اليوم البرنامج السياسي والثقافي الوحيد الممكن والمطلوب. فهو مشروع مقاومة تاريخية ايجابية وبناءة.
هذا يعني أن الاولوية في السياسة الخارجية ينبغي أن تعطى لمواجهة السيطرة الخارجية تماما كما أن الأولوية في السياسة الداخلية ينبغي أن تعطى للتحويل السياسي والثقافي والفكري الديمقراطي للرأي العام. فكما أنه لا يمكن تحقيق السيادة الشعبية التي هي شرط أي نظام يضمن مشاركة المجتمع وحقه في تقرير مصيره من دون التحرر من السيطرة الخارجية، كذلك ليس من الممكن بناء نظم ديمقراطية من دون تحويل ثقافة الرأي العام المدنية والسياسية وتجديدها. وينبغي أن يكون التعامل مع السلطات القائمة موازيا لانفتاحها على برنامج الديمقراطية وقبولها مبدأ التعددية واحترام حقوق الانسان.
ستبقى الديمقراطية اليوم، في دائرتنا، ثقافة وتثقيفا بشكل أساسي، طالما لم تتغير الشروط الاقليمية والدولية التي تحول دون تحقيقها في الدولة. لكن هل هناك طريق آخر للوصول إلى دولة ديمقراطية من دون الفوز في معركة الحرية، حرية الفرد وحرية المجتمع وتحرير الرأي العام من نفسية الرق التي نجحت السلطات العربية في زرعها فيه؟ بالعكس، إن هذه المعركة هي المدخل الضروري لقيام أي نظام ديمقراطي. وإلا فينبغي الحديث عن "انقلاب ديمقراطي" لا ندري كيف يمكن حصوله، ولا نستطيع أن نضمن نتائجه وان نعرف مصيره. وشرط النجاح في معركة التحويل الديمقراطي للمجتمعات إحياء الذات الانسانية بما تعني من بناء الضمير الحر والروح القانونية، أي روح العدالة، عند كل فرد. وذلك بالكلمة والعمل معا، أي بالصراع ضد كل أشكال التمييز والمهانة والقهر. وهذه هي بالدرجة الأولى مهمة المثقفين، ليس بمعنى الكتاب والأدباء، ولكن جميع المنشغلين بالهم العام والباحثين عن حلول لقضايا شعوبهم، سواء أجاء ذلك في سياق بحثهم عن حلول لمشاكلهم الخاصة أو من خارجه.
الديمقراطية هي مشروع إعادة بناء الفرد والرأي العام على أسس جديدة، إنسانية. بهذا المعنى لا تعود الديمقراطية هدفا بعيدا نحلم بالوصول إليه وننتظر قدومه أو الانقلاب التاريخي الذي يجعله ممكنا. إنها تربية يومية ومنهج إحياء إنساني يبدأ منذ الآن ومن قبل جميع حاملي المسؤولية وقادة الرأي. باختصار معركة الحرية واحدة لا تتجزأ. إنها تكمن في مواجهة كل ما يقف عقبة أمام تحرير الانسان واستعادته ثقته بنفسه وكرامته.