samedi, juin 24, 2006

الهم السوري

مركز دمشق لدراسات حقوق الانسان
احتلت سورية منذ عقود طويلة موقعا متميزا في الثقافة السياسية العربية. وكان حجم العطف الذي تمتعت به من قبل الرأي العام العربي، من مثقفين ونقابيين ومنظمات مجتمع مدني وقطاعات شعبية عامة، متناسبا مع الدور الذي لعبته، منذ النهضة الفكرية والسياسية في القرن التاسع عشر، في أحياء الروح القومية، والمشاركة في شق طريق الحرية والاستقلال عن الهيمنة التركية، وعن السيطرة الاستعمارية الأوربية التي خلفتها، أمام الشعوب العربية. وهو الدور الذي جعلها تنفرد، من بين جميع البلاد العربية، بلقب قلب العروبة النابض، الذي أطلقه عليها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وهي بالفعل قلب العروبة النابض. ولا تزال العروبة هي الهوية الحقيقية لسورية وللسوريين. وقد أخفقت جميع المحاولات التي قام بها المثقفون ولا يزالون لبلورة هوية وطنية متميزة عن الهوية العربية أو مستقلة نسبيا عنها حتى لو كانت بإزائها أو بمواكبتها وليس ضدها.
وبالرغم مما يزيد عن أربعة عقود من حكم حزب البعث الجديد الذي راهن على عزل سورية عن محيطها، واتبع سياسات القوة وفرض الرأي، التي جعلت دمشق تدخل مرارا في مواجهات دامية مع العديد من الاطراف العربية، وفي مقدمها حركة المقاومة الفلسطينية، لم يضعف هذا التعاطف مع سورية عند الرأي العام العربي. وقد زاد هذا العطف بقوة في السنوات الأخيرة، في مواجهة ما تتعرض له سورية من ضغوط خارجية، أمريكية بشكل خاص، وإزاء ما تجبر على تطبيقه من قبل مجلس الأمن من قرارات دولية جائرة، سهلت صدورها الاختيارات السياسية الخاطئة، وسوء التقدير. ولم يوفر الرأي العام العربي المحب لسورية، والحريص على استقلالها وقوتها، وسيلة للتعبير عن تأييده لها وتمسكه باستقلالها وسيادتها حتى صار الدفاع عن سورية في وجه الضغوط الأجنبية، وشجب قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الرامية إلى إخضاعها، أحد مقومات العقيدة العربية الشائعة، وسلاحا من أسلحة النظام القائم في دمشق ضد معارضته المحلية، في السنوات الخمس الماضية. وهكذا لم تتردد أي منظمة عربية إقليمية، من اتحادات كتاب وصحفيين، إلى مؤسسات برلمانية، مرورا باتحادات المحامين والمهندسين وغيرها، في أن تعقد مؤتمراتها السنوية، بل أن تدعو لمؤتمرات استثنائية، في دمشق للتعبير عن وقوفها إلى جانب سورية وتعاطفها مع شعبها.
وإلى وقت قريب، لم يكن الرأي العام العربي يظهر قلقا كبيرا على الأوضاع السورية. وكانت ثقة العرب المتضامنين مع سورية وشعبها قوية بالأسس التي تقوم عليها الوحدة الوطنية، بل بالقيادة السياسية السورية، وبالتالي بقدرة البلاد على تجاوز أزمتها الداخلية المؤقتة، وعلى التصدي للمؤامرات الخارجية. لكن الشكوك التي بدأت ضعيفة أخذت تتنامى في الأشهر الأخيرة، وفي موازاتها النزوع إلى مقارنة الخيار السوري الراهن في ما يتعلق بالانغلاق على المجتمع وإظهارالخوف الشديد منه، بالخيار العراقي السابق على التدخل الأمريكي البريطاني. ومع تعثر عملية الاصلاح، وتراجع السلطة عن العديد من الوعود التي أعطتها، ثم تزايد الحديث في الإعلام العربي والعالمي عن العودة إلى سياسة العصا الأمنية الغليظة التي تعاني منها العديد من الشعوب العربية، بدأت الثقة تترك مكانها للانشغال والقلق والخوف على مستقبل سورية وشعبها.
ومهما كانت مبرراتها أو الدافع إليها، شكلت حملة الاعتقالات الأخيرة التي طالت منذ الرابع عشر من أيار مايو عشرات المثقفين السوريين، على أرضية توقيعهم على بيان مع زملائهم اللبنانيين يدعو لإصلاح العلاقات السورية اللبنانية المتأزمة، نقلة نوعية في مشاعر قطاعات واسعة من الرأي العام العربي تجاه النظام السوري، وقدرة القيادة السياسية في هذا البلد على مواجهة التحديات. فلم ألتق مثقفا أو مسؤولا، عربيا أو أجنبيا، واحدا في تنقلاتي الأخيرة، وقد صدف وكانت كثيرة بسبب ندوات متعددة، لم يبادرني بالسؤال : ما الذي يجري في بلادك؟ كيف يحصل هذا وكيف يمكن تفسيره؟

لقد أصبحت سورية اليوم بالتأكيد أحد الهموم الكبرى التي تشغل الرأي العام العربي، بمثقفيه وكتابه وصحفييه ومحاميه وأطبائه ومهندسيه، وجميع فئات الشعب التي أحبت سورية ولا تزال ترى فيها، ذخرا للعروبة.
وقد أرسل لي زميل عربي يقول بالانكليزية : "زرت دمشق مؤخرا وعرفت بالضبط عما تتكلمون. وفي اعتقادي أن أفضل وصف للديناميكية التي تتحكم بالمجتمع جاء على يد باحث غربي زار البلاد وتحدث مع السكان وراقبهم وهم يلهثون وراء لقمة العيش، مع تراجع قوتهم الشرائية وغلاء الأسعار من دون ضابط. فقد لاحظ أن الناس يعيشون كالأشباح "زومبي"، يعتقدون بأنهم أحياء، ولكنهم ليسوا كذلك في الواقع. وآخر همهم العمل مع آخرين في فريق واحد لتحسين شروط عيشهم وعيش أقرانهم. والملاحظة الثانية التي أشار إليها الباحث الغربي، والتي تتفق مع وجهات نظركم، هي الاختلاف الكبير في منظومات القيم التي يتعامل بها الشعب اليوم، بالمقارنة مع قيم الخمسينيات والستينيات. كانت القيم الماضية تشجع على التفكير بالذات وبالناس الآخرين أيضا، وبالتالي بالمجتمع ككل. وهو ما كان يعبر عن نفسه عبر الايديولوجيات والشعارات الاجتماعية الرائجة. أما اليوم فجميع القيم الشائعة مرتبطة بالمصالح الخاصة فحسب. وبإمكانك أن ترى قصرا منيفا يتجاوز سعره 20 مليون ليرة لا يضير اصحابه أن يكون محاطا بكومات من الزبالة. ومع أن هالة كربون الأوكسيد التي تغطي مدينة دمشق كافية لتقصير عمر أشرس الحيوانات للنصف، فليس هناك من يتحدث عن مسؤولية الحكومة وعن واجبها في ايجاد الحلول لحماية المواطنين. ومن الواضح أن نسبة السكان الذين يعيشون ويعملون ويمارسون نشاطات ربحية خارج القانون كبيرة جدا. وكلمة العدالة ليست من المفردات التي يمكن أن نجدها في قاموس هؤلاء. فبالنسبة لهم القوة وحدها هي القانون. كما أنك لن تستغرب أن ترى أناسا يمتدحون السارقين لما يقدمونه للبلاد من فرص، ولما يغمرونها به من عواطف. يبدو لي كما لو أن المجتمع بأكمله يعيش في الخطيئة أو يشعر بأنه يعيش فيها، وان النار تشتعل تحت الرماد، وأن المستقبل لا ينطوي على وعد آخر سوى انتظار البركان الآتي ليطهر هذا المجتمع من الطغاة والسارقين".
الذي دعاني إلى استعادة هذه الرسالة وترجمتها هو حملة الاعتقالات الجماعية الأخيرة التي طالت مثقفين سوريين، وتلك التي أعقبتها بصرف سبعة عشر آخرين منهم من وظائفهم، بسبب توقيعهم على إعلان دمشق بيروت نفسه. فهي تذكرنا بأصل المشكلة. فليس لما تعيشه سورية وشعبها، حسب ما وصفته الرسالة، سبب أكبر من مصادرة حريات الأفراد، وفي مقدمها حرية الرأي والتعبير، وفرض الوصاية الدائمة على العقل، التي تعني تجريم النقد والمساءلة، وفرض الإذعان والاستسلام على شعب بأكمله، وتسليمه وموارده مقيد اليدين والقدمين لمشيئة أصحاب المصالح والامتيازات. فلا ترتبط هذه الاعتقالات والانتهاكات الصارخة لحق الأفراد بأي خطر يتهدد النظام من قريب أو بعيد، وإنما جاءت على سبيل المبالغة في الاحتياط وقتل أي بصيص أمل يمكن لفكر المثقفين الحر أن يبعثه في شعب حوله الاعتساف الطويل والعنف إلى رميم.
ليس من المستغرب والحالة هذه، أن تحدث المعاملة المهينة للعقل وللمثقفين والناشطين المدنيين هزة كبيرة في وعي جميع أولئك العرب والأجانب الذين كانوا يتعاطفون مع سورية وأحيانا مع النظام السوري ذاته، وأن توجه ضربة قاضية إلى أسطورة النظام الاصلاحي الفتي، وما رافقها من شعارات التحديث والتطوير والانفتاح الاقتصادي، وتمحو آثار مئات القوانين التي أصدرها العهد الجديد. فبسببها أصبحت سورية تبدو نشازا في كل محيطها وعالمها، وكأنها الدولة الوحيدة التي تصر فيها السلطة على أن تبقى طائشة ومتمردة على شعبها ومجتمعها.

mercredi, juin 21, 2006

الطائفية وتقويض الدولة الوطنية

اتحاد 21 يونيو 2006

في كتابي المنشور عام 1990 بعنوان نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة، طرحت نظرية تقول بأن الطائفية تنتمي إلى مجال السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقا موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس دفاعا متعصبا عن دين أو مذهب. وفكرة السوق السوداء أو الموازية في السياسة تتنافى مع الاعتقاد السائد بأن الطائفية تقليد عربي قديم ومستمر، وتجعل منها ظاهرة مرتبطة بحقبة الحداثة الجديدة وطابعها المفارق معا. فنظام الملل التقليدي الذي عرفته المجتمعات الاسلامية، وأعطت الدولة العثمانية صيغته الأخيرة الراقية، يختلف كليا في مضمونه وطبيعته عن نظام الطائفية بالمعنى الذي نقصده اليوم. فعلاقة السلطة التقليدية بالمجتمع كانت تمر حتما بالتجمعات الأهلية، بل كان احترام هذه التجمعات من قبل السلطة وحفظ مصالحها الخاصة، يفترض الاعتراف بها كملل أو كجماعات مستقلة ومتميزة، ويستدعي تنظيما لهذه المصالح يأخذ بالاعتبار تعددها وتباين مواقعها وعقائدها. وكان وجود هذه الجماعات الأهلية والاعتراف بها ضمانا لحرية الأفراد النسبية وأمنهم معا. في حين كان الافتقار إلى مثل هذا الاعتراف بالتنظيمات الأهلية يعني في الدولة التقليدية خطر الإضرار الدائم بمصالحها، وتعريض أفرادها لكل المخاطر الداخلية والخارجية. ولهذا يشكل التنظيم الطائفي في المجتمعات القديمة التي كانت السياسة فيها حكرا للنخبة الارستقراطية النمط الطبيعي، بل المتقدم، لتنظيم العلاقة بين النخبة الحاكمة والمجتمع على أساس من العدل وحفظ المصالح الخاصة وتوازنها معا. ونظام الملل هو الذي حفظ التعددية الطائفية والقومية في الشرق، بينما كانت نتيجة غياب هذا التنظيم الحروب الدينية ورفض التعددية وتشابك السلطة الدينية والزمنية، وتعسف السلطة الفردية التي تبيح لنفسها التلاعب بمصالح الأفراد والجماعات من دون رقيب ولا حسيب حسب حاجتها ومصالحها.
لكن الأمر اختلف كثيرا مع نشوء المجتمع السياسي الحديث الذي يفترض أن السلطة مستمده فيه من الشعب بأكمله، وان كل فرد هو في الوقت نفسه مواطن، أي مسؤول، وله حق المشاركة في صوغ السياسات المتبعة. وللمشاركة هذه أثر مباشر على تقرير المصير العام. قعلى نوعية هذه المشاركة يتوقف مستقبل السياسة نفسها، وطبيعة السلطة القائمة، وربما استمرار الدولة أو عدم استمرارها كإطار وطني جامع، في ما وراء التمايز بين الجماعات الأهلية. ولا يعتمد الحفاظ على وحدة الدولة والجماعة السياسية هنا على وجود حاكم مترفع يقف موقف الحكم من جميع المصالح والتجمعات والأفراد، ويقضي في شؤونها، كما هو الحال في الممالك والسلطنات القديمة، ولكن على اختيار المواطنين أنفسهم، وصحة هذا الاختيار. فأي تأثير على الناخب أو المواطن المشارك في تقرير المصير العام، من خارج الحقل السياسي وما يعنيه من تفضيل بين البرامج السياسية المطروحه، سواء عن طريق شراء الأصوات بالمال أو استخدام الولاءات الدينية او الأقوامية، يعطل الهدف من الاختيار، ويفسد السياسة والدولة الحديثتين، بقدر ما يسمح بتكوين مراكز قوى أهلية داخل الإدارة السياسية تعمل على خدمة المصالح الخاصة، وتمنع من التعبير الشفاف عن إرادة المجتمع الكلي، أو من ترجمة وحدته، من حيث هو إطار سياسي قانوني يجمع بين أعضاء متساوين وبنشيء بينهم مصلحة مشتركة، لا من حيث هو مجتمع أهلي يبحث فيه كل فرد عن مصالح خاصة. إن الطائفية ترد السياسي إلى الأهلي وتلغي إمكانية نشوء دولة من النوع الوطني الحديث.
فإذا كانت الدولة الامبرطورية تقوم على عقد بين طوائف وجماعات متباينة ومتمايزة، يجسده التسليم لملك حكم، هو رمز السياسة والسلطة بامتياز، وظيفته السهر على استمرار التوازنات واحترام المقامات، وهو ما كان يطلق عليه اسم العدل، فإن الاجتماع السياسي الحديث، يقوم على عقد بين أفراد أحرار ومستقلين يجسده دستور واحد يخضع له الجميع، بما في ذلك الرئيس أو الحاكم. وهو يفترض الحريات الفردية كعامل مؤسس فيه. وكل ما يضعف شروط بناء هذا العقد او الأساس الاختياري له، أو يلغي المنافسة الحرة على مناصب المسؤولية، يقود إلى تقويض أسس الدولة الحديثة والقضاء على الحريات الفردية المرتبطة بها، وعلى الفرد المواطن نفسه، لصالح عودة الانتماءات والعصبيات الماقبل سياسية.

فالاختراقات الطائفية، ونحن نعني بالطائفية العلاقات القائمة على العصبية الطبيعية، سواء أكانت دينية أو قبلية، هي العملة السياسة الفاسدة والسوق المغشوشة التي تمثل في حقل السياسة ما تمثله السوق السوداء في ميدان الاقتصاد، من حيث أنها تقوم على إلغاء المنافسة النزيهة والمعايير الواحدة واستخدام الاحتكار والتلاعب وسيلة لتحقيق أرباح غير مشروعة للطرف المتحكم بها.

من هنا تفسد الطائفية المنافسة السياسية النزيهة، بقدر ما تعطل العملية التمثيلية وتحرم الجماعات الأخرى من احتلال مناصب المسؤولية والمشاركة في القرارات السياسية وتعطل آلية بناء الصعيد العمومي أو المعبر عن عمومية الدولة وارتفاعها فوق جميع المصالح الخاصة والجزئية. والأصل في حصول ذلك حدوث أمرين متناقضين في العديد من المجتمعات ما بعد الاستعمارية: الأول هو نشوء الدولة الحديثة نفسها وتوسع دائرة اشتغال مفهوم السياسة الوطنية المرتبط بها، أي من حيث هي سياسة مدنية، يتنافس على أرضيتها الأفراد على النفوذ إلى مناصب السلطة والمسؤولية، ضمن شروط متساوية، وليست حكرا على طبقة أو نخبة أو فرد. والأمر الثاني بقاء المجتمع المدني ومنظماتها الحديثة في حالة من التأخرالذي يمنعه من ممارسة دوره في ضبط التطور الكبير في سلطة الدولة ونفوذها. مما يشجع أصحاب المصالح والطامحين إلى الاستفادة من هذه الدولة القوية الجديدة، وما يرتبط بالنفوذ إليها من مصالح، إلى السعي إلى السيطرة عليها بجميع الوسائل، وفي مقدمها استخدام العصبيات الدينية والأقوامية. والنتيجة تمكين أصحاب المصالح الخاصة من التحكم بمواقع رئيسية في الدولة، وفرض أجندة خاصة عليها لا تهتم ببناء إطار السياسة الوطنية، ولا تخضع إلا لحسابات جزئية، وبالتالي تقويض أسس العملية السياسية، وقطع الطريق على وصول قيادات وطنية مجسدة لمفهوم الدولة وممثلة لعموم الشعب إلى مناصب السلطة والمسؤولية، وإخضاع الدولة والامساك بمؤسساتها من الداخل وتفريغها جميعا من محتواها العمومي.
يقود هذا الوضع إلى أحد أمرين، نشاهد تظاهراتهما كل يوم في الأخبار الدولية. الأمر الأول تحويل الدولة إلى مزرعة خصوصية لأصحاب السلطة والنفوذ من زعماء الطوائف والعشائر والجماعات القومية المسيطرة. والثاني إطلاق فتيل حرب أهلية مستمرة، تتغذى من إرادة منع الطرف المسيطر من الاستئثار بالثروة، أو الاستئثار بها بدله. وما لم تبرز قوى جديدة من خارج العصبيات المتحاربة، ويتكون رأي عام مدرك أن الدولة ليست إطار تقاسم المغانم، وتنمية المصالح الخاصة وتعظيمها، وإنما هي بالعكس الإطار الوحيد لتجاوزها، وبناء فضاء العمومية، القانوني والإنساني، الذي لا قانون ولا نظام ولا سلام من دونه، سيكون من الصعب الخروج من الحرب الأهلية. ذلك أن كل صيغة للاقتسام يفرضها ميزان قوى قائم، ستكون معرضة بالضرورة للنقض من قبل القوى والجماعات التي خسرت في الجولة السابقة. فالمطلوب للخروج من الحرب ليس قسمة عادلة للدولة، ولكن بالعكس رفع الدولة عن مبدأ القسمة نفسه، وتحويلها إلى إطار الاستثمار المشترك في الأخوة الوطنية والإنسانية، أي بناء دولة المواطنة والمواطنية. فليس هناك دولة مع الطائفية وليست الدولة الطائفية دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة بقدر ما هي فوضى سياسية دائمة.

mardi, juin 13, 2006

أسطورة الحداثة العربية مقابلة الاتحاد الاشتراكي المغربية

الاتحاد الاشتراكي المغربية 13 يونيو 06
الاستبداد العربي اليوم استبداد بأدوات الحداثة من جيش ودولة وأجهزة أمنية
Aligner à droite
برهان غليون ليس اسما مضافا، أو يمكن أن تبحث له عن تشابه سابق، إنه اسم أساسي في الحقل الفكري وفضاء البحث ، لا يتردد في أن يعبر عن قناعاته الجريئة، وفي الغالب تصبح بمثابة مرجع. حدث ذلك عند نشر كتاب بيان من أجل الديموقراطية، ثم تكرر مع اغتيال العقل، ومازال كل مؤلف له يخلق تاريخه الخاص وقارئه. برهان غليون الذي غادر الفضاء العربي السوري منذ ثلاثين سنة ليستقر بفرنسا، من أجل البحث والتفكير العلمييين ، يستحضر دوما مرجعيته السوسيولوجية وأفقه الانساني عندما يتحدث عن قضايا العرب والعصر.
في مكناس، حيث التقيناه عندما شارك في ندوة محمد الباهي حول الحداثة وانعتاق الإنسان حذر من الاستعمالات الايديولوجية للحداثة ، كما نبه الى ما هو ثابت في تبنيها وما هو متحول.
- منذ عقود صدر لكم بيان من أجل الديموقراطية، وكتاب اغتيال العقل، وكان وقتها مفهوم الديموقراطية هو المفهوم المركزي. اليوم تحتل الحداثة مركزية الحوار، هل نحن بصدد إبدالات معينة تخفي مفهوما لتبرز مفهوما أكبر؟
غليون:
اعتقد أن العمل الرئيسي الذي يتصدر مهامنا اليوم، على المستوى السياسي، هو توسيع جبهة التحالف من أجل إنجاح حكومات ديمقراطية، تستطيع ان تعيد تشكيل الوضع الاجتماعي والسياسي، بشكل يفتح الباب نحو إطلاق موجة الحداثة في العالم العربي. إدن، في نظري لم تتغير الاولويات. لكن هناك في المقابل، كما يبدو لي، نزوع عند بعض التيارات اليسارية للهرب من مواجهة المشاكل الحقيقية التي يعاني منها هذا اليسار كما تعاني منها الحركات الديمقراطية والحركات العلمانية، نحو الحداثة باعتبارها مفهوما اسطوريا. هذا ليس هروب نحو الحداثة، وإنما من مواجهة العقبات التي تواجه التحول العربي في اتجاه الديمقراطية وتحسين الاوضاع القائمة، أي من مواجهة أزمة الحداثة، نحو تحويل الحداثة إلى اسطورة جديدة، الى إيديولوجية تصادر على الواقع وتغطي العجز أكثر من ما تتيح رؤية المستقبل وآليات العمل للخروج من الازمة.
- ومع ذلك فالمجتمعات العربية تمر في مأزق كبير وفي ممر ضيق. وهناك في الوقت ذاته تقابل بين الديمقراطية والحداثة: الديمقراطية هي مطلب سياسي تدافع عنه اليوم النخبة، لكنه يتجاوز ها ..
غليون:
لا أعتقد أن الحداثة شيء نموذجي وإيجابي بالمطلق يمكن أن نضعه في مقابل التقاليد والتراث ونقول: هاهي ذي الجنة. ولا أعتقد أن هناك تطابقا باستمرار بين جميع المسارات المتعلقة بالحداثة، ولا بين انواع الحداثة المتواجدة بأنحاء العالم. كما أعتقد ان الحداثة يمكن ان تكون أيضا وحشية. النازية كانت أيضا حداثة ولم تأت من خارج الحداثة ولو أنها مثلت ثغرة من ثغراتها وهبوطا مدويا فيها. والاستبداد العربي اليوم لا يأتي من خارج الحداثة، هو استبداد حديث، ولا علاقة له باستبداد السلاطين والملوك القدماء. وهو لا يستقيم من دون ادوات الحداثة ومن دون الدولة البيروقراطية والجيش و اجهزة الامن. أي من دون نمط الدولة الحديثة. فالحداثة ليست بالضرورة كلها ايجابية. ولا يقتصر إنتاجها بالضرورة على الإيجابيات. نحن مثلا مجتمعات حديثة في العالم العربي. لكننا مجتمعات حديثة تعيش حداثتها في مأزق. فبدل ان تتقدم في الاتجاه الايجابي، تتقدم في الإتجاه السلبي. نستخدم من الحداثة السيء منها، لذلك يمكن القول أننا لم نعرف حقيقة طعم الحداثة بخيرها وشرها، عرفنا شرها أكثر من خيرها. والقصد أن الشر الذي تعيشه مجتمعاتنا اليوم لا ينبغي أن نرجعه للتراث لنبيض صفحة الحداثة وتجعل منها شيئا مثاليا. ما تعيشه مجتمعاتنا من عنف وتخبط واقتتال هو ثمرة حداثة مشوهة ومعدومة الاتساق، و ليس ثمرة التراث أو تقاليد الماضي. نحن عرفنا الحداثة في عدة صور كلها سلبية. هذا ما يستحق النقاش. عرفناها أولا في صورة الاستعمار. فقد دخلت الحداثة في البلدان العربية من الخارج وبشكل أساسي عن طريق الاستعمار ، هذا واقع لا يمكن ان نتجاهله. وهذا ما أعطى للحداثة سمة معينة. ثم عرفناها ثانيا من خلال الدولة البيروقراطية والنخب المنفصلة عن الجماهير والمتغربة. فجاءت في إطار العنف والإكراه والتسلط، وليس في سياق تحرر الفرد وانعتاقه. أنا لا أتحدث عن خطء تاريخي ولا أدين ما حصل، لكن لأصف التاريخ. هذا هو تاريخ الحداثة عندنا وسياقها الرئيسي. واليوم ترتبط الحداث بسياسات نخب استبدادية تخاف من الجمهور وتعمل كل ما بوسعها لتعزله وتخضعه. وهي تنادي بالمستنير العادل أو بالمستبد المستنير. وترتعب من أي انفتاح على الشعب، حتى لا تفقد سيادتها، ومواقعها التي تعتقد أنها مهددة من قبل جمهور جاهل، لم تبذل أي جهد لتحسين أوضاعه ومساعدته على الخروج من ظروفه المؤلمة.
هذا يعني أن المشكل الحقيقي لا يكمن في التراث، بصرف النظر عن قيمة تراثنا، وإنما في نمط الحداثة التي نعيشها في البلدان العربية أو الذي تطور فيها. هل نظل نستمر في وضع الحداثة في مقابل التراث لتبرير الأوضاع التي نعيش فيها، كما لو أن مجرد اختيار الحداثة وترك التراث سيحل هذه المشكلات، وبالتالي نستمر في إغماض أعيننا عن عيوب الحداثة وأعطابها، ونرمي المسؤولية في ما نحن فيه من مصائب على التراث، ونعطي للحداثة صورة وردية ترفعها عن أي نقد، أي في الواقع نلغي التفكير بواقع حداثتنا نفسها ونهرب من المشاكل التي تواجهها وتواجهنا، ام ننظر في الواقع كما هو ونسعى إلى فهمه وإيجاد الحلول له؟ أعتقد أن ما ينبغي أن نفكر فيه منذ الآن هو كيف نجعل من هذه الحداثة العوراء والمشوهة، التي هي شئنا أم أبينا اليوم حداثتنا، وثمرة تاريخ لم نختره ولا سيطرنا عليه، حداثة حقيقية، ايجابية، إنسانية، مثمرة، تعكس القيم الكبرى للحداثة، أعني قيم الحرية والعقل وأخلاق الذات أو الفرد الذي يتحول إلى ذات واعية وعاقلة ومسؤولة، أخلاق التسامح، اخلاق احترام الآخر، حتى وان كان هذا الآخر مختلفا عنا جذريا، على الاقل نحترم الانسان فيه، بصرف النظر عن افكاره. حتى الذين يتحدثون باسم الحداثة ليسوا بالضرورة حديثين في سلوكهم، متمثلين لقيم الحداثة. ويمكن للأشخاص الحديثين ان يمارسوا السياسات المغرقة في المحافظة والتقاليد. ونحن نشاهد مثل هذه الممارسة تجاه المرأة، تجاه المخالفين في الرأي، اتجاه الفقراء والفلاحين، تجاه المعارضة في العديد من البلاد العربية. وهناك أناس يحملون شهادات جامعية عالية ويعتقدون أنفسهم على غاية الحداثة، لكنهم يعاملون الشعب باحتقار, وينظرون إليه نظرتهم لعدو. باختصار، الحداثة ليست فكرة مثالية، وليست كل تماذجها متطابقة، ولا تنتج دائما أشياء ايجابية. ينبغي العمل على الحداثة، والاشتغال عليها حتى تصبح حداثة إنسانية. الاوربيون لم يصلوا الى ماهم عليه اليوم من أخلاقيات وتضامن وعدالة و مؤسسات عاملة ناجحة لأنهم آمنوا بالحداثة أو قالوا في يوم من الايام ان الانسان مهم وينبغي ان نحترمه. هذا غير صحيح. الأمر أعقد من ذلك بكثير. فقد أمضوا خمسة قرون يتصارعون ويتقاتلون ليحولوا الحداثة إلى حداثة إنسانية وليمنعوا استخدام أدواتها لتدعيم قيم استبدادية وهمجية. وقد قتل الملايين في الحرب الأولى والثانية. ولم ينته الأمر بعد، فلا يزال هناك قلتى كثيرون يقعون في الخارج باسم الحداثة وبأدواتها، في العراق مثلا أو فلسطين أو في أفغانستان. ولم يصلوا إلى الحداثة التي يعيشونها اليوم إلا بكفاح طويل من أجل تثبيت قيم الحرية والعدالة والمساواة. لقد تعبوا كثيرا حتى استطاعوا أن يعيدوا بناء مجتمعاتهم على الاسس التي نعرفها اليوم. منذ عشرين أو ربما ثلاثين سنة كانت هناك مدن صفيح لا تزال قائمة في فرنسا. نحن نتصور ان العالم يخلق فجأة لانه قرر أن يكون حديثا او اختار الحداثة مذهبا. هكذا بقدرة قادر وبايمانه بالحداثة اصبح عادلا وعظيما وحرا. هم ايضا سبق ان عانوا من الفقر والجوع والنازية والاستبداد. وقتل البعض، وسحق ناس، واعتقل اخرون. لقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه، أي إلى الحداثة الراهنة، نموذج حداثتهم، لانهم لم يقضوا وقتهم في النقاش في ما إذا كانوا في الحداثة أو التراث، أو لأنهم وضعوا الحداثة في مواجهة التراث، ولكنهم لأنهم وضعوا الحرية في مواجهة الاستبداد والعدالة في مواجهة الظلم والمساواة في مواجهة التمييز. أي لأنهم لم يغرقوا في ما أسميه السفسطة الايديولوجية والفكرية التي نعيشها. لقد قالوا ان هذا النظام يجب اصلاحه. وقد تصارعوا حول ذلك، وناضلوا في سبيل التغيير، وهكذا قل عدد الفقراء وأزيلت مدن الصفيح ونقص الظلم، واصبح هناك قانون يضبط اكثر سلوك الافراد، خاصة المسؤولين، يمنع الرشوة والفساد. منذ عشرين سنة لم يكن الموظف الفرنسي مثلا يعتبر أنه اقترف ذنبا كبيرا عندما يستغل نفوذه لاحتلال شقة حكومية بأسعار زهيدة وأحيانا من دون ثمن. اليوم يعتبر الموظف الذي يحصل على ميزة بسبب مركزه الوظيفي ونفوذه يعتبر مجرما ويحاكم على ذلك. هذا يعني ان مفاهيم المجتمع تتطور.
ليس هناك إذن شيء اسمه الحداثة، كنموذج جاهز وثابت ونموذجي، يكفي أن ناخذ به حتى نصبح حديثين. مشكلتنا نحن، في العالم العربي. اننا ننظر الى الحداثة كما لو انها شيء مثالي ونموذجي. ولذلك عندما نرى ما هو مخالف لذلك في واقعنا نقول: نحن لسنا في الحداثة، نحن مازلنا في التقاليد والتراث، وهما سبب مآسينا. والحال أننا نعيش في قلب الحداثة، لكننا لا نريد ان نعترف بأعطابها وبالتالي لا نسعى إلى إصلاح عيوبها التي تتخبط فيها، مثلما فعل الآخرون، حتى صلح حالهم.
- في كتاباتكم السابقة اعتبرتم أن نفس الفئات التي حملت المشروع القومي، ثم المشروع التقدمي الماركسي تحمل اليوم المشروع الاسلاموي، ألا يطرح هذا سؤال الفئة الاجتماعية التي عليها أن تحمل مشروع التحديث، ألا نعيش ارتباكا في الحامل الاجتماعي للحداثة؟
غليون:
لا لأن المطالب في جميع الحالات مطالب حديثة. لقد قلت بأن نفس الجمهور الذي كان يتبع الحركات القومية واليسارية، أو الجزء الكبير منه، يتبع اليوم الحركات الاسلامية، هذا يعني ان الجمهور يتبع القوة المعارضة للنظام، أي التي لها مصالح متضاربة مع المنظومة القائمة. وهو كالقوة الجارفة. فليس الوعي والاختيار النظري هو الذي يتحكم بحركة الجمهور الذي يمثل الكتلة الكبيرة المتضررة. الهدف هو الذي يدفعه. لذلك فعندما يجد نافذة مفتوحة، يمشي وراء القوة التي تتصدر المعارضة وتواجه النظام، سواء أكان ذلك باسم الديموقراطية. او باسم العدالة الاجتماعية الماركسية، او بأي اسم. في الوقت الذي كانت فيه الحركات القومية أو اليسارية هي التي تمثل هذه القوة التي تفتح النافذة كان الكل يمشي وراءها, فلم يكن الناس يعرفون ماركس ولينين، و لا الخلافات التي كانت بين لينين وتروتسكي طبعا. كانوا يرون قوة معارضة للنظام، مرتبطة بمنظومة عالمية كبرى، تعطي املا بتعديل الامور، فيمشون وراءها. وبالعكس عندما وصلت هذه الحركة إلى طريق مسدود، خاصة بعد انهيار التجربة السوفياتية، اختار الجمهور الواسع، كما هو الحال اليوم، التيارات الاسلامية التي بدت وكأنها أكثر قوة نقدية للنظام. ليس بالضرورة من حيث هي معارضة منظمة، لكن من حيث نقدية في جوهر تفكيرها، وجوهر سلوكها. وهنا تقدم تجربة الجزائر مثالا واضحا. فقد انتقلت كتلة كبيرة من الجمهور، خلال فترة قصيرة جدا، من معكسر إلى آخر، لتضع نفسها تحت قيادة اسلامية، لم تكن هي نفسها قد تبلورت بعد، كما تدل على ذلك أفكار علي بلحاج وعباسي مدني وغيرهما. لقد تكونت الحركة خلال أقل من سنتين، واصبح عندها الملايين. وهذه الكتلة نفسها انكفأت بسرعة كبيرة لانها لم تكن تسير وراء عقيدة واضحة، بل كانت تسير وراء مشروع تغيير. انت تقترح صراعا مع سلطة، أنا أرفضها، فأنا أسير إذن معك. الآن، أعتقد بأن الموجة انحسرت، بمعنى دخلت في طريق مسدود. فخلال السنوات الماضية فشلت بعض النظم التي قامت على مباديء الدعوة الإسلاموية كما حصل في السودان وأفغانستان، وكما يحصل اليوم في العراق. فالتوجهات الاسلاموية السياسية تدخل العراق في حرب أهلية. كما نجحت الدول في بعض البلدان في أن تكسر شوكة الحركات الاسلامية. هناك شعور بالمأزق أيضا عند الحركات الاسلامية. وهذا ما تراهن عليه الحركات الديمقراطية، وحركات المجتمع المدني التي ليست لها قاعدة اجتماعية إطلاقا بعد، قاعدتها هي الخائبين، أو الذين سيخيب ظنهم في قدرة الحركات الاسلامية على إنجاز التغيير. وهؤلاء سينتقلون إلى استراتيجية جديدة للتغيير، هو التغيير بالطرق السلمية و بالحوار. الان، هناك طريق مسدود. وهذا أصل الضياع. لماذا لم نتقدم كثيرا في خط الديمقراطية والنشاط المدني؟ لأن الحركة الديمقراطية لا تعتمد على العنف ولا تراهن على الصدام، وإنما تختار الطريق السلمي للتغيير. وهذا يفترض الحوار لأن لا يتحقق من دون حد أدنى من إمكانية التفاوض. إن منطقه هو منطق المفاوضة مع السلطة. والحال أن السلطة العربية ترفض أي حوار وأي مفاوضة. لاتقبل إلا بالعنف، لذلك أنا لا أستبعد أن يعود العنف بعد عشر سنوات بطريقة مختلفة، تحت مظلة إسلامية أو غير اسلامية، مثل ما ظهر في عدد من البلدان في آسيا وأمريكا اللاتينية، أي بقيادات إجرامية، تجمع بين الجريمة وبين السياسة، عصابات تتمرد. هناك بحر من النقمة الاجتماعية، لأن هناك ظروفا تدفع إلى عدم الرضى عن الوضع. عندما تضع في طريق الطوفان سدا، يحاول كسره. فإذا لم يتمكن من ذلك ينحرف لشق طريق آخر. قد تكسب أنت بعض الوقت. لكن في لحظة من اللحظات، لا بد أن ينتصر الطوفان، إذا لم نستفد من الوقت لحل المشاكل شيئا فشيئا. إذا لم نفعل ذلك سيكون هناك طوفان قوي يكسر كل السدود التي وضعناها.
- نعيش اذن نزعة ماضوية، قد تعطي للحداثة مفهوما نهضويا..
غليون
بعكس المظاهر، ليس لدى المجتمعات العربية مطالب ماضوية على الإطلاق. المجتمعات العربية لديها طموحات حديثة جدا: تريد المساواة، تريد القانون، تريد العدالة، هذه كلها مطالب حديثة. لو كانت المجتمعات العربية ماضوية لقالت : إن الناس طبقات، والله خلقهم درجات، والسيد سيد والخادم خادم. لا. المجتمعات تتحرك بدافع من القيم الحديثة لأنها تمثلتها. لماذا فلان ولست أنا. لا أحد يقبل بالتمييز ولا بعدم المساواة. هذا على مستوى الشعور والخطاب. لكن على مستوى الممارسة الأمر أشد من ذلك. لماذا يكافح الناس لتغيير النظام اليوم؟ لأنه ببساطة ليس هناك عدالة. ماذا يقول الاسلاميون وغير الاسلاميين - الاسلاميون هم أيضا بشر، وهم يعبرون عما يشعر به جزء كبير من المجتمع - ، ماذا يطلب المجتمع؟ أيقول: العودة إلى حكم السيف، وقطع اليد، كما حصل في السودان. هناك بعض النخب الجديدة المنحطة التي تصر على التوجه في هذا الاتجاه، لكن المطالب العميقة للمجتمعات هي مطالب حديثة: المساواة، العدالة، الحرية، الحياة الكريمة، وغيرها.
لكن النقطة المهمة الثانية في هذا السؤال تتعلق بدور الغرب. أنا أعتقد أن للغرب مسؤولية جوهرية في المأزق الذي نعيشه. ليس لأنه استعمرنا،الخ. كما يقال عادة. كل هذا أصبح من الماضي. بل لأنه رفض السماح لنا بالتقدم على طريق الحداثة بعد ذلك وحتى الآن. في الثمانينات كان من الواضح أن مشروع التحديث قد وصل إلى طريق مسدود، في كل العالم الثالث، وليس فقط في العالم العربي. ونعني بذلك مشروع البناء السياسي والاقتصادي والتصنيع الذي تبنته حركات التحرر الوطني والبلدان المتحررة حديثا من الاستعمار. وهو يتعلق بالحداثة المادية، التي هي قاعدة الحداثة. إذ ما معنى الحداثة إذا كنت اسمع عن العمل وأنا لا أستطيع أن أجد عملا؟ وما معنى العدالة إن كنت تقول لي أن هناك قانونا ودولة، لكن ابن المسؤول يدوس على رأسي بحذائه ولا أحد يعاقبه. هذه ليست حداثة، نحن نعيش في نظم لا تحترم الانسان، وبالتالي فهي نظم حديثة لكنها تخون الحداثة وتغتال قيمها الانسانية الرئيسية. ومسؤولية الغرب انه سمح بانهيار مشروع إعادة البناء الاقتصادي للشعوب النامية. ومن وراء ذلك مشروع التقدم نحو الديمقراطية أيضا، حتى لو لم تكن ديمقراطية بالمعنى السياسي المباشر، ولكن بمعنى اعمق هو نقل المجتمعات من البنيات القديمة إلى البنيات الحديثة وتحرير الفلاحين والطبقات الشعبية من العلاقات الأبوية. كان نقل المجتمعات نحو الحداثة مرتبطا بنجاح هذه المشاريع. ونتذكر كيف ثار في سنة 1974 نقاش عالمي واسع، انتقل إلى الامم المتحدة، حول اسعار المواد الاولية، والتبادل غير المتكافئ. وطالب مسؤولوا العالم الثالث بإعادة النظر في أسعار المواد الأولوية التي كانت تعتمد عليها الاقتصادات النامية، لانقاذ مشروع التنمية من انهيار محقق. لكن الغرب رفض ان يقدم اي مساعدة للنخب التحديثية الديمقراطية، وأحبط مشروع إعادة النظر في التجارة الدولية. والغرب هو الذي قتل، بعمله هذا، الفكر الليبرالي والفكر العلماني. أما بالنسبة للعالم العربي فقد كانت مسؤوليته أكبر من ذلك. فقد تخلى عن مشروع الحداثة، وقام بجهود كبيرة لتحطيم أي مشروع محلي يخلق شروطا أفضل للحداثة وللتقدم التاريخي، أعني مشروع التكتل العربي الذي كان هدف الحركة القومية العربية. فحول القومية العربية كلام عام وايديولوجي كثير، لكن جوهر مشروعها، لم يكن شيئا آخر سوى التكتل العربي، وإقامة سوق عربية مشتركة واسعة، تسمح بتطور الصناعة والتكنولوجيا والعلوم. حركة التقدم هذه كسرها الغرب أيضا بحجة ان عبد الناصر كان هتلر الثاني، وكان يهدد الغرب. اضافة الى موقف الغرب في مسألة فلسطين التي استنزفت جهود الامة العربية من المحيط إلى الخليج وحرفتها عن أهدافها وطريقها الرئيسي. فكيف يمكن لشعب من 300 مليون نسمة أن يحترم نفسه وهو غير قادر على التضامن مع الشعب الفلسطني والوقوف أمام خمسة ملايين اسرائيلي مدعمين ومدججين بالسلاح، بما في ذلك الاسلحة النووية بسبب الدعم اللامشروط من الغرب. أساء الغرب لتجربة التحديث في العالم العربي اساءات متعددة، ولا يزال مستمرا في الاساءة عبر حرب العراق، والسيطرة على الخليج، باسم الدفاع عن إمدادات النفط، وتبني السياسات الاكثر تطرفا في اسرائيل. وآخر ما عمله الغرب التبني الكاذب لمشروع الديمقراطية في العالم العربي. فحتى في هذا الموضوع لم يسمحوا لنا أن نبقى مستقلين وأن يكون مشروع الديمقراطية مطلب محلي وجزء من مشروع النخبة الجديدة والمتجددة في العالم العربي. لقد صادروه لخدمة أهدافهم، وأظهروه كما لو كان مشروعا خارجيا ومرتبطا بالمصالح الخارجية، قبل أن يتخلوا عنه. وعندما أتحدث عن الغرب هنا، فأنا أعني به النظام والمنظومة السياسية، أي الاختيارات الاستراتيجية، و ليس المجتمعات والأفراد. لأن هؤلاء ليسوا متماهين مع سياسات الغرب. ومنهم من يظهرون من التضامن مع القضايا العربية اكثر مما يظهره الناس في العالم العربي نفسه. فالتظاهرات التي نظمت في العشرين سنة الأخيرة لدعم القضايا العربية، من قضية فلسطين إلى قضايا شجب الاحتلال في العراق وغيره والتصدي لانتهاكات حقوق الانسان من قبل الولايات المتحدة في العراق، نظمتها الحركات الديمقراطية في المجتمعات الغربية، وكانت اكثر أهمية بكثير مما شهدته المجتمعات العربية. المجتمعات العربية في اطار الحداثة التي سميتها الرثة، ليس لديها حتى القدرة على ان تعبر عن رأيها في الجرائم التي تحصل في البلدان العربية، ولو كانت جرائم المسؤول عنها دول أجنبية. باختصار، الغرب مسؤول مسؤولية أساسية عن انهيار التجربة التحديثية في العالم العربي، اضافة الى أنه دعم دعما مباشرا وإراديا وواعيا النظم الاستبدادية لفترة طويلة ولايزال يدعمها.
- لكن هل يمكن القول أن مشروع التحديث ليس أمامه أفق؟
غليون:
عندما تعطى الشعوب أملا، كما فعل الاتحاد الاروبي مع تركيا - ليس فقط بوعدها الدخول في الاتحاد، بل باستثمار المليارات من الدولارات التي تخلق فرص العمل، وتطور الصناعة، وتعطي للانسان شعورا بأن للحداثة فوائد وفيها ايجابيات، وليست كلها قتل وضرب وسجن، كما هو الحال في البلدان العربية - عندما يتم ذلك، يحدث التحول. في هذه الحالة، حتى الاسلامين تحولوا من الداخل، واصبحوا مقتنعين بالعمل مع الغرب الحديث، وادركوا أن الحداثة منظومة دولية، وواقع تاريخي. وهكذا فهموا أنه ليس أمامنا اختيار، فإما أن نفاوض حتى ندخل الحداثة الحقيقية المنتجة والمبدعة لقيم أخلاقية وإنسانية ومادية أيضا، أو أصف على قارعة الطريق واقبل بحداثة هامشية. فنحن لسنا مخيرين بين القبول بالحداثة أو الاحتفاظ بالتراث. لم يعد احد قادر على الحياة في التراث ولا العودة إليه، مهما حصل. إن ما هو مطروح علينا، إذا لم ننجح بانتزاع شروط حداثة منتجة ومبدعة وبناءة وحيوية، هو البقاء في نموذج حداثة رثة، فقيرة، ضعيفة بدون قيم ولا روح.
- هل العلمانية شرط اساسي لكي تتحقق الحداثة الديمقراطية في العالم العربي؟ في الوقت الذي يقبل الاتراك الاسلاميون التغيير ويرفضه امثالهم في الحركات الأخرى..
غليون:
نرجع اولا الى الاسلاميين في تركيا. ليس صحيحا ان الاتراك تغيروا و الحركات الإسلامية غير التركية لم تتغير. لا استطيع ان اقول ان العرب لا يتغيرون والاتراك تغيروا. العرب يتغيرون ان فتح لهم الافق. الاتراك فاوضوا عندما قبل النظام العسكري الذي كان قائما التفاوض. لا أحد يعطي شيئا لأحد مجانا في السياسة. وقبل النظام العسكري التركي التفاوض لأنه كان يملك دولة وامة حقيقيتين، وكان يدرك أنه لا يمكن أن يقف في وجه الموجة الاسلامية من دون أن يكسر مشروع الدولة هذه. لذلك فكر بالتفاوض ولم يتخذ قرار الحرب بأي ثمن. سعى إلى الحفاظ على جوهر مشروعه. واستجاب الاسلاميون للرغبة ذاتها، لأنه كان لديهم أيضا كممثلين لجزء كبير من الشعب التركي أن لديهم ما يخسرونه أيضا بالدخول في حرب. ففضلوا هم أيضا التفاوض على المواجهة. وما كان من الممكن أن يحدث هذا في البلدان العربية حيث يسود المزاج الفردي، وحيث يكون الحكام مستعدين دائما لتكسير الدولة وتحطيم المجتمع لأنهم لا يملكون لا مفهوم الدولة ولا مفهوم الوطنية. لقد اختار الاسلاميون التفاوض، وكان شرط دخولهم للحكم هو قبولهم بالقوانين العلمانية، أي احترام ميدأ ان الدولة تتعامل مع المواطنين كأفراد مواطنين دون النظر الى ديانتهم او ايمانهم وعدم ايمانهم. اختار الاسلاميون عدم التدخل في ديانة الافراد باعتبار ان ذلك يتعلق بالعلاقة بين الفرد وربه. وهذا ما جعلهم ينجحون ويصلون الى تسوية تمكنهم من الحكم. وهم سينجحون أيضا في الانتخابات القادمة. لقد قدموا تنازلات في المفاوضات لأن الاخرين ايضا قبلوا بالتنازل وكانت النتيجة في صالح الجميع والدولة والامة التركية. اعتقد ان المشكلة في بلداننا العربية هي انه عدم وجود مبدأ مفاوضات اطلاقا، لعدم وجود السياسة ومفهومها أصلا. فالمفاوضات تعني السياسة ، والسياسة تعني الاعتراف بالاخر، بوجوده وبمصالحه. يقول مبدأ السياسة : انت قوة موجودة وانا اختلف معك في هذه النقطة، لنتفاوض حولها، وإذا قبلت بها،أنا مستعد للتعامل معك. وهذا ما حصل في تركيا. فهل هناك نظام عربي يقبل التفاوض؟.
- في الجزائر كان برنامج جبهة الإنقاذ الاسلامية ينص على أن جميع التشريعات يجب أن تستمد من القرآن والسنة، بمعنى أن هناك ارتباطا وطيدا بالدين، ولا مجال نهائيا للفصل بين الدين والدولة. وهذا بطبيعة الحال، يعني لا حق في ممارسة السياسة بالنسبة للمواطن، لأن السياسة محددة كهدف وممارسة. وأيضا حركة الإخوان المسلمين في مصر؟.
غليون:
الإخوان المسلمون في مصر وسوريا منذ الخمسينات يلعبون لعبة التعددية والديمقراطية. وكان لهم نواب في البرلمان. وهم لم يخونوا اللعبة الديمقراطية. إذا أردنا قول الحقيقة، بعض الإخوان المسلمين في سوريا ومصر حملوا السلاح في الثمانينات. لأن الأوضاع كانت مسدودة كليا. وهذا ليس تبريرا لأحد. هم أخطأوا ودفعوا الثمن. لكن الخط العام للإخوان المسلمين بالعالم العربي ليس خطا جهاديا، ولا تكفيريا، بل خط سياسي. كانوا قد بدأوا بتقاليد سياسية. اليوم، الإخوان المسلمون في مصر وسوريا يلعبون لعبة تعددية، ولم يفعلوا مثل جبهة الإنقاذ الجزائرية التي كانت ثمرة عدم نضج. والجزائر هي البلد الوحيد الذي لم تكن عنده تقاليد أخوانية قوية. الإخوان المسلمون الجزائريون هم حماس، حركة السلم الاجتماعي،. هؤلاء هم الإخوان المسلمون، وقد تعاملوا مع النظام أكثر مما تعاملوا مع الحركات المتطرفة التي كانت تختلف معهم. جبهة الانقاذ الاسلامية حركة شعبوية خرجت من أعماق تقاليد الثورة الجزائرية، بمعنى أنها رد فعل أشخاص من الجبهة الوطنية التي قادت الثورة الجزائرية، ومن المؤمنين بها، مثل عباسي مدني، شعروا بالخيانة من قبل النخبة البيروقراطية التي استخدمت كل موارد البلاد لخدمة مصالحها الشخصية. كانت هناك نقمة حقيقية، طوفان اندفع ضد النظام القائم.
- بصفتكم مراقب للأوضاع بالعالم العربي بصفة عامة، كيف ترون الأوضاع بالمغرب؟
غليون:
أعتقد أن الشيء المتميز في المغرب، إلى حد الآن، هو نجاحه في تفادي الانفجار الذي عاشته معظم البلدان العربية. لا أعتقد أن الوضع مثالي. ولكن المغرب نجح لأنه أدخل مبدأ المفاوضات، و اعترف بوجود الآخر، و بوجود المعارضة، بما فيها الحركات الاسلامية. النظم الأخرى تبنت منذ البداية فكرة القضاء على المعارضة الاسلامية والعلمانية حتى لا تضطر إلى التفاوض معها وتستمر في الانفراد بالحكم. لكن ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة كارثة حقيقية، كما هو الحال في سورية والعراق التي أغلق فيه الباب كليا، مما أدى إلى الانفجار. أعتقد أنه لايزال هناك طعم، بالمعنى النباتي للكلمة، للسياسة في المغرب. هناك أيضا فكرة المصالحة التي تعبر عن أن عنصر السياسة موجود عند النظام، عنصر الأخذ والعطاء، وعنصر المفاوضة، مهما كان محدودا. وهذا ما يمكن أن يراهن عليه المغرب، بالمقارنة مع الأنظمة الأخرى المغلقة تماما. ففي مصر مثلا لا توجد هناك مفاوضات مع أحد، بما في ذلك مع التجمع التقدمي العلماني : ممنوع التعبير، ممنوع التظاهر، ممنوع الاجتماعات. والوضع نفسه قائم في سورية: موجة الاعتقالات الأخيرة طالب مثقفين كلهم علمانيين، لا يوجد بينهم أي اسلامي. ولم ي يعتقلوا حتى لأنهم طالبوا بالديمقراطية بل لأنهم وقعوا بيانا مع المثقفين اللبنانيين يطالب بإقامة علاقات متوازنة بين سوريا ولبنان. كيف نريد لهذه المجتمعات أن تقبل بهذا الوضع، عندما يطلب من الناس الإذعان بدل الحوار والمفاوضات السياسية؟
-
هل هناك أفق للوصول إلى الدولة الوطنية الديمقراطية؟.
غليون:
نحن هبطنا كثيرا ما تحت الدولة الوطنية والدولة الديمقراطية في العالم العربي. أعني في معظم الأحيان لم يعد هناك لا دولة ولا وطنية ولا ديمقراطية طبعا. لكن مع ذلك من الصعب توحيد حالة جميع البلدان، بالرغم من اننا نعيش جميعا أزمة عميقة. فالأمر يختلف من بلد إلى بلد. فمثلا، في بلد مثل المغرب ليس الأفق مسدودا. بدل الحديث عن دولة وطنية ديمقراطية أفضل شخصيا الآن الحديث عن دولة أكثر عدالة، أكثر احتراما للقانون، أكثر احساسا بمشاكل الناس. دولة يدرك قادتها ونخبها أن السياسة ليست مناسبة أو وسيلة لتحقيق المصالح الخاصة، ولا مناورة من أجل الحفاظ على المصالح الخاصة لفئة معينة سيطرت على مواقع رئيسية في الدولة، بل هي خدمة عمومية. إذا أدخلنا هذا المفهوم، الذي هو أقل بكثير من مفهوم الدولة الوطنية والديمقراطية، نكون قد تقدمنا كثيرا .
- اي سيناريوهات للعالم العربي مستقبلا؟
غليون:
قد ندخل خلال العقد القادم في العديد من البلدان العربية حربا أهلية ونصبح في وضع يشبه وضع الصومال، أو ربما قد نصبح مثل أفغانستان، نقتل بعضنا البعض. لكن أعود لأقول أننا لا يمكن أن نعمم المسار نفسه على كل البلدان. فهناك بلدان مثل بلدان الخليج لها مسار مختلف كليا. الخليج يعيش في ثراء مادي استثنائي ويتمتع بحماية أمريكية . وتتنافس دول الخليج اليوم في ما بينها لبناء أكبر عدد من ناطحات السحاب في السنوات الأربع القادمة. وهم يعيشون في عالم ليس له علاقة مع عالمنا. بالمقابل هناك بلدان عربية لن يكون لها شاغل سوى البحث عن وسائل لإيجاد فرص عمل للمواطنين ومواجهة نتائج الافقار وتدهور البيئة وتضاؤل الموارد المحلية. من جهة أخرى، أشعر أن بلدان المغرب العربي، على العموم، تتمتع بشروط أفضل تسمح للتحول والتقدم السياسي، إذا وجد هناك وسيط خارجي، أي قوة ضغط خارجية، ليست عسكرية ولا سياسية، وإنما قوة ضغط معنوية، تدفع النخب الحاكمة الى أن تعترف بالمعارضات وتقبل بها وتفتح معها حوارات جدية. في تونس أيضا الوضع مسدود، ليس لأن المجتمع غير قابل للتحول، وليس لأن فيها إسلاميين، وليس لأن البلد متخلف اقتصاديا، بل لأن النخبة الحاكمة لا تريد أن تشارك أحدا على الإطلاق. تريد احتكار كل شيء. وهذا وضع خاص وواضح. في مصر ، الوضع ذاته تقريبا. الحزب الحاكم والرئيس الحاكم يريدان ان يكرسا الحكم للابن والعائلة والحزب. هذه الانسدادات هي التحدي الرئيسي الذي ينبغي مواجهته في السنوات القليلة القادمة من قبل المجتمعات. والسؤال هو : كيف سننجح في كسر هذه الانسدادات لفتح أفق المفاوضات بين الاطراف الداخلية؟ إذا لم ننجح في ذلك لن تكون هناك ثورات، أي مشاريع تغيير منظمة وواعية، وإنما ستكون هناك انفجارات دموية من دون أي مشروع سوى الاحتجاج والتمرد والرفض. وسنضيع الوقت أكثر مما سنربح أي شيء آخر. التحدي الذي تواجهه النخب، في الحكم والمعارضة والمجتمع المدني هو هذا: النجاح في فتح المفاوضات الداخلية أو الانحدار نحو الكارثة. في مقال سبق أن كتبته، دعوت إلى خلق مجلس للوساطة الدولية في حل الانسدادات الداخلية، واقترحت أن يتكون من شخصيات لها وزن معنوي كبير جدا مثل مانديلا وآخرين، هو نوع من لجنة حكماء عالمية، او لجنة مصالحة وإنصاف دولية وأهلية، تقدم مساعيها لمساعدة النخب الوطنية، في الحكم والمعارضة، على فتح مفاوضات أصبحت أكثر من ضرورية وعاجلة لتجنب الأسوأ، وفتح مسارب ومتنفسات للطوفان الجارف القادم. لقد أصبحت الحاجة ماسة في نظري لتفعيل هذا النوع من الضغط المعنوي الذي ربما كان أكثر فاعلية من الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية التي تدعي الدول الصناعية ممارستها أحيانا لوقف انتهاكات حقوق الانسان، والتي لم تعط نتائج تذكر. لكن المهم إطلاق ديناميكية فتح النظم على المعارضات والشعب أيضا. ذلك أن النظم مغلقة أساسا امام الشعب، وفتح المفاوضات مع المعارضة ينبغي أن يكون المدخل لفتح الطريق أمام مشاركة شعبية أكبر ، بل استعادة الشعب حقوقه السياسية وأحيانا المدنية المسلوبة.

lundi, juin 12, 2006

مخاض الديمقراطية العربية مقابلة الراية القطرية

الراية القطرية الأسبوعية

حوار مع المفكر الدكتور برهان غليون
الدكتور برهان غليون استاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السربون بفرنسا واحد من المهتمين باشكالية
الديمقراطية في العالم العربي. وهو من دعاة ان ينبع الإصلاح من الداخل. وهو يرفض طرح هؤلاء الذين يروجون للمشروعات القادمة من الخارج والتي ثبت فشلها وعجزها، خاصة النموذج الامريكي في العراق. وعلى هامش مشاركته في المنتدى السادس للديمقراطية والتجارة الحرة بقطر مؤخرا حاورته الراية الاسبوعية حول تقييمه للتجربة الديموقراطية العربية وتاليا حصيلة الحوار:
كيف تقيم ما يبدو انه تجارب ديمقراطية في العالم العربي خاصة في ظل وجود الضغوط الخارجية المتصاعدة والرغبة الداخلية الملحة بهذا الاتجاه؟
غليون
علينا هنا ان نمايز بين امرين: الاول ما تقدم عليه بعض الدول العربية من خطوات بهذا الاتجاه، والثاني تطور حركة النضال والكفاح من اجل تكريس الخيار الديمقراطي. وفي تقديري ان السنوات الاخيرة تميزت في معظم البلدان العربية ببروز انتقادات متزايدة لانظمة الحكم القديمة التي اتسم اداؤها بقدر من التسلط والابوية والشمولية وغير ذلك من اوصاف. واحسب ان ثمة لفظا حقيقيا من قبل الشعوب في المنطقة العربية لهذه النوعية من النظم التي سيطرت على الحكم طوال العقود المنصرمة. وهذا يعكس حالة تقدم باتجاه الخيار الديمقراطي. بمعنى ان الرأي العام العربي بات يطمح الى صيغ مغايرة في إدارة المجتمعات العربية لما كان سائدا في الماضي من صيغ تقليدية وقديمة وبائدة. هذا اولا، اما ثانيا فإن هناك إرهاصات لمجتمع جديد ينمو، أي انه لم تتبلور بعد قوى ديمقراطية نهائية، إنما ثمة بدايات لبلورة هذه القوى على الصعيد الفكري او التنظيمي او السياسي او على صعيد المجتمع المدني والتي من شأنها ان تمهد لظهور تجربة ديمقراطية بالمعنى الكامل للكلمة. وهنا لا يمكن تصور قيام ديمقراطية بدون قوى ديمقراطية سياسية او احزاب واعية وقادرة على ممارسة عملية المنافسة للوصول الى السلطة، واحترام الاراء والتعددية والوصول الى النتائج عن طريق الاقتراع والوسائل السلمية، كما لا يمكن تصور قيام ديمقراطية بدون تطور منظمات المجتمع المدني وتوسيع انتساب الافراد الى هذه المنظمات من اجل الدفاع عن مصالحهم.
ولا شك ان هذا ما يجري الان تدريجيا. وهو ما يجعلني اكرر القول ان المجتمعات العربية لم تدخل التجربة الديمقراطية، وانما هي في مرحلة مخاض يمكن ان يدفع بقوة باتجاه الوصول الى مرحلة الديمقراطية او عكس ذلك، بمعنى ان تستمر المنطقة زمنا أطول في مرحلة الفوضى الراهنة. وللخروج من هذه الحالة يبقى الأمر مرهونا بقدرة النخب السياسية والثقافية على تحمل مسئولياتها وبلورة رؤية جديدة وواضحة ومنسجمة للعملية الديمقراطية، ومدى انتظام الرأي العام في احزاب ديمقراطية حقيقية قادرة على الفعل وتحريك الجمود السياسي الى جانب قدرة الحكومات على الاستجابة لحركة التغيير، وعدم تبني مواقف تقود الى تكسير براعم الديمقراطية الناشئة، بالاضافة الى فعالية القوى الدولية فيما اذا كانت ستتبني سياسات اقليمية تفضي الى نضوج التجربة الديمقراطية ام توسع من قاعدة خوف المجتمع من الفوضى.
وبالطبع، كل هذه العوامل لا تخضع لسيطرتنا. ولكن يمكن القول ان المجتمعات العربية تواجه الان مخاضا جديدا باتجاه الخيار الديمقراطى.
على الرغم من الجدل الواسع حول الاصلاح والديمقراطية في العام العربي يبدو انه ليس ثمة استراتيجية للتعامل مع هذه الاشكالية كيف تقرأ ذلك؟
غليون:
ليست الأمور مجردة الى هذا الحد. فالنضالات الديمقراطية تأخذ أشكالا ملموسة. فهناك تجمعات تتبلور وأحزاب جديدة تولد وتتشكل، الى جانب قيام جمعيات ومنظمات متعددة تتكون للدفاع عن حقوق الانسان ومناهضة التعذيب والتنكيل بالسجناء. وهي لم تكن قائمة من قبل، وتشهد تناميا. كما ان هناك ممارسات مادية وحية كالاعتصامات والتظاهرات ومختلف أشكال الاحتجاجات للمطالبة باحترام الحقوق وتغيير بعض القوانين وإدانة الاعتقالات وإلغاء قوانين الطوارىء. وكل ذلك يجسد اتساع دائرة المطالبين بالديمقراطية. وهو ما يكرس قيما سياسية جديدة باتجاه الاعتراف بالاخر والتعددية وحقوق المواطنة واجراء انتخابات حرة، باعتبار ان ذلك يشكل اساسا لقيام سلطات ذات شرعية تقود عملية التقدم الاقتصادي والحضاري والثقافي والاجتماعي. ولا احسب ان احدا بات الآن يقف ضد تيار الديمقراطية بالذات على صعيد النخب الحاكمة.
لكن هذه النخب تمارس عكس ما تردده من اطروحات ديمقراطية؟
غليون:
قد تمارس عكس هذه الطروحات. لكن قضيتها خاسرة بالتأكيد في ظل تحول منحنى التيار العام في المجتمعات العربية نحو الخيار الديمقراطي، بعد ان ظل سائدا لفترات طويلة على مدى نصف القرن الماضي، القول بان تبني نظام شبيه بالنظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي السابق هو الذي من شأنه ان يحقق التقدم الاقتصادي والاجتماعي ويقود الى حل الصراع العربي الاسرائيلي.
اما اليوم، فان قيما وافكارا جديدة اضحت تهيمن على النخب الثقافية والفكرية. بل ان النظم السياسية اضطرت لتبني توجهات وأطر مغايرة تتوافق مع بروز الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الاكثر فعالية ونشاطا.
من الواضح ان التيار الاصلاحي في العالم العربي يشهد انقساما شديدا بين قواه واحزابه وثمة انشقاقات تشهدها قوى المعارضة الامر الذي يؤثر سلبا على فعاليتها الايخصم ذلك من رصيد الحراك السياسي الذي تشهده دول المنطقة؟
غليون:
ليس المطلوب ان تكون المعارضة جبهة واحدة. فهذا يمكن ان يتحقق ضمن اطار الصراع من أجل التغيير لتحسين فعالية قوى المعارضة. ولكن في الممارسة الطبيعية من المفترض ان تكون هناك احزاب متعددة ببرامج مختلفة. ومن ثم فإنه لا ينبغي ان ننظر الى التعدد القائم اليوم - رغم إفراطه احيانا - باعتباره امرا سلبياً. صحيح قد تنشأ احزاب من عدد محدود من الافراد، وتنشق احزاب اخرى الى جماعات صغيرة، الا ان ذلك يعكس حالة المخاض التي تمر بها المنطقة التي لم تكتسب السلوكيات والتقاليد الديمقراطية. وليس من السهل بناء الاحزاب والقوى السياسية والتنظيمات المختلفة. وهي عملية تتطلب متسعا من الوقت والجهد والثقافة والتراكم. ومن ثم فانه من الطبيعي ان تشهد المنطقة انقسامات وانشاقات وإعادة تركيب الأحزاب والتنظيمات القائمة. بل قد تموت أحزاب وتنشأ احزاب أخرى. وذلك في حد ذاته لا يثير أية مخاوف لدى. بيد ان الأمر الأكثر أهمية هو: إلى أي مدى تمتلك هذه النخب الجديدة التي تطمح الى تكريس الخيار الديمقراطي القدرة على تجاوز القيود المفروضة عليها من قبل النظم الحاكمة و لتمد الجسور مع المجتمع والرأي العام الواسع حتى تتمكن بالفعل من قيادته. هذا هو التحدي الهائل في تقديري امام هذه القوى.
يبدو لي ان السلوك الغربي تجاه نتائج بعض العمليات الانتخابية الأخيرة في المنطقة قد يشكل خطرا على التجربة الديمقراطية الناشئة في المنطقة العربية هل توافق على ذلك؟
غليون:
بالفعل ان السياسات الغربية منذ أكثر من نصف قرن مضرة بالديمقرطية والقوى الديمقراطية بالعالم العربي. ولا تزال تمارس دورا سلبيا فيما يتعلق بنمو القوى الديمقراطية حتى اليوم. وهنا أنا لا أتحدث عن انتخابات بقدر ما اتحدث عن قوى ديمقراطية، لأنه لا قيمة لأي انتخابات بدون وجود هذه القوى المنظمة والمبلورة في اطر تنظيمية وسياقات فكرية والتي تستطيع وحدها قيادة الجماهير وتوجيه جهودها نحو البناء والتقدم وتجنبها التمردات الانتقامية والتخريبية السلبية. فالديمقراطية ليست رديفا للفوضى ولكنها رديف لتأطير الجماهير، حسب رؤاها ومصالحها وبرامجها المتعددة، من اجل اعادة بناء النظام الاجتماعي على اسس تضمن المصالح المختلفة وتضع القواعد التي تقود المجتمع الى حل تناقضاته وصراعاته بالوسائل السلمية. ولا شك اننا ما زلنا في بداية هذا المسار. اما فيما يتعلق بموقف الدول الكبرى فانني اعتقد ان الولايات المتحدة حاولت في السنوات الأربع الماضية ان تصادر مطالب الديموقراطية من اجل ان تغطي على اجندة لا علاقة لها بقضية الديمقراطية على الاطلاق، أي أن تستخدمها لإضفاء قدر من الشرعية على مشروع سيطرتها وهيمنتها الاقليمية. وكما هو واضح في العراق وغيره من المناطق، تسعى واشنطن إلى تكريس هذه السيطرة من خلال تبني بعض شعارات الحركة الديمقراطية التي نمت خلال العقدين الاخيرين، عبر صراع عنيف مع الانظمة القائمة، سواء عبر مؤسسات المجتمع المدني او حقوق الانسان التي دخلت في معارك قوية من اجل الحصول على رخص تشكيلها، او نشاط النخب السياسية والثقافية التي ساهمت في نشاط هذه المؤسسات او نشوء بعض الأحزاب او الحركات المطالبة بالتغيير والاصلاح ومحاربة الفساد والغاء قوانين الطوارئ. ومن هنا ينبغي ان نفصل نهائيا بين الحركة الديمقراطية النابعة من رفض التسلط ورفض الفساد وإعادة إصلاح النظام الاجتماعي وبين محاولات الدول الكبرى ذات المشاريع الاقليمية لفرض الهيمنة والسيطرة على المنطقة من خلال استخدام شعارات هذه الحركة لتبرير سياساتها. وأحسب أن ما حدث في العراق يؤشر الى فشل هذه الدول الكبرى في تجيير أو استخدام الديمقراطية العربية من اجل اضفاء شرعية على مشروع همينتها على المنطقة.
كيف تفسر هذا التخويف من صعود الاسلاميين الى السلطة او البرلمانات في العالم العربي من خلال آلية الانتخابات سواء من قوى داخلية او قوى دولية؟
غليون:
لقد تم استخدام الاسلاميين لفترة طويلة كفزاعة من قبل بعض الانظمة. كما استخدموا من قبل الدول الكبرى من اجل ابتزاز الأنظمة وخلق تحالف بين النخب الحاكمة ومشاريع الهمينة الدولية. لكن ما حدث في السنوات القليلة الماضية ان بعض التيارات الاسلامية - وليس كلها - اتجه الى دائرة التطرف المطلق، مثل القاعدة وجماعة الزرقاوي وغيرهما. وهو ما وظفه الامريكيون على نحو جيد من اجل تضخيم مسألة الارهاب وتبرير العدوان في المنطقة وخارجها، فضلا عن مشاريع الهيمنة الدولية. لكن ثمة قسما من هذه التيارات وجد من مصلحته ان يتبنى طريقا اقرب الى الديمقراطية، وان يعيد النظرفي توجهاته وافكاره، وتحول الى قوى بوسعها ان تلعب دورا ايجابيا في تكريس الخيار الديمقراطي، وليس مجرد فزاعة منه. واظن ان التجربة التركية خلقت املا لدى قطاعات عربية عديدة بأنه بمقدور الاسلاميين، اذا تبنوا برامج معتدلة وقبلوا بالتعددية، ان يكونوا جزءا من نظام ديمقراطي قادم. ولاشك ان ذلك يمثل ارهاصات جديدة داخل الاسلاميين لا ينبغي تجاهل اهميتها. فكل القوى تمتلك القدرة على التطور والتغير والتحول بل والتحسن. وينطبق ذلك حتى على اوساط العلمانيين، وليس فقط الاسلاميين. فهناك فئات متطرفة واخرى معتدلة بينهم أيضا. وهناك تيارات اساسية تتجاوب مع الاحتياجات والاهداف الوطنية للمجتمعات العربية، مثلما أن هناك بعض التيارات الليبرالية الموغلة في تطرفها، والتى تعتقد ان التحالف مع امريكا والغرب هو الاساس لاحداث التغيير.
ان المشهد الفكري والسياسي في العالم العربي ما زال شديد التنوع. لكنه ما زال في مرحلة مخاض. وبالتالي لا ينبغي ان نصادر على تقدمه في المستقبل. وفي الوقت ذاته فانه لا يتعين ان ندينه كليا، أو ان نصفق له بكل اكفنا. وعلينا وحدنا تتوقف مهمة صياغة مسار هذه الحركة. فلا يجب ان نقف متفرجين عليها. وعلينا دائما التمييز بين ما يتفق مع المتطلبات الوطنية، معتدلا كان أو متطرفا، وما ينضوي تحت مشاريع الهيمنة الغربية
الراية الأسبوعية

dimanche, juin 04, 2006

الاستمرار في طريق الخطأ

الاتحاد 6 يونيو 2006
مهما كانت الأسباب التي دفعت القيادة السياسية والأمنية السورية إلى حملة الاعتقالات المكثفة الأخيرة التي توجت أشهرا طويلة من تعقب الناشطين الحقوقيين والسياسيين، يشكل زج أبرز المثقفين السوريين في السجن وملاحقتهم، في محاكم عسكرية ومدنية، بتهم خطيرة مثل تقويض هيبة الدولة أو إثارة النزاعات الطائفية أو قلب نظام الحكم أو التآمر مع قوى أجنبية، إساءة بالغة للنظام الحاكم أولا ولسورية ثانيا وللشعب السوري ثالثا، قبل أن تشكل إساءة لسمعة المثقفين ومكانتهم. وهي بعيدا عن أن تخدم النظام، تقدم لجميع أولئك الذين اعتقدوا أنه قد نجح في الأشهر الماضية في أن يستعيد توازنه، بعد ما أبداه من القلق على مستقبله في المرحلة الأولى من بدء التحقيقات في مقتل رفيق الحريري، ولأولئك الذين خيبت السياسات الأمريكية الهوجاء آمالهم، البرهان على أن النظام لا يزال يتخبط في أزمته السياسية والخارجية، ويتصرف كما لو أنه فقد الأمل نهائيا بالخروج من محنة الفراغ السياسي القاتل الذي يهدد استقراره، ولا يترك له، خارج دائرة القمع العسكري والامني، أي خيار. لقد جاءت حملة الاعتقالات الأخيرة لترسخ الاقتناع من جديد، لدى الكثير من الأطراف، بأن العدو الأول للنظام هو، في الحقيقة، النظام نفسه، وأن المعول الرئيسي الذي يجدر بالقوى الداخلية والخارجية المتخاصمة معه أن تراهن عليه لتقويض أسسه، هو تطرف النظام نفسه وفقدانه الثقة بذاته وبقدرته على البقاء، وليس الضغوط الخارجية أو بيانات المعارضة الديمقراطية.
كانت السلطات السورية تعتقد على ما يبدو أن الضرب بشدة على يد المثقفين والناشطين المدنيين الذين حلوا محل المعارضة في لتذكير بمخاطر الاستمرار على النهج القديم، سوف يمكنها من استعادة زمام المبادرة السياسية في الداخل بعد أن بدت خلال السنوات الماضية وكأنها تقف على مواقع دفاعية، في سبيل التفرغ للمواجهة الخارجية، التي لا يزال لبنان يشكل المسرح الرئيسي لها كما كان عليه الحال في السابق ولو بشروط مختلفة. بل ربما كانت تطمح، أكثر من ذلك، إلى استغلال مناخ المواجهة الخارجية هذه في سبيل فرض الامتثال والاصطفاف وراءها على المثقفين والناشطين السياسيين وإظهار سورية، كما كانت في التسعينات، ككتلة واحدة صلدة لا يمكن بأي حال تمييزها عن النظام الذي يسيطر على مصائرها، وبالأحرى فصلها عنه.
بيد أن نتيجة هذه الاعتقالات التي صدمت بطابعها المتطرف أوسع قطاعات الراي العام العربي والعالمي، الذي لم يشهد ما يماثلها في أي دولة أخرى منذ انهيار الكتلة السوفييتية وتقاليدها الأليمة، جاءت مناقضة تماما لما كان يتوقعه مصمموها. فهي لم تنجح، وما كان من الممكن لها أن تنجح، في ظروف التدهور الواضح في مواقع النظام الاستراتيجية، في أن تبث الرعب المنتظر منها في قلوب المثقفين والمنظمات المدنية، ولكنها عززت بالعكس الاعتقاد لدى جميع الأطراف بتفاقم أزمة النظام وتمثله، كما لم يحصل من قبل، منطق الحصار وما ينجم عنه من ردود أفعال تعكس الكثير من ضيق الصدر بالاختلاف، مهما كان محدودا، وبفقدان الأعصاب. وبدل أن تساهم في تحصين المجتمع ضد عدوى الحراك السياسي الذي انطلق من جديد في البلاد منذ تولي بشار الأسد الحكم في بداية الألفية الثالثة، قادت بالعكس إلى انتشار أفكار المعارضة خارج حلقاتها الضيقة القديمة، وشكلت أكبر حملة دعائية غير مقصودة لخدمة أهدافها. فبزجه المثقفين والناشطين في السجن قدم النظام القائم الدليل على أنه يخاف منهم ويأخذ على محمل الجد نشاطاتهم، وأن المعارضة ليست قوة مهملة أو لا وزن لها، كما بقي يردد منذ سنوات، وإنما هي قوة فاعلة بدليل أنها تشكل خطرا عليه. وليس هناك شك أن الحملة الواسعة التي شنتها الصحافة الرسمية على الناشطين السوريين لتوقيعهم على إعلان دمشق بيروت، وبهدف تبرير توقيفهم، قد ساهمت، كما لم تفعل أي وسيلة إعلامية من وسائل المعارضة، في فتح عيون الرأي العام بأكمله على وجود معارضة في البلاد، في الوقت الذي عمل فيه التضخيم من مخاطر نشاطها على القضايا الوطنية على زيادة صدقيتها ووزنها وبالتالي قدرتها على أن تشكل خصما فعليا للنظام.
كان من الممكن لمثل هذه الحملة أن تكون ذات نتائج معاكسة لو كان النظام لا يزال في مرحلة الصعود، كما كان عليه الأمر في الثمانينات، ولم تكن مواقعه قد تعرضت إلى التآكل في الداخل والخارج معا. لكن في الظروف الراهنة، حيث يسود التململ والقلق على المصير قطاعات واسعة من المجتمع، ويدفع تدهور الأوضاع المعيشية والسياسية معا إلى المزيد من النقمة وإرادة الاحتجاج، يؤدي التهويل من مخاطر المعارضة إلى فتح عيون الناس الذين يترددون في العمل ويفتقرون لقيادة سياسية يثقون فيها على السياسة والسياسيين ويؤكد لهم بأن المعارضة المنظمة ربما تكون البديل الوحيد لوضع أصبح اسمه رديفا للخوف والتطرف وعدم الاستقرار. ومن هنا، حتى وهي محنية الرأس والظهر تحت سيف الاعتقالات المسلط، وربما بسبب ذلك، تحصد المعارضة اليوم، بسبب فعل النظام نفسه، أضعاف ما كانت تطمح إليه من خلال نشاطاتها السياسية الخاصة الممنوعة. لقد أدخلت الحملة الإعلامية المغرضة والاعتقالات اللامعقولة، في أذهان جميع أولئك الذين يسحقهم الشعور بالهامشية والبؤس والغبن والظلم، من كل الطبقات والطوائف والأقليات، مفهوم المعارضة السياسية وقدمت لهم، في معاركهم القادمة، ناطقين رسميين كبار، هم بأمس الحاجة لمساعدتهم.
هكذا تحولت الحملة السياسية التي أرادت أن تضع حدا لوجود المعارضة، حتى في أشكالها المخففة المدنية والثقافية، إلى فضيحة للنظام الذي بدا وكأنه لا يعرف، في مواجهة المطالب والنداءات ودعوات الحوار الوطني الاجتماعية، سوى لغة الاعتقال والضرب والإهانة. لقد أظهرت حدود ثقة النظام بنفسه وشكه العميق، هو نفسه، بمصادر شرعيته، واستسهاله التعامل مع شعبه كما تتعامل نظم الاحتلال مع شعوب أجنبية أخضعتها بقوة السلاح.
لقد أحدثت الاتهامات الخطيرة غير المبررة، واستخدام العنف في مواجهة الانتقادات الفكرية والسياسية، ثغرة كبيرة في دفاعات النظام، بقدر ما أظهرت شكه هو نفسه بتأييد الشعب والرأي العام له، وقدرته على الاعتماد على حجج فكرية وسياسية مقبولة في وجه مناوئيه، ومن ثم بقدرته على الاستمرار. فأعطت الانطباع للجميع بأن السلطة تخوض معركة يائسة لا أمل فيها. ولا تحتاج المعارضة اليوم إلى أكثر من تعميم صور تهجم الصحافة وقادة أجهزة الأمن على المثقفين، وشتمهم والتنكيل بهم في السجون التي وضعوا فيها مع المجرمين، وأن تنشر نصوص الإدعاءات والتهم الموجهة لهم، والتي قالت الصحافة الرسمية نفسها أنها كفيلة بان تدينهم بالأحكام المؤبدة، وبعضها تنبأ حتى بعقوبة الاعدام، حتى تسقط آخر ما تبقى من أوهام لدى الرأي العام العالمي والعربي والسوري عن تطور النظام وقدرته على تجاوز عيوبه السابقة. أي حتى تحقق المعارضة ما عجزت منذ سنوات طويلة عن تحقيقه : إقناع الرأي العام بأن سورية لا تعيش في ظل نظام إصلاحي يحاول الخروج بالبلاد من الحفرة العميقة التي وضعها فيها نظام الحكم الفردي، ووصاية أجهزة الأمن، وإدارة شبكات المصالح الزبونية وأصحاب الولاء، وإنما تتلوى تحت سياط نظام صمم، حتى يضمن لنفسه البقاء والاستمرار، على العودة بشعبه نحو القرون الوسطى، والقفز عن كل ما حققته المجتمعات البشرية من تقدم في مجال تنظيم الحياة المدنية والسياسية، وما حققه المجتمع السوري نفسه من هذا التقدم، في القرنين الماضيين.
مهما كان الأمر، ستشكل هذه الاعتقالات التي تظهر درجة الاستهتار بالقيم والمعايير القانونية والسياسية المتعارف عليها، والمبالغة اللامعقولة في توجيه التهم، وتخوين رموز الوطنية والاصلاح، وكيل الشتائم المجانية لهم على صفحات الجرائد الرسمية، نقطة بارزة في تطور أزمة النظام السياسة ومستقبله. وبقدر مساهمتها في تعرية الواقع الذي جهد النظام خلال السنوات العديدة السابقة للتغطية عليه أو الهرب منه، أقصد واقع السلطة الضيقة والمعزولة التي تحكم بالقوة، ولا تنجح في الحفاظ على استقرارها واستمرارها إلا بالاستخدام الواسع للعنف، سوف تقلص أيضا من هامش المبادرة الواسع الذي بقي الحكم يتمتع به، بالرغم من كل شيء، في دوائر واسعة من الرأي العام العربي والعالمي. فإذا صحت حسابات النظام في المراهنة على أن وضعية الدول الغربية في المنطقة لا تسمح لها باستغلال هذه الحملة لتكبيل النظام بقرارات دولية وعقوبات جديدة، فإنها أخطأت في ما هو أهم من ذلك بكثير، أعني في الاحتفاظ بتعاطف قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي والعربي، الذي أصبح يخشى من أن يتحول موقفه المؤيد لسورية وشعبها ضد السياسات الغربية العدوانية، إلى غطاء لتبرير سياسات لا إنسانية، من المستحيل الدفاع عنها، وغض النظر عن التفرد بالسلطة، وتفريغ المجتمع من أي إرادة مستقلة، من خلال فرض الصمت والخنوع على قادته ورموزه ومثقفيه.
لقد أدخل النظام نفسه عبر حملة الاعتقالات الأخيرة في ورطة جديدة. فلم تعد الضغوط الموجهة إليه صادرة عن قوى عدوة أو منافسة، وإنما بشكل أكبر عن القوى الصديقة والمؤيدة التي أصبحت مضطرة إلى تمييز نفسها عنه، أعني عن قوى الرأي العام العربي والعالمي التي كانت أهم ورقة في يده لضبط الأوضاع الداخلية. ولولا الاستخفاف بالمعاناة المأساوية للمعتقلين وذويهم، لصدق القول بأن أجهزة الأمن السورية وقادتها قد قدموا بهذه الاعتقالات هدية لا تقدر بثمن للمعارضة. ولو كان هناك داخل أروقة السلطة من لا يزال يملك الحد الأدنى من الحس السياسي لبادر بأسرع وقت إلى الافراج عن المعتقلين، من دون انتظار استسلام لن يحصل مهما طال العقاب. ليس ذلك استجابة لنداءات منظمات حقوق الانسان، ولا خضوعا للضغوط الأجنبية، ولكن من أجل استعادة بعض الصدقية لنظام دفع به الخوف والشك من دون أن يدري إلى جعل العنف سياسة رسمية يومية، لدرجة أصبح فيها حلفاؤه أنفسهم يشكون في قدرته على تكييف سلوكه مع الحد الأدنى من المعايير القانونية، بل في مقدرته على السلوك بصورة عقلانية.