lundi, décembre 24, 2007

دفاعا عن تكتل إعلان دمشق


لا شك أن ما حصل في الانتخابات الأخيرة للمجلس الوطني لإعلان دمشق كان خطأ يحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى أعضاء الأمانة العامة السابقة للإعلان الذين لم يوفروا الظروف الضرورية لنجاح أول تجربة سورية لبناء تآلف سياسي عريض لم يكن ممكنا من دون إقناع الأحزاب بالتخلي عن الوصاية التي مارستها في السنوات الماضية على العمل الإئتلافي من جهة وجذب نشطاء آخرين مستقلين كثر جاهزين للتضحية لكنهم لا يملكون صورة ايجابية عن الحياة الحزبية السورية القائمة. ولا شك أيضا أن قبول القيادات الحزبية بتقليص دورها في الإئتلاف لصالح المستقلين كان تعبيرا عن ميزان القوى الذي نجم عن تجربة حقبة ربيع دمشق، والذي لعبت فيه النخبة المثقفة المستقلة دورا رائدا، بينما بقيت الأحزاب لفترة طويلة عاجزة عن اللحاق بها أو رفد الحركة بعناصر ونشاطات وأفكار جديدة كانت بامس الحاجة لها.
لكن ليس هناك أي سبب لتحويل هذا الخطأ، كما يفعل البعض، إلى مناسبة للتشكيك بنوايا الأطراف أو للنزاع والدعوة للانقسام. وليس من الصعب كذلك على الإعلان أن يتجاوز هذا الخطأ إذا أدرك الجميع حجم الرهانات المرتبطة بالمحافظة على التكتل الذي يمثله الإعلان. فبصرف النظر عن أخطائه ونقاط ضعفه الكثيرة وتعثره هنا وهناك، يمثل الإعلان اليوم الأمل الوحيد عند الرأي العام لنشوء معارضة ديمقراطية فعلية في البلاد تجمع بين مختلف أصحاب الرأي السياسي وتوحد جهودهم لتحقيق هدف التغيير الديمقراطي وعودة الحياة السياسية الطبيعية للبلاد. وليس من المؤكد أن التضحية بهذا التكتل الذي تطلب انشاؤه واستمراره حتى الآن جهودا مضنية، سوف يفتح الباب أمام نشوء تكتل آخر أو حركات ديمقراطية أخرى. وعلى الأغلب سيكون البديل عنه التفتت والتمزق والاقتتال الدائم بين القوى السياسية السورية ونزوع كل منها إلى اتباع استراتيجية خاصة به، فيذهب الكرد في اتجاه، والاسلاميون في اتجاه آخر، والقوميون في اتجاه ثالث واليساريون كذلك، ولن يبقى هناك ما يؤلف بينهم أو يجمعهم. بمعنى آخر، يشكل الحفاظ على إعلان دمشق مصلحة وطنية بقدر ما سيكون انقسام الإعلان أو إضعافه برهانا على عجز القوى السياسية القائمة عن التآلف ودفعها نحو توجهات سلبية، مضرة بمستقبل البلاد، لا مقدمة لتآلفات جديدة. لذلك مهما حصل من نزاعات واختلاف في وجهات النظر الفكرية والسياسية ينبغي السعي إلى حلها ضمن الإعلان وفي الصراع داخل صفوفه. وهذا هو أصلا الطريق الوحيد لتطوير حركة سياسية جدية لا يمكن نموها إلا من خلال تراكم الخبرة عبر الصراع الفكري والسياسي داخل الإطار الواحد. ولا يعني الانسحاب من الإعلان سوى الانسحاب من المعركة التي ينبغي أن تخاض داخل الإعلان وفي سبيل تحسين عمله ونظامه، وبالتالي المساهمة في إضاعة فرصة بناء تآلف ديمقراطي لزمن غير معلوم.
نشأ التكتل الذي يمثله الإعلان عن اجتماع عنصرين رئيسيين لا يمكن استمراره من دون مراعاة مصالحهما معا. العنصر الأول هو القوى الحية النشيطة للمثقفين الذين أحيوا ربيع دمشق وفرضوا لأول مرة في تاريخ سورية البعثية، بعد نهاية السبعينات، حركة مطالبة ديمقراطية قوية وفاعلة أثارت اهتمام الرأي العام ووجهت أنظاره نحو المشاكل الكبيرة التي تعاني منها البلاد، والتي لا تقتصر على الأمور السياسية وإنما تتجاوزها إلى المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والاستراتيجية والبيئية أيضا. أما العنصر الثاني فهو القوى الحزبية التي تمتلك بعض الخبرة التنظيمية في العمل السياسي والتي نجحت في البقاء على قيد الحياة خلال العقود الطويلة الماضية من عمر الديكتاتورية، بالرغم من أنها خرجت مدماة منها. ولا يمكن للتآلف أن يستمر ويتقدم ما لم يتم التفاهم بشكل واضح بين هذين العنصرين، وأن لا يسعى أحدهما إلى تجاوز مصالح الآخر أو عدم أخذه بالاعتبار. فلا يمكن للمثقفين مهما سما كعبهم في النشاط الفكري والسياسي أن يبنوا قوة سياسية منظمة من دون الاستفادة من تجربة الأحزاب، ولا يمكن للأحزاب أن يتحولوا إلى قوة فاعلة ويخرجوا من القبور التي دفنتهم فيها الديكتاتورية من دون التفاهم مع النشطاء المستقلين والتعاون معهم وإفساح المجال أمامهم للاتصال بالرأي العام والتفاعل معه.
وقد جاءت صيغة المجلس الوطني الموسع للرد على حاجة قيام مثل هذا التحالف بين نخبتين، مثقفة جديدة وسياسية قديمة. ولم يكن من السهولة تحقيق التفاهم السريع بينهما بسبب اختلاف أساليب التفكير والعمل والخبرة الماضية لكليهما. لكن الصعوبة الاكبر كانت ولا تزال كامنة في النزاع بين أطراف النخبة الحزبية نفسها. وربما لم يكن للأزمة الراهنة سبب آخر سوى سعي بعض أطرافها لتعزيز تحالفها مع المثقفين في مواجهة الأطراف الأخرى. وبهذا المعنى نشأ خطان داخل التكتل، لا ينبع خلافهما من الاختلاف حول المباديء أو الأفكار والقيم والأهداف المنشودة وإنما من الاختلاف في الأمور الإجرائية المتعلقة بالاستراتيجية والتكتيك كما نقول عادة. وقد دفعت جدلية التنافس بينهما إلى إقصاء طرف لحساب الآخر، ليس بمعنى تقصد الاستبعاد، كما تشيعه نظرية المؤامرة، وإنما بمعنى حسم الموقف السياسي.
ربما كان ارتباك موقف الاتحاديين في الاجتماع الموسع هو الذي هز قناعات الناس إزاءهم. وربما كان سببه ما يبدو من جمود على موقفهم من قضايا القومية والعلاقات الخارجية. وربما كان السبب التشكيك الذي أشاعه خصومهم بصلابة موقفهم أو موقف بعضهم إزاء النظام بسبب مشاركتهم له في الايديولوجية القومية. لكن من المؤكد، وهذا ما سمعته أنا نفسي على أكثر من لسان، أن أحدا لم يكن يريد أو يتصور أن لا يحصل زعيم الاتحاد على الأصوات اللازمة لعبور الامتحان الديمقراطي. وأنا أعتقد أن سقوطه كان مفاجأة للجميع، بمن فيهم من لا يشاركونه التفكير نفسه. ولا شك أن الضغوط الأمنية التي يتعرض لها أعضاء المجلس جميعا، والشعور بفراغ الصبر من الأوضاع المتردية، قد شجعت قسما كبيرا منهم إلى تبني موقف الحسم. لكن المهم أن ما حصل يعكس أن هناك مشكلة تستدعي الحل، وأن الذين أداروا عملية توسيع المجلس لم تكن لديهم سيطرة كافية على الوضع.
ومع ذلك لا ينبغي أن يقلل ما حدث من قيمة انعقاد المجلس الوطني لتكتل إعلان دمشق. فقد عبر انعقاد هذا المجلس وتوسيعه عن تقدم كبير في الحركة الديمقراطية السورية، على المستوى السياسي والتنظيمي معا. فهناك من دون شك رضى واسعا لدى جميع الأطراف، بما فيها قادة الاتحاد الاشتراكي، عن الوثائق السياسية التي تمت بلورتها خلال نقاشات طويلة بينها. كما ان الصيغة التي تبناها المجلس تمثل في نظري تقدما كبيرا في مفهوم العمل الإئتلافي المشترك. فما حصل لم يكن مجرد انتخاب هيئة قيادية جديدة وإنما تغييرا في قواعد انتخاب القيادة، يلغي وصاية الأحزاب على الحركة الديمقراطية بقدر ما يجعل العضو والقيادي الحزبي متساويا مع غيره من الأعضاء غير الحزبيين، في حظه من النجاح أو السقوط. وهذا يعني أن ما شهده المجلس الموسع الأول كان إعادة تأسيس التكتل لا ترميما له، وتطبيقا لقاعدة جديدة تضعف من أثر الانتماءات الحزبية لصالح بناء حركة تتجاوز الأحزاب وتجذب العناصر النشطة التي تكثر خارج الأحزاب، بسبب ما تعرضت له هذه في العقود الماضية من حصار وتجميد وتهديد. وهذا موقف متقدم جدا في نظري، ما كنت أنا نفسي أعتقد أن جميع الأحزاب ستقبل بتبنيه.
يظل من المؤسف دون شك أن تكون عملية التأسيس الجديد هذه، مع ما تحمله من إمكانيات وآفاق كبيرة، قد تعرضت لأزمة منذ البداية بسبب بعض الأخطاء الناجمة عن عدم إدراك حساسية التمثيل الحزبي في المراحل الأولى لإطلاق الحركة، حتى لا يحصل ما حصل ويقدم المجلس الوطني بصيغته الجديدة ذريعة لأولئك الذين يرفضون التغيير أو يخشون نتائجه على مواقعهم المكرسة، لطرح مسألة إعادة النظر في قاعدة الانتخاب الديمقراطي هذه والعودة إلى نظام "الكوتا" للأحزاب. مما يعني انتكاسة كبيرة لحركة المعارضة الديمقراطية ونكوصا نحو النزاعات العقيمة التي جمدت عمل الإعلان خلال السنتين الماضيتين بعد تأليفه.
يستدعي تحصين النجاح الذي تجسد في انعقاد المجلس وصيانته تجاوز الأخطاء الماضية والتاكيد على أهمية احترام مكانة القوى الحزبية في الإئتلاف من دون تعريض الصيغة القائمة والايجابية للخطر. فهي وحدها التي تفتح على الأجيال الجديدة وتقدم لها أملا في مشاركة مفتوحة وواسعة في قيادة الحركة الديمقراطية. كما يستدعي مراجعة سياسية وامتحانا للضمير، وربما اعتذارات متبادلة من قبل الجميع، لكن مع التأكيد على عدم شق الإعلان أو إضعافه أو الانسياق وراء مشاعر الإحباط والفشل وتدمير ما تحقق حتى الآن من نجاحات بالرغم من الاعتقالات المستمرة والضغوط. وسيقوى الاتحاد الاشتراكي ودوره في التكتل أكثر إذا قرر وضع المصالح العليا للإعلان فوق المصالح الحزبية، واكد إنتماءه وتمسكه بالاعلان واستمر بنشاطة في الدفاع عن المعتقلين السياسيين وفي دفع الشكوك عن أهداف التكتل وقيمه ومبادئه مع بقية الأعضاء الآخرين.
ولا أعتقد أن التمسك بالإعلان يلغي الحق بالتعبير الصريح عن الاختلاف في وجهات النظر أو في النقد. لا ينبغي أن نتبع قاعدة النظام الاستبدادي التي تعني وقف أي تفكير داخلي باسم الضغوط الخارجية. إذا أردنا أن تعيش المعارضة وتتطور، ينبغي أن نتعلم كيف نقاوم الضغوط ونستمر في نقاشنا الداخلي معا، وأن ننجح في أن لا نجعل من الضغوط ذريعة لوقف جدلية التفكير الداخلي، ولا من النزاع الناجم عن اختلافنا ذريعة للتشكيك بالتكتل والدعوة للانقسام. بالعكس بقدر ما ننجح في الحفاظ على الجدل الفكري من دون انقسام، نحبط الضغوط القمعية ونظهر أنها من دون معنى وفائدة. ذلك أن أحد أهداف الضغوط الأساسية هو تجميد الحركة السياسية واعتقال الفكر قبل اعتقال الجسد، فكر المعارضة وديناميكية تطورها ونموها الذي لا يحصل من دون النقد والنقد الذاتي والتصويب. وهذا يعني أيضا أننا لا ينبغي أن نخاف من النقد حتى ونحن نتعرض للضغوط والاعتقالات، وان الذين يشككون داخل الإعلان بأصحاب الرأي المخالف لا يخدمون الإعلان ولكنهم يشاركون في تحقيق أهداف الضغوط الأمنية : أي دفع المعارضة إلى الانشقاق عن طريق تحويل النقد إلى خصام، وإظهار عدم قدرة الإعلان على التماسك في وجه الضغوط والأخطار المحيطة.
باختصار، لا ينبغي أن يحرمنا الضغط الأمني من الاستمرار في ديناميكية تطوير قوانا الذاتية الفكرية والسياسية والتنظيمية، ومن إغناء حركتنا الديمقراطية بالنقاش الداخلي المشروع والمثمر. ولا ينبغي أن نسمح للاستبداد أن يشجعنا على التغطية على اختلافنا، ويمنعنا من التفكير فيه، وبالتالي للخروج منه بحلول مقبولة للجميع والتوصل إلى أرضية صلبة تضمن استمرارنا وتماسك صفوفنا. إن أعظم مساهمة في الدفاع عن المعتقلين السياسين، من أعضاء المجلس الوطني ومن خارجه أيضا، تكمن في الحفاظ على المكاسب التي تجسدها وحدة المعارضة الديمقراطية داخل المجلس الوطني، واحتواء الأزمة التي تعرض لها، وتجاوزها للوقوف صفا واحدا أمام آلة القمع والاعتقال. وكما لا نكف نحن أنفسنا عن تذكير النظام بأن أساس الوحدة الوطنية احترام الاختلاف، تشكل كفالة حق الاختلاف والتعبير عن الرأي المخالف داخل الإعلان الضمان الرئيسي للحفاظ على وحدة الإئتلاف القائم وترسيخ أسس بقائه وتطوره. ولا يقل الضرر الناجم عن تشكيك بعض أعضاء الإعلان بنوايا المخالفين في الرأي، أو في أهدافهم وتشويه طروحاتهم، عن الضرر الذي يحدثه تشكيك بعض المناهضين للتوجه الراهن للإعلان في نوايا أصحابه وتشويه طروحاتهم. وحتى لا يتحول النقد إلى محاسبة على النوايا، ونسقط في المحنة نفسها التي يعيشها الشعب بأكمله بسبب تبني النظام هذه الممارسة، علينا أن ننظر إلى أي اختلاف، مهما كانت النوايا الكامنة وراءه، على أنه تعبير عن قراءة مغايرة للأحداث، وعن وجهة نظر مختلفة في التحليل، تستند ربما على معطيات ناقصة أو غير مكتملة لكن لا تستبطن موقفا معاديا، وتبقى بالتالي وجهة نظر مشروعة، تستحق المناقشة والاحترام، ولا يمنع شيء من تجاوز الخلاف الذي تجسده عن طريق الحوار والنقاش. من دون ذلك ليس هناك ما يضمن أن لا يتحول الاختلاف الفكري والسياسي إلى إدانة أخلاقية أو سياسية للغير المختلف، ويصبح هو بدوره حاضنة لنزاعات متجددة ومولدا لانقسامات لا تنفذ. والنتيجة لا ينبغي للاختلاف أن يهدد الوحدة ولا للوحدة أن تمنع الاختلاف.

mercredi, décembre 19, 2007

مستقبل المعارضة الديمقراطية في سورية

الاتحاد 19 ديسمبر 07

لا أعتقد أن حملة الاعتقالات التي تعرض لها أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق بعد أسبوع من انتخاب هيئاته القيادية، ومنع الأمانة العامة المنتخبة بالقوة من عقد أول إجتماعاتها، سيقضيان على النجاح الكبير الذي مثله بالنسبة للمعارضة الديمقراطية السورية انعقاد مجلسها الموسع، في الأول من ديسمبر 2007. فقد كرس انعقاد هذا المجلس وجودها كقوة داخلية لا يمكن تجاهلها، وأكد أنها ليست طفرة سطحية وإنما موجة عميقة تعكس وقائع بنيوية، في مقدمها ولادة نخبة ليبرالية تتغذى من انحسار أفكار الاشتراكية على الصعيد الدولي وتحول البلاد نحو اقتصاد السوق، وما ينجم عنه من تمايزات وتوترات طبقية جديدة، وعطش الجمهور إلى لغة تقطع مع أدبيات البيرقراطية الحاكمة التي فقدت صدقيتها وترفض أن تخضع سيطرتها الطويلة لأي استفتاء شعبي. ولن تنجح الحملات الأمنية في تغيير هذا الواقع البنيوي الذي يجعل من المعارضة حاجة عضوية في سورية ما بعد ربيع دمشق لعام 2001. ولن يكون لها في الظروف القائمة أثر آخر سوى تأكيد وجود هذه المعارضة وتعزيز حضورها وصدقيتها أمام جمهور يتطلع إلى قيادة جديدة، في ظل أزمة الانتقال المؤلم نحو نظام الرأسمالية الطفيلية والوحشية معا، نظام المضاربات المالية والعقارية ووضع اليد على موارد الدولة وأملاكها من دون توفير الملكيات الخصوصية أيضا.
بيد أن هذا النجاح لا ينبغي أن يخفي عنا الأزمة الفكرية والسياسية التي تعيشها الديمقراطية العربية عموما والسورية بشكل خاص. فقد ظهرت المعارضة وتبلورت فكرة تكتل إعلان دمشق في فترة ازدادت فيها الآمال باحتمال حدوث تطور دراماتيكي على الأحداث نتيجة تبدل الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة في اتجاه التخلي عن سياسة ما كانت تسميه دعم الاستقرار والحفاظ على الوضع القائم اولا، وبروز سيف المحكمة الدولية المسلط على النظام في سياق التحقيق بمقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ثانيا. وقد رفعت هذه الظروف الاستثنائية من سقف التوقعات في صفوف الرأي العام، ودفعت المعارضة إلى تبني استراتيجية قصيرة المدى، وخط سياسي رديكالي لا يأخذ ميزان القوى الداخلي بما فيه الكفاية بالاعتبار، مركزا بالمقابل على احتمال تطور الاوضاع الإقليمية والدولية. بيد أن تبدل هذه الأوضاع بعد انهيار استراتيجية السيطرة الأمريكية المنفردة على العراق، وتراجع واشنطن عن سياستها الجديدة الرامية إلى تغيير الأوضاع الإقليمية، أفقد هذه الاستراتيجية مبررات وجودها، بينما صار من الصعب على من صعد إلى شجرة التغيير الفوري أن يقبل بالنزول عنها والتكيف مع استراتيجية طويلة المدى تأخذ بالاعتبار حاجات بناء قوى التغيير الديمقراطي، ولا تعيش على أوهام الضغوط الخارجية أو تركن إليها.
أمام العجز عن تطوير استراتيجية واقعية وعقلانية للرد على التغير الحاصل في مسار الصراع من أجل الديمقراطية سوف تبرز في صفوف المعارضة السورية نزعتان متعارضتان ومتكاملتان معا : نزعة الهرب إلى الأمام والتطلع المتزايد نحو الخارج، ومن ضمن ذلك اكتشاف قيمة المعارضة الخارجية والسعي إلى الربط معها، ونزعة التراجع إلى مواقف ما قبل ربيع دمشق والتكيف السلبي مع نظام السيطرة الأحادية والشمولية. وهكذا سينتقل النزاع ضد النظام الواحدي الذي صبغ السنوات الأولى من تكوين المعارضة نحو الداخل، ويتحول إلى صراع بين أصحاب النزعتين من أجل السيطرة على الإعلان. وفي هذا الإطار ينبغي تفسير ما حصل في الانتخابات الأخيرة للمجلس، وأدى إلى اقصاء ممثلي أحد أهم الشركاء في تكوين الإعلان، حزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي، من قيادة التشكيل السياسي الجديد، وقاد هذا الحزب إلى تجميد عضويته في الإعلان. ومن الواضح الآن، وهو ما كنت قد لمسته في لقائي بعدد كبير من أعضاء المجلس في جلسة الغداء الذي أقامه النائب السابق ورئيس الأمانة العامة للإعلان رياض سيف بمناسبة زيارتي لدمشق، أن هناك خطين يتنازعان الإعلان. الخط الذي يعتقد أن المشكلة كامنة في ضعف إرادة البعض وخوفهم من التصعيد ضد النظام، وبالتالي لا حل لأزمة الإعلان إلا في عزلهم. وهو الخط الذي يرفض المراجعة والنظر في التجربة الماضية والتحليل الموضوعي للوضع الوطني والإقليمي والدولي، ويهرب لذلك من مسألة ضرورة بلورة رؤية نظرية واضحة وخطة طريق تؤلف فعليا بين جميع تيارات المعارضة، مكتفيا بالتفاهم المبدئي حول شعار الديمقراطية. والخط الثاني الذي يدعو للتمهل والحيطة ويراهن على تنشيط المشاعر والقيم الوطنية التاريخية للحد من جموح بعض الأطراف إلى التطلع نحو "المساعدة" الخارجية والتعلق بوهم مفعول المحكمة الدولية. وقد قاد الحسم الذي سعى إليه البعض في هذا النزاع إلى تفجير أزمة التكتل الكامنة اكثر مما قدم حلا لها. فأضيفت أزمة انعدام الثقة داخل قوى الإعلان إلى الأزمة الأشمل المتعلقة بالعجز عن بلورة رؤية عملية للتحرك في إطار سياقات إقليمية ودولية جديدة تتطلب تخفيض سقف التوقعات وتطوير أساليب عمل أكثر انخراطا في الواقع اليومي للناس وأكثر إبداعية ومرونة.
لا اعتقد ان هناك مهربا بعد الآن لقوى الإعلان، إذا أرادت أن تتجنب النزاعات الداخلية وتهيء نفسها لمعركة الحرية الطويلة، من التراجع عن سياسات الإقصاء وفتح مناقشة واسعة بين صفوفها لدراسة التجربة الماضية، بما فيها تجربة الانتخابات الأخيرة الإشكالية، في سبيل الانتقال إلى مرحلة جديدة تعتمد أرضية سياسية واضحة تنال قبول جميع الأطراف، وتؤسس لخط بديل يقطع مع نزعة الهرب إلى الأمام أو النكوص إلى تكيفات ما قبل ربيع دمشق، ويؤكد على المباديء والقيم الملهمة للتغيير، لكنه يتعامل بصورة إبداعية مع الأساليب والوسائل، ويقيم حساباته على أسس أكثر واقعية وعقلانية، لا يتجاهل العوامل الخارجية المساعدة، لكن لا يبني حساباته عليها، ويتمسك بالقيم الوطنية والاستقلالية العربية، لكن من دون أن يفصلها عن مسائل التحول الديمقراطي والاجتماعي أو يجعلها بديلا عنها.
وهذا ما يتطلب التخلي عن الاستراتيجية القديمة التي ارتبطت بتوقع انهيار مفاجيء، وتبني استراتيجية عمل بعيد المدى لا تراهن على تغيير سريع، ولا تسلم بالأوضاع القائمة، محورها بناء القوى الذاتية التي لا غنى عنها لقيام سلطة ديمقراطية وطنية في أي حالة من حالات التغيير، سواء أكان من النوع المفاجيء او التدريجي. وأساس ذلك ربط برنامج الصراع وأساليبه وأجندته بأجندة هذا البناء، لا بأجندة الضغوط الخارجية أو أجندة مقاومة النظام نفسه لهذه الضغوط.
لا تنبع الحاجة إلى بلورة رؤية أكثر شمولية للعمل الديمقراطي السوري من متطلبات إعادة لحم قوى الإعلان على أسس أكثر صلابة وتمكينها من تجاوز أزمتها الفكرية والسياسية فحسب، وإنما أكثر من ذلك من أهمية مثل هذه الرؤية في تقريب قطاعات الرأي العام وأصحاب المصالح الاجتماعية الكبرى المختلفة وربطها بالمعارضة الديمقراطية. وشرط ذلك تبنى إعلان دمشق قضايا هذه القطاعات وإبراز قدرته على السير بها إلى الأمام. من دون هذا الاستثمار في القضايا الاجتماعية التي تشغل الناس، لن يستطيع الإعلان فك العزلة المضروبة عليه، وسيضطر، للتعويض عن ذلك، إلى الاستمرار في تغذية الأوهام الكبيرة في أثر العوامل الخارجية، وفي تقديم الوعود الكاذبة التي ستترجم لا محالة في المستقبل على شكل إحباطات متتالية للرأي العام ولقوى وأعضاء إعلان دمشق أيضا.
فليس هناك شك ان التغيير الديمقراطي هو محور أي تغيير ايجابي في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السورية، لكن هذه المقولة تظل مقولة تجريدية ما لم تنجح القوى الديمقراطية نفسها في ربط المسألة الديمقراطية بمسائل الحياة اليومية للناس وتظهر بالممارسة الانعكاس الايجابي للعمل السياسي الديمقراطي على تحسين شروط حياة السكان وكسب معاركهم المطلبية. فشعار الديمقراطية ومطلبها يحركان بشكل مباشر النخب الثقافية والسياسية الراهنة ويجذبان إليهما الفئات الأكثر نشاطية من أبناء الطبقة الوسطى المتهاوية. بيد أنهما لا يعنيان شيئا في طابعهما المجرد والإعلاني بالنسبة للطبقات الشعبية التي تخوض معركتها المصيرية في سوق العمل ومع الإدراة والدولة والقانون لتامين الحد الأدنى من شروط معيشتها المادية وكرامتها المعنوية كل يوم بيومه . وليس من السهل عليها أن تدرك، وهي تخوض معركتها هذه، أهمية التحولات الديمقراطية وأثرها الايجابي على تحسين شروط معيشتها وحياتها كي ما تشعر بقيمة التضحية من أجلها. حتى يحصل ذلك ينبغي على المعارضة الديمقراطية أن تدخل في عالمها هي، وتأخذ بيدها في المشاكل التي تواجهها، فتكون عينها ومخيلتها وذراعها. وهذا لا يعني التخلي عن القضايا السياسية الكبرى وفي مقدمها الديمقراطية، وإنما الانشغال بشكل اكبر في القضايا المطلبية، ومشاركة الناس همومهم اليومية، والانخراط في معاركهم ومقاوماتهم. هذا هو الطريق الوحيد لتحويل الديمقراطية إلى معركة وطنية جامعة لكل فئات المصالح الاجتماعية، ولتقديم أفق وطني (ديمقراطي) يضمن نجاح النضالات المطلبية في الوقت نفسه، وبالتالي ضمان انتصار حركة التغيير ذاتها.
لكن، مهما كان الأمر، لن تستطيع المعارضة الديمقراطية السورية أن تتقدم في تحقيق برنامجها وأن تحل مشاكلها الداخلية والخارجية، النظرية والعملية معا، ما لم تصبح ثقة أعضائها بقدرة السوريين على تحقيق التغيير أكبر من رهانها على مفاجآت التاريخ واستثناءات الجيواستراتيجية، وايمانها بإمكانية إبداع أساليب عمل ومقاربات ناجحة وفعالة لفكفكة نظام القهر أكبر من تسليمها بالطرائق والأساليب السهلة والسريعة السائدة لمناهضته وإبراز عيوبه ومثالبه. فإذا كان من الصحيح أن السوريين لن يستطيعوا تغيير الأوضاع نحو الديمقراطية ضد إرادة القوى الإقليمية والدولية، فمن الصحيح أكثر أن أي تغيير ديمقراطي حقيقي لن يكون ممكنا من دون مشاركة السوريين وحضورهم الكثيف والحاسم في صنع تاريخهم وتوجيهه. ولا أعتقد أن هناك وسيلة لتغيير المواقف الإقليمية والدولية نفسها من مسألة الديمقراطية السورية من دون تطوير هذه المشاركة وتعزيز ذاك الحضور.

mercredi, décembre 05, 2007

بين العداء للغرب ومقاومة سياساته

الاتحاد 5 ديسمبر 07

فوجئت الحكومات العربية جميعا بالتغيير الذي طرأ على استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الاوسط بعد احداث 11 سبتمبر 2001. ونظر معظمها إلى إصرار واشنطن على القيام بإصلاحات سياسية واجتماعية لضمان الاستقرار على المدى الطويل،على أنه خطأ جسيم ليس من منظور مصالحها فحسب وإنما من منظور مصالح الولايات المتحدة نفسها. فهو الطريق المباشر نحو زعزعة الاستقرار وربما زوال الأنظمة نفسها. وهكذا لم تتردد الحكومات العربية، بالرغم مما يحمله ذلك من مخاطر على مستقبلها، في إظهار الاختلاف مع واشنطن، والعمل على ثني هذه الأخيرة عن موقفها. فلم يكن الأمر يتعلق بمصالح جزئية تعني الدولة ككل أو المجتمع وإنما بمصير الحكومات والنظم القائمة بأكملهما. وفي أقل من سنتين نجحت الحكومات العربية، من دون القيام بأي تغيير، في إقناع واشنطن بأن مشاريع الاصلاح الطموحة ليست في صالح أحد، لا حكومات الشرق الأوسط ولا الولايات المتحدة. ومع التهدئة الأمنية الحاصلة في العراق وإطلاق مفاوضات جديدة للسلام من أنابوليس، رجعت المياة إلى مجاريها أو تكاد.
هكذا، بفضل توافق المصالح، يمكن القول أن الحكومات العربية فهمت أمريكا أكثر مما فهمت أمريكا نفسها، وساعدتها على العودة إلى الطريق الصحيح لحفظ مصالحها، لأن هذه المصالح متضامنة فعليا مع مصالح القوى العربية التي يستند إليها اليوم الوضع أو النظام الاقليمي لحقبة ما بعد الحركة الشعبية القومية العربية. والقاعدة الرئيسية لهذا النظام، والحلف الأمريكي العربي الذي يحمله، هي المصلحة المشتركة في تغييب الشعوب العربية عن تقرير مصيرها السياسي ونزع السيادة عنها.
في هذه المعركة كما في العديد من المعارك الأخرى المتعلقة بالإصلاح والتغيير استخدمت الحكومات العربية على مختلف اتجاهاتها، وهي تستخدم في كل مناسبة، العداء للغرب لحرف انتباه الرأي العام العربي عن المشاكل والتحديات الداخلية وتوجيه تقمته نحو الخارج. وفي هذا السياق عملت ولا تزال على نشر مفهوم لهذا العداء يتجاوز رفض سياسات البلدان الغربية نحو رفض حضارتها وثقافتها وكل ما يرتبط بها وبتاريخها وهويتها. واستفادت وتستفيد من استفزازات بعض القوى العنصرية الغربية لتجعل من كره الغرب ككل وسيلة لإقامة حاجز لا يمكن عبوره بين الرأي العام ومكتسبات الحداثة السياسية والقانونية والمدنية، ولتعبئته من وراءها، وطرح نفسها ونظمها كما لو كانت قلعة الحماية من السيطرة الثقافية أو السياسية الأجنبية.
هكذا، نجحت النظم العربية بربطها السياسات الغربية والامريكية بثقافة الغرب وحضارته وهويته، بدل أن تنظر إليها بوصفها خيارا سياسيا للنخب الحاكمة، كما هو الحال مع المحافظين الجدد في واشنطن، في أن تحول العداء للسياسات الغربية إلى عداء للغرب، وتجعل من التعبئة المستمرة ضده بديلا عن تحليل اختيارات عواصمه، الاستراتيجية والسياسية، المتعددة، وحائلا دون بلورة أي سياسة عربية ايجابية، أي ناجعة وفعالة، بهدف تحقيق اختراق في أوساط الرأي العام الغربي، والعمل عليه للدفاع عن مصالح العرب وحقوقهم.
هناك بالتاكيد أسباب عديدة تدفع الجمهور العربي إلى العداء للغرب وعدم التمييز فيه بين سياسات الدولة وثقافة المجتمع والميل إلى تجاهل انقسام الرأي العام فيه. منها الاستخفاف بحقوق العرب وتشويه صورتهم وتسويد صفحة ثقافتهم في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة. ومنها ما نشأ على أثر تنامي حركات الارهاب المرتبطة بالمنطقة العربية، فأضاف، خاصة بعد أحداث ايلول 2001 ، إلى مشاعر الاستخفاف والازدراء، والنظر إلى العرب كأنهم دون الجماعات البشرية المتمدنة، مشاعر جديدة قائمة على الخوف والكره وعدم الثقة، بل والرغبة في الانتقام، كما بينت ذلك حرب العراق الأخيرة، وما تفرع عنها من عمليات تنكيل ومعاملة قاسية ولا إنسانية للسجناء العراقيين وللسكان عموما.
لكن مع ذلك ليس من مصلحة العرب التوحيد بين السياسات الغربية والمجتمعات التي تخضع لها، ولا اعتبار هذه السياسات انعكاسا طبيعيا لثقافتها، بل حتى لمصالحها القومية البعيدة. وكما أن من الخطأ النظر إلى الغرب، وكل ما ينتج عنه وفيه، كأنه شر أو مصدر للشر، من الخطأ الكبير أيضا التوحيد بالمطلق بين السلطة والمجتمع في أي بلد كان. فلا يفيد ذلك إلا في التغطية على إخفاقنا في بلورة سياسات قادرة على التأثير في سياسات الدول الكبرى. فهو يخلق غولا أسطوريا لا يمكن مواجهته، وليس لدينا خيار سوى شتمه والدعاء عليه نظريا، والتعامل معه والخضوع له، كما هو سائد، عمليا. والحال أن الغرب ومنه أمريكا ليس غولا ولا كتلة صماء. وفيه قوى كثيرة لا تحمل بالضرورة عداءا فطريا للعرب أو للشعوب الفقيرة. وليس من مصلحتنا تغييب هذه القوى، ولا أمل لنا ببناء سياسة تضمن استقلالنا وحقوقنا تجاه الغرب، وضد سياسات حكوماته العدوانية، من دون الاعتراف بها والتعامل الايجابي معها. بل ربما كان حجم هذه القوى الديمقراطية، المتطلعة إلى عالم يسوده السلام والعدالة في الغرب، أكبر بكثير مما هو موجود في البلاد العربية نفسها. وربما كانت قدرتها على تقديم العون للقضايا العربية أضعاف ما تستطيع القوى العربية نفسها تقديمه.
لقد سعينا باستمرار لمواجهة الغرب وسياساته العدوانية إلى التعلق بمخلص من خارجه، مثله في حقبة أولى الاتحاد السوفييتي. ونحن نحلم بتحالف مشابه مع الصين وروسيا الصاعدتين. لكن لم نحصد من هذه السياسة فائدة تذكر، فلا تزال قضايانا جميعا معلقة، كما كانت منذ عقود، بل زادت تفاقما. والسبب أن أكثر مشاكلنا قائمة مع الغرب، ولا يمكن حلها بتجاهله أو ضده أو من دونه. كما أن جميع القوى التي راهنا وسنراهن عليها تحتاج إلى تعاون الغرب وخطب وده لضمان مصالح تتجاوزنا ولا نزن أمامها شيئا.
والقصد، لا يمكن مقاومة غرب استعماري وإمبريالي، نحن أول ضحاياه، إلا بغرب ديمقراطي ومسالم وعامل من أجل العدالة في العالم، أي من داخل الغرب ذاته. ونحن والشعوب القريبة في وضعها من وضعنا مسؤولون عن دفع الغرب إلى تبني سياسة ايجابية. ليس من خلال العمل على بناء تفاهم واسع بين الدول المتضررة من السياسات الغربية فحسب، وإنما أكثر من ذلك من خلال توثيق عرى التفاهم والتعاون مع القوى الغربية الديمقراطية ومساعدتها على التغلب على الاتجاهات الامبرطورية والامبريالية. لكن كي ما ننجح في ذلك ينبغي علينا أن نبرهن نحن أنفسنا على أننا نقدس قيم العدالة والمساواة والحرية ذاتها، وأننا نمثل شعوبا قادرة على التعامل أيضا مع العالم على أساس احترام معايير الاستقلالية والشرعية القانونية. فلا نستطيع أن نحول سياسة الغرب ونفرض عليه احترام قيم الديمقراطية العالمية من دون أن نتحول نحن أنفسنا ونصبح بلدانا ديمقراطية تحترم القانون والانسان معا، وتحظى بالتالي بالاحترام. وعندما أقول نحن فأنا لا أقصد البلاد العربية فحسب ولكن جميع البلدان التي تشكو اليوم من سياسات الغرب الامبريالية وعدوانها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية.

vendredi, novembre 23, 2007

في أصل الخوف العربي من التغيير

الجزيرة نت 23 نوفمبر 07

بالرغم من تفاقم القطيعة بين النخب الحاكمة والشعوب وفقدان هذه الأخيرة الثقة بالنظم التسلطية القائمة، إلا أن الغالبية العظمى من الرأي العام لا تزال تنظر بصورة سلبية، إن لم يكن بروح الشك، إلى مشروع التغيير. بل ليس من المؤكد أن لهذا المشروع معنى محددا وواضحا عندها، ربما سوى تغير اسماء الممسكين بالسلطة والقابضين عليها وأصولهم المذهبية أو الإتنية أو، في أحسن الحالات، الاجتماعية. وهذا ما يفسر عزلة حركات المعارضة العربية وضيق القاعدة الاجتماعية التي تستند إليها. كما يفسر، من وراء ذلك، مأزق التغيير وانسدادا آفاقه في المجتمعات العربية، بالرغم من الشعور العميق بالحاجة إليه وضرورته وحتميته عند جميع الأفراد، ليس في المجتمع فقط ولكن في الحكم أيضا. وبسبب غياب الأفق الفكري والأخلاقي للتغيير، لا تدفع الضغوط القوية التي يتعرض لها المجتمع إلى التحرك نحو الأمام كما هو الحال في المجتمعات السليمة البناء، وإنما يتجلى عبر توسع دائرة الانفجارات والنزاعات الداخلية الطائفية والمذهبية والأقوامية، وبالتالي عبر الدوران في حلقة مفرغة، مما يزيد من غرق المجتمع في الأزمة وإحباط فئاته الاجتماعية وغضبهم جميعا.
يرجع هذا الوضع في جزء كبير منه إلى نجاح السلطة العربية في العقود الماضية في القضاء على أي ثقافة مدنية سياسية دستورية حديثة كتلك التي نشأت في سياق النهضة والصراع ضد السيطرة الأوروبية الاستعمارية وعلى أرضية مفاهيم الحداثة السياسية. وقد أسفر ذلك عن عودة أشكال من الوعي ما قبل السياسي ترى في النظام الاجتماعي قدرا محتوما أو تجليا لإرادة عليا لا يمكن التحكم بها أو السيطرة عليها أو حتى فهم دوافعها وآليات عملها. فهو لا يبدو في نظرها ثمرة جهود إنسانية واعية وإرادية لأفراد المجتمع، وبالتالي نتيجة اختيارات سياسية وأخلاقية يمكن تغييرها أو مراجعتها من قبل المواطنين الذين تبنوها. ويرجع في جزء آخر منه إلى تشييء مفهوم السياسة وحصره في الاختيار بين نماذج اجتماعية جاهزة وناجزة، اشتراكية أو ليبرالية او إسلامية، تملك مفاتيحها نخب متميزة، لا مكان فيه لمشاركة شعبية ولا مجال لمناقشة أو مجادلة. فما على الرأي العام سوى الالتحاق بأصحاب هذا النماذج التي يرتبط تحقيقها بنجاح هذه الفئة أو تلك في الوصول إلى سلطة مفتاحها التفاهم بين الزعماء المحليين والدول الكبرى التي تتحكم بالمصير العالمي.
يخفي هذا التصور كما هو واضح انحطاط الحياة السياسية في موازاة انحسار الرابطة الوطنية، والاستقالة العميقة النظرية والسياسية والأخلاقية معا للرأي العام، سواء اجاء ذلك بسبب اليأس والإحباط من القدرة على التأثير أم بسبب الاقتناع المتنامي بالاستلاب للقوى الكبرى والحاكمة معا. لكن النتيجة واحدة هي النظر إلى التغيير على أنه ليس فعل إرادة ذاتية للشعوب، ولكنه ثمرة تضافر عوامل خارجية وداخلية خارجة عن إرادة الناس وقدراتهم.
لا تشجع هذه القيم السائدة بالتأكيد على انتشار أفكار الديمقراطية والتفاعل معها من قبل الرأي العام العربي. بل إنها تصصدم بعنف مع وعي الأكثرية ومفاهيمها، أو على الأقل لا تجد صدى لها فيهما. فالديمقراطية تفترض قيما معاكسة تماما لما استبطن في الوعي العام، قائمة على الاعتقاد بأن النظم الاجتماعية نظما تاريخية وأن وجودها هو ثمرة اختيار الناس ومشاركهم في الحياة السياسية وقدرتهم على التأثير فيها لا أقدارا طبيعية. ومن هنا تثير الفكرة الديمقراطية من القلق أكثر مما تبعث من آمال. فهي تطرح على الأفراد تحديات تكاد تكون غير قابلة للرد، لا تقتصر على االتغلب على العوائق الخارجية المرتبطة بالإجراءات القمعية للنظم وإنما على العوائق الداخلية المرتبطة بالقيم والتصورات والاقنتاعات العميقة والتقاليد السائدة. ولا يجد الأفراد المحرومين من فرص الارتقاء إلى مستوى الحياة السياسية الحرة أو إلى مستوى الحرية الشخصية التي تفترضها الديمقراطية، وسيلة للهرب من مواجهة هذه التحديات سوى في رد الديمقراطية نفسها ورفضها باعتبارها فكرة مستوردة أو أجنبية بالنسبة للبعض أو فكرة شيطانية وهدامة لدى البعض الآخر. ويتمحور هذا العداء والرفض حول فكرة الحرية الفردية نفسها التي لا ديمقراطية من دونها. ففي نظر الكثير من قطاعات الرأي العام، تنطوي الحريات الفردية على تهديدات حقيقية لهوية الجماعة والدين والقومية وتتناقض معها. ولذلك تبدو الديمقراطية للكثيرين على أنها أكثر سلبية من جميع ما أتى قبلها من ايديولوجيات حداثية.
ينبع سوء الفهم بشكل خاص من المطابقة في الوعي الجمعي الشائع بين الحرية الفردية والاباحة، وتفسيرها على أنها تعني حق الفرد في عمل كل ما يشاء أوما يخطر له، من دون اعتبار المحرمات الدينية أو التقيد بقاعدة أخلاقية أو مراعاة الأحكام القانونية. هكذا تظهر الحرية في هذا الوعي الجمعي السائد كتحرر من الالتزامات والمسؤوليات الجمعية، كما تبدو الديمقراطيةالقائمة عليها عنوان النظام السياسي الذي يدعو إلى إلغاء القيود الدينية والوطنية والاجتماعية أو يدعو إليها. لذلك لا تتورع بعض التيارات المحافظة الدينية عن اتهام الديمقراطيين، عندما يتحدثون عن الحريات الفردية وحقوق الانسان العالمية، بأنهم يريدون تحويل الانسان إلى ما يشبه البهيمة التي تتصرف بدافع غرائزها وترفض إخضاع سلوكها الغريزي لأي قيمة أخلاقية أو دينية.
لا تقود هذه التمثلات التاريخية السائدة في الوعي الجمعي العربي حول السياسة وحدودها إلى تشويه مفهوم الديمقراطية فحسب، ولكنها تقضي أكثر من ذلك، ومن خلال ذلك، على الفكرة الوحيدة الحاملة لمشروع تغيير فعلي وجدي في الوقت الراهن، بل على فرص التغيير. فليس للتغيير قاعدة ممكنة وضرورية اليوم سوى إعادة إدخال المجتمع في القرار العام، وبالتالي استعادة شروط بناء حياة سياسية سليمة وحية. وليس هناك إطار نظري وسياسي لتجسيد هذه المشاركة الاجتماعية الواسعة في بلورة الخيارات العمومية، المدنية والسياسية، وتشجيع الأفراد على الانخراط في الحياة العامة وتحمل مسؤولياتهم الجمعية، أي في إحياء الحياة السياسية بالمعنى النبيل للكلمة، سوى الديمقراطية التي تجمع بين إدخال الشعب في معادلة السلطة المحلية وإدراج الجماعة الوطنية نفسها في الحياة الدولية وفي الكونية الإنسانية.
والبديل الوحيد لهذا التغيير الديمقراطي، أي لإدخال الشعب في معادلة السلطة العمومية وإدراج الجماعة في أجندة الحضارة الكونية هو تعميم منطق الانقسامات الطائفية والإتنية وحل التناقضات والتوترات من خلال الانفجارات العشوائية، والتجديد المستمر من وراء ذلك لنظم القهر والديكتاتورية. وليس هناك أمل في تغيير وجهة الحركة الاجتماعية، ونقلها من مسار النزاعات الأهلية لتنفيس الضغوط الداخلية والخارجية، إلى مسار التحرك إلى الأمام والبحث عن تطوير بنية المؤسسات وتوزيع الصلاحيات وتقسيم العمل العام، وبالتالي التراكم المنتج، من دون إعادة الاعتبار لفكرة الديمقراطية وفي صميمها فكرة الحرية والقيم المرتبطة بها، من حرية الاعتقاد والمبادرة والتنظيم والمشاركة في الحياة العمومية. فلا ديمقراطية ولا نظام سلطة قانونية منضبطة خاضعة للمساءلة وحاملة لمعنى المسؤولية، من دون إحياء معنى الشخصية الفردية الفاعلة والمستقلة القادرة على المشاركة الفكرية والسياسية في المصائر العمومية. ولا شخصية من دون حرية تميز عمل الفكر والضمير والسلوك الأخلاقي. فهي شرط استرجاع الأفراد أهليتهم، أي ثقتهم بنفسهم وايمانهم بقدرتهم على التفكير الناجع والمساهمة الايجابية والمشاركة في المسؤولية العمومية واتخاذ القرارات المصيرية. وهي شرط التخلص أيضا من نزعة التمييز العنصري ضد الذات، الناجم عن الاستقالة العمومية، والذي يجعل أغلبية الأفراد يعتقدون أنهم غير أهل وغير كفؤ لتقرير مصيرهم، ويقبلون بتسليم زمام أمورهم إلى فئة يضفون عليها سمات الفهم والنبالة وروح المسؤولية، ويحولونها إلى ارستقراطية يسيرها العقل والقيم النبيلة، بينما ينظرون إلى أنفسهم كرعاع تسيرهم الغريزة.
والحال أن الديمقراطية تعني وتفترض نزوع الجميع إلى أن يعترف بهم كأسياد، أي كموطن وعي أخلاقي قادر على حمل المسؤولية والمشاركة في توجيه الحياة العمومية. ومطالبتهم بالحرية كشرط لهذه السيادة ومقوم لها.
فلا تعني الحرية التحرر من القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية، كما يفهمها الوعي البسيط الشائع، ويتمثلها بالتالي كفكرة خطرة وهدامة، وإنما تعني بالعكس اعتراف الجميع، أي كل فرد، بأنفسهم كرجال أهل قادرين، يشكل كل منهم موطن سيادة وقرار وإمكانية اختيار. وهو مؤهل لهذا السبب لحمل المسؤولية ومدعو للتصرف والسلوك حسب قواعد الأخلاق والقانون والمصلحة الجمعية، وقادر على تجاوز النظرة الأنانية. باختصار لا تعني الحرية هنا الانفلات من القيود وإنما العكس تماما: أي التقيد بمباديء وقواعد أخلاقية وتصرفات قانونية نابعة من اختيار طوعي يستند هو نفسه على اقتناع وايمان. وهذا ما يميز التقيد الذاتي عن التقييد الاجتماعي، الديني والأخلاقي، من الخارج الذي سيطر على مجتمعنا خلال القرون الطويلة السابقة. وهو ما يحول التقيد إلى شعور بالمسؤولية يرتب إلتزامات ويحدد مهام ليست مفروضة من قبل المجتمع بقدر ما هي نابعة من الذات ومرتبطة بسعي الفرد إلى تحقيق نفسه وتأكيد ذاته كمواطن، أي كإنسان حر واع ومسؤول، أي سيد بين أسياد. وهو أساس تشكيل الأمم السياسية ومحرك حياتها ومصدر حيويتها. فلا يصبح الفرد مواطنا إلا بقدر ما يظهر قدرته على تحمل المسؤولية العمومية جنبا إلى جنب وبالقدر نفسه مع شركائه الآخرين في الوطنية. ولا مسؤولية ولا مساواة في الوطنية من دون النجاح في استبطان القيم القانونية والأخلاقية المشتركة والسلوك بموجبها. ولا سلوك أخلاقي وقانوني من دون التمكن من شرط الحرية وما تعنيه من اختيار ووعي بمعنى الاختيار.
من هنا ينطوي الخيار الديمقراطي بالنسبة لي على أكثر من بناء نظام سياسي قائم على التعددية وتنظيم الانتخابات الدورية وممارسة الحريات الفردية كيفما يشاء الفرد. إنها ثورة أخلاقية وسياسية في الوقت نفسه لأنها تفترض في مجتمعاتنا إحياءا بعد موات لمعنى الأخلاق والحياة المدنية وما تفترضه من تكافل وتضامن ولفظ للأنانية والانتهازية، كما تفترض تغييرا عميقا في منظومة القيم الأساسية التي تقوم عليها الشخصية الفردية في ثقاتنا ومجتمعاتنا العربية، يقع في صلبه استعادة معنى المسؤولية.
هذا يعني أن الديمقراطية، قبل أن تكون نظاما سياسيا ناجزا، هي معركة طويلة لتحرير المجتمع والفرد من ثقافة العطالة والخنوع والتسليم والهرب من المسؤولية والانسحاق أمام القوة. وهي كنظام سياسي مدرسة عملية لتربية الأفراد على حمل المسؤولية والانخراط في الحياة العمومية والالتزام بقواعد قانونية وأخلاقية. وهي في الحالتين شرط لتأكيد معاني السيادة الشخصية والتحرر من الشعور بالدونية، وتحقيق مفهوم المواطنية بما يعنيه من مساواة وعدالة وتضامن وتكافل بين الجميع، وما يستدعيه من الارتقاء فوق المصالح الفردية. إنها عملية تحرير للانسان، خاصة للجمهور الشعبي العام الذي عومل خلال التاريخ كجمهور غريزي، لا يمكن أن يتصرف حسب العقل والأخلاق، ودفعته نظم القهر والاستبداد إلى استبطان قيم الدونية والانسحاب من المسؤوليات العمومية.
من هنا أيضا لا سبيل إلى بناء مجتمع ديمقراطي بعيد عن التسلط والتعسف وانتهاك حرية الآخر إلا بتربية المجتمع نفسه وتأهيله لاستيعاب معنى الحرية والمساواة والقانون. هذه هي الخطوة الأولى والضرورية لبناء قوى ديمقراطية فعلا قادرة على حمل النظام الديمقراطي وتسييره والدفاع عنه ومنع استغلاله من قبل شبكات المصالح المالية. وربما كان دور المثقفين أهم في هذا المجال بكثير من دورهم في قيادة حركة التغيير السياسي نفسها. المهم أن نعرف أن الديمقراطية هي النظام الذي يستند إلى تدخل الشعب ومشاركته القوية، وهذا ما يفترض أولا وجود شعب. والشعب ليس مجرد أفراد يعيشون مع بعض ولكن علاقة سياسية تجمع بين الأفراد على قاعدة العيش المشترك وأخلاقيات الاحترام والمساواة والتضامن والتكافل. الشعب نظام أخلاقي وثقافي وقانوني، أي وعي وطني أو مواطني يولد إرادة واحدة. فإذا انعدمت الأخلاقيات التضامنية والمواطنية وتحول الشعب إلى أفراد لا رابط بينهم سوى المصالح الخاصة، لا يشعرون بالألفة ولا الثقة المتبادلة ولا الفائدة من العيش المشترك، زالت الإرادة الموحدة وانقسم الشعب إرادات، وزالت إمكانية بناء نظام سياسي بالفعل. أما ما نعرفه في بلداننا فلا علاقة له بذلك وهو ليس نظام سياسة وإنما نظام تسلط بالقوة وفرض إرادة مجموعة من الحاكمين المستندين في حكمهم إلى الأجهزة الامنية والعسكرية. ولا تملك شعوبنا لا أخلاقيات سياسية حقيقية واعية ولا إرادة وطنية. إنها تعيش في نظام التبعية المطلقة للسلطة وللدولة "الأجنبيتين"، حتى لو كان أعضاؤهما من أهل البلاد الأصليين. لكن لا يجمعهم جامع مع بقية أبناء جلدتهم. ولا يستطيعون ضمان استمرار سلطتهم إلا بتعليم الشعوب استبطان دونيتها، وفرض صورة الحاكمين باعتبارهم طبقة متميزة مختلفة عن بقية السكان ومتفوقة عليهم . ولا تتردد بعض النظم الضعيفة في اللجوء إلى أقسى درجات العنف حتى تجبر السكان على استبطان علاقات السلطة القائمة على التمييز والإذعان للقوة.
ليس هناك شك في أن تمحور تفكيرنا ونقاشنا خلال أكثر من قرنين على مسائل الهوية والقومية في مواجهة العصبيات الطائفية والسياسات الاستعمارية، التي ابتلينا بها في هذه المنطقة أكثر من أي منطقة أخرى، قد حرمنا من فرصة التأمل في مسائل تحرر الفرد وانعتاقه وتحوله إلى مشارك فعال في الحياة العمومية، وبالتالي من فرصة فهم موقع الديمقراطية ومكانها في عملية التحويل الاجتماعي والتحديث الحضاري. بيد أن الرأي العام قد تعلم من التجربة الماضية كثيرا. وأصبح يدرك اليوم أكثر من أي حقبة ماضية أن تجاوز تشوهات التاريخ الماضي ومواجهة السياسات الامبرطورية الاستعمارية ما عادا ممكنين من دون التغلب على ثقافة الأنانية والصغار والخنوع والإمعية، والعمل على إحياء معنى الإنسان في كل فرد وتجديد وعيه والارتقاء بالوعي الجمعي إلى مستوى الحياة المدنية والأخلاقية.

mercredi, novembre 21, 2007

تجاوز الطائفية شرط لتحرير الدولة من المافيوية

الاتحاد 21 نوفمبر 07
في كتابي "نظام الطائفية... من الدولة إلى القبيلة" المنشور عام 1990، طرحت نظرية تقول بأن الطائفية تنتمي إلى مجال السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقاً موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس دفاعاً متعصباً عن دين أو مذهب. وفكرة السوق السوداء أو الموازية في السياسة تتنافى مع الاعتقاد السائد بأن الطائفية تقليد قديم ومستمر، وتجعل منها ظاهرة مرتبطة بحقبة الحداثة الجديدة وطابعها المفارق معاً. فنظام الملل التقليدي الذي عرفته المجتمعات الإسلامية، وأعطت الدولة العثمانية صيغته الأخيرة الراقية، يختلف كليا في مضمونه وطبيعته عن نظام الطائفية بالمعنى الذي نقصده اليوم. فعلاقة السلطة التقليدية بالمجتمع كانت تمر حتماً بالتجمعات الأهلية، بل كان احترام هذه التجمعات من قبل السلطة وحفظ مصالحها الخاصة، يفترض الاعتراف بها كملل أو كجماعات مستقلة ومتميزة، ويستدعي تنظيما لهذه المصالح يأخذ بالاعتبار تعددها وتباين مواقعها وعقائدها. وكان وجود هذه الجماعات الأهلية والاعتراف بها ضماناً لحرية الأفراد النسبية وأمنهم معاً. في حين كان الافتقار إلى مثل هذا الاعتراف بالتنظيمات الأهلية يعني في الدولة التقليدية خطر الإضرار الدائم بمصالحها، وتعريض أفرادها لكل المخاطر الداخلية والخارجية. ولهذا يشكل التنظيم المللي في المجتمعات القديمة التي كانت السياسة فيها حكراً على النخبة الأرستقراطية، النمط الطبيعي، بل المتقدم، لتنظيم العلاقة بين النخبة الحاكمة والمجتمع على أساس من العدل وحفظ المصالح الخاصة وتوازنها معا. ونظام الملل هو الذي حفظ التعددية الطائفية والقومية في الشرق، بينما حلت، حيثما غاب هذا التنظيم، الحروب الدينية ورفض التعددية وتشابك السلطة الدينية والزمنية، وتعسف السلطة الفردية التي تبيح لنفسها التلاعب بمصالح الأفراد والجماعات من دون رقيب ولا حسيب حسب حاجتها ومصالحها.
لكن الأمر اختلف كثيراً مع نشوء المجتمع السياسي الحديث الذي يفترض أن السلطة مستمدة فيه من الشعب بأكمله، وأن علاقة الأفراد مع الدولة علاقة مباشرة لا تمر بوسيط طائفي، وأن كل فرد هو في الوقت نفسه مواطن، أي مسؤول، وله حق المشاركة في صوغ السياسات المتبعة. وللمشاركة هذه أثر مباشر على تقرير المصير العام. وبنوعية هذه المشاركة تتحدد طبيعة السلطة القائمة، ويتوقف مستقبل السياسة نفسها، وربما استمرار الدولة أو عدم استمرارها كإطار وطني جامع، في ما وراء التمايز بين الجماعات الأهلية. ولا يعتمد الحفاظ على وحدة الدولة والجماعة السياسية هنا على وجود حاكم مترفع يقف موقف الحكم من جميع المصالح والتجمعات والأفراد، ويقضي في شؤونهم، كما هو الحال في الممالك والسلطنات القديمة، لكن على اختيار المواطنين أنفسهم، وصحة هذا الاختيار. فأي تأثير على الناخب أو المواطن المشارك في تقرير المصير العام، سواء عبر شراء الأصوات أو استخدام الولاءات الدينية والأقوامية، يعطل الهدف من الاختيار، ويفسد السياسة والدولة الحديثتين، بقدر ما يسمح بتكوين مراكز قوى أهلية داخل الإدارة السياسية تعمل على خدمة المصالح الخاصة، وتمنع من التعبير الشفاف عن إرادة المجتمع الكلي، أو من ترجمة وحدته، من حيث هو إطار سياسي قانوني يجمع بين أعضاء متساوين وينشئ بينهم مصلحة مشتركة، لا من حيث هو مجتمع أهلي يبحث فيه كل فرد عن مصالح خاصة. إن الطائفية ترد السياسي إلى الأهلي وتلغي إمكانية نشوء دولة من النوع الوطني الحديث.
فإذا كانت الدولة الإمبراطورية تقوم على عقد بين طوائف وجماعات متباينة ومتمايزة، يجسده التسليم لملك حكم، هو رمز السياسة والسلطة بامتياز، وظيفته السهر على استمرار التوازنات واحترام المقامات، وكان يطلق عليه اسم العدل، فإن الاجتماع السياسي الحديث، يقوم على عقد بين أفراد أحرار ومستقلين يجسده دستور واحد يخضع له الجميع، بما في ذلك الرئيس أو الحاكم، مضمونه المشاركة المتساوية في تسيير شؤون الدولة الجامعة. وموضوع الصراع الرئيسي في هذا النظام هو انتزاع الحق في المشاركة من قبل الجميع وسعي البعض إلى حرمان هؤلاء وأولئك منه أملاً في احتكار قسم أكبر من موارد الدولة. لذلك فكل ما يلغي المنافسة الحرة على مناصب المسؤولية، يهدد هذا العقد الوطني ويقود إلى تقويض أسس الدولة الحديثة واستقرارها، بقدر ما يعطل آلية بناء الصعيد العمومي أو المعبر عن عمومية الدولة وقدرتها على الارتفاع فوق جميع المصالح الخاصة والجزئية.
لا دولة مع الطائفية، وليست الدولة الطائفية دولة بالمعنى الحقيقي، بقدر ما هي فوضى سياسية وحرب أهلية، قائمة أو مؤجلة.
وأصل مفارقة الطائفية أن الحداثة السياسية تعمم فكرة المشاركة الفردية، وما تتضمنه من اعتراف بالحرية والمساواة، في الوقت الذي لا تزال فيه شروط تحقيق هذه المشاركة غير متوفرة عملياً، إما بسبب تأخر مؤسسات الدولة أو ضعف الثقافة السياسية عند الأفراد أو بسبب التوزيع الصارخ في تفاوته للموارد المادية والمعنوية، أو بسبب طبيعة العلاقات الجيوسياسية والجيوستراتيجية. وهذا ما يخلق تفاوتاً أو فراغاً تستفيد منه الأطراف الأقوى في المجتمع لاختطاف الدولة والتلاعب بالرأي العام وقطع الطريق على مشاركة الآخرين أو الالتفاف على حقهم في المشاركة المتساوية من خلال تعبئة العصبيات البدائية. هكذا يحول تأخر المجتمع المدني وضعف منظماته، دون الرأي العام وممارسة دوره في ضبط السلطة التي تراكمها الدولة الحديثة. وهو ما يجعل من هذه الدولة، بعكس وظيفتها الأصلية، أفضل أداة في يد جماعات المصالح للتحكم بالمصير العام وفرض أجندتها الخاصة، والإمساك بمؤسسات الدولة والمجتمع من الداخل لتفريغها من محتواها العمومي، وتقويض أسس العملية السياسية.
يقود هذا الوضع إذا استمر من دون أن تنجح المجتمعات في استعادة سيطرتها على الدولة والتحكم فيها إلى تحويل البلاد إلى مزرعة خصوصية لأصحاب السلطة والنفوذ وشبكات المصالح المتحالفين مباشرة أو ضمناً مع زعماء الطوائف والعشائر والجماعات القومية، وفي أعقاب ذلك وكنتيجة له، إلى إشعال فتيل حرب أهلية مستمرة، كامنة أو علنية، تتغذى من إرادة السيطرة المطلقة للجماعات الحاكمة ونزوع الجماعات الأخرى إلى منعها من الاستئثار بالثروة، أو إلى الطموح للاستئثار بها مكانها. وما لم تبرز قوى جديدة تخترق العصبيات المتحاربة التي تلعب على نزاعاتها شبكات المصالح المافيوية، وما لم يتكون رأي عام مدرك لأن الدولة ليست إطار تقاسم المغانم، وتنمية المصالح الخاصة وتعظيمها، وإنما هي، بالعكس، الإطار الوحيد لتجاوزها، وبناء فضاء العمومية، القانوني والإنساني، الذي لا قانون ولا نظام ولا سلام من دونه، سيكون من الصعب الخروج من الحرب الأهلية. ذلك أن كل صيغة للاقتسام يفرضها ميزان قوى قائم، ستكون معرضة بالضرورة للنقض من قبل القوى والجماعات التي خسرت في الجولة السابقة.
فالمطلوب للخروج من الحرب ليس قسمة عادلة للدولة، على منوال التوزيع الطائفي للحصص، ولكن بالعكس رفع الدولة عن مبدأ القسمة نفسه، وتحويلها إلى إطار الاستثمار المشترك في الأخوة الوطنية والإنسانية، أي بناء دولة المواطنة والمواطنية. فليس هناك دولة مع الطائفية، وليست الدولة الطائفية دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، بقدر ما هي فوضى سياسية دائمة وحرب أهلية، قائمة أو مؤجلة.

mercredi, novembre 07, 2007

معركة الحرية

الاتحاد 7 نوفمبر 07
ذكرت في مقال سابق أن إعادة بناء المجتمعات على أسس الوطنية الجامعة تستدعي تغيرا جذريا في موقع الشرق الأوسط باكمله في الجيواستراتيجية الدولية، بما يعزز الاعتراف بالحقوق الوطنية الطبيعية للشعوب واحترام القانون الدولي واتباع طريق الحوار والتفاوض في حل الخلافات، كما يستدعي تغيير المناخ الثقافي والنفسي في المنطقة، ووضع حد لانتشار الطاعون الأسود والرهان الوحيد على العنف. وهذا هو عمل المثقفين والحركات المدنية. فمن دون الجمع بين التحولات الفكرية والتحولات الجيوستراتيجية سيكون من الصعب التقدم على أي من مسارات التحرر الاجتماعي السياسية والمدنية. فلن تكون هناك فائدة من ثورة ثقافية، بل لا أمل في حصولها، في حال استمرار السياسات الأطلسية التي تحرض على العنف وردود الأفعال وثقافة الانكفاء على النفس والتعصب والانتقام. كما لا فائدة من تغيير علاقتنا الجيوستراتيجية وإخراج مجتمعاتنا من دائرة الحرب الدولية، إذا لم يحصل بموازاتها عمل ثقافي واسع يهدف إلى تحرير الشعوب من الخوف والاستلاب والنظرة الدونية للذات وإعادة ثقتها بنفسها وتعميق وعيها المدني والتاريخي وضمان مشاركتها الفعالة في عملية التنمية والبناء.
في هذه الحال، لا أجد حلا أمامنا اليوم سوى الاستمرار في تنظيم وتطوير مقاومتين في الوقت نفسه : مقاومة السياسات الدولية المدمرة لنا ولمجتمعاتنا، ولآمال الانخراط في مسار الحداثة والديمقراطية. ومقاومة السقوط في اليأس والقنوط عند الشعوب، أي، بمعنى آخر، مقاومة الاستسلام لخيار الفوضى والاقتتال الأهلي والدمار، باسم مقاومات مشتته لا أفق لها ولا مشروع. في سبيل مقاومة مرتبطة بمشروع إنساني واجتماعي وأخلاقي.
المقاومة للهيمنة الخارجية لا تشكل لوحدها مشروعا وطنيا واجتماعيا، لأنها لا تجيب على مشاكل الفقر والبطالة والحرية والعدالة والقانون والتنمية. كي تكون كذلك ينبغي أن ترتفع إلى ما فوق إطلاق الرصاص والتأكيد على الهوية الدينية أو القومية.
لكن إذا كان هذا لا يمنعنا ولا ينبغي أن يمنعنا من دعم المقاومة الموجهة للسياسات العدوانية والاستعمارية بأي شكل جاءت، فإنه يلزمنا في الوقت نفسه بعدم التسليم ولا الاستسلام للحركات الانغلاقية ونظريات الحرب والعنف الداخلي، سواء أكان طائفيا ام سياسيا أم اجتماعيا، ولأي هدف كان. مقاومة الهيمنة الخارجية تتطلب وتحتم مقاومة السياسات الداخلية التي تهدد أسس المدنية في مجتمعاتنا وتدفع بها نحو الانحطاط والسقوط في البريرية، سواء أجاءت من طرف النظم السياسية الفاسدة أو من طرف فئات ومنظمات وحركات أهلية.
هذا يعني أن مقاومة الهيمنة الأجنبية لا يمكن ولا ينبغي أن تكون مبررا لصرف النظر عن الطغيانات الداخلية والخروقات المتعددة لحقوق المواطن والانسان. فليس للصراع ضد هذه الهيمنة مبرر آخر سوى مصادرتها حقوقنا وحجرها على إرادتنا وتحويلنا إلى أدوات في استراتيجية ليس لنا أي مصالح فيها. وهو بالضبط ما تقود إليه النظم الاستبدادية اللامسؤولة وحركات التعصب الطائفية والمذهبية. والواقع أن هناك تضامنا ضمنيا عميقا بين الطرفين يبرهن عليه تعايشهما معا. فكما أن السياسات الاستعمارية لا تقف عند حد حرماننا من الحقوق الوطنية ولكنها تتجاوز ذلك إلى حرماننا في الوقت نفسه من إمكانية التحولات الديمقراطية، بقدر ما تقضي على سيادتنا (الشعبية)، كذلك فإن الاستبداد لا يقضي على حرياتنا وحقوقنا الإنسانية فحسب ولكن على حقوقنا الوطنية الجماعية أيضا، بقدر ما يقوض أسس هذه الوطنية في كل فرد فينا ويؤسس للتفرقة المذهبية والطائفية والاجتماعية.
إذا تجاهلنا المقاومة الداخلية، أو فصلنا بين مقاومة السقوط في البريرية والعسف وخرق القانون والعنف الموجه نحو الذات، عن مقاومة سياسات الهيمنة الخارجية، التي هي اليوم غربية، لكن يمكن أن تكون غدا صينية أو روسية، عززنا الاستبداد وأعطيناه مصداقية. فهو صاحب الفصل هذا، وهو يعيش منه وعليه. المقاومة للسياسات الاستعماربة وسياسات التبعية والالتحاق التي تتبعها النظم المحلية اللاشعبية، هي السلفة التي ينبغي تقديمها مسبقا من أجل تحقيق شروط الديمقراطية. إذ لا تقوم ديمقراطية على تبعية وإمعية. والوقوف ضد كل أشكال احتقار الانسان واستعباده من قبل أبناء جلدته هو الرأسمال الوحيد الذي نملكه ولا غنى لنا عنه، للاستثمار في الوطنية، أي في المقاومة الموجهة للسيطرة الخارجية.
الجمع بين تعزيز المقاومة للسياسات الخارجية الحمقاء والعدوانية، وتعميم ثقافة الحرية وممارستها اليومية: ترسيخ مبدأ التعددية في الفكر والسياسة والمجتمع والدين، احترام الفرد، حكم القانون، لفظ العنف، العدالة الاجتماعية، المساواة والسلم الأهلي والسلام العالمي، هذا هو اليوم البرنامج السياسي والثقافي الوحيد الممكن والمطلوب. فهو مشروع مقاومة تاريخية ايجابية وبناءة.
هذا يعني أن الاولوية في السياسة الخارجية ينبغي أن تعطى لمواجهة السيطرة الخارجية تماما كما أن الأولوية في السياسة الداخلية ينبغي أن تعطى للتحويل السياسي والثقافي والفكري الديمقراطي للرأي العام. فكما أنه لا يمكن تحقيق السيادة الشعبية التي هي شرط أي نظام يضمن مشاركة المجتمع وحقه في تقرير مصيره من دون التحرر من السيطرة الخارجية، كذلك ليس من الممكن بناء نظم ديمقراطية من دون تحويل ثقافة الرأي العام المدنية والسياسية وتجديدها. وينبغي أن يكون التعامل مع السلطات القائمة موازيا لانفتاحها على برنامج الديمقراطية وقبولها مبدأ التعددية واحترام حقوق الانسان.
ستبقى الديمقراطية اليوم، في دائرتنا، ثقافة وتثقيفا بشكل أساسي، طالما لم تتغير الشروط الاقليمية والدولية التي تحول دون تحقيقها في الدولة. لكن هل هناك طريق آخر للوصول إلى دولة ديمقراطية من دون الفوز في معركة الحرية، حرية الفرد وحرية المجتمع وتحرير الرأي العام من نفسية الرق التي نجحت السلطات العربية في زرعها فيه؟ بالعكس، إن هذه المعركة هي المدخل الضروري لقيام أي نظام ديمقراطي. وإلا فينبغي الحديث عن "انقلاب ديمقراطي" لا ندري كيف يمكن حصوله، ولا نستطيع أن نضمن نتائجه وان نعرف مصيره. وشرط النجاح في معركة التحويل الديمقراطي للمجتمعات إحياء الذات الانسانية بما تعني من بناء الضمير الحر والروح القانونية، أي روح العدالة، عند كل فرد. وذلك بالكلمة والعمل معا، أي بالصراع ضد كل أشكال التمييز والمهانة والقهر. وهذه هي بالدرجة الأولى مهمة المثقفين، ليس بمعنى الكتاب والأدباء، ولكن جميع المنشغلين بالهم العام والباحثين عن حلول لقضايا شعوبهم، سواء أجاء ذلك في سياق بحثهم عن حلول لمشاكلهم الخاصة أو من خارجه.
الديمقراطية هي مشروع إعادة بناء الفرد والرأي العام على أسس جديدة، إنسانية. بهذا المعنى لا تعود الديمقراطية هدفا بعيدا نحلم بالوصول إليه وننتظر قدومه أو الانقلاب التاريخي الذي يجعله ممكنا. إنها تربية يومية ومنهج إحياء إنساني يبدأ منذ الآن ومن قبل جميع حاملي المسؤولية وقادة الرأي. باختصار معركة الحرية واحدة لا تتجزأ. إنها تكمن في مواجهة كل ما يقف عقبة أمام تحرير الانسان واستعادته ثقته بنفسه وكرامته.

jeudi, octobre 25, 2007

الدين والسياسية في مواجهة تحديات العصر

الجزيرة نت 25 أكتوبر 07

بعكس ما بثته الايديولوجيات الوضعية والمادية التي سادت منذ القرن التاسع عشر، تظهر أحداث العقود الماضية تجدد الطلب على الدين في الحياة السياسية والمدنية بشكل عام. فقد كان للكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية دورا رئيسيا في التعبئة التي قادت إلى الإطاحة بالنظم الشيوعية، سواء عن طريق ما قام به البابا يوحنا الثالث عشر، الذي أظهر نشاطية استثنائية في الدبلوماسية الدولية، أو عن طريق الكنائس المحلية التي نشطت لدعم قوى المعارضة السياسية وشكلت رافعة لها، في بولونيا وروسيا وبلدان أوروبة الشرقية عموما. ويسرى الامر نفسه على ما قام به المجاهدون الاسلاميون في أفغانستان، الذين كبدوا النظام السوفييتي هزيمة عسكرية وسياسية لن ينجح في التغلب على آثارها أبدا. ولعب أنصار لاهوت التحرير دورا أساسيا أيضا في هزيمة الديكتاتورية وتعبئة شعوب أمريكا اللاتينية أو بالأحرى طبقاتها الفقيرة لتأكيد حقوقهم الاجتماعية، بعد انحسار العقيدة الماركسية. وفي منطقتنا ما كان من الممكن تصور نجاح المشروع الصهيوني الرامي إلى بناء دولة يهودية صافية في فلسطين من دون إحياء الذاكرة الدينية والخلط المتعمد بين القومية والدين. وبالمثل ما كان من الممكن الإطاحة بحكم الشاه الايراني المدعم بقوة من الولايات المتحدة لولا التعبئة الدينية الهائلة التي عملت عليها، خلال عقود، الحوزة الشيعية. ولا يزال النظام الذي ولد مع الثورة الايرانية يدين بوجوده واستمراره إلى حد كبير للروح الدينية التي فجرتها هذه الثورة. وتستند معظم حركات المعارضة العربية والاسلامية وأكبرها اليوم على الذاكرة والتعبئة الدينية في نشاطها الرامي إلى تغيير الأوضاع او مواجهة النظم القمعية والفردية. وقد حلت الحركات التي تستلهم العقائد الدينية محل الحركات القومية واليسارية في تعبئة الجمهور وقيادة الرأي العام في صراعه من أجل تحسين شروط معيشته أو ضمان مشاركته في الحياة العامة أو طرد المحتلين من أراضيه، كما هو الحال في فلسطين ولبنان والعراق وبلدان عديدة أخرى. وأجبرت الحركات الاسلامية الناشطة في كل بقاع العالم، والتي تبنى بعضها استراتيجية مواجهة صدامية ومباشرة مع الغرب، العواصم الغربية والأطلسية إلى إعادة بناء استراتيجيتها الدفاعية على أساس مواجهة الحرب الإرهابية. وقد أصبح مقر البابا ممرا إجباريا لجميع أولئك الديلوماسيين الذين يأملون في إضفاء شرعية دينية على سياساتهم، بما في ذلك قادة الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا ما ينطبق بشكل أكبر على المرجعية الشيعية التي تشكل اليوم، في العراق وإيران مصدر التوجيه الأول للسياسة وللقادة السياسيين الحاكمين. ومن آخر تظاهرات هذا النفوذ الديني المستعاد في سياسات عصرنا انتفاضة رجال الدين البوذيين في بورمة أو مينمار.

يصدم هذا الدور المتجدد للدين، أو للأديان، في صنع السياسة وبناء المجتمعات، بقوة الأفكار المسبقة التي سودتها حقبة طويلة من التفكير الاجتماعي الوضعي، الذي بدأ مع عصر الأنوار العقلاني في القرن الثامن عشر، وآمن بالعلم كمصدر لخلاص الإنسان، وعارض بينه وبين الدين الذي نظر إليه كنتاج لجهل الانسان بالطبيعة أو كتعبير عن طفولته الفكرية. كما تصدم بشكل أقوى أولئك الذين اعتقدوا، على خطى ماركس والفلسفات المادية، بأن الدين أفيون الشعوب، وأنه سينحسر لا محالة مع انهيار نظم السيطرة والاستعباد الطبقية، وزوال استغلال الانسان للانسان، والحاجة إلى عزاء من طبيعة سحرية. وبالنسبة للجميع كانت الحداثة تفترض انتصارا مؤكدا لأشكال الوعي الوضعي والعلمي وتراجعا مضطردا للوعي الديني وللأديان بشكل عام.

ليس هناك شك في أن الثورة الصناعية، وما تبعها من انقلاب في أساليب إنتاج المجتمعات وحياتها وتفكيرها معا، قد ترافقت بتحول كبير في عقائديات الناس وتطلعاتهم وغايتهم من العمل والحياة، أضعف من دور الأديان الكلاسيكية في التأثير على السياسة لصالح عقائديات جديدة آمن الناس بها، ليس بالضرورة بديلا عن الأديان السماوية ولكن إلى جانبها، من بينها القومية والشيوعية والوضعية التي انتشرت بقوة في القرن التاسع عشر، وفاضت عنه إلى القرن العشرين. وارتبط انتشار هذه الايديولوجيات ذات الطابع الزمني بتطور منظومات من القيم والتطلعات تركز على تحسين شروط حياة الإنسان على الأرض، وتؤكد على سعادته الجسدية والعقلية، مقابل تأكيد العقائد ومنظومات القيم الدينية السماوية على الخلاص الروحي والتطلع إلى حياة الآخرة الأبدية.

لكن الأمر بدأ يتغير منذ السبعينيات. وهناك ثلاث عناصر تفسر هذه المفاجاة أو ما يمكن أن نسميه مفاجأة تنامي أثر الدين في الحياة السياسية والمدنية عموما. الأول هو سوء تأويل ظاهرة انحسار الفكر الديني وتوحيدها مع فكرة حتمية زوال الدين أو تلاشيه بوصفه نموذجا عتيقا للتفكير تجاوزه العلم. وهو ما يعكس الطابع التبسيطي والخطي لأطروحات الفلسفات الوضعية والمادية التي بشرت بانحسار الدين لصالح الفكر والوعي العقلاني والعلمي. فانحسار نمط من التفكير والقيم الدينية لا يعني بالضرورة انحسار الدين. كما أن تطور المعرفة العلمية وسيطرة العلم على الحياة العملية، لا ينفي وجود صيغ أخرى لتمثل الواقع أو الوجود والكون لها أيضا قسطها من العقلانية التي تختلف في معاييرها عن العقلانية التي أطلق عليها أصحاب الفلسفة النقدية اسم العقلانية الأداتية. فعلاقة الفرد مع الوجود ليست علاقة معرفية موضوعية فحسب، كما يظهر ذلك الفن والأخلاق والعاطفة، وإنما هي علاقة متعددة المستويات والأبعاد. ومن هذه المستويات علاقة الايمان الذي يشكل جوهر المنطق الديني أو التجربة الدينية. وبقدر ما يعبر الايمان عن الولاء والانتماء والتماهي مع الوجود، في صوره المادية أو الذهنية، يدفع المؤمن إلى الإخلاص لما يؤمن به، ويؤهله للارتفاع على شرطه المادي بل والإنساني، ليتحد بالمطلق، أي ليصل إلى مستوى نكران الذات والاستغراق في الفكرة او القيمة او الرمز الذي يتعلق به. والايمان، أي الانخراط الكلي والتسليم كأسلوب للتعامل مع العالم والتصالح مع الذات، كجزء من الكون، تجربة إنسانية أصيلة ليست مرتبطة بمستوى تطور المعرفة البشرية ولا بالاستلابات الناجمة عن السيطرة الخارجية او الاستغلال الطبقي ولا بالتدين الكلاسيكي فحسب. بل يمكن لكبار العلماء أن يعاينوها. وقد كان بين الشيوعيين من تمثل الفكرة الشيوعية بطريقة ايمانية، وكان يتصرف تصرف المؤمنين الذين يهبون أنفسهم للفكرة ويموتون في سبيلها. وقد مات منهم الكثير في السجون والمنافي من دون أن يرف لهم جفن. وبهذا المعنى فإن الدين، كالفن، صيغة من الصيغ الذهنية لتمثل العالم بطريقة تجعل من التسامي الروحي والأخلاقي مذهب فكر وحياة في الوقت نفسه. ولا يمنع تقدم المعرفة ولا تحرر الفرد من نظم الوصاية والقمع استمرار مثل هذه التجارب الإنسانية الكبرى، كما كانت تجسدها بشكل أوضح بعض المذاهب الصوفية الإسلامية.
يشكل التدين بهذا المعنى نمطا من أنماط العلاقة بين الفرد والفكرة التي يتمثلها ويتعامل بها مع غيره من الأفراد. فالمجتمعات لا تعيش من دون عقائد توجه سيرها وتضمن تفاعل عناصرها في ما بينهم. وكما أن من الممكن للفرد أن يتعامل مع عقائده وأفكاره بطريقة استعمالية، أو أداتية، يستخدمها حسب مصالحها وحاجاته الأنانية، حتى لو كانت عقائد دينية سماوية، من الممكن له أيضا أن ينظر إليها كوسيلة للسمو بذاته والارتفاع عن شرطه المادي الفاني وفرصه للاتحاد مع المطلق الإلهي أو الإجتماعي، حسب طبيعة العقيدة. والواقع أن كثيرا من الفلاسفة وعلماء الاجتماع المحدثين كانوا قد رفضوا النظرة التبسيطية التي سيطرت على الفلسفة الوضعية عموما، واعتبروا الدين نظاما رمزيا مرافقا لوجود المجتمع. وكان إليكسي دو توكفيل أول من أشار إلى أهمية الدين في استقرار النظام الديمقراطي الحديث الذي نشأ في أمريكا في القرن التاسع عشر لما ينطوي عليه من ذخيرة أخلاقية. كما أن دوركهايم الذي كان أول من سعى إلى تأسيس علم الإجتماع على أسس علمية يعتبر أن الدين ضروري لتحقيق الاندماج الاجتماعي، بما في ذلك في المجتمعات الحديثة. أما ماكس فيبر فقد أكد على أهمية المنظومات القيمية في قيام النظم الاقتصادية نفسها، كما أبرز ذلك في كتابه عن المناقبية البروتستنتية وروح الرأسمالية. ونظر جورج سيميل إلى الشعور الديني بوصفه معطى أساسيا في حياة المجتمعات.
والعنصر الثاني الذي يفسر هذه العودة ما شهدته الأديان التوحيدية المنحسرة سابقا من تحولات داخلية عميقة، ربما كان من الصعب على المراقب الخارجي وغير المختص أن يتعرف عليها، لأنها تقع في قلب منظومة القيم والتطلعات العميقة للأفراد. وقد استعادت هذه الاديان دورها بقدر ما غيرت من دلالاتها وتحولت إلى أطر فكرية للاحتجاج على حداثة إشكالية، مخربة، تمييزية، مفقرة وسالبة، وأحيانا مستحيلة، بالنسبة لجميع أولئك الذين خرجوا من تقاليدهم الفكرية والدينية القديمة، من دون أن يجدوا ما يملأ عليهم فراغهم الروحي والفكري والاجتماعي معا. فليس من المبالغة القول أن تبرير الاحتجاج وتأطيره هو اليوم الوظيفة الرئيسية للأديان التوحيدية المستعادة.
والعنصر الثالث هو إزمة الحداثة أو نمطها الكلاسيكي، وانكشاف عجز هذا النموذج، وريث المرحلة الصناعية وما بعد الصناعية، في استيعاب الكتل المتزايدة الخارجة من انماط حياتها التقليدية، وإدماجها في نموذج الحياة الداعية لها. وبالتالي تبين المآزق التي تقود إليها هذه النماذج القائمة على التنافس في رفع معدل الانتاجية والمزاودة في القيم الاستهلاكية. كما أن التطورات التقنية والعلمية والعولمة التي أفرغت المجتمعات من روابطها الحميمية، وعمقت الشكوك في المستقبل، ربما كانت أحد الدوافع الرئيسية للإحياء الديني الراهن. وهذا ما يفسر كيف بدأت العقائديات الزمنية أو الدهرية التي رافقت تقدم الحداثة، كالقومية والشيوعية، تتراجع وتنحسر شيئا فشيئا، ومعها السياسة ذاتها، لصالح العقائد الدينية وروابطها القائمة على الأخوة والقرابة الروحية، التي بدت في الحقبة السابقة وكأنها الضحية الحتمية لعملية التحديث والتنمية الفكرية والتقنية.
هكذا شهدنا منذ السبعينات تقاربا مطردا بين حركات الاحتجاج والتغيير والإحياء الديني. وربما كانت الثورة الاسلامية الايرانية هي النموذج الأكثر تعبيرا عن هذا التقارب الذي سيستمر وينتشر ويعبر عن نفسه بصور مختلفة في معظم مناطق العالم النامي، بل في أوساط شعبية متزايدة من العالم الصناعي المتقدم. لا يختلف الأمر عن ذلك بالنسبة للاهوت التحرير الذي شهدته مجتمعات أمريكا اللاتينية، وحركة رجال الدين البوذيين في مينمار اليوم.
والواقع أن ما يسمى بالصحوة الدينية لا يعبر عن عودة إلى أشكال التدين القديمة ذاتها ولكنه يعيد استثمار جدلية الإيمان أو ما يسميه البعض بالشعور الديني، الذي هو مزيج من نكران الذات والتفاني – الذي يمكن أن يكون منزها لذاته، أو للمباديء التي يتعلق بها، أو لحساب الجماعة القومية أو الطبقية أو الطائفة - في المعارك التي أثارتها وتثيرها عمليات التحديث نفسها. فهي أقرب إلى أن تكون توظيفا للفكر الديني الكلاسيكي في هذه المعارك الحديثة بالفعل، من أن تكون استعادة للمعارك الدينية والعقائدية التقليدية. وهذا ما يفسر الطابع السياسي لهذا الإحياء في كل مكان. فالدين يستعاد هنا كمورد أو مصدر لتعزيز موقف فئات اجتماعية معينة في صراعها ضد البؤس أو الفقر أو البطالة أو التهميش أو العدوان الخارجي. ويشكل الدين هنا مصدرا لتاكيد هوية جمعية أو عقيدة كفاحية تشجع على التضحية، أو تفعيلا لقيم التضامن الاجتماعي والانساني. ومن هنا يمكن القول إن الدين لم يعد بعد أن انحسر وإنما أعيد تاهيله وتجديد أفكاره وقيمه ليقوم بأدوار جديدة. فالمادة التي يستخدمها الدين المجدد قديمة، تتعامل بالأفكار والمفاهيم والمصطلحات والطقوس ذاتها، لكنها وضعت في صورة جديدة أوحت بها حاجات المجتمعات وتحديات الحداثة. من هنا لم يعد هناك معنى لوصف هذه الأديان، كما فعل ماركس، بأنها أفيون الشعوب أو أداة تخديرها، ولا لعزو انتشار الفكر الديني إلى جهل العامة أو غياب المعرفة العقلية.
لا يتناقض هذا الإحياء المتزايد للدين مع الحداثة وقيمها إذن ولكنه يصب فيها. فهو يهدف إلى تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة. بيد أن المشكلة التي يطرحها تظهر بشكل رئيسي على مستوى إعادة بناء المجتمع والدولة. فالسياسة تعتمد بشكل متزايد في هذه الحالة على تعبئة المشاعر والقيم والموارد الدينية، لكن الدولة بوصفها دولة مواطنين متساويين يخضعون لقانون واحد، لا تقوم إلا إذا نجحت النخب السياسية في تحييدها عقائديا، وإخراجها من دائرة النزاعات السياسية والدينية، أي إلا بالارتفاع بها إلى مستوى الدولة المؤسسية،غير الايديولوجية. وربما هنا تكمن مفارقة السياسة المعاصرة في بلداننا. كيف نوفق بين متطلبات ممارسة سياسية تنجذب أكثر فأكثر نحو استلهام العقائدية الدينية، ومتطلبات بناء الدولة كمؤسسة جامعة، يتساوى في ظلها أصحاب العقائد والمؤمنين جميعا من كل المذاهب والأديان، أي تحويلها إلى دولة قانونية لا ايديولوجية؟ إلا يفسر هذا التحدي الانقسامات العميقة التي تسم مجتمعاتنا وتجعلها تتخبط في معارك ونزاعات مستمرة، تدخل السياسة في طرق مسدودة وتفرغ الدولة من مضمونها كؤسسة قانونية جامعة؟
في نظري، لا يكمن الجواب على هذه المفارقة التاريخية في الدعوة إلى استبعاد الدين من السياسة، وإنما في السعي إلى تعميق مفهوم الدين بمعنى الإخلاص، بوصفه نكرانا للذات في سبيل المباديء الإنسانية، التي هي مقاصد إلهية أيضا، على حساب استغلاله لتأكيد نفوذ الطائفة أو القببلة أو الامة، مما يشكل مصدر الخطر الرئيسي على أي تجرية سياسية دينية معاصرة. عندئذ يمكن للدين المساوي للإخلاص والقائم على مباديء الحق والعدالة والمساواة، أن يكون عاملا رئيسيا في بناء دولة القانون والديمقراطية العربية او الاسلامية المنشودة.

الدين والسياسية في مواجهة تحديات العصر


بعكس ما بثته الايديولوجيات الوضعية والمادية التي سادت منذ القرن التاسع عشر، تظهر أحداث العقود الماضية تجدد الطلب على الدين في الحياة السياسية والمدنية بشكل عام. فقد كان للكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية دورا رئيسيا في التعبئة التي قادت إلى الإطاحة بالنظم الشيوعية، سواء عن طريق ما قام به البابا يوحنا الثالث عشر، الذي أظهر نشاطية استثنائية في الدبلوماسية الدولية، أو عن طريق الكنائس المحلية التي نشطت لدعم قوى المعارضة السياسية وشكلت رافعة لها، في بولونيا وروسيا وبلدان أوروبة الشرقية عموما. ويسرى الامر نفسه على ما قام به المجاهدون الاسلاميون في أفغانستان، الذين كبدوا النظام السوفييتي هزيمة عسكرية وسياسية لن ينجح في التغلب على آثارها أبدا. ولعب أنصار لاهوت التحرير دورا أساسيا أيضا في هزيمة الديكتاتورية وتعبئة شعوب أمريكا اللاتينية أو بالأحرى طبقاتها الفقيرة لتأكيد حقوقهم الاجتماعية، بعد انحسار العقيدة الماركسية. وفي منطقتنا ما كان من الممكن تصور نجاح المشروع الصهيوني الرامي إلى بناء دولة يهودية صافية في فلسطين من دون إحياء الذاكرة الدينية والخلط المتعمد بين القومية والدين. وبالمثل ما كان من الممكن الإطاحة بحكم الشاه الايراني المدعم بقوة من الولايات المتحدة لولا التعبئة الدينية الهائلة التي عملت عليها، خلال عقود، الحوزة الشيعية. ولا يزال النظام الذي ولد مع الثورة الايرانية يدين بوجوده واستمراره إلى حد كبير للروح الدينية التي فجرتها هذه الثورة. وتستند معظم حركات المعارضة العربية والاسلامية وأكبرها اليوم على الذاكرة والتعبئة الدينية في نشاطها الرامي إلى تغيير الأوضاع او مواجهة النظم القمعية والفردية. وقد حلت الحركات التي تستلهم العقائد الدينية محل الحركات القومية واليسارية في تعبئة الجمهور وقيادة الرأي العام في صراعه من أجل تحسين شروط معيشته أو ضمان مشاركته في الحياة العامة أو طرد المحتلين من أراضيه، كما هو الحال في فلسطين ولبنان والعراق وبلدان عديدة أخرى. وأجبرت الحركات الاسلامية الناشطة في كل بقاع العالم، والتي تبنى بعضها استراتيجية مواجهة صدامية ومباشرة مع الغرب، العواصم الغربية والأطلسية إلى إعادة بناء استراتيجيتها الدفاعية على أساس مواجهة الحرب الإرهابية. وقد أصبح مقر البابا ممرا إجباريا لجميع أولئك الديلوماسيين الذين يأملون في إضفاء شرعية دينية على سياساتهم، بما في ذلك قادة الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا ما ينطبق بشكل أكبر على المرجعية الشيعية التي تشكل اليوم، في العراق وإيران مصدر التوجيه الأول للسياسة وللقادة السياسيين الحاكمين. ومن آخر تظاهرات هذا النفوذ الديني المستعاد في سياسات عصرنا انتفاضة رجال الدين البوذيين في بورمة أو مينمار.

يصدم هذا الدور المتجدد للدين، أو للأديان، في صنع السياسة وبناء المجتمعات، بقوة الأفكار المسبقة التي سودتها حقبة طويلة من التفكير الاجتماعي الوضعي، الذي بدأ مع عصر الأنوار العقلاني في القرن الثامن عشر، وآمن بالعلم كمصدر لخلاص الإنسان، وعارض بينه وبين الدين الذي نظر إليه كنتاج لجهل الانسان بالطبيعة أو كتعبير عن طفولته الفكرية. كما تصدم بشكل أقوى أولئك الذين اعتقدوا، على خطى ماركس والفلسفات المادية، بأن الدين أفيون الشعوب، وأنه سينحسر لا محالة مع انهيار نظم السيطرة والاستعباد الطبقية، وزوال استغلال الانسان للانسان، والحاجة إلى عزاء من طبيعة سحرية. وبالنسبة للجميع كانت الحداثة تفترض انتصارا مؤكدا لأشكال الوعي الوضعي والعلمي وتراجعا مضطردا للوعي الديني وللأديان بشكل عام.

ليس هناك شك في أن الثورة الصناعية، وما تبعها من انقلاب في أساليب إنتاج المجتمعات وحياتها وتفكيرها معا، قد ترافقت بتحول كبير في عقائديات الناس وتطلعاتهم وغايتهم من العمل والحياة، أضعف من دور الأديان الكلاسيكية في التأثير على السياسة لصالح عقائديات جديدة آمن الناس بها، ليس بالضرورة بديلا عن الأديان السماوية ولكن إلى جانبها، من بينها القومية والشيوعية والوضعية التي انتشرت بقوة في القرن التاسع عشر، وفاضت عنه إلى القرن العشرين. وارتبط انتشار هذه الايديولوجيات ذات الطابع الزمني بتطور منظومات من القيم والتطلعات تركز على تحسين شروط حياة الإنسان على الأرض، وتؤكد على سعادته الجسدية والعقلية، مقابل تأكيد العقائد ومنظومات القيم الدينية السماوية على الخلاص الروحي والتطلع إلى حياة الآخرة الأبدية.

لكن الأمر بدأ يتغير منذ السبعينيات. وهناك ثلاث عناصر تفسر هذه المفاجاة أو ما يمكن أن نسميه مفاجأة تنامي أثر الدين في الحياة السياسية والمدنية عموما. الأول هو سوء تأويل ظاهرة انحسار الفكر الديني وتوحيدها مع فكرة حتمية زوال الدين أو تلاشيه بوصفه نموذجا عتيقا للتفكير تجاوزه العلم. وهو ما يعكس الطابع التبسيطي والخطي لأطروحات الفلسفات الوضعية والمادية التي بشرت بانحسار الدين لصالح الفكر والوعي العقلاني والعلمي. فانحسار نمط من التفكير والقيم الدينية لا يعني بالضرورة انحسار الدين. كما أن تطور المعرفة العلمية وسيطرة العلم على الحياة العملية، لا ينفي وجود صيغ أخرى لتمثل الواقع أو الوجود والكون لها أيضا قسطها من العقلانية التي تختلف في معاييرها عن العقلانية التي أطلق عليها أصحاب الفلسفة النقدية اسم العقلانية الأداتية. فعلاقة الفرد مع الوجود ليست علاقة معرفية موضوعية فحسب، كما يظهر ذلك الفن والأخلاق والعاطفة، وإنما هي علاقة متعددة المستويات والأبعاد. ومن هذه المستويات علاقة الايمان الذي يشكل جوهر المنطق الديني أو التجربة الدينية. وبقدر ما يعبر الايمان عن الولاء والانتماء والتماهي مع الوجود، في صوره المادية أو الذهنية، يدفع المؤمن إلى الإخلاص لما يؤمن به، ويؤهله للارتفاع على شرطه المادي بل والإنساني، ليتحد بالمطلق، أي ليصل إلى مستوى نكران الذات والاستغراق في الفكرة او القيمة او الرمز الذي يتعلق به. والايمان، أي الانخراط الكلي والتسليم كأسلوب للتعامل مع العالم والتصالح مع الذات، كجزء من الكون، تجربة إنسانية أصيلة ليست مرتبطة بمستوى تطور المعرفة البشرية ولا بالاستلابات الناجمة عن السيطرة الخارجية او الاستغلال الطبقي ولا بالتدين الكلاسيكي فحسب. بل يمكن لكبار العلماء أن يعاينوها. وقد كان بين الشيوعيين من تمثل الفكرة الشيوعية بطريقة ايمانية، وكان يتصرف تصرف المؤمنين الذين يهبون أنفسهم للفكرة ويموتون في سبيلها. وقد مات منهم الكثير في السجون والمنافي من دون أن يرف لهم جفن. وبهذا المعنى فإن الدين، كالفن، صيغة من الصيغ الذهنية لتمثل العالم بطريقة تجعل من التسامي الروحي والأخلاقي مذهب فكر وحياة في الوقت نفسه. ولا يمنع تقدم المعرفة ولا تحرر الفرد من نظم الوصاية والقمع استمرار مثل هذه التجارب الإنسانية الكبرى، كما كانت تجسدها بشكل أوضح بعض المذاهب الصوفية الإسلامية.
يشكل التدين بهذا المعنى نمطا من أنماط العلاقة بين الفرد والفكرة التي يتمثلها ويتعامل بها مع غيره من الأفراد. فالمجتمعات لا تعيش من دون عقائد توجه سيرها وتضمن تفاعل عناصرها في ما بينهم. وكما أن من الممكن للفرد أن يتعامل مع عقائده وأفكاره بطريقة استعمالية، أو أداتية، يستخدمها حسب مصالحها وحاجاته الأنانية، حتى لو كانت عقائد دينية سماوية، من الممكن له أيضا أن ينظر إليها كوسيلة للسمو بذاته والارتفاع عن شرطه المادي الفاني وفرصه للاتحاد مع المطلق الإلهي أو الإجتماعي، حسب طبيعة العقيدة. والواقع أن كثيرا من الفلاسفة وعلماء الاجتماع المحدثين كانوا قد رفضوا النظرة التبسيطية التي سيطرت على الفلسفة الوضعية عموما، واعتبروا الدين نظاما رمزيا مرافقا لوجود المجتمع. وكان إليكسي دو توكفيل أول من أشار إلى أهمية الدين في استقرار النظام الديمقراطي الحديث الذي نشأ في أمريكا في القرن التاسع عشر لما ينطوي عليه من ذخيرة أخلاقية. كما أن دوركهايم الذي كان أول من سعى إلى تأسيس علم الإجتماع على أسس علمية يعتبر أن الدين ضروري لتحقيق الاندماج الاجتماعي، بما في ذلك في المجتمعات الحديثة. أما ماكس فيبر فقد أكد على أهمية المنظومات القيمية في قيام النظم الاقتصادية نفسها، كما أبرز ذلك في كتابه عن المناقبية البروتستنتية وروح الرأسمالية. ونظر جورج سيميل إلى الشعور الديني بوصفه معطى أساسيا في حياة المجتمعات.
والعنصر الثاني الذي يفسر هذه العودة ما شهدته الأديان التوحيدية المنحسرة سابقا من تحولات داخلية عميقة، ربما كان من الصعب على المراقب الخارجي وغير المختص أن يتعرف عليها، لأنها تقع في قلب منظومة القيم والتطلعات العميقة للأفراد. وقد استعادت هذه الاديان دورها بقدر ما غيرت من دلالاتها وتحولت إلى أطر فكرية للاحتجاج على حداثة إشكالية، مخربة، تمييزية، مفقرة وسالبة، وأحيانا مستحيلة، بالنسبة لجميع أولئك الذين خرجوا من تقاليدهم الفكرية والدينية القديمة، من دون أن يجدوا ما يملأ عليهم فراغهم الروحي والفكري والاجتماعي معا. فليس من المبالغة القول أن تبرير الاحتجاج وتأطيره هو اليوم الوظيفة الرئيسية للأديان التوحيدية المستعادة.
والعنصر الثالث هو إزمة الحداثة أو نمطها الكلاسيكي، وانكشاف عجز هذا النموذج، وريث المرحلة الصناعية وما بعد الصناعية، في استيعاب الكتل المتزايدة الخارجة من انماط حياتها التقليدية، وإدماجها في نموذج الحياة الداعية لها. وبالتالي تبين المآزق التي تقود إليها هذه النماذج القائمة على التنافس في رفع معدل الانتاجية والمزاودة في القيم الاستهلاكية. كما أن التطورات التقنية والعلمية والعولمة التي أفرغت المجتمعات من روابطها الحميمية، وعمقت الشكوك في المستقبل، ربما كانت أحد الدوافع الرئيسية للإحياء الديني الراهن. وهذا ما يفسر كيف بدأت العقائديات الزمنية أو الدهرية التي رافقت تقدم الحداثة، كالقومية والشيوعية، تتراجع وتنحسر شيئا فشيئا، ومعها السياسة ذاتها، لصالح العقائد الدينية وروابطها القائمة على الأخوة والقرابة الروحية، التي بدت في الحقبة السابقة وكأنها الضحية الحتمية لعملية التحديث والتنمية الفكرية والتقنية.
هكذا شهدنا منذ السبعينات تقاربا مطردا بين حركات الاحتجاج والتغيير والإحياء الديني. وربما كانت الثورة الاسلامية الايرانية هي النموذج الأكثر تعبيرا عن هذا التقارب الذي سيستمر وينتشر ويعبر عن نفسه بصور مختلفة في معظم مناطق العالم النامي، بل في أوساط شعبية متزايدة من العالم الصناعي المتقدم. لا يختلف الأمر عن ذلك بالنسبة للاهوت التحرير الذي شهدته مجتمعات أمريكا اللاتينية، وحركة رجال الدين البوذيين في مينمار اليوم.
والواقع أن ما يسمى بالصحوة الدينية لا يعبر عن عودة إلى أشكال التدين القديمة ذاتها ولكنه يعيد استثمار جدلية الإيمان أو ما يسميه البعض بالشعور الديني، الذي هو مزيج من نكران الذات والتفاني – الذي يمكن أن يكون منزها لذاته، أو للمباديء التي يتعلق بها، أو لحساب الجماعة القومية أو الطبقية أو الطائفة - في المعارك التي أثارتها وتثيرها عمليات التحديث نفسها. فهي أقرب إلى أن تكون توظيفا للفكر الديني الكلاسيكي في هذه المعارك الحديثة بالفعل، من أن تكون استعادة للمعارك الدينية والعقائدية التقليدية. وهذا ما يفسر الطابع السياسي لهذا الإحياء في كل مكان. فالدين يستعاد هنا كمورد أو مصدر لتعزيز موقف فئات اجتماعية معينة في صراعها ضد البؤس أو الفقر أو البطالة أو التهميش أو العدوان الخارجي. ويشكل الدين هنا مصدرا لتاكيد هوية جمعية أو عقيدة كفاحية تشجع على التضحية، أو تفعيلا لقيم التضامن الاجتماعي والانساني. ومن هنا يمكن القول إن الدين لم يعد بعد أن انحسر وإنما أعيد تاهيله وتجديد أفكاره وقيمه ليقوم بأدوار جديدة. فالمادة التي يستخدمها الدين المجدد قديمة، تتعامل بالأفكار والمفاهيم والمصطلحات والطقوس ذاتها، لكنها وضعت في صورة جديدة أوحت بها حاجات المجتمعات وتحديات الحداثة. من هنا لم يعد هناك معنى لوصف هذه الأديان، كما فعل ماركس، بأنها أفيون الشعوب أو أداة تخديرها، ولا لعزو انتشار الفكر الديني إلى جهل العامة أو غياب المعرفة العقلية.
لا يتناقض هذا الإحياء المتزايد للدين مع الحداثة وقيمها إذن ولكنه يصب فيها. فهو يهدف إلى تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة. بيد أن المشكلة التي يطرحها تظهر بشكل رئيسي على مستوى إعادة بناء المجتمع والدولة. فالسياسة تعتمد بشكل متزايد في هذه الحالة على تعبئة المشاعر والقيم والموارد الدينية، لكن الدولة بوصفها دولة مواطنين متساويين يخضعون لقانون واحد، لا تقوم إلا إذا نجحت النخب السياسية في تحييدها عقائديا، وإخراجها من دائرة النزاعات السياسية والدينية، أي إلا بالارتفاع بها إلى مستوى الدولة المؤسسية،غير الايديولوجية. وربما هنا تكمن مفارقة السياسة المعاصرة في بلداننا. كيف نوفق بين متطلبات ممارسة سياسية تنجذب أكثر فأكثر نحو استلهام العقائدية الدينية، ومتطلبات بناء الدولة كمؤسسة جامعة، يتساوى في ظلها أصحاب العقائد والمؤمنين جميعا من كل المذاهب والأديان، أي تحويلها إلى دولة قانونية لا ايديولوجية؟ إلا يفسر هذا التحدي الانقسامات العميقة التي تسم مجتمعاتنا وتجعلها تتخبط في معارك ونزاعات مستمرة، تدخل السياسة في طرق مسدودة وتفرغ الدولة من مضمونها كؤسسة قانونية جامعة؟
في نظري، لا يكمن الجواب على هذه المفارقة التاريخية في الدعوة إلى استبعاد الدين من السياسة، وإنما في السعي إلى تعميق مفهوم الدين بمعنى الإخلاص، بوصفه نكرانا للذات في سبيل المباديء الإنسانية، التي هي مقاصد إلهية أيضا، على حساب استغلاله لتأكيد نفوذ الطائفة أو القببلة أو الامة، مما يشكل مصدر الخطر الرئيسي على أي تجرية سياسية دينية معاصرة. عندئذ يمكن للدين المساوي للإخلاص والقائم على مباديء الحق والعدالة والمساواة، أن يكون عاملا رئيسيا في بناء دولة القانون والديمقراطية العربية او الاسلامية المنشودة.

vendredi, octobre 12, 2007

نقاش مع عزمي بشارة حول المسألة العربية ومقدمة لبيان ديمقراطي عربي

المستقبل العربي

أعاد المثقفون القوميون العرب اكتشاف الديمقراطية في نهاية الثمانينات، في موازاة إدراكهم إجهاض المشروع القومي الذي كان مركز ثقله مسألة الوحدة العربية. واعتبر المثقفون القوميون في ذلك الوقت أن غياب الديمقراطية هو السبب الرئيس في هذا الإجهاض، وأن تمكين الشعوب من المشاركة في الحياة العمومية، هو الشرط الأول لإعادة تأهيله وتجديده. وفي هذا السياق طبق مركز دراسات الوحدة العربية برنامجا طويل المدى من الندوات والمطبوعات لنشر فكرة الديمقراطية وتسويقها لدى الرأي العام العربي بعد أن تم دفنها من قبل النظم الاستبدادية.
لكن التمسك بالديمقراطية كأولوية في اجندة النهضة أو مشروع النهضة الحضارية العربية، الذي أطلقه هذا المركز نفسه، بدأ يتراجع عند قطاعات عديدة من المثقفين منذ بداية الألفية الثالثة، أحيانا نتيجة تزايد الخوف من مخاطر التغيير السياسي واحتمال أن يكون البديل عن النظم الاستبدادية نظما اسلامية لا تقل استبدادية عنها، وأحيانا أخرى بسبب تفاقم النزاع والمواجهة مع القوى الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة التي أطلقت مبادرة الشرق الأوسط الكبير، وضمنتها شعار الانفتاح الاقتصادي مقابل توسيع قاعدة المشاركة السياسية وإدماج قسم من الطبقات الوسطى فيها.
وجاء احتلال العراق عام 2003، ثم انفجار النزاعات الطائفية والإتنية، ليجعل المقاومة في نظر الكثيرين من القوميين أولوية الأولويات، ويحيد شعار الديمقراطية أو يرجعه إلى الخلف. بيد أن الأمر سوف يتجاوز ذلك بعد تبني واشنطن نفسها شعار نشر الديمقراطية في البلاد العربية، في إطار بحثها عن ذريعة تبرر احتلال العراق بعد أن تبين عدم صحة وجود سلاح تدمير شامل فيه. ومنذ ذلك الوقت حصل انقسام حقيقي داخل جبهة القوى الديمقراطية القديمة التي تكونت في التسعينيات. فبينما استمر بعض أطرافها في التأكيد على أولوية شعار الديمقراطية، ذاهبا إلى حد اعتبار التقدم على طريق التحويل الديمقراطي هو المدخل الضروري للنجاح في المواجهة الوطنية، اعتبرت أطراف أخرى، إسلامية وقومية، أن الأولوية ينبغي أن تعطى اليوم لمقاومة الأجنبي، وذهب البعض إلى حد اتهام الناشطين الديمقراطيين بالتحالف الواعي أو غير الواعي مع القوى الاستعمارية ومراهنتهم عليها.
ويعتبر كتاب عزمي بشارة الجديد "في المسألة العربية مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" أول محاولة جدية لتفسير هذا الموقف الأخير وبلورته من الناحية النظرية. ومن هذه الزاوية يمثل هذا الكتاب مساهمة كبيرة في تطوير النقاش الدائر اليوم حول العلاقة بين الوطنية والديمقراطية في البلاد العربية في الحقبة الراهنة التي تتميز بهجوم قوي من قبل القوى الاستعمارية على المواقع التي كانت القومية العربية قد اكتسبتها من قبل، سواء ما تعلق منها بتأكيد هوية قومية مشتركة وواحدة، أو بسيادة الدول العربية ووحدة أراضيها، أو باحتمالات تكوين أشكال من الاتحاد أو التفاهم والتعاون بين الدول العربية لا تخضع لإرادة القوى الكبرى ولا تدور بالضرورة في فلكها.
يحشد عزمي بشارة كل ذخيرته الفكرية والعلمية كي ما يبرهن للمثقفين المستمرين في اعتبار الديمقراطية ذات أولوية في مسار استعادة المبادرة العربية، الوطنية والاجتماعية، على أنهم لا يعرفون ما تعنيه الديمقراطية، ولا يفهمون شروط تحقيقها في الظروف العربية. وهو في سعيه لإظهار جهل خصومه وقلة معرفتهم النظرية أو حسهم التاريخيين، يوحد بينهم والنيوليبراليين الأمريكيين. بل يتجاوز ذلك، متهما إياهم بالجهل بواقع مجتمعاتهم وشروط إنتاجها وبقوانين الانتقال نحو الديمقراطية معا.
فلا تستقيم الدعوة الديمقراطية في نظر عزمي بشارة إلا في إطار أمة ناجزة. والحال إن ما يميز وضع العرب اليوم هو تعرض هذه الأمة للتفكيك والتخريب من قبل القوى الغربية. وهذا ما يستدعي الحديث عن وجود "مسألة عربية"، شبيهة بما أطلق عليه في القرن التاسع عشر اسم المسألة الشرقية. والمقصود أن الأمة العربية ما تزال "أكبر قومية معاصرة لم تحظ بحق تقرير المصير، بالتحول إلى أمة ذات سيادة، ولم تحظ بفرصة الصراع بعد ذلك للتحول إلى أمة من المواطنين". ومن هنا فإن " المسألة العربية (تعني) في ما تعنيه أن نفس العناصر التي تمنع تحقق الأمة داخل الدولة القطرية وخارجها، هي العوامل التي تعيق التحول الديمقراطي"، وبالتالي ليس هناك أجندة ديمقراطية ممكنة.
ما يأخذه بشارة إذن على خصومه الديمقراطيين العرب، وهو يخاطبهم بصراحة كخصوم، ومن دون تمييز، ليس تبنيهم للفكرة الديمقراطية، فهو يتبناها أيضا، وإنما عدم فهمهم أن الديمقراطية لا تصح من دون أمة. وهو يفترض، أولا، أن غياب هذه الأمة، بما تعنيه من سيادة ورأي عام حر ومستقل، ومواطنية، ووجود طبقة وسطى قوية، وغياب العشائرية والقبلية، لا يترك أي فرصة لنشوء حركة ديمقراطية فما بالك بتحقيق هدفها. وثانيا أن أي حديث في الديمقراطية في ظروف غياب الديمقراطيين، أي غياب قوى ديمقراطية جماهيرية، لا يمكن إلا أن يحرف الرأي العام عن المعركة الرئيسية، ويشجع على التدخلات الأجنبية أو يبررها أو يستدرجها. وهكذا بدل أن يقود العمل الديمقراطي، المعتمد على مجموعات صغيرة لا أمل لها في تحقيق أي إنجاز، إلى إصلاح أوضاع المجتمعات العربية، لا يعمل في الواقع إلا على تأخير حل المسألة القومية المصيرية.
والسؤال الذي يطرح على عزمي بشارة عندئذ هو: إذا لم يكن هناك أجندة ديمقراطية في المجتمعات العربية، فهل هناك بالفعل أجندة قومية؟ وهل يشكل مجموع المقاومات والممانعات القائمة في بعض البلدان العربية، في فلسطين ولبنان والعراق، تجسيدا لأجندة تشكيل الأمة التي يتطلع إليها، وهل تخدم التضحية بالأجندة الديمقراطية هذه الأجندة إذا وجدت ؟
في اعتقادي أن العكس هو الصحيح. ليست الممانعات التي نعيشها إلا معارك النفس الأخير في عملية تراجع تاريخية مستمرة لفكرة قومية تحتاج إلى مراجعة جذرية، وأن الأجندة الديمقراطية التي تهدف إلى إعادة إدخال الشعوب في المعادلة السياسية الإقليمية والدولية، وليس الوطنية فقط، هي وحدها القادرة على وقف سياسة الهرب المدمر إلى الأمام وخلق شروط إعادة بناء الوطنية العربية على أسس جديدة، وإطلاق طاقاتها في مواجهة الضغوط الاسرائيلية والاستعمارية. ومن دون ذلك سوف يستمر التراجع وتتوالى الانهيارات التي نشاهدها في فلسطين ولبنان والعراق أيضا إلى ما لا نهاية.
هذا هو في اعتقادي الإدراك الذي يجعل الجزء الأكبر من النخبة العربية وجمهور الطبقة الوسطى يتمسكان بأجندة الديمقراطية في كل البلاد العربية، حتى في تلك البلاد التي تشهد ساحاتها صراعات ومقاومات وطنية فعلية. وغيابها هو السبب في انهيار الأوضاع الفلسطينية وبروز ما يشبه الدولتين المتنابذتين.
لكن في ما وراء الخلاف في فهم الوضعية الراهنة للقضية العربية، اعتقد أن عزمي بشارة تجاوز في رده على خصومه الحد الأدنى من الامانة العلمية. فهو يتجنى كثيرا على الحركة الديمقراطية العربية عندما يتهمها بالمراهنة على التدخلات الأجنبية. فباستثناء عناصر قليلة معزولة، تمسكت الأغلبية، وأنا منها، بضرورة الربط بين الديمقراطية والوطنية، لأنهما يشكلان وجهين متضامنين لمعركة واحدة هي معركة الحرية الفردية والجماعية، تماما كما يشكل الاستبداد والإخفاق الوطني وجهين لنظام واحد هو نظام الوصاية والسيطرة الأجنبية، ويعكس تفاهمهما الضمني الواعي أو الموضوعي. وقد كان همنا الدائم تجنيب الرأي العام المأزق المأساوي الذي يقود إليه منهج عزمي بشارة، أي حتمية الاختيار بين الاستبداد والاستعمار. كما يتجنى كثيرا على هذه الحركة عندما يظهرها وكأنها وليدة الضغوط الأمريكية الجديدة على العراق. فهي مستقلة عنها وسابقة لها بعقود. وقد ظهر كتابي "بيان من أجل الديمقراطية" عام 1977 وكان عنوانه الفرعي، مأساة الامة العربية، تأكيدا منذ ذلك الوقت للرابط بين الديمقراطية وإعادة بناء الأمة أو الوطنية العربية. وأخشى أن يعيدنا عزمي في أطروحاته الجديدة إلى حقبة مضت تظهر فيها الديمقراطية نقيضا للقومية، في الوقت الذي تشكل فيه مصالحة القومية مع الديمقراطية الأمل الوحيد في إنقاذ المشروع القومي وبناء وطنية عربية جديدة.
في نظري، لا يشكل العمل على دمقرطة الحياة العربية مدخلا أساسيا لحل "المسألة العربية" وتمكين الأمة من تقرير مصيرها فحسب، وهو ما يطمح إليه عزمي بشارة، ولكن، أكثر من ذلك، الشرط الضروري لحماية المقاومات العربية الراهنة وتعزيز موقفها. ومن دونه سوف تجد المقاومة نفسها في طريق مسدودة، وربما ضحية الفوضى الزاحفة، سواء بقيت السيطرة الأجنبية قائمة أو تعرضت للانهيار.
لكن مهما كان الحال، يستحق عزمي بشارة ثناءا كبيرا لمبادرته في فتح مناقشة جوهرية يتوقف على حسمها تقدم العمل العربي الوطني والقومي أو تراجعه وربما انهياره في السنوات القادمة.

mercredi, octobre 10, 2007

في شروط تجاوز الأزمة الوطنية العربية

الاتحاد 10 اكتوبر 07

خلف انهيار النظام شبه الاستعماري الذي حكم المنطقة الشرق أوسطية منذ بداية الحقبة الاستقلالية بعد الحرب العالمية الثانية في شقيه الخارجي (السيطرة العسكرية والسياسية الغربية) والداخلي (نظم الاستبداد المحلية)، فراغا كبيرا، لا يقتصر على الناحية الاستراتيجية فحسب، ولكن يشمل الحياة السياسية أيضا. ويعني الفراغ السياسي غياب أي مشروع للعمل الجمعي، وطنيا كان أم إقليميا، يضع القواعد والمباديء الضرورية للسلام والاستقرار والتعاون والتبادل والإثراء المتبادل والابداع والتجديد الضروري لاستمرار المدنية وتطور الحضارة الانسانية.
لا يمكن للإرهاب الذي انتشر منذ عقدين على يد بعض الجماعات المتطرفة الاسلامية أن يشكل مشروعا سياسيا بالمعني الذي ذكرت. وبالمثل ليس بإمكان الحرب الطائفية ولا النظم الطائفية أيضا أن تنتج مشروعا سياسيا. ولا تستطيع فكرة الديمقراطية التي انتشرت في أوساط الرأي العام بكثرة أن تصبح مشروعا بديلا أيضا، مع استمرار سياسات الغرب الراهنة، لأنها لا يمكن أن تنشأ وتستمر، في منطقة مثل منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية من دون تعاون الغرب الذي يحتكر النفوذ والقوة فيها، أو على الأقل عدم مواجهته لها وقبوله بحق شعوب المنطقة بالفعل في تقرير مصيرها. ولا تملك القومية حظا أفضل في توفير مثل هذا المشروع. فهي لم تعد تحرك شعورا ولا تجمع شعبا، بعد أن حولتها النظم الفئوية إلى شعار ايديولوجي لتبرير سلطة جائرة تفتقر لكل مقومات الشرعية والنجاعة. أما الفكر الإسلامي الذي أصبح موردا للعديد من نظريات الصراع على السلطة والحكم، فقد دخل هو نفسه في مازق بعد أن تحول في العديد من المواقع إلى مذاهب متنابذة، وارتبط ذكره في أوساط الرأي العام بتجارب النظم التي ادعت الاستناد إلى الاسلام، أو بحركات الارهاب والعداء المستحكم والشامل للغرب، وكل ما يرتبط به من قيم العقل والحرية الفردية والحداثة.
هذا الفراغ الفكري السياسي هو الذي يفسر بقاء النظم المفتقرة لأي مبدأ أو قانون سوى حفظ مصالح القائمين عليها وتعظيمها. وهو الذي يشكل التربة الأخصب لنمو الفساد وتفاقمه. ففي غياب أي مشروع سياسي، بل غياب الشروط التي تمكن من بناء مشروع سياسي على درجة من الشرعية والنجاعة والاقناع، تعطيه الصدقية وإمكانية التحقيق، يمكن لكل أصحاب المشاريع الشخصية والفئوية الصغيرة أن يجدوا مجالا فسيحا لمغامراتهم الأكثر غرابة ولا معقولية. المشاريع الجزئية ما تحت الوطنية وما فوق الوطنية تنمو وتزدهر مع غياب المشروع العمومي (الوطني). والغرب يقضي بسياساته الخرقاء على كل القوى العمومية (الوطنية)، ويسد الطريق بها على أي مشروع تاريخي ممكن الظهور، بقدر ما يقضي على إمكانية وجود سياسة وطنية، وبالتالي قيادة وطنية أيضا تتماهى مع المصالح العامة وتعمل لها.
فالمستبدون الطغاة والانتهازيون والطامحون من علمانويين وإسلامويين يستثمرون الفراغ القائم كما يستثمرون سياسات العدوان الخارجية ليخضعوا الشعب لمشاريعهم الخاصة، أو ليجعلوا من هذه المشاريع البديل الوحيد عن الفوضى، أي ليسدوا الفراغ.
إذا لم تتغير الشروط القائمة، وفي مقدمها علاقة المنطقة بالمنظومة الدولية، وعلاقة أطرافها فيما بينهم، ستغرق أكثر وتغوص في حقبة طويلة من التخبط والنزاع المعمم المفتوح.
أمام مخاطر الانجراف وراء المشاريع الوهمية الفارغة، ربما كان الانكفاء على المشاريع الوطنية، والعمل على بلورة استراتيجيات تهدف إلى إعادة بناء ما تهاوى منها، على أمل تحويلها إلى وطنيات مستقرة وفاعلة، هو اليوم الملجأ الوحيد للقوى الديمقراطية، في انتظار فرص أفضل للعودة إلى استراتيجيات أكثر طموحا في إطار إطلاق ديناميكية الحداثة العميقة في الثقافة والحضارة العربيتين. لكن، في هذه الحالة، على أي أساس يمكن إعادة بناء هذه الوطنيات المحطمة؟ أي ديمقراطية وأي تسوية وطنية يمكن تصورهما للتغلب على الجراحات وتجاوز التصدعات؟ كيف يتم جمع الكسور الطائفية والمذهبية والاجتماعية والإتنية في بوتقة واحدة؟
تستدعي إعادة بناء الوطنية، فكرة وسلوكا، تحرير الفرد من الإمعية وغياب الهوية والذاتية، وتأكيد استقلال المجتمع عن سيطرة القوى الخارجية، وسيادته تجاه جميع القوى وشبكات المصالح الخاصة المحلية، وتوسيع دائر ة مشاركة الأفراد جميعا في بناء نظام قائم على احترام مباديء الحق والعدل والقانون التي لا يمكن قيام رابطة سياسية اليوم، أي نشوء جماعة سياسية حية، من دونها. وهو ما يجمع تحت اسم نظام الديمقراطية. والحال أن مشروع الديمقراطية لا يولد في الفراغ القيمي والسياسي والاستراتيجي. فهي جزء من مشروع تحديث شامل. والصراع مع الغرب كله يجري حول طبيعة هذا التحديث وفرصه المتاحة. فالاندماج بالعصر واستيعاب التجديدات المدنية والعلمية والتقنية والحضارية عموما، أي إطلاق عملية التحديث العربي العميقة، الفكرية والمادية، التي توقفت، هي المشروع التاريخي الوحيد الممكن في الواقع، وليس هناك أي مشروع آخر. وهذا يحتاج إلى شروط داخلية وخارجية لا تزال بعيدة عن التحقيق. وبانتظار ذلك، تستمر سياسات الغرب الراهنة في دفع النواة الديمقراطية الوليدة إلى المزيد من التهميش، وتقضي على آفاق الحداثة العربية كما تزرع اليأس والشك بالمستقبل بدل تنمية الثقة والأمل. يكفي للبرهان على ذلك رؤية الدمار الذي يعم الشرق في فلسطين والعراق والسودان والصومال والخراب الذي يلف البلاد الأخرى من دون تمييز.
كي ينفتح من جديد طريق الحداثة المادية والسياسية والمدنية ينبغي أن يغير الغرب من سياساته الشرق أوسطية بصورة جذرية، وينتقل من مفهوم الأمن والإخماد إلى مفهوم الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعوب واحترام القانون واتباع طريق التعاون والتفاوض في حل الخلافات، أي اعتبار الشعوب الشرقية شعوبا بالمعنى الكامل للكملة، لا سكانا يخضعون للوصاية، لا تهدف السياسات الدولية إلا إلى احتواء حركتهم بوصفهم مصدر أخطار كبيرة ومستمرة. وليس هناك في الأفق أمل في نظري في تغيير سريع لهذه السياسات. لأن المصالح الآنية تعمي المستفيدين منها داخل العالم العربي وخارجه.
أما إعادة بناء المجتمعات على أسس الوطنية الجامعة فيستدعي تغيير المناخ الثقافي والنفسي في المنطقة، ووضع حد لانتشار الطاعون الأسود والرهان الوحيد على العنف. وهذا هو عمل المثقفين والحركات المدنية. عملنا. لكن سيبقى أي تغيير هشا وقابلا للتراجع إذا لم تنشأ الظروف التي تسمح بتزامن التحولات الفكرية والتحولات الجيوستراتيجية. فليس هناك أمل في تقدم عملية التحويل الثقافي المدني، وربما في انطلاقها، مع استمرار السياسات الغربية العداونية التي تستثير العنف المقابل، وتشجع على نمو ثقافة الانكفاء والاحتجاج والانتقام ورد الفعل. ولا بد لمثل هذه السياسات إلا أن تعزل براعم التقدم المدني والديمقراطي وتحولهم في نظر الأغلبية الخائفة والمتسمرة كليا على رد العدوان، إلى ما يشبه الأصداء للغرب. كما لا فائدة من تغيير السياسات الغربية، سواء أحصل تحت تأثير استخدام القوة والمقاومة أو الحوار، إذا لم يحصل بموازاتها عمل ثقافي واسع يهدف إلى تحرير الشعوب من الخوف والاستلاب والنظرة الدونية للذات، وإعادة ثقتها بنفسها وتعميق وعيها المدني والتاريخي، وضمان مشاركتها الفعالة في عملية التنمية والبناء.

jeudi, octobre 04, 2007

في أصل المصاب العربي

الاتحاد 4 اكتوبر 07
لم أشارك في السنوات الأخيرة في ندوة أو محاضرة لم تطرح فيها الأسئلة الصعبة والمحيرة معا حول المصير العربي: كيف صار العالم العربي على ما هو عليه اليوم من تخلف وضعف وانتشار للعنف وسيطرة عقلية التكفير والرأي الواحد ورفض الآخرين، وكيف يمكن الخروج بالمجتمعات العربية من حالة الاستبداد والسيطرة الخارجية وعقليات القرون الوسطى إلى رحاب الحرية والسيادة والحداثة المادية والسياسية والثقافية؟
جوابي في مواجهة هذا الاحباط العربي العميق هو أنه لا يوجد في ذلك أي سر. فنحن ببساطة مجتمعات تأخرت في استيعاب التجديدات والابداعات والتنظيمات التي كونت المجتمعات الأوروبية والصناعية الحديثة عموما. ولذلك نحن بحاجة إلى بذل مجهود أكبر وأسرع من الدول المتقدمة حتى نستطيع أن نساير العصر ونسير بموازاة الآخرين الذين سبقونا. فوضعنا كوضع التلميذ الذي يلتحق متأخرا بالصف الدراسي. لا يستطيع أن يكون على المستوى نفسه مع زملائه من دون بذل جهد استثنائي. بنبغي أن يعمل أكثر ويواظب أكثر ويجد أكثر ويتعب اكثر.
مشكلتنا اننا فعلنا العكس ولا نزال. قمنا بثورة لم نوفق بها، ففشلنا ثم أصابنا شعور بأننا مهما فعلنا لن نستطيع أن نتدارك التأخر الذي حصل لنا، فاخترنا طريق التغطية على تأخرنا، سواء بالتدجيل والدعاية وادعاء الانجاز الشكلي من دون تحقيق أي إنجاز في الواقع، أوبالهرب من الحاضر لإخفاء خجلنا من ضعفنا وعجزنا وراء إنجازات الماضي وتمجيدها، أو أخيرا بتحويل تأخرنا إلى قيمة خاصة بنا وعنصر من عناصر هويتنا، بل بتحويل تقدم الآخرين إلى عيوب ومثالب. فبدل أن نسعى للتقدم بشكل أسرع حتى نتمكن من الالتحاق بالركب، انكفأنا على ذاتنا، وشغلنا أنفسنا بهواجسنا وأسرفنا في تغذية أوهامنا ورعايتها، تحت شعار الحفاظ على هويتنا أو العمل على استعادتها، وهي التي لم نضيعها لحظة، وليس هناك أي سبب كي نضيعها. ولأن مواردنا ما فتئت تقل مع قعودنا عن العمل وهمود همتنا، حكمنا على أنفسنا بالاقتتال والنزاع في ما بيننا على تقاسم ثروة مادية ومعنوية متناقصة ومتراجعة باستمرار، في مواجهة حاجات متنامية، تحت تأثير تمثلنا أنماط الاستهلاك الخارجية وتزايد عدد السكان بمعدلات تتجاوز كل معدلات زيادة السكان العالمية، حتى لو أنها، كما تدل إحصاءات آخر كتاب صدر بالفرنسية، بدأت تتراجع بصورة جدية (موعد الحضارات أو لقاؤها، للكاتبين يوسف كرباج وإمانويل تود). هذا هو جوهر المشكلة الحقيقي التي نعاني منها، وما تبقى تبريرات واختراعات وهمية وخيالية للدفاع عن النفس تجاه الشعور بالنقص والخجل والإخفاق والتأخر غير المستدرك واليأس.
ولذلك، بعكس ما أوحت به، في العقود الثلاث الماضية، ثقافة الهرب والانكفاء على الذات والتغطية على الفشل، باسم الدفاع عن الهوية والتراث، لم تشهد مجتمعاتنا أي صحوة دينية أو مدنية او مادية، ولكنها دخلت في أزمة عميقة وشاملة معنوية واقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، أي في أزمة هوية أشد من السابق أيضا. فتحن نشكك اليوم بعروبتنا أكثر مما كان عليه الأمر في أي فترة أخرى، ونعتقد بعجزنا أكثر من أي وقت سابق أيضا، ونعاني من الضعف والتخاذل والانحناء أمام القوى الأجنبية كما لم نعرفه حتى في حقبة السيطرة العثمانية. فالاستسلام شامل، اما المقاومة فبؤر صغيرة مشتتة، ومعظمها متمفصل على منافسات ومنازعات مذهبية أو عشائرية أو دينية أو سلطوية أيضا. وقد زاد النزاع في ما بيننا، ونمت إرادة السيطرة بين أبناء جلدتنا بعضهم على البعض الآخر، وانهارت مفاهيم التعددية والقبول بالآخر في مجتمعاتنا، سواء أكان هذا الآخر سياسيا أو دينيا أو أقواميا أو حتى من جنس آخر. فكل واحد منا يعتقد أنه الأوحد والأصلح والأفضل والأحق من كل ما عداه بتبؤ مكانة متميزة واستثنائية. وأن له الحق في خدمة نفسه قبل الآخرين ومن دون النظر إليهم أو أخذ مصالحهم بالاعتبار. هذه هي حالة الفوضى والاضطراب الناجمة عن انهيار المعايير والقواعد والتخلي عن الالتزامات الجماعية والاستسلام لسيطرة المصالح الخاصة والشخصية، التي تميز سلوك أعضاء مجتمعاتنا، من قمة هرم السلطة حتى أبسط عامل.
وأصل الاستبداد هو هذا : أي غياب التضامن الجمعي، بما يعنيه من رؤية مشتركة، ومن التزام طوعي بضوابط وقواعد ومعايير وقيم إنسانية جامعة. فعندما لا يفكر كل واحد من أبناء المجتمع إلا في خدمة نفسه لماذا نريد أن يفكر أولئك المستفردين بسلطة القرار والمسيطرين على الدولة ومواردها بخدمة غيرهم من أبناء الشعب؟ إنهم لا يتصرفون إلا كما يتصرف كل واحد منا.
لن نخرج من هذه الأزمة الشاملة، التي أسميها أزمة الاجتماع العربي بأكمله، إلا بمواجهتها والتعرف عليها من حيث هي كذلك، لا صحوة ولا عودة للأصالة ولا تاكيد على هوية أو ثقافة أو حضارة مختلفة. عندئذ فقط يمكن التحقق من المشاكل وفهمها والتعرف عليها لا طمسها وتزيينها وتخريجها كمزايا او انتصارات أو عناصر هوية. وعندئذ يمكن أيضا البحث فيها وايجاد الحلول لها. وهذه الحلول تتلخص كلها في جملة واحدة: أن يتحمل الجميع وكل فرد مسؤوليته في ما حدث من تراجع في بنية علاقاتنا الاجتماعية، ومن تقهقر في أوضاعنا الأخلاقية والسياسية. وهذا ما يرتب على كل واحد منا أن يتحلى بالشجاعة الكافية لمراجعة أهدافه وتوجيه النقد لنفسه والتعرف على العطب الكامن في سلوكه. ثم، وهذه الخطوة الثانية الضرورية، تحمل الجميع وكل فرد مسؤوليته الخاصة، ومعرفة ما يترتب عليه لإرساء أسس نظام اجتماعي جديد، أي ببساطة، علاقة اجتماعية، أو علاقة مع الآخر، يحترم فيها الانسان وكل فرد الإنسان والفرد الآخر، بصرف النظر عن دينه ومذهبه وأصله الاجتماعي وجنسه، ويجعل من الارتقاء بشروط حياة الانسان المادية والمعنوية، وتنمية مواهبه، وتعميق وسائل التواصل والتضامن والتكافل بين أفراد مجتمعاته، أي باختصار سعاده المجتمع، غاية الدولة أو التنظيم السياسي والمدني.
من دون ذلك سوف نستمر نتخبط في الأزمة الشاملة التي نعيش فيها، مع خطر أن نفقد بشكل أكبر شعورنا بأننا نعيش في أزمة، ونقبل بتخلفنا وفوضانا واستبدادنا وغياب نظام القانون والسياسة والأخلاق عن مؤسساتنا، بما فيها الدولة، باعتبار كل ذلك من سماتنا الوطنية وعوامل أساسية في بناء هويتنا الثقافية. وفي هذه الحالة سوف ندخل في حقبة من الهمجية والبربرية المستدامة التي لن نخرج منها قبل عقود طويلة.
البداية تكمن في أن ندرك أننا نحن المسؤولين عن أنفسنا، وعن مصيرنا، ولا أحد غيرنا، أي أن يدرك كل واحد منا أنه مسؤول عما يحصل لنا جميعا، وإن لم تكن مسؤولية كل منا مساوية للأخرى.

mercredi, octobre 03, 2007

الفتنة ا لفكرية ومصير المجتمعات العربية

الاتحاد 25 سبتمبر 07
ما يميز مجتمعاتنا العربية اليوم هو تصدعها وانقسامها بين أكثرية فقدت الثقة بالصيغ والحلول الحديثة، وتعتقد ان المسؤول عن الأزمة اوالتخبط الراهنين هو هذه الصيغ نفسها، وأقلية تعتقد أن السبب يكمن في التقاليد الدينية الموروثة التي تتعايش معها النخب الحاكمة بدل استئصالها. وكما تطالب الفئة الأولى بتطهير المجتمع والبلاد من آثار التغريب والحداثة، تنادي الفئة الثانية بمواقف جذرية مما تسميه قوى الظلامية والرجعية.
ويولد هذا الانقسام، بل الفصام، المستند إلى هيجانات واحتقانات نفسية وسياسية لا إلى مقاربات عقلية وموضوعية، حربا أهلية معلنة او كامنة لا أمل لأحد في حسمها. ليس لأن الأقلية التي تسمي نفسها علمانية، وهي ليست كذلك، تحتكر، في مواجهة الأكثرية الاسلاموية، في أغلب البلدان، السلطة وموارد القوة واستخدام العنف فحسب، ولكن أكثر من ذلك لأن كلاهما: مشروع الدولة الإسلاموية، أي مدعية التطابق مع تعاليم الاسلام، ومشروع الدولة العلمانوية، التي تريد أو تدعي أنها تريد أن تكرس خيار الحداثة وتدافع عنه، بالوسائل القهرية، طريق مسدود. المشروع الأول لأن الإسلاموية ليست مشروعا أصلا، وإنما هي لافتة تنضوي تحتها مشاريع أو أشباه مشاريع ومطالب وتطلعات مختلفة ومتباينة ومتناقضة، لا يمكن أن تقود، عندما تواتيها فرصة الوصول إلى السلطة، وأحيانا قبل الوصول إلى السلطة، إلا إلى الانقسام المتزايد والاقتتال بين الإسلامويين أنفسهم. وهو ما جرى في جميع النظم التي انبثقت عنها في العشرين سنة الأخيرة. والمشروع الثاني لأن الإستبداد لا يمكن أن يقود، تحت أي يافطة جاء، إلى شيء آخر سوى خيانة الحداثة وقيمها، وتحويل الدولة إلى مزرعة للأسر المالكة أو الحاكمة لا فرق، بقدر ما يعني قتل الرأي العام، وتفريغ المجتمع من الحياة السياسية، وإكراه الأفراد على الخضوع والطاعة العمياء. فإلغاء الحريات هو الأساس لإجهاض الحداثة وقطع الطريق على أي تقدم آخر، في الاقتصاد والسياسة والعلم والتقنية والإدارة والأمن الوطني والأهلي على حد سواء. فالحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية هي منطلق الحداثة وشرط وجودها، لأنها الأساس الذي يقوم عليه بناء الفرد كمواطن مستقل ومسؤول، ومبدأ تربيته كمصدر وعي وصاحب إرادة ومبادرة، وبالتالي كمشارك أو شريك في جماعة سياسية تتجاوز الرابطة الدموية أو الدينية والمذهبية. ومن دون ذلك ليس هناك أمل لا في قيام أمة ولا دولة حديثة ولا مجتمع مدني.
كان من الممكن أن يقود هذا الانسداد المزدوج إلى انتشار إدراك أعمق بالأزمة التاريخية التي تعيشها المجتمعات العربية، ويمهد للخروج منها بصورة أسرع، لو لم ينفتح الانقسام الداخلي ويرتبط التصدع الوطني بصراع أوسع، دولي وإقليمي، يشكل الشرق الأوسط، والمشرق العربي خاصة، مسرحه الرئيسي. بيد أن اندراج الطرفين المتنازعين، بوعي أو من دون وعي، في الاستراتيجيات الدولية واصطفافهما وراءها قد عملا على تعزيز هذه القطيعة، ودفعا نحو حرب داخلية مرتبطة بالحرب الدولية والإقليمية ورهينة لها. فقد أعطى هذا الاصطفاف للفريق العلمانوي المحلي، في كل البلدان العربية وعلى مستوى المنطقة ككل، الانطباع أن بإمكانه الفوز بالمعركة وحسم الموقف لصالحه طالما أنه يحظى بدعم دولي واسع، كما أعطى الانطباع للفريق الإسلاموي بأن التنازل أمام الأقلية "العلمانية" المسيطرة لا يعني خيانة الأغلبية المؤيدة له فحسب وإنما أكثر من ذلك الاستسلام أمام قوى الهيمنة الدولية والاستعمارية.
هكذا تحولت الإسلاموية، التي بدأت كحركة احتجاج داخلي على الظلم الاجتماعي والتسيب القانوني والاستهتار بمصالح الناس ومستقبلهم، إلى ما يشبه الحرب العالمية ضد "الإمبريالية" والسيطرة الخارجية، السياسية والثقافية، وقواعدها المحلية. وهو ما عززته السياسات الغربية التي وجدت هي نفسها في الإسلاموية عدوا استراتيجيا وتاريخيا بديلا يعوضها عن انهيار العدو السوفييتي، ويبرر للمركب الصناعي العسكري، وللمصالح الاستعمارية أو شبه الاستعمارية عموما، الاحتفاظ بمواقعها ونفوذها في البلدان الصناعية. وبالمقابل، تحول الدفاع عن مشروع الحداثة العلمانوي إلى حرب "وطنية" ضد الإسلام والإسلاميين، ومن وراء ذلك إلى ذريعة لتبرير الاستبداد والتحالف مع القوى الاستعمارية. كما تحولت شعارات الديمقراطية والعلمانية إلى حصان طروادة لتلك القوى الدولية الرامية إلى الاحتفاظ بنفوذها في مواجهة الموجة الإسلاموية، أو إلى منطلق لترميم النظام شبه الاستعماري الذي يستند إليه هذا النفوذ. لقد ضاعف ربط الصراعات الداخلية بالصراعات الخارجية من تعقيد المشكلة ومن تفاقم الأزمة، حتى لم يعد من الممكن مواجهة أي نزاع داخلي بمعزل عن الأقطاب الدولية.
وبدل أن نتجه نحو تسويات وطنية، كما حصل في جميع المجتمعات التي عرفت العديد من الأزمات، أصبحنا نتجه، مدعمين كل منا بحليف خارجي، بشكل اكبر، نحو القطيعة والتخوين المتبادل والمواجهات المفتوحة من دون نهاية. وبدل أن تقودنا مقاومة الأجنبي "وعملائه" إلى تعزيز استقلالنا الوطني عن الدول الكبرى، أو تدفع بنا "العلمانية" المزعومة إلى تعزيز التحولات الديمقراطية، عشنا في العقود الماضية التجربة المريرة للسقوط بشكل أكبر في التبعية والالتحاق بالقوى الأجنبية و تعزيز نظم العسف والاستبداد معا.
ليس المسؤول عن ذلك الإسلام أو العلمانية، وإنما تبني استراتيجيات خاطئة وغير ناجعة في مقاومة الظلم والاستلاب، وفي المحافظة على الدولة والنظام "العلماني" معا. فلم نر في المقاومة احتجاجا على الظلم والعسف والطغيان، ولكن نبذ القوى والأفكار والمواقع الأجنبية، التي طابقنا بينها والأفكار والقيم والقوى الحديثة. وهو ما زاد من تعميق الشرخ داخل المجتمعات. وبالمثل، لم نر في الحفاظ على النظم الحديثة العلمانوية سوى سياسات الأمن والقمع وقتل الحريات، التي ليس لها نتيجة أخرى سوى تعزيز قبضة الممسكين بالسلطة على ثروة البلاد والمجتمعات ومواردهما، وتحويل الفساد إلى سياسية وطنية.
وفي النتيجة لم نعمل بخياراتنا الخاطئة هذه سوى على تعميم الاقتتال وتخليده من خلال ربطه بأجندات خارجية. وقد عملت المطابقة الكلية بين مقاومة النفوذ الأجنبي والوطنية، وبين الحفاظ على النظم الحديثة والعلمانوية، على خلط في الاوراق قضي على ملكة التمييز عند الرأي العام، وجعل من شعار العلمانية أفضل وسيلة لحل عرى الوطنية ودولتها الحديثة، كما جعل من شعار المقاومة الإسلاموية أفضل وسيلة لتحويل حركة الاحتجاج الاجتماعي عن أهدافها الديمقراطية وجعلها غطاءا لنظم البطش والفساد والطغيان. وها هي مجتمعاتنا تتمزق بين أقليات اجتماعية تعتقد أنها لا تستطيع منذ الآن الاحتفاظ بوجودها والدفاع عن مصالحها وحقوقها الإنسانية وحرياتها إلا بالتعامل والتفاهم مع القوى الاجنبية ضد شعوبها، وجماهير مجروحة ومقهورة لا تجد في مواجهتها للنخب الحاكمة وحلفائها من وسيلة سوى بعث العصبية الدينية أو الإتنية أو الطائفية أو القبلية في غمار مقاومة لا يمكن أن ينجم عنها شيئا سوى تقويض أسس أي حياة وطنية.

lundi, octobre 01, 2007

من العلمانية إلى العلمنة

مجلة الآداب اللبنانية اكتوبر 07

1- العلمانية كظاهرة تاريخية
لا تكاد العلمانية تحقق أي تقدم في الحياة الاجتماعية العربية، لا على مستوى النظرية ولا على مستوى الممارسة، في الوقت الذي لا تكف فيه الفكرة الدينية، بأشكالها الأشد أصولية واحيانا تطرفا وعنفا، عن توسيع دائرة نفوذها واكتساح حقول جديدة من الممارسة المجتمعية، الفكرية والسياسية والاقتصادية. وربما ترجع هذه المراوحة في المكان، إن لم نقل الانحسار للفكرة العلمانية، في جزء كبير منها، إلى أسلوب تناولها من قبل أنصارها، على المستوى الفكري والسياسي على حد سواء. فهي لا تزال تطرح في الأدبيات السياسية والفلسفية الحديثة من زاوية ما تعبر عنه من قيم ومباديء سياسية ايجابية تتعارض مع متطلبات العديد من النصوص والممارسات الدينية السائدة، ونادرا ما يتجاوز الأمر ذلك إلى دراسة مساراتها العملية في سبيل الكشف عن معيقاتها، - التي لا تقتصر بالضرورة، ولا حتى بالدرجة الرئيسية، على العوامل الدينية، - وتعيين العوامل المساعدة على انتشارها، ووسائل العمل من أجل تحريرها من تناقضاتها وتعزيز قدراتها وفرص تطويرها.
أما على المستوى السياسي، فلا يتمتع المنادون بالعلمانية بأي رؤية مستقلة أو برنامج عمل خاص، يتيح لهم التأثير في مسار الصراع السياسي، والخروج من دائرة التجاذبات التي تتعرض لها قضية العلمانية، سواء أجاء ذلك على يد القوى الرسمية الحاكمة التي تستخدم التمسح بها كذريعة لمنع الانفتاح السياسي، أو على يد المعارضات المختلفة المتنازعة على تحديد موقعها ومكانتها في دائرة التحالفات المعقدة التي تسعى لبنائها في وجه السيطرة الطاغية للسلطة الأمنية. وأقصى ما يطمح إليه العلمانيون المخلصون لقضيتهم اليوم الاتحاد في جمعية مدنية تمكنهم من تطوير تفكير جدي ومعمق بمسائل نشر العلمانية وتجذيرها في تربة تتعرض أكثر فأكثر للتفتت والانجراف في اتجاه المواقف الأصولية الدينية.
ويبدو لي أن من الصعب إخراج القضية العلمانية من الطريق المسدود الذي وصلت إليه من دون تغيير في منهج تناولها، والانتقال من المقاربة الايديولوجية السائدة إلى المقاربة التاريخية والنقدية معا. وتقتضي هذه المقاربة في نظري التمييز منذ البداية بين العلمانية كمفهوم سياسي يشير إلى رؤية ايديولوجية لطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تنشأ بين المؤسسة الدينية والدولة في العصر الحديث، بمفهومها المواطني الجديد، والعلمنة كمفهوم علمي يعنى بوصف مسار أو مسارات تاريخية متباينة ومتعدد للوصول إلى ما تشير إليه العلمانية أو تهدف إلى تحقيقه، في سياق تكوين الدولة الحديثة وتعميم نموذجها، والذي لا يشكل موضوع استقلال السلطة الزمنية عن السلطة الدينية إلا أحد أبسط مشكلاته. بل ليس هذا الاستقلال نفسه إلا أحد منتجات إشكالية تتجاوز مسألة الفصل بين السلطات وتعنى بإعادة بناء النظام الاجتماعي العام برمته، ومن ضمنه العلاقة بين السياسة والعقيدة، بما يتطلبه ذلك من ضرورة مراجعة مفهوم السياسة وتأسيس موقف نسبوي في المعرفة أيضا[i].
ولا أبالغ إذا قلت إن أكثر ما أساء إلى مسألة العلمانية في الدائرة العربية هو تحويلها إلى مسالة شكلية تتعلق بالمقابلة بين صيغتين جاهزتين وكاملتين لعلاقة الدين بالدولة، وجعل الاختيار بينهما معيارا للأخذ بالحداثة والمدنية أو السقوط في البريرية. والحال ليست العلمانية مسألة رياضية تقف فيها نظرية السلطة الزمنية المثالية في مواجهة نظرية السلطة الدينية أو اللاهوتية الرديئة. إنها مسألة عملية، أي تتعلق بتحول تاريخي يمس وعي المجتمعات وبنياتها وأساليب تنظيمها، ويخضع بالضرورة لشروط وعوامل متبدلة ومتغيرة بتبدل البيئة الاجتماعية وتغير الظروف التاريخية لنشوء الدولة الحديثة وطبيعة هذه الدولة. وبالرغم من أن هذا التحول ينطوي على عناصر أساسية مشتركة هي التي تجعل منه ميدانا للدراسة المقارنة وموضوعا لمقاربة علمية، إلا أنه لا يختصر فيها. فنزوع المجتمعات المختلفة إلى تبني معايير وقيم وقواعد عمل متشابهة في التنظيم المدني والسياسي، ما يشكل أساس الاندراج في الحضارة وتجنب التهميش والخروج من التاريخ، يجد حدوده وأشكاله المتعينة والمشخصة في الشروط الخاصة لهذا الاندراج، والموارد المادية والمعنوية التي يتمتع بها كل واحد من هذه المجتمعات. ولذلك لا يمكن أن يخضع هذا التحول في اتجاه العلمنة لنموذج واحد ولا أن يكون متماثلا حتى لو كان له المضمون، أو بالأحرى المغزى، الواحد ذاته.
يدعونا هذا بالضرورة إلى التمييز داخل السيرورة العلمنية بين ما يشكل جوهر التحول التاريخي الذي تشير إليه، وينطبق على المجتمعات المندرجة في السيرورة الحضارية الواحدة، وما يشكل خصائص ذاتية نابعة من الظروف الخاصة لهذا الاندراج. فمن حيث هي اتجاه قاهر، وبالتالي موضوعي، لتسويد القيم الدنيوية المتعلقة بتحسين شروط الحياة الانسانية على الأرض، وبالتالي لتقديم الرأي على النقل، في المعرفة الدينية والزمنية معا، تشكل العلمنة اتجاها عاما موضوعيا لا يمكن لأي مجتمع حديث أن يخلو منه من دون أن يدين نفسه بالهامشية التاريخية أو يعرض حداثته نفسها للاضطراب والتشويه. ومن حيث هي تجارب محددة لتجسيد هذا النزوع التاريخي والموضوعي في الواقع العيني، تشكل العلمنة ميدان تجلي مسارات متميزة، تعكس خصائص المجتمعات وشروط اندراجها التاريخية في الحداثة، أي في حضارة عصرنا، ودرجة تمثلها لمعاييرها، والسياقات التي حكمت مسيرتها، والصراعات الداخلية التي ثارت بموازاتها. هذا هو جانبها الخصوصي الذي يرتبط بكل مجتمع ويشكل جوهر تجربته التاريخية الحية أيضا.
ولهذا لا يقود المنهج السائد في الأدبيات العربية والغربية معا والقائم على تطبيق مفهوم العلمانية كما ظهر وتبلور في المجتمعات الغربية، لمعرفة ما إذا كانت هذه المجتمعات تتطابق مع النموذج النظري السائد أم لا، إلى أي معرفة ناجعة او جديدة، ولكنه يعيد اكتشاف ما هو معروف أصلا من أن المجتمعات غير الغربية لم تنتج النموذج الغربي للعلمانية والحداثة، ويغطي على المطلوب الأول وهو فهم خصوصية التجارب غير الغربية في طرق باب الحداثة وتمثل قيم العلمنة التاريخية. وبالعكس يتطلب توسيع دائرة معرفتنا بالحداثة، والعلمانية التي تشكل إحدى سيروراتها الرئيسية، دراسة التجارب التاريخية المختلفة والخاصة، وإظهار كيف حاولت المجتمعات المنتمية لدوائر حضارية متميزة، أن تجيب على تحدي الحداثة، وما هي الحلول التي قدمتها لمسألة العلمنة أو التي أخفقت في تقديمها. فبذلك نستطيع أن نساهم في بناء معرفة أكثر تعبيرا عن الواقع المتعدد والمتنوع، وأن نعيد في الوقت نفسه بناء مفهوم للعلمانية أكثر كونية وعمومية، يأخذ بالاعتبار الابداعات الخاصة بالتجارب التاريخية المختلفة.
بدل التثبت على التجربة التاريخية للمجتمعات الغربية،- التي لا يميزها تراث المسيحية وفصلها الضمني المفترض بين السلطة الزمنية والروحية فحسب، كما نميل إلى الاعتقاد عادة عندما تثار مسائل التمايزات الثقافية، وإنما أكثر من ذلك وأهم من ذلك، تراث الفلسفة العقلية، وما يرتبط به من أنماط خاصة بالمعرفة، التأملية والتجريبية معا، من دون الحديث عن ظروفها التاريخية - ينبغي توسيع دائرة النظر والمقارنة لتشمل مجتمعات الصين الكونفوشيوسية والهند البوذية ومعهما اليابان، وكذلك إلى حد كبير المجتمعات الروسية ومجتمعات أمريكا الشمالية والجنوبية. فلكل من هذه المجتمعات، حسب تجربتها التاريخية وتراثها الفكري الروحي والزمني، مسارها الخاص في التقدم نحو الحداثة، وبالتالي في حل الإشكالات التي تطرحها العلمنة، والتي تشكل العلمانية التعبير النظري والايديولوجي عنها، كما تبلورت في التجربة الأوروبية والمجتمعات الغربية. وسنكتشف عندئذ مسارات متعددة ومتميزة لإعادة تشكيل القيم الاجتماعية من منطلق التحول نحو العلمانية، على درجة أو أخرى من الاكتمال أو النقص أو الإعاقة والتخبط والانسداد. ولن نجد أبدا نظما اكتملت فيها عملية التحول التاريخية وأصبحت صيغها مثالا للعلمانية وأخرى مفتقرة كليا للتحول ومنتجة أبدية لصيغ النظم الدينية واللاهوتية. ما سنقع عليه هو أنماط وأشكال لا تنتهي من التوليفات المتباينة المتسقة والأقل اتساقا بين قيم وممارسات وأشكال تنظيم تتبع لمرجعيات مختلفة ومتعددة يستدعي تطويرها تحليل كل منها بدقة وعمق لكشف ما يعيق تقدمها.
وترتبط بهذه المقاربة المنهجية بالضرورة مراجعة المفهوم المبسط الذي سيطر ولا يزال يسيطر على الفكر السياسي العربي واضعا العلمانية في مواجهة الدين أو في تناقض معه. والحال أن العلمانية لا تتقدم على حساب تجريد الدين من صدقيته وحرمانه من هامش مبادرته واستقلاله، كما يعبر عنهما وجود سلطة دينية ذات صدقية ودور ومكانة في النظام العام، وإنما من خلال تعميق الانسجام والتفاهم داخل النظام المجتمعي العام نفسه بين سلطات تعترف كل منها بالأخرى وتحترم صلاحياتها وسلطتها. ومن دون ذلك لن يكون المجال العام إلا نهبا للفوضى والاقتتال والنزاع بين أفراد وجماعات لا تحظى بثقتهم وولائهم الفعلي أي سلطة تدعي السيطرة الكلية، سياسية كانت أم علمية أم دينية. فهي تشير إلى علاقة بين سلطات لا بين أفكار وقيم. وهذا هو المقصود من عبارة فصل الدين عن الدولة السيئة الحظ. فكي ما تكون هناك سلطات متعددة وقادرة على التفاعل والتوصل إلى قواعد ثابتة للتعامل في ما بينها، ينبغي أن تتحدد مجالات عمل خاصة بكل منها، وأن يسمح لها بأن تحدد هي نفسها، من داخل منطق عملها، القواعد التي تحكم ممارساتها والنظم التي تحدد سبل التقدم والارتقاء إلى مناصب المسؤولية، والقرار الذي يخصها. من دون ذلك لا يكون هناك نظام اجتماعي ولكن فوضى عارمة ومستمرة[ii].
2 - مفهوم العلمنة
ما العلمنة؟ إنها ببساطة تحول مركز التطلعات البشرية، بموازاة صعود النزعة الانسانية، من القيم اللاهوتية المتركزة على ضمان الحياة الآخرة، إلى القيم الدنيوية المتمحورة حول تحسين شروط الحياة الانسانية على الأرض وفي الدنيا. وهذا ما يجعل الإنجازات الدنيوية مصدرا للسعادة والنجاح لدى الأفراد، سواء أكانت مادية تتعلق بتأمين رفاه الفرد، أو معنوية تشير إلى تطور منظومة الحقوق والحريات التي تؤمن احترام الفرد كذات مستقلة، وتقدم له ضمانات قانونية لممارسة هذا الاستقلال، من أمن وسلامة بدنية واعتراف بالأهلية السياسية والمسؤولية والحصانة الأخلاقية. وينجم عن ذلك تبدل في نمط إنتاج البشر، وأسلوب تنظيمهم الجماعي، وإعادة توزيع للجهد والعمل، النظري والعملي، وتنظيم ميادينه أيضا بطريقة مختلفة عن تلك التي سادت في القرون الوسطى السابقة التي سيطرت عليها، في العالم أجمع، وفي منطقة الأديان السماوية بشكل أوضح، القيم وموضوعات الانتاج اللاهوتية المنتجة للتطلعات الأخروية. فالعلمنة هي جزء من الحداثة وشرط مرافق لنشوء ما يسميه المتدينون أنفسهم الحضارة المادية. لكن الحضارة المادية لا تعني كما يعتقدون سيطرة القيم المادية المتعلقة بإرضاء الحاجات الجسدية. هذا هو الشكل المنحط للانتقال نحو الحضارة الحديثة كما يمكن ببساطة أن نعاينه في مجتمعاتنا. إنه يفترض قبل ذلك نشوء قيم إنسانية يقع في مركزها احترام الانسان الفرد لذاته، مهما كان أصله وموقعه ومركزه، وبصرف النظر عن إسمه ولقبه وعلمه ودينه وعشيرته، والنظر إليه بوصفه موطن وعي أصيل، أي قادر على التأمل والتفكير الحر، وبالتالي المستقل، المتجدد والمجدد والمبدع معا. فهو بلغتنا الكلاسيكية مخير لا مسير. والنظر إليه بوصفه موطن إرادة وقرار، وبالتالي مسؤول عما يحصل له وشريك في أي قرارات تمس مصير الحياة الجماعية.
وينجم عن وضع الانسان ومكانه في مركز اهتمام النظام العام وكغاية رئيسية له، أي في مركز اهتمام الدولة، وبالتالي الثقافة والتربية والقانون والسياسة والانتاج، تقديم الرأي الذي هو التعبير عن فكر الفرد وأهليته وقدرته على المشاركة في الحياة العمومية، على النقل باعتباره وسيلة لإعادة إنتاج النظم والأنماط القديمة وضمان استمرارها. لذلك ارتبطت حضارة الرأي بالتجديد والابداع، كما ارتبطت حضارة النقل بسيطرة التقليد وتعظيم الاتباع. ولا يقتصر تقديم الرأي على النقل على ميادين الانتاج والنشاط الجديدة الناشئة في حضن الحضارة الحديثة ولكنه يشمل أيضا ميدان الدين[iii]. وهو ما يفسر حركات الاصلاح التاريخية التي نشأت في صلب الأديان الكبرى. وتوحي سيطرة الرأي والاستخدام المعمم للعقل وانتشار الفلسفات العقلانية والوضعية التي تشكل جزءا لايتجزأ من هذه الصيرورة كما لو أن الأمر يتعلق بانتقال العديد من النشاطات المجتمعية التي كانت تعتمد في تحصيل مبادئها أو ممارستها على المنظورات والمفاهيم والمعارف الدينية، من ميدان إشراف الدين وسلطته الاتباعية المرتبطة بالوحي، إلى ميدان إشراف العقل وسلطته النظرية المرتبطة بنظم تحصيل المعرفة الإجرائية والنقدية. ويبدو كما لو ان الدين يفقد سيطرته على ميادين كان يسيطر عليها لصالح العقل، والواقع أن الأمر يتعلق أكثر من ذلك بانقلاب عميق في نظم المعرفة والسلطة والانتاج معا، أي بنشوء نمط جديد للانتاج المادي والمعرفي وبالتالي للحياة، ويفرض على جميع الأنماط الأخرى القديمة الدينية وغير الدينية التوافق مع الأمر الواقع الجديد. ولا يتبع هذا التوافق الإرادة الذاتية وإنما هو ثمرة طبيعية وتلقائية لنشوء نظام مجتمعي جديد، بما في ذلك الدولة والمجتمع المدني، يختلف عن السابق في طبيعة مؤسساته وقواعد عمله وقيمه السائدة معا، هو النظام الحديث، أو هو بالنسبة للمجتمعات المتأخرة ثمرة الاندراج الواعي وغير الواعي في تاريخ الحداثة والدخول فيها.
وعندما نقول بأن العلمنة جزء لا يتجزأ من الصيرورة الحضارية الحديثة فهذا يعني أنه ليس من الممكن تصور دولة حديثة أو قيامها من دون مباديء فصل السلطات وضبط المسؤوليات ونشوء بنية مؤسسية تفصل بين السلطة مهما كان مستوى ممارستها والعلاقات الشخصية. وليس من الممكن كذلك وجود اقتصاد رأسمالي اعتمادا على المفاهيم الاقتصادية والمالية القديمة المستمدة من المعرفة الدينية أو الفقهية، مثل مفاهيم الربا والخراج والزكاة والصدقة إلخ. وليس من الممكن تطوير العلم من حيث هو بناء لمنظومة معرفة إجرائية، منظمة، باستلهام منوال الفقه، أي استنباط الأحكام من مصادرها الشرعية وأصولها الدينية، وتأويل الآيات والأحاديث والقصص الديني. فالمعرفة العلمية تفترض بالضرورة بناء المعرفة الاختبارية النابعة من الاحتكاك بالواقع العيني والقائمة على التحقق التجريبي من النتائج ونقدها وتمحيصها، على حساب المعرقة النقلية والإلهامية. وليس من الممكن كذلك بناء مجتمع حديث، سياسي، يتمتع فيه الفرد بالأهلية السياسية ويشارك بروح المسؤولية في تقرير شؤون الجماعة على أساس مفهوم الراعي والرعية والطاعة الأبوية أو الدينية.
ومن حيث هي عملية تاريخية موضوعية، ترتبط العلمنة إذن بمسار الحداثة وتواكبها. وليس هذا المسار واحدا ولا متساويا في النمو في جميع المجتمعات والمناطق والحالات. فهي تعكس في بنيتها ودرجة اكتمالها أو قصورها، مستوى تقدم عملية بناء المؤسسات الحديثة وأنماطها. لذلك لا يمكن أن يكون للعلمنة مسار واحد وإنما مسارات ونماذج متعددة. فقد تتحقق بآلية سريعة أو بطيئة، تدرجية أو كلية، عبر سياسات إصلاحية هادئة أو من خلال تحولات ثورية عنيفة. ويمكن أن تحصل في إطار من الاتساق والانسجام أو في مناخ تناقض وتصادم داخل مستويات النشاطات وفي ما بينها. ويمكن أن تحصل على مستوى نشاط واحد أو أكثر، أو أن تكون مشوهة أو منقوصة أو هشة ومترددة. كما يمكن أن يتعرض مسار العلمنة إلى انحرافات أو انزياحات أو تشكيلات مفارقة ومخادعة. وأخيرا يمكن أن تنتج العلمنة وعيا بذاتها ينعكس على الممارسة الاجتماعية ويساعد على اكتمالها وشفافية طرحها، وهو ما تشير إليه العلمانية كتعبير ذهني ونظري عن سيرورة العلمنة، ويمكن أن يبقى مسارا موضوعيا لا واعيا تفتقر فيه الممارسة العملية إلى تعبيرها النظري المنظم، من دون أن يلغي ذلك وجودها[iv]. كل هذا يشكل عناصر تشير إلى البعد الخصوصي للعلمنة، أي خصائص تحقيقها في المجتمعات ذات الظروف والموارد المختلفة. فالبعد الكوني للظاهرة يتعلق بتحديد اتجاه التاريخ، ومغزى الحداثة، أي مجموعة القيم التي تمثلها، وتتجسد فيها، أما بعد الخصوصية فيتعلق بتحديد الصورة التي تتحقق فيها هذه القيم في الواقع العيني، ومدى التقدم في انتشارها والتوسع في دائرة نفوذها وشمولها نشاطات الحياة الاجتماعية المختلفة، بما في ذلك الدين نفسه.
ينجم عن هذا التحليل أن العلمنة، بعكس ما يفهم منها عادة، لا تعني فصل الدولة عن الدين، كما كرست ذلك التجربة الفرنسية المتطرفة، وإنما تحقيق التوافق بينهما بعد أن أحدث نشوء دولة حديثة، قائمة على المباديء السياسية الجديدة التي تعطي للفرد مكانة أساسية في بناء النظام أو المنتظم الاجتماعي، قطيعة تاريخية مع المفاهيم والقيم الدينية المتعلقة بتنظيم شؤون الجماعة المدنية[v]. وليس الأسلوب الناجع لتحقيق التوافق من جديد بين الدين والدولة، أي بين اعتقادات السكان الأفراد ومؤسساتهم السياسية، تهميش الدين أو نفيه أو فصله وإخراجه من المجتمع، وإنما إعادة تقريب القيم القديمة التي ارتبطت بالدين، أو انبثقت عن فهمه في حقبة ماضية، من القيم التي بثتها الثورة السياسية او السياسة الحديثة القائمة على استقلاليه الفرد وتنمية حكمه العقلي ومبادرته وسيادته الشخصية. وهو ما لا يمكن أن يتحقق من دون بناء نظام الحريات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الأساسية. ومن هذه الزواية يصبح التجديد أو الاصلاح الديني شرط مصالحة المجتمع مع تاريخه وتراثه، ومصالحة الفرد المؤمن أيضا مع حضارته. وبالتالي شرط بناء حياة عمومية صحيحة وسليمة ومرضية. وعكس ذلك، أي البقاء على مستوى عزل الدين أو إبعاده عن السياسة والدولة، بصرف النظر عن خياراته وخيارات السلطة الدينية، لا يعني سوى إشعال فتيل حرب تاريخية بين الدين والمتدينين من جهة وبين الدولة والسياسة والسياسيين من جهة ثانية. واستمرار مثل هذه الحرب يفترض أن فصام الدولة أو انفصالها عن المجتمع وقدرتها على العيش والبقاء بالرغم من إرادة أغلبيته المتدينة، أو يفترض قدرة السلطة السياسية على إجبار المجتمع على التخلي عن اعتقاداته الدينية أو إخفائها. قد يحدث هذا لبعض الوقت بفضل العلاقات الامبريالية التي تميز عالمنا وتسمح لفئات ضيئلة، لا تمثل الأمة، أن تفرض حكمها الجائر على المجتمع بفضل ما تحظى به من دعم خارجي. لكن كما أظهرت التجربة الشيوعية السوفييتية التي كانت أقوى مثال على العلمانية الايديولوجية، لا يمكن لهذا أن يستمر إلى ما لانهاية. ولا أمل لأي سلطة في الاستقرار التاريخي من دون أن توفق بينها وبين قيمها من جهة والمجتمع وقيمه من جهة ثانية[vi].
الواقع أن العلمنة لا تحتاج كي تفرض نفسها إلى معاداة الدين أو إزاحته من الوجود، ولا إلى قوة السلاح حتى توجد. إنها تخترق الدين نفسه، سلطة وقيما وفلسفة في الوقت نفسه، كما تخترق مجالات الممارسة الاجتماعية الأخرى. وهذا ما بينته تجارب المجتمعات الآسيوية والأفريقية والعربية الاسلامية. فلم يحتج انتشار القيم العقلية الحديثة في صلب العقائد والتقاليد الدينية لعلمانيين مسبقي الصنع يدخلونها من الخارج. لقد جاءت من داخل الدين نفسه، على يد دعاة الاصلاح من رجال الدين الذين أدركوا، بدافع الغيرة على الدين، أن ترك الأمور كما هي، وعدم التدخل لإعادة تأويل النصوص ونقد الأعراف الدينية العتيقة، يعني تعريض العقيدة الدينية للانهيار أو التهميش أمام طوفان التمدن الجارف. وهكذا قاموا هم أنفسهم بالجهد المطلوب الذي لم يكن له في الواقع سوى مضمون واحد أساسي هو علمنة الدين، أي إعادة تعريف دوره وصلاحياته في النظام الجديد وإدخال مبدأ الرأي - والاجتهاد بوصفه التعبير عن أسبقية إعمال الرأي في الدين- إلى ميدان العقيدة الدينية، مع ما يستدعيه ذلك من إدانة التقليد وشجب الاقتداء والتأكيد على أولوية العقل على النقل، حتى في تفسير النصوص الدينية، والاعتراف بتعدد الآراء والمواقف والاجتهادات، وبالتالي تقرير مبدأ التسامح والاحتكام للعقل ورفض التكفير.
هذا ما قام به رجال الاصلاح المسلمون بجرأة واقتدار، منذ أواخر القرن التاسع عشر. ونجحوا من خلاله في إحداث قطيعة حقيقية مع المفهوم التقليدي للدين ومع تراث الفقه القديم أيضا، وإعادة تأويل القيم والمفاهيم الدينية من وجهة نظر ليبرالية. وكان هذا أساس العودة إلى التوافق بين قيم الدين وقيم الدولة الحديثة، كما عرفناها خلال النصف الاول من القرن العشرين، في معظم بلاد العالم العربي، في نموذجها الليبرالي. وهو ما جنب المجتمعات الاسلامية معارك الصراع بين الدين والدولة من جهة، ووفر لها أرضية فكرية صالحة لنشوء نخب وطنية أصيلة وفاعلة، مستقلة الفكر وموحدة الإرادة، تجمع في عقيدتها وممارستها وعلاقاتها الاجتماعية بين الانتماء العميق، عبر التراث الديني المصلح بشكل خاص، للمجتمعات التي تنتمي إليها، والاعتقاد الذي لا يقل قوة بقيم الحداثة الليبرالية وفائدة الأخذ بها من قبل البلدان الاسلامية. وعلى هذا الأساس من الانسجام والتفاعل بين الخميرة الذاتية للمجتمعات والمكتسبات الفكرية والعلمية للحضارة، أمكن لهذه النخب أن تنشيء قوى وأحزابا وتيارات سياسية قوية ساهمت في تحقيق الاستقلال وبناء نواة الدول الحديثة وبناء أسس الاقتصاد الرأسمالي الجديد.
هكذا تشير العلمنة إلى تحول المجتمعات التاريخي نحو أنماط جديدة او حديثة للتنظيم الاجتماعي والسياسي، نتج عنها في الواقع دولة حديثة خاضعة لأعضائها ومعبرة عنهم، أي معنية بالدرجة الرئيسية بتحسين شروط حياتهم على الأرض، لا تأكيد ولاءهم أو انتمائهم ونسبهم لملك السماء وتسديد دينه عليهم. وهو ما يفسر الحاجة إلى تطوير آليات التنظيم المعتمد على العقل والرأي، بما يشير إليه من قيم ومفاهيم النجاعة والفعالية وحسن الأداء. وهذا هو الأصل في نشوء الفكرة الايجابية عن الدولة الحديثة بوصفها أداة لتقدم المجتمع والارتقاء به، وفي ربط السياسة، التي تحدد جدول أعمالها وتشكل محركها، بالممارسة العقلية المفتوحة على كل أنواع المراجعة والمساءلة والانتقاد. ولا ينبغي أن نفهم من التفكير العقلي أو التنظيم العقلي، أو الممارسة العقلية، أو استخدام الرأي، عوض النقل، على أنه رديف الصحيح والصالح دائما بالضرورة. فعكس ذلك هو الصحيح. إنه يعني الاعتراف بنسبية المعرفة وإمكانية الخطأ، ومن وراء ذلك قابلية هذه المعرفة النسبية، وبسبب نسبيتها ذاتها، للإصلاح والتحسين باستمرار، بقدر ما يخضع فيها عمل العقل لنقد العقل ويتبرأ مسبقا من أي تقديس.
ولم يحصل هذا التحول في اتجاه إعمال العقل وتأكيد أسبقيته في تنظيم كل ما له علاقة بالشأن العام، في جميع التشكيلات الاجتماعية التاريخية، من خلال نقد الدين، ولم يجر دائما إلى صدام مع رجال الدين، كما كان الحال في أوروبة، وربما في فرنسا بشكل رئيسي. لقد حصل ذلك فقط في الحالات التي وقفت فيها السلطة الدينية، وهنا الكنيسة، موقفا معاديا للتحول الاجتماعي بأكمله. ولم يكن ذلك بسبب ضيق المفاهيم والأفكار الدينية أو انغلاقها وتكورها على نفسها، وإنما نتيجة تحالف طبقة الاكليروس كشبكة مصالح اجتماعية مع الطبقة الارستقراطية المسيطرة، ودفاعها عن مواقعها في النظام المجتمعي، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وبالعكس ستلعب السلطات الدينية دورا بارزا في تمهيد سبل الحداثة، في معظم بقاع العالم، ومنها البلدان العربية والاسلامية، بانخراطها في معركة التحرر من الاستبداد، وخوضها الطوعي لمعركة الاصلاح الديني داخل المؤسسة الدينية القديمة، وتواصلها مع مجتمعاتها في مواجهة الطغيان الداخلي والخارجي[vii].
والواقع أن بروز تيارات الاصلاح في أوساط السلطة الدينية قد حصل بموازاة بروز تيارات الاصلاح في حضن السلطة السياسية وانقسام النخب الاجتماعية. ولم يكن هناك سبب يجعل هذه التيارات تخشى الاصلاح. بل لقد مالت في أغلبها إلى الموقف الإصلاحي ردا على التحديات الخارجية وفي سبيل تجنب السيطرة الأجنبية. وقد قدمت لها قضايا مواجهة الاستعمار الغربي فرصة كبيرة لإعادة تثمين نفسها ورأسمالها الديني نفسه وتجديد دورها وتعزيز مركزها الاجتماعي. وهكذا لم يعن التأويل الجديد للدين بالنسبة لها تهميش الدين أو تهميشها هي نفسها في النظام العام، وإنما إعادة توجيه الموارد الروحية أو الرأسمال الرمزي الاجتماعي، نحو المطالب الاجتماعية الجديدة، وتوظيفها في المجالات التي تجعل الدين، وبالمناسبة هي أيضا، يساهم بشكل أكبر في تحقيق المصالح العامة كما بدت لها في ذلك الوقت، سواء أتمثلت هذه المصالح في تحرير الشعوب من الاستبداد أو تعزيز الدفاع ضد مخاطر الهيمنة الأجنبية أو مقاومة الاستعمار. ولم يمكنها ذلك من المشاركة بقسط أكبر في تقرير مصير المجتمعات، وفي الحياة العمومية، وبالتالي السياسية بالمعنى الواسع للكلمة، أي من حيث هي بناء للنظام العام، ولكنه ساهم أيضا في إعادة تثمين وتقييم وربما تعظيم دور الدين الاجتماعي. وبعكس ما يعتقد الكثير من المحللين الإسلامويين، لم تعن الحداثة هنا تراجع الدين وإنما ارتبطت بنهضة دينية فكرية وروحية كبرى تتعارض تماما مع روح الجبرية والاقتداء والانحلال الأخلاقي والروحي التي سادت لقرون عديدة سابقة.
لقد أدرك علماء الدين ومفكروه، وفي مقدمهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، الذي وصف الاسلام بأنه علماني وأول دين قضى على السلطة الدينية من جذورها، أن الأمر لا يتعلق بتحييد الدين أو إزاحته عن الواجهة، ولا بتغيير عقائد الناس الدينية، وإنما بإعادة بناء النظام العمومي. وهذا ما يفترض حتما تجديدا في القيم والمعارف والأفكار، وإقامة مؤسسات ومرافق عامة وخاصة لم تكن من قبل، وتشريعا لممارسات حديثة، اقتصادية أو سياسية أو إجتماعية أو قانونية أو علمية، وبالتالي إعادة تكوين للنخب الاجتماعية وتوزيع الاختصاصات بصورة أكثر عقلانية عليها. فلا يشكل هذا التوزيع شرطا لتطوير الاختصاصات والتكيف مع تقسيم العمل الجديد فحسب، ولكن بناء التفاهم والتعاون بين النخب الاجتماعية، وتجنب النزاعات والصراعات الجانبية، وبالتالي ضمان تحقيق الانسجام والاتساق في حياة المجتمعات. والواقع أن فصل الدين عن الدولة ليس سوى خطوة أخيرة وتحصيل حاصل لنشوء نظام حديث تشكل الدولة مركز تنظيم الحياة الجمعية فيه وجملته العصبية. فقبل أن يحصل هذا الفصل، كانت الدولة قد تحولت إلى راع للعديد من النشاطات التي شكل تطورها أساس الحداثة، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والمعرفة. ولم تظهر مطالب الفصل بين الدولة والكنيسة إلا لأن الكنيسة، من حيث هي قوة محافظة، تحولت في وقت من الأوقات إلى عائق أمام استكمال شروط الحداثة، الاقتصادية او السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية. باختصار لم تأخذ الدولة الحديثة شيئا من ممتلكات الكنيسة وسلطاتها ولكنها منعتها من وضع اليد على ممتلكات الدولة الحديثة والنشاطات والمؤسسات التي انبنت من حولها وكانت هي محورها، وفي مقدمها الأمة.
3 - من العلمانية إلى الأزمة الدينية
أصل العلمنة من حيث هي المبدأ الناظم لانتقال المجتمعات التاريخي من الصيغ المجتمعية السحرية، أو الدينية، إلى الصيغ القانونية العقلانية التي تحدث عنها ماكس فيبر، أو كما قال من العقلية السحرية إلى العقلية الوضعية، هو الحداثة وآلياتها، وليس كما تشير نظرية العلمانية او توحي به، رد الفعل الفكري والسياسي ضد سيطرة الكنيسة أو رجال الدين. رد الفعل هذا موجود بالتأكيد، لكن وجوده وظهور الاعتراض على الصيغ والممارسات الدينية نشآ، هما نفساهما، في سياق ولادة صيغ جديدة للتفكير والإدارة والتنظيم المدني والسياسي والاقتصادي والتقني، في حجر المجتمعات الخارجة من النظام القديم الوسيطي. وعندما تنجح الأديان، أو بالأحرى النخب الدينية القيمة على تراث الدين، في التكيف السريع والمتناغم مع منظومات القيم والممارسة الجديدة، الناشئة بموازاة تطور مسار الحداثة، لا يحتاج التقدم على الطريق الجديدة إلى ثورات فكرية علمانية، ولا حتى إلى صدامات سياسية كبرى بين الكنيسة والدولة. إن العلمنة تتحقق، حتى في مجال الدين والعقيدة، بصورة سلسة وإلى حد كبير توافقية.
هذا هو منحى التطور الذي ساد تجارب المجتمعات الآسيوية التي تنتشر فيها ديانات متعددة ومختلفة تسيطر عليها الكونفوشية والبوذية، وهي ديانات غير سماوية. وهو ما حصل أيضا إلى حد كبير في التجربة العربية والاسلامية منذ القرن التاسع عشر حتى نهايات القرن العشرين، باستثناء المثال التركي الوحيد الذي صوبت فيه النخبة السياسية ضربة قوية للسلطة الدينية في إطار حربها ضد الارستقراطية السلطانية التي احتمت بشارات الخلافةـ أو حاولت أن تقاوم القوى الحديثة من وراء متراس الدين[viii].
وما تشهده المجتمعات العربية اليوم من ردة دينية وانحسار متزايد للفكرة العلمانية لا يرجع إلى مقاومة السلطة الدينية للسياسات التحديثية، أي للعلمنة الاقتصادية والإدارية والسياسية والعلمية والتقنية، وإنما إلى إجهاض الحداثة نفسها وتآكل شرعية نماذجها التنظيمية، بسبب وصولها إلى طريق مسدود، وخراب القيم العقلانية والانسانية والقانونية التي ارتبطت بها، وابتعاد الناس عنها. وفي هذا المعنى ينبغي فهم النظرية القائلة بأن الاسلامية الأصولية السائدة اليوم، بأشكالها المختلفة المتطرفة سياسيا والبعيدة عن السياسة، تمثل ملجأ أو مهربا من مواجهة الحقيقة المرة. فالأصولية الحديثة، التي تختلف جذريا في برنامجها وجدول أعمالها عن التدين والورع الاسلامي التقليدي، لا تمثل شيئا، وما كان من الممكن لها أن تحظى بما تملكه اليوم من شعبية وسعة نفوذ، من دون الفراغ الذي أحدثه انهيار مشروع الحداثة وانحسار قيمها وتبخر الآمال والأحلام التي ارتبطت بمشروعها[ix].
والواقع أن الحداثة التي جاءت على أنقاض النظام المجتمعي القرسطوي السلطاني المتحلل في اسطنبول، لم تحافظ على نموذج التعايش التقليدي بين السلطة الدينية العلمائية وسلطة الدولة المركزية لصالح أسبقية السلطة السياسية وسيادتها. كما أنها لم تنحو نحو إقامة علاقة جديدة متوازنة بين الدولة والدين، على مثال العلمانية الأوروبية التي احتفظت للكنيسة باستقلالها الكامل في نطاق اختصاصها الديني وتعاملها مع المؤمنين، في ما وراء انتماءاتهم السياسية والوطنية. ولكنها نحت عموما إلى احتكار السيطرة، حتى عندما كانت السلطة تميل إلى الليبرالية، على الفضاء العام، بما في ذلك مسائل الدين والتربية الدينية والروحية.
أما في البلاد العربية فقد تم الانتقال نحو نظم ودول حديثة بسلاسة أكبر، ولم تحدث في ما وراء معركة الحجاب، التي خاض فيها رجال مختلفي الاتجاهات من خريجي الجامعة الدينية الأزهر، أي صدامات تذكر بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. فقد لعبت الحركة الاصلاحية الدينية هنا دورا متميزا في تجاوز الصدام بين قيم الحداثة الوافدة وقيم التراث الديني المتأصلة في التربة المحلية. ومما ساهم في تحقيق هذا التوافق، بالإضافة إلى تأثير الحركة الاصلاحية العميق على رجال الدين في مطلع القرن العشرين، وشائج القربى الطبقية والاجتماعية العميقة التي كانت تجمع بين النخب والعائلات الدينية والنخب والعائلات السياسية. فقد ساهمت هذه الوشائج في تعزيز روح التعاون والتفاهم وتقاسم السلطة والمصالح بين الطرفين خلال تلك الحقبة التي تستحق أن تسمى بالفعل بالحقبة الليبرالية العربية.
لكن الامر سيختلف تماما منذ خمسينيات القرن الماضي، مع نشوء النظم القومية أو ذات الفلسفة والتوجهات الثورية المعادية للاستعمار، التي ستضع النخبة الدينية والنخبة السياسية الليبرالية معا في صف الرجعية العميلة[x]. فلن يقتصر الأمر هنا على تأكيد سيطرة النخبة السياسية والدولة وإنما تحول إلى مصادرة الدولة للدين بصور نهائية، مباشرة وغير مباشرة، ولأهداف متعددة أيضا، كان في مقدمها التعبئة الوطنية ضد المخاطر الخارجية أو الداخلية، وبناء الهوية القومية، وتأمين مصادر سهلة وبسيطة للشرعية السياسية التي تحتاجها طبقة سياسية مفككة وقليلة الحيلة. وبعد قضائها على ما تبقى لهما من هامش استقلالية اقتصادية ومدنية، ألحقت الدولة والنخب السياسية الدين والسلطة الدينية بمشروعها "الوطني". وزاد احتواؤها لهما وإخضاعهما لأجندتها السياسية مع تفاقم أزمتها وتراجع شعبيتها منذ ثمانينيات القرن الماضي نتيجة فشلها المستمر في الوفاء بالوعود التي قطعتها على نفسها.
هكذا لم تعد هناك اليوم آثار في مجتمعاتنا لأي سلطة دينية فعلية، أي على درجة كافية من الوحدة والاتساق والاستمرارية، تتعدى حاصل النفوذ الشخصي المحتمل لرجال الدين، من حيث هم أئمة أو كتاب أو قادة سياسيين أفراد. لقد اكتسحت السياسة، التي تشكل التعبير الأوضح عن عصر الحداثة في النظم الاجتماعية، المجتمعات العربية واستغرقتها، وحرفت أنظارها عن العناية بميادين النشاط والاهتمام الأخرى، بقدر ما جعلت من إعادة بناء النظام العام، وتأسيس الرابطة الجمعية، أي الوطنية، الأجندة التاريخية الرئيسية للشعوب والمجتمعات. وفي سبيل تحقيق ذلك الإلحاق، عمدت الدولة إلى تأميم المرافق والاوقاف الدينية وإخضاعها مباشرة للسلطة التنفيذية، وربطت مصير رجال الدين بها بتحويلهم جميعا، كبارا وصغارا، إلى موظفين، وتأهيلهم في المدارس والكليات الرسمية. فصاروا في خدمة الدولة وتحت إشرافها، أتباعا لها، ليس في ما يتعلق بمسائل الدولة والسياسة فحسب، ولكن أكثر من ذلك في مسائل الدين نفسه. فانمحت السلطة الدينية، من حيث هي قوة منظمة تجمع بين رجال الدين والقائمين عليه وتوحد رؤيتهم ونظرتهم لشؤونه، وتجعل لهم إرادة مشتركة في العمل لتحقيق أهداف واحدة. وهذا ما يميز الاسلام السني في عصرنا الراهن عن الاسلام الشيعي الذي نجح في أن يحتفظ لنفسه بسلطة دينية مستقلة عن الدولة خلال حقبة طويلة، حتى لو لم تكن سلطة بابوية تدعي الاشراف على جميع سلطات المجتمع الأخرى.
كان اكتساح السلطة الدينية من قبل السلطة السياسية وتذريرها في المجتمعات العربية السبب في نشوء أزمة دينية مزدوجة ومفتوحة، لا تزال آثارها البعيدة والمتفجرة تتفاعل حتى اليوم. فقد أدى هذا الإلحاق البسيط والمباشر إلى إفقاد النظام العام التوازن الطبيعي الذي ميزه خلال عقود طويلة سابقة وسمح للمجتمع الخاضع لطغيان السلطة السياسية من الاستناد إلى سلطة دينية تقوم بدور رئيسي في تنظيم الحياة الاجتماعية وحل النزاعات وبناء أطر التعاون والتضامن على مستوى الحياة اليومية بين الأفراد. وكان ذلك ايذانا بولادة تسلطية سياسية من نوع جديد، تتجاوز ما كانت المجتمعات العربية قد عرفته في عهد السلطنة التقليدية، لا توقف عسف السلطة السياسية وطغيانها فيها أي قوة موازنة أخرى تملك الحد الأدنى من الشرعية وتستند على قاعدة شعبية، كما كانت تحظى به الهيئة الدينية في النظم التقليدية.
وانهيار السلطة الدينية بالمعنى الذي ذكرت، لا الانشقاق أو الصدع[xi]، هو الذي يفسر الذيلية الملفتة للنظر التي تميز سلوك رجال الدين وأصحاب الولايات الدينية في المجتمعات العربية اليوم. فأمام ما تشهده هذه المجتمعات من تحديات خارجية ومعضلات تاريخية من السيطرة الخارجية إلى التخلف وانعدام التنمية وما يعنيه ذلك من انتشار الفقر والبطالة، ومن تفتت الهوية وتفكك المجتمعات وانتشار الفساد الأخلاقي والإداري والاجتماعي بشكل لا سابق له، وأمام ما تتعرض له فئات متزايدة من قهر واضطهاد وعسف وانتهاكات صارخة لحقوقها الانسانية والدينية، وما ترتكبه النظم الاستبدادية من مجازر جماعية، وما تعاني منه قطاعات واسعة من معاملة لا إنسانية، وما تقترفه فئات متعددة متطرفة، باسم الاسلام، من جرائم عنف لا توصف، لا تكاد الهيئة الدينية السنية تحرك ساكنا، أو تعلن موقفا أو تقترح طريقا جديدا. فهي غائبة تماما عن الساحة السياسية، مستسلمة لمصيرها ومسلمة بمصائر المجتمعات التي تنتمي إليها لأولياء أمرهم وأمرها، مهما كانت سياساتهم واختياراتهم الاستراتيجية. إذا صالحوا صالحت وإذا عادوا عادت، حتى لو تعلق الأمر بأبسط النزاعات أو الخلافات السياسية الداخلية. فهي لم تعد طرفا مسؤولا أو لديه شعور بالمسؤولية عن بناء حقل المصالح العمومية، وتحولت إلى مستهلك فحسب في نظام يتولى بناؤه والحفاظ عليه أقطاب السلطة العسكرية والأمنية[xii].
أما الأثر الثاني لهذا الانهيار الذي أصاب السلطة الدينية، فيتمثل في دخول الفكر الاسلامي في أزمة تاريخية طويلة تتجلى في تكاثر التأويلات والمدارس والمذاهب والاجتهادات وتضاربها، من دون ضابط ولا رقيب. فقد أدى القضاء على أي سلطة دينية مستقلة، وإخضاع رجالاتها لاجندة السيطرة السياسية المباشرة، إلى حرمان الاسلام والمسلمين من أي مرجعية شرعية ذات احترام وصدقية، وترك علماء الدين يواجهون تحديات الأزمة الدينية منفردين، كل حسب اجتهاده ونفوذه ومقدرته الشخصية. وهذا هو أصل ما نشهده اليوم من فوضى المواقف والمباديء والأفكار في الدين، وتكاثر أعداد المنخرطين في أعمال العنف والقتل والإجرام الوحشية بين المسلمين، بذريعة الزود عن الدين وحماية الأمة وتنقية العقائد ومواجهة الكفر داخل البلاد وخارجها، من دون أن تكون هناك سلطة معنوية قادرة على بلورة رؤية دينية موحدة واتخاذ موقف والتواصل مع الرأي العام وتشجيعه على الالتزام بقواعد أو مباديء إنسانية وأخلاقية. بل ما يحصل في الغالب هو عكس ذلك تماما. فكثير من علماء الدين الكبار لا يكف عن صب الزيت على النار بإلهابه مشاعر الشباب وحثهم على الالتحاق بالمجاهدين والاقتداء بهم والدفاع عن مشروعهم، من دون أن يشعر بالحاجة إلى التنبيه إلى تشوش عقائدهم وتأويلاتهم المغالية والمتطرفة للدين.
إن ما تعيشه المجتمعات الاسلامية نتيجة فراغ المرجعية الدينية والسياسية وتقويض أسس شرعيتهما معا، هو، بعباراتنا الكلاسيكية، فتنة عميقة ودامية، أي فوضى شاملة فكرية وسياسية واستراتيجية معا. ولا يعبر تزايد نفوذ الجماعات التكفيرية واستسهال اللجوء إلى العنف، وعبادة القوة، وانتشار التنازع والصراعات الداخلية وتخليدها، وتنامي الانقسامات والتوترات والصدامات داخل القوى الاسلامية والأصولية نفسها، سوى عن الانفلات الديني الكامل وتقويض السلطة الدينية. ولعل أكثر ما يعبر عن ذلك سقوط جزء كبير من النخبة الدينية الرسمية، أعني من علماء الدين وفقهائه، في فخ المذاهب الأصولية الجهادية، ودفاعه عن ممارسات تتناقض مع جوهر الدين وتتنافى مع رسالة الأديان جميعا في بناء الأخوة والتواصل والتوحيد بين البشر. ومن الطبيعي أن تشجع مثل هذه الفتنة المجتمعات الأخرى على تغذية المخاوف من الاسلام والملسمين، وتدفع إلى تعبئة الرأي العام العالمي ضدهم، وتبرر كل أشكال العدوان ومشاريع السيطرة الخارجية عليهم. وهو ما يغذي بدوره، في ما يشبه الحلقة المفرغة، ردود الأفعال المتطرفة لدى المسلمين والفرق المغالية فيهم، ويدخلنا في دوامة العنف والقتل والاقتتال التي لا أمل في ايقافها. هكذا يعيش عالم الاسلام اليوم حالة سقوط فكري وأخلاقي معا، بموازاة إخفاقه الاستراتيجي وانهيار مشاريعه الوطنية والاجتماعية، ينتقم من نفسه ولنفسه، ويهدد الأصدقاء والأعداء دون تمييز.
...
4 - الردة الأصولية وانحسار العلمانية
من هنا لا يعبر صعود الأصولية الاسلامية في بلداننا اليوم عن تأخر الاصلاح الديني أو غيابه. فأنا أعتقد أن المهمة الأساسية في عملية التأويل الحديث والعقلاني للاسلام قد أنجزت على يد حركة الاصلاح الإسلامية القوية التي ولدت منذ منتصف القرن التاسع عشر، واستمرت خلال أكثر من قرن. ولم يضف المفكرون الاسلاميون الذين جاءوا بعدهم مكاسب حاسمة من حيث إقرار مبادئ هذا الاصلاح الكبرى، بقدر ما توسعوا في المسائل الاصلاحية وعمقوا النظر فيها وفصلوا في مسائلها ومفاهيمها. إنه يعبر بالعكس عن تراجع الوعي الانساني الحديث، الديني والسياسي والمدني والعلمي معا. وفي هذا التراجع والانحطاط الذي يرافقه تنمو جميع الأحلام والأوهام القديمة والحديثة، تلك الطامحة إلى أعادة بعث الصيغ القديمة التاريخية المرتبطة بوعي متكلس للهوية، وتلك النازعة إلى مطابقة الاوضاع المحلية مع الصيغ العلمانية الناجزة في المجتمعات الحديثة الغربية. وبعكس ما توحي به المظاهر، ليس الصراع حول موقع الدين في الحياة العمومية هو مركز الصراع الاجتماعي القائم ولا الرئيسي فيه. إن الصراع من حول العلمانية والأصولية ليس هو نفسه إلا قناعا للصراع الدامي والعميق على القيم الدنيوية، أي عن الثقافة الحديثة التي يعاد بناؤها اليوم، في جوانبها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية معا. ولا يمكن الأمل في الوصول إلى وضع يتحقق فيه فصل الدين عن السياسة وفصل السياسة عن الدين من دون التقدم في حل هذا الصراع الرئيسي، حول الخيارات الثقافية الرئيسية، الذي يفتح وحده إمكانية التفاهم والتوافق بين الدين والدولة من خلال إعادة تثبيت قيم الدين والقيم السياسية معا وتوضيح خصوصيات ومهام كل منهما.
هكذا لا يتعلق حصول التوافق بين الدولة الحديثة والدين بمسألة نظرية أو تأويلية فحسب، ولكنه يرتبط أساسا بتحولات مجتمعية مترابطة ومعقدة، يقع في مقدمتها بناء الثقافة أو إعادة بنائها، بعد أن انهارت في نموذجها الحداثي الرث وحصل انقطاعها عن الثقافة التقليدية الأم. ويحتاج تجديد النظر في الدين نفسه إلى توفر شروط تاريخية يقع في مقدمها الإرهاص بهذه الثقافة الجديدة المنشودة، ومن ورائه ببروز آفاق لانطلاق مسار الحداثة المعاق من جديد وفرص تقدم مشروعها. وكما أن من الممكن للتجديد الديني أن يجد فرصا أكبر للتحول إلى سلوك وممارسات عامة في حال توفر فرص تكامل مشروع الحداثة، من الممكن أيضا أن يحصل انهيار في هذا التوافق الأولي.

تقدم التجربة العربية المعاصرة مثالا ساطعا على هذا الارتداد على الايديولوجية العلمانية، حتى بعد تقدمها أشواطا طويلة. إذ لا يمكن للتأويل الحديث للدين أن يعيش في الفراغ. إنه جزء لا يتجزأ من مشروع الحداثة المجتمعية نفسها ونظامها، وبعدا من أبعادها المتعددة. ولا قيمة للإصلاح الديني، أي لعلمنة الدين، الذي يشكل استجابة تاريخية لا مهرب منها لحاجات الأفراد للانخراط في هذه الحداثة والتفاعل معها، إذا كان النظام المجتمعي الناجم عنها، أو عن بعض نماذجها المشوهة والمعاقة، يحرم الأفراد من استقلالهم الذاتي ويمنعهم من التعبير عن رأيهم أو من أن يكون لهم رأي خاص بهم، ويدمر حسهم النقدي ولا يسمح لهم بالمبادرة الشخصية لتحقيق مصالحهم وبناء أنفسهم ومستقبلهم. وفي هذه الحالة ستبقى سيرورة العولمة هشة، وسيكون من المستحيل لمشروع العلمنة الدينية، أي تأويل قيم الدين بما يتفق مع قيم النظام الحديث وتعميمها، أن يكتمل وينتج وضعية مستقرة وثابتة تستند إلى إدراك واضح من قبل أطراف النخب الدينية والسياسية والاجتماعية عموما لحدود مجالات عملها وصلاحياتها الخاصة. ومن الممكن للتحرر الديني أن يصبح عقبة أمام دفاع الأفراد عن الحد الأدنى من مصالحهم، أي عن أمنهم وعلاقات القربى والتضامن التي تجمعهم بأقربائهم المعنويين أو العائليين، في ظل دولة أو نظام يرهن امن الأفراد وقدرتهم على إنتاج شروط حياتهم ومعيشتهم البيولوجية على خضوعهم وتبعيتهم وارتهانهم الواعي وغير الواعي لإرادة عليا تتجاوزهم، سواء تمثلت في صورة إرادة سيد رئيس أب أو أخ أو قائد خالد مفدى، أو في صورة إمام وأمير للجماعة وملهم حياتها وأمنها.
هذا يعني أن مستقبل العلمانية، أي التعبير الصادق والصحيح، في الفكر والمارسة، عن العلمنة الموضوعية، وايجاد النظم الكفيلة بتحقيق التوافق بين السلطات الاجتماعية المختلفة وتحديد مجالات عملها واختصاصها بصورة ناجعة، لا يتوقف على قوة الدعوة العلمانية، وإنما يرتبط بمصائر الدول والمجتمعات والفرص المتاحة لها للدخول في حركة الحداثة الكونية وديناميكيتها. والحال لا تتساوى جميع الدول والمجتمعات في حظها من ذلك. بل لا تملك كلها، رغم المظاهر، دولا حديثة، وليست حداثتها السياسية إذا وجدت، على المستوى نفسه من النضوج حتى تنمي الطلب الاجتماعي على تجديد الاعتقادات الاجتماعية، الزمنية من أعراف وتقاليد، وأقل من ذلك الاعتقادات الدينية التي تمثل نظما رمزية وتخيلية، تعد الأكثر مقاومة للتغيير، لأنها الأعمق غورا في ترسيخ بنية المجتمعات واستقرارها. ثم إن كل ما هو حديث منها لا يملك الشروط الضرورية من السيادة والاستقلال والموارد المادية والاستراتيجية والثقافية التي تمكنه من فتح ورشة تاريخية معنية بتحرر الأفراد واستقلالهم، وقادرة بالتالي على بعث روح جديدة في الفكر والاعتقاد الدينيين تتفق وحاجات الحداثة السياسية.
وبالعكس، يزداد الطلب في الدول التقليدية، أو التي تنكفيء على نظم السلطنة القديمة، والتي تقوم جميعا على مباديء السيطرة الأبوية، وحرمان المجتمع من المشاركة، وإنكار حق الأفراد في الحرية والمساواة القانونية والأخلاقية، على قيم العصبية والذوبان في الأسرة والعشيرة والعائلة والطائفة والمذهب. وذلك بقدر ما يشكل هذا الذوبان الوسيلة الوحيدة لتأمين الحد الادنى من الحماية الذاتية. العلمانية (التنظيم المفكر فيه والواعي للمعرفة وللمجتمع وللعالم) هي بهذا المعنى صنو الحرية، ولا يمكن أن تتعايش مع الاستبداد والطغيان وحرمان الأفراد من مبادرتهم الشخصية.
وبعكس ما تشيعه النظرية السائدة في العلمانية، لا تنبع الأزمة التي نعيشها في مجتمعاتنا العربية اليوم من اتحاد الدين والدولة أو اندماجهما، وإنما من القطيعة المتنامية بين الوعي الحديث، بما يعنيه من تجديد تطلعات الأفراد وآمالهم، وتحديثها، والممارسة اليومية، السياسية والمجتمعية التي تزداد انحطاطا وصدما لهذه التطلعات والآمال، وما ينجم عنها من نزاعات وردود أفعال ومعارك طاحنة للسيطرة على الفضاء العمومي باكمله من قبل جميع النخب المتنافسة، وإزاحة النخب الاخرى عنها[xiii]. وليس سبب الانفصال والقطيعة هنا تأخر علمنة الدين، وإنما تراجع النظام الحديث، عن أهم شرط مؤسس للحداثة، أعني الحرية، المتمثلة في مجموعة من الحقوق الأساسية، من حق التعبير والتنظيم والمسؤولية الفردية والمواطنة من حيث هي مشاركة في تقرير المصير الجماعي، أي السياسة المدنية، والتي لا وجود من دونها للفردية ولا للاستقلال في الرأي ولا للسيادة الروحية، ولا للمواطنية، بما تعنيه من مساواة وقبول بالتعدد والاختلاف. وامام ارتداد الدولة عن الحداثة، أي عن العلمنة السياسية، وانحدارها في ممارساتها إلى مستوى المقبرة الجماعية للحريات الفردية والحقوق الانسانية، حصل ما نشاهده في مجتمعاتنا من ارتداد عن العلمنة الدينية، وتحطيم منظورات ومفاهيم الاصلاح الديني، في سبيل العودة نحو صيغ سلفية متطرفة في عدائها لقيم الحداثة ومعالمها، وفي مقدمها استقلال الرأي، تجمع بين الاستسلام والتسليم لسيطرة أمراء الدين، وأحيانا أمراء الدين والحرب معا، والتخلي الإرادي والحماسي من قبل الفرد عن حريته ومسؤولياته العمومية، وتسليمه الكامل بالتبعية والانقياد.
والخلاصة
أجهز الانتقال الذي شهدته المجتمعات العربية من النظام القديم إلى النظام الحديث، على التوازنات التاريخية العميقة التي أنجبت خلال القرون الماضية صيغة التعايش التقليدية بين الدولة والدين. كانت المجتمعات العربية الاسلامية قد بلورت، في سياق الصراع على السيادة بين الملوك وعلماء الدين، تقاليد ثابتة في بناء حقل الفضاء العام، وتحديد الصلاحيات الخاصة بعلماء الدين ورجال الحكم ومجال عمل كل منهم ونفوذه، فاختصت الصنف الأول بالمسائل الدينية والفقهية منها بشكل خاص، واختصت الفئة الثانية من الملوك والسلاطين ورجال الحكم باحتكار مجالات السلطة السياسية والقوانين أو المسارات الاجرائية المرتبطة بها، وقرارات الحرب والسلام وسياسات المال والاقتصاد، أي كل ما يتعلق بقرارات السيادة. هذا ما تشير إليه حالة القضاء الذي كان مسؤولية سياسية يختص بها رجال الحكم، حتى لو كان القضاة من الفقهاء وعلماء الدين.
بيد أن هذه الصيغة القديمة ما لبثت أن انهارت تحت تأثير انخراط المجتمعات الاسلامية التاريخي والحتمي في نظام الحداثة وتأثر نخبها به. وأدى هذا الانهيار إلى بروز الصراع من جديد بين النخب السياسية المتحكمة بالدولة والنخب الدينية المتحكمة بالمجتمع إلى حد كبير. وبينما لم يمكن حسم هذا النزاع في قلب السلطنة العثمانية إلا بثورة سياسية علمانية على الطريقة الفرنسية، قامت بعملية تحييد قسري للدين وتقييد لحرية العبادة ورجال الدين معا، نجحت المجتمعات العربية المحيطية، عبر حركة إصلاح دينية قوية، في أن تعيد إنتاج صيغة جديدة للتعايش بين الدين والدولة ونخبهما، كانت في أساس تشكل حقبة ليبرالية استمرت لعقود طويلة وجعلت المجتمعات العربية المشرقية تبدو وكأنها حلت تماما مشكلة الانتقال نحو الحداثة وتجاوزت النزاعات المحتملة أو التي كانت متوقعة بين الدين والدولة[xiv].
لكن صيغة التوافق التي رعتها الحقبة الليبرالية لم تعمر طويلا بعد ان دخلت النظم التي اعتمدتها في طريق مسدود، ولم تعد تستطيع الاستجابة، بالقدر الكافي، لتنامي مطالب طبقات متزايدة من المجتمع وأمالها في الدخول في نظام استهلاك قيم الثورة السياسية الحديثة، مثل الاعتراف الذاتي والمساواة ورفض موقف الهامشية والسعي إلى المشاركة في السياسة واكتساب صفات المواطنية من حقوق وواجبات ومسؤوليات وممارستها. وكان هذا هو المناخ الذي شجع على تفجر ثورات انقلابية الطابع، لكنها معبرة بعمق عن نزوع الجمهور إلى الخروج من النظم القديمة والدخول في عصر الحداثة وقيمها. وقد راهنت الشعوب بقوة على الحركات الثورية القومية واليسارية، كما أظهر ذلك مثال الناصرية التي لا يزال لها أتباع كثيرون في العالم العربي، بعد عقود طويلة على وفاة زعيمها ومؤسسها في مصر. وفي سياق هذه الثورة السياسية تغيرت المعادلة بين رجال الدولة والدين. وسادت فكرة التحويل الإرادي السريع للمجتمعات والتحكم بالسلطة من قبل رجال سياسة هم أنفسهم من العسكريين الذين يراهنون بشكل كبير على نجاعة الحلول الإكراهية القائمة على استخدام القوة.
ومما ساهم في نشوء عبادة الدولة القوية، واكاد أقول العسكرية، ثم تصنيمها، الانهيار السريع للسلطة الدينية وخروجها من المنافسة كليا، وتحويلها إلى أداة في يد السلطة الحاكمة، في مصر الناصرية أولا ثم في بقية الدول العربية التي تعززت فيها مواقع الدولة بقوة، سواء تحت تأثير الفورة القومية او بسبب تنامي عوائد اقتصاد النفط الريعي. ويعكس هذا الانهيار نفسه للسلطة الدينية في الواقع العلمنة التارخية نفسها، أي تراجع فعالية الدين أو الفكر الديني كمصدر لمباديء التنظيم المجتمعي، المدني والسياسي الناجع في ذهن المجتمع. فالدين لم يعد منتجا لقيمة مضافة، وبالتالي للحمة جمعية قوية، أي لجماعة حية متكافلة ومتضامنة. أصبح هو نفسه بحاجة للحداثة، ثقافة أو دولة أو كلاهما، كي تأخذ بيده وتبقيه على قيد الحياة. وهذا ما يعبر عنه شعار الدولة الاسلامية بوضوح. لقد أصبح طقوسا وتقاليد تماثل بين الأفراد، وتخنق طموحاتهم، وتلغي حرياتهم، أي تحد من مبادراتهم الذاتية. أصبح تقليدا جامدا وصرحا ساكنا. لم يعد فيه ما يكفي من الايمان لإحيائه وتنويره. لقد أصبح امتثالا صرفا. هذا ما دفع المجتمعات إلى تحويل النظر عنه نحو السياسة التي بدت منذ القرن التاسع عشر بوصفها المزود الرئيسي بالقيم والأفكار والمباديء اللازمة لبناء صرح الاجتماع الجديد. فالفوات التاريخي للفكر الديني، مع تراجع جهد الاصلاح والتأويل، بل تجاهل الدين نفسه من قبل النخب الاجتماعية في الحقبة القومية، هو المسؤول عن نشوء عبادة الدولة ومحورة الحياة الاجتماعية بأكملها من حولها.
ونلاحظ هنا أن تجربة الحداثة، التي حصلت في سياق هيمنة الثقافة الغربية وصد موجات الغزو الاستعماري، قد عملت، بعكس ما تتجه إليه التحليلات السائدة، على إضاعة ما يمكن أن نسميه تراث العلمانية العربي الاسلامي القديم، من دون أن تنجح، بسبب ما وصلت إليه من طريق مسدودة، أو بسبب تضاؤل قدرة نظمها الاقتصادية والسياسية على الرد على مطالب الانخراط المتنامية في الحداثة ونمط استهلاكها المادي والمعنوي، في إحلال صيغة أخرى قابلة للحياة والتقدم والاستقرار. وتتفاقم اليوم أزمة هذه الحداثة، في موازاة عجز المجتمعات عن إزالة العقبة التي أصبحت تمثلها السلطة الاحتكارية الشاملة للدولة، وما تسببه من شلل للأفراد والجماعات وتبديد لطاقاتها ومواردها. وهي العقبة الناشئة عن المكانة العالية التي احتلها الدولة في عملية إعادة بناء المجتمعات بعد خروجها من الحقبة الاستعمارية، ودخولها في الحقبة القومية، والقدرات الاستثنائية التي تمتعت بها مقارنة بجميع الهيئات الاجتماعية الأخرى، بما فيها الدينية. وهو ما مكنها من قلب جميع التوازنات لحسابها ووضع جميع السلطات الأخرى في أزمة تاريخية دائمة، ومن ورائها المجتمع المدني نفسه الذي سيزداد كساحه وتجريده من القوة والانتظام مع تقدم مسار التحديث وتوسعه.
ولأن الدولة المشرقية وضعت منذ ولادتها في شروط تحول دونها والوفاء بوعودها، أصبحت معبودا محبطا، لا يستجيب لدعوات عبيده، ولا يأخذ بيدهم، ولا يقدر على تلبية مطالبهم. إنه الطاغية الذي يثير غضبهم ونقمتهم، ويحفزهم على التمرد عليه والتصادم معه بقدر ما يخيفهم ويرعبهم. ومهما جددنا في الدين، ستبقى العلمانية حلما نائيا ما لم ننجح في التحرر من الاستلاب للدولة، أو من سلب الدولة لإرادتنا، وهو ما لا يمكن تحقيقه خارج الدولة ولا ضدها، وإنما من خلال إعادة تأهيلها وإصلاحها. وكل ذلك مرتبط بقدرتنا على أن نؤسس السياسة ونؤنسنها، أي نعيد بناءها على مباديء إنسانية. والعلمانية هي، أولا وأخيرا، جزء من الثورة السياسية الحديثة التي جعلت من الانسان محور البناء المجتمعي، بقدر ما جعلت من إعداده وتربيته والارتقاء بشروط حياته غايتها الرئيسية. هكذا ندرك أن العلمانية ليست مسألة دينية، ولا ينفصل مصيرها عن مصير الحداثة الفكرية والسياسية
--------------------------------.
[i]
لياسين الحاج صالج الفضل في التشديد على محورية التأسيس المعرفي هذا والعمل على ضبط المفاهيم في ميدان تسيطر عليه الايديولوجية إلى حد كبير. انظر " في نقد العلمانية والديمقراطية أو مشكلتا الدين والدولة، الحوار المتمدن"، 15/6/07 ، "تأملات في السلطة الدينية والسلطة السياسية ومعنى العلمنة في عالم الاسلام السني"، 26/5/07
[ii]
على سبيل المثال، لرئيس الأمريكي الثالث وكاتب وثيقة الإستقلال الأمريكية توماس جفيرسون الذي خط عبارة "الفصل بين الكنيسة والدولة" الشهيرة في خطابه الشهير عام 1802 للمعمدانيين بولاية كونيكتيكت، كان يواظب على صلواته في الكنيسة بانتظام. وهو نفسه الذي أصر على أن يكون الكتاب المقدس جزءاً لا يتجزأ من منهج جامعة فيرجينيا، وكان هو من اعتمد ميزانية اتحادية للتعليم الديني.
[iii] استخدمت هنا قصدا مفهوم الرأي وليس العقل لسببين. الاول كي لا يختلط الأمر مع العقل بوصفه تجسيدا لفلسفة عقلانية، ولا يظهر استخدامه كما لو كان بديلا للدين. والثاني لارتباط الرأي بالجهد الشخصي الخاص بكل فرد من حيث هو إنسان عاقل، أي قادر على الاجتهاد والتفكير والتأمل، ومن حيث هو مركز قيم إنسانية او دينية لا ينفصل رأيه عنها. فالرأي ليس نقيضا للدين وإنما هو مطلوب في الدين والدنيا معا. وفي تاريخ الفكر والفقة الاسلامي استخدم مصطلح أصحاب الرأي لتمييز أولئك المدافعين عن إعمال العقل والاجتهاد الديني عبر التأويل، وبالتالي أصحاب الاستقلال الفكري، عن أصحاب النقل أو التقليد الذين كانوا يدافعون عن ضرورة الاقتداء بالأوائل ويعتبرون أي خروج عن سلوكهم وسنتهم خطرا على الدين.
[iv] كتابنا الاسلام والسياسة، الدولة والدين، المركز الثقافي العربي، بيروت. وكذلك
"”Islam, modernité et laIcité dans les sociétés arabes contemporaine » , Confluences Méditerranée, printemps 2000.
[v] كان التوافق بين الدين والدولة الديمقراطية الحديثة هو أول ما لفت نظر توكفيل في كتابه عن الديمقراطية في أمريكا. ورأى سبب هذا التوافق، بعكس ما هو الحال في بلده فرنسا حيث الصراع على أشده بين الدولة والكنيسة، في الطبيعة الخاصة بالدين أو بالتدين الأمريكي وتحوله إلى مسألة شخصية وخاصة. لكن كون الدين مسألة خاصة وشخصية لا يعني زوال التدين ولا تراجعه، على الأقل في تلك الحقبة، بالضرورة.
[vi] من الواضح أننا ننسى عندما نتحدث عن فصل الدين عن الدولة اننا لا نتحدث عن دين يشكل مركز تقدير وتقديس كبيرين في المجتمع. وهكذا يطرح الأمر كما لو كان تخييرا له بين التمسك باعتقاداته والموت هرما وبؤسا وهامشية أو الدخول في الحداثة والتخلي عن دينه واعتقاداته المقدسة. وكان هذا في الواقع ولا يزال منطق العديد من المستشرقين الأوروبيين المتمثلين للنموذج الأوروبي العلماني، والذين يعتقدون جميعا أن الإسلام لا يمكن أن يتماشى مع الحداثة، وأن تحديثه يعني القضاء عليه. بهذه الطريقة نضع المجتمعات الاسلامية في مازق لا مخرج منه وندينها باليأس والاحباط الأبدي. يستطيع المثقفون أو بعضهم، بما يتمتعون به من وعي نقدي شمولي وما يتمثلونه من مهام الريادة الفكرية بما تعنيه من جرأة على الانفصال عن التقاليد وتأسيس تقاليد جديدة وما يملكونه من حرية الرأي أو من تحرر من ضغط الرأي العام الجمعي، الانشقاق كليا عن الدين أو تصور العلمانية كتحرر كامل من الفكرة الدينية. لكن ذلك لا يسري على أغلبية أعضاء المجتمع الذين يشغلهم تأمين حياتهم اليومية عن التفكير المعمق بمشاكل المجتمعات والنظريات الفلسفية. ما يمكنهم من التصالح مع نظام الحداثة وقيمها هو التأويل الجديد للدين بما يتفق مع متطلبات الحياة العصرية.
[vii] أنظر عن دور الأزهر M. Zeghal, « Gardiens de l'islam - Les oulémas d'al Azhar dans l'Égypte contemporaine », Paris, Presses de Sciences Politiques, 1996
وهناك مراجع لا تحصى اليوم عن حركات الاصلاح الديني التي شهدها الاسلام في العصر الحديث والتي يعتبر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده أشهر روادها. وكلها اهتمت بتقريب الفكر الديني ومسائله من القيم والأفكار ومتطلبات الحياة الحديثة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية.
[viii] للمقارنة مع اليابان، مساهمتنا "Partage d’expériences : la modernisation au Japon et dans le Monde arabe" في كتاب
[ix] ونقول ردة عن التحرر الديني في الوعي، لا عن العلمنة الموضوعية التي حصلت بالرغم من تراجع الوعي. لأنه لا يمكن تصور نشوء الحركات الاسلامية أو ما نسميه كذلك اليوم من دون ما حققته العلمنة من تقويض لأسس التفكير اللاهوتي الوسيط. فلا تعمل هذه الحركات، عندما تتحدث عن دولة إسلامية وتوجه الدين نحو وظائف وغايات سياسية، إلا من منطق العلمنة التي تعني كما أشرت تركيز النشاط العمومي على تحسين شروط حياة الانسان على الأرض ووضع الحياة الدنيا في محور النشاط، بدل التركيز على الحياة الأخرى. فهذه الحركات نوع من العلمنة المقلوبة أو المضادة التي تشربت قيم الحضارة الحديثة ولا تعمل إلا بوحيها ولكنها تقوم بذلك من منطلقات وبمفاهيم قديمة لاهوتية. إنها تهدف مثلا إلى العدالة والمساواة والحرية تماما كالحركات السياسية الأخرى المعارضة، لكنها لا ترى عدالة أو مساواة أو حرية إلا في تطبيق الشرائع واحترام القيم والتقاليد الاسلامية. وفي سعيها هذا إلى تحقيق غايات إنسانية حديثة بوسائل دينية قديمة يكمن جوهر تناقضها الذي يفسر إخفاقاتها المتكررة ووصولها إلى طرق مسدودة.
[x] لا تزال آثار هذه الحقبة باقية حتى اليوم في نظمنا السياسية كما تظهر ذلك النزاعات المستمرة بين السلطات الحاكمة، المستندة إلى الشرعية القومية او الوطنية وحركات الأخوان المسلمين الذين مثلوا لفترة طويلة ما نسميه اليوم بالاسلام السياسي المعتدل والقابل بالعمل في إطار دولة حديثة أو شبه حديثة. أما في ما يتعلق بالاسلام الجهادي والجماعات الأصولية، فهناك إجماع كامل من قبل المجتمع ا لسياسي الحديث، بجميع تلويناته، على استعادها تماما من أي ممارسة سياسية وإن أمكن فكرية. وهذه الجماعات تعبر في الواقع عن الأزمة العميقة التي تضرب البنية الدينية، من فكر وسلطة ومؤسسة، أكثر مما تعبر عن الأزمة السياسية التي يشير إليها استبعاد الحركات الاسلامية السياسية مثال جماعة الأخوان المسلمين.
[xi] لا أعتقد أن من الممكن وصف ما يعيشه الاسلام السني على يد المتطرفين الأصوليين انشقاقا داخل الدين كما يشير رضوان السيد. فالانشقاق أو الصدع الديني يعني بروز سلطة دينية منافسة ونازعة لتأكيد نفسها وشرعيتها في مواجهة سلطة دينية تقليدية قائمة في قلب الدين، تنحو نحو بناء كنيسة أو مذهب جديد، كما حصل بين السنة والشيعة والخوارج. وهذا يستدعي وجود نخب دينية منظمة بالفعل وملتفة حول تأويلات مذهبية واضحة تمس جوهر العقائد الدينية. والحال نحن نعيش تحلل السلطات الدينية جميعا وغياب أي مناظرة محورها قضايا الدين، حتى أن الجهادين الاكثر تطرفا لا ينازعوة رجال الدين العلماء او الفقهاء الممثلين تاريخيا للسلطة الدينية ولا يشعرون بوجودهم. فمحور اهتمامهم الحكومات المحلية والدولية. وبالمثل لا توجد هناك أي حملة دينية ذات مغزى للعلماء على فرق التطرف المتنامية. لا بل إن هناك تعاطفا إلى حد كبير من قبل هؤلاء مع مشروع الدولة الاسلامية الذي تدور من حوله كل الحركات الأصولية المعاصرة. أنظر مقال رضون السيد "الانشقاق الديني والصدع الايديولوجي"، جريدة الاتحاد الظبيانية، 8 يوليو 07.
[xii] أما التيارات الاسلامية النضالية فهي تففتر للحد الادنى من الوعي بخطورة هذه التحديات والمعضلات، وتعيش في ما يشبه العرس لدائم نتيجة إدراكها سعة انتشار أفكارها أو عودة المجتمعات إلى الدين. كل ما تعتقد أنها تحتاج إليه لإخراج المجتمعات من محنتها هو الوصول إلى السلطة. وأفضل ما يعبر عن ذلك شعارها الدائم: الاسلام هو الحل. فالمشكلة بأكملها تكمن في نظرها في وجود نخب علمانية في الحكم، خاضعة للأجنبي وغير مخلصة لشعوبها.
[xiii] كنا قد ناقشنا هذا الموضوع في مقالة "الاسلام وأزمة علاقات السلطة الاجتماعية"، المنشور في كتاب الاسلاميون والمسألة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2004
[xiv] شعار الدين لله والوطن للجميع الذي أطلقه سعد زغلول هو المثال الأوضح لهذه الصيغة من التعايش بين الدولة والدين كما برزت في الثقافة السياسية العربية الحديثة. وهو شعار لا يزال صالحا إلى اليوم.