mardi, décembre 19, 2006

من مشاريع الاصلاح إلى الحرب الأهلية

الاتحاد 19 ديسمبر 06
منذ بضع سنوات فقط كان هناك إجماع على أن الاصلاح والتغيير هو الأجندة الرئيسية في المنطقة، وأن هذا الاصلاح، بما يتضمنه من تقويم الحياة السياسية وفصل السلطات الثلاث وتعزيز المشاركة الشعبية في الحكم، هو المدخل الحتمي لمكافحة الفساد وإطلاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتقنية، وبالتالي من تحسين قدرة المجتمعات على مواجهة الأخطار الأمنية الناجمة عن تفاقم الضغوط الداخلية والخارجية. وحتى أولئك الذين كانت مصالحهم الاقتصادية والسياسية تدفعهم إلى الخوف من الاصلاح أو الوقوف ضده كانوا مضطرين إلى التكيف مع شعاره والحديث عن إصلاح يتقدم بوتيرة المجتمعات العربية أو ينبع منها.
ونظرة واحدة على ما يحصل في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها من بلدان المشرق تكفي لإدراك التحول الذي حصل خلال أقل من سنة. فقد أصبح الإصلاح آخر هم يشغل الحكومات الغربية التي أعلنت عن تبنيها الكامل له في السنوات الماضية، ورصدت له الميزانيات وعقدت له العديد من المؤتمرات والمنتديات، ومن باب أولى الحكومات العربية التي وقفت جميعها تقريبا ضده باعتباره بدعة أجنبية، بل جميع قطاعات الرأي العام العربي التي فقدت أي أمل بتحسن الأوضاع، بما فيها المعيشية، ولم يعد يشغلها سوى الحفاظ على الأمن والاستقرار وتجنب الحروب الأهلية والإقليمية الدموية. وكما تهم الدبلوماسية الغربية اليون باستبدال هدف الحفاظ على الاستقرار بمشروع الديمقراطية الذي انتحلته في السنوات الماضية للتغطية على مشاريعها الهيمنية، وهو ما يشكل جوهر اقتراحات فريق بيكر الأمريكي لإخراج السياسة الأمريكية من ورطتها العراقية، يحتل القلق على المصير لدى الرأي العام العربي أكثر فأكثر محل الأمل في انتزاع الحرية والكرامة الانسانية. المحافظة على البقاء هي اليوم شعار الجمهور الملوع بدوامة الحروب الأهلية المندلعة أو التي تشتعل تحت الرماد، تماما كما أن الحفاظ على الصدقية الاستراتيجية وما تبقى من نفوذ هو الهدف الأول للدبلوماسية الأمريكية والاوروبية.
لا يرجع هذا التحول الكبير الذي قاد المنطقة من طريق التفاؤل والانطلاق نحو طريق اليأس والإحباط في أقل من سنتين لسبب واحد وحيد، ولكن لأسباب متعددة ومتشابكة. أولها من دون شك السياسات والاستراتيجيات الخاطئة التي طبقتها الولايات المتحدة في المنطقة قبل أن تصادق عليها في ما بعد البلدان الاوروبية، وكانت تهدف من ورائها إلى تعزيز مواقعها فيها وتحصينها ضد المنافسات الدولية الأجنبية. فقد أعادت هذه السياسات إلى الأذهان، كما لم تفعل أي سياسة أخرى عدوانية سابقة، صورة السياسات ووسائل العمل الاستعمارية التقليدية، وفجرت مشاعر العداء للغرب ولكل ما يمكن أن يرتبط به من قيم ورموز وأنماط حكم وإدارة مدنية. وبدل أن تساعد على تعزيز فرص تحديث النظم ونماذج الحياة الحديثة، كما ادعت أو افترضت من عملها هذا، أعطت للقوى المحافظة دفعة ما كانت تحلم بها ومكنتها من السيطرة الشاملة على الجمهور العربي، بعد أن كانت تعاني من أزمة حقيقية في مشروعها الخاص، واجبرت جمهور القوى الاسلامية والقومية المعتدل والمتنور على الالتحاق بأكثرها تطرفا وإعلان الولاء لها، عازلة بذلك القوى الديمقراطية التي كانت بالأصل قوى محدودة القوة والنفوذ معا.
لكن السياسات الغربية الحمقاء ليست وحدها المسؤولة عن انهيار الوضع المشرقي. فما كان لمثل هذا التطور أن يحصل لو قبلت الحكومات العربية أو معظمها بالحد الأدنى من الاصلاح في نظم الإدارة والحكم يفتح آفاقا فعلية لجمهور الشباب اليائس والقانط معا. والواقع أن أغلب هذه الحكومات لم تقف موقف المتفرج من مشروع الاصلاح ولكنها اعتبرت إحباطه وإفشاله هو جوهر المعركة الوطنية. وفي سبيل ذلك لم تتردد في العمل على محورين: تقويض أسسه الأخلاقية والسياسية بتحويله إلى مشروع أجنبي مفروض من الخارج وتجاهل الضغوط الداخلية القوية لتحقيقه، حتى في ما يتعلق بما يشكل جوهر أي سياسة وطنية، أعني محاربة الفساد المعمم ونهب مال الدولة وسوء الإدارة وفساد القضاء الواضح وتعطيل القانون وانفلات يد الأجهزة الأمنية من دون ضابط ولا رقيب. وهو ما قاد إلى تفاقم الفساد وسوء الإدارة وانهيار هيبة الدولة التي تحولت إلى ما يشبه العصابة المنظمة. أما المحور الثاني فهو إعلان النظم القائمة الحرب وما يشبه التعبئة العامة النفسية والدينية والقومية ضد قوى الاصلاح العربية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من مشروع الاحتلال والسيطرة الأمريكية. ولم تتوان هذه النظم في سبيل تحقيق أهدافها عن العمل على محور تعبئة الأحقاد الطائفية، والمغامرة بتفجير المجتمع العراقي لإجبار الولايات المتحدة على التراجع ووقف الضغوط التي وجهتها للنظم العربية. وليس هناك مبالغة في القول إن النجاح كان من جانب هذه الحكومات العربية، ولو أن ما حصل كان على حساب وحدة الشعوب العربية واستقرارها ومستقبلها.
بيد أن ذلك لا يعني أن قوى التغيير الوليدة لا تتحمل هي أيضا قسطا من المسؤولية في ايصال الأوضاع المشرقية إلى ما وصلت إليه. فليس هناك شك، وهو ما كنت قد حذرت منه في أكثر من مناسبة، في أن قطاعا كبيرا منها قد خدع بشعارات الديمقراطية والاصلاح التي ازدحمت بها وسائل الإعلام وخطابات المسؤولين الغربيين، واعتقد الكثيرون عن حسن نية، من دون أن يخفف ذلك من عدائهم التقليدي والصحيح للهيمنة الأجنبية، بأن التغيير حاصل لا محالة، وبالتالي ليست هناك حاجة لتضييع الوقت في العمل الدؤوب والصابر على الأرض، وبذل الجهد اللازم والطويل لإحداث التغييرات الفكرية والسياسية الداخلية المطلوبة. ولعل هذا ما يفسر أيضا الضعف الذي أظهرته قوى التغيير في التكون والتبلور فكريا وسياسيا وتحقيق تحولات نوعية في ممارستها العملية. وهكذا بقيت هذه القوى مشتتة، تعيش حالة تنافس وتناحر مستمرين، وتفتقر لمنهاج عمل واضح وواحد في جميع الميادين. باختصار، إن مسؤولية القوى التغييرية تتجسد في إخفاقها في تجاوز نقاط ضعفها والتغلب على قصورها للارتقاء إلى مستوى التحديات المطروحة عليها. وكثير منها لا يزال أسير تصورات واستراتيجيات وشعارات وأفكار هي من تراث حقبة فاتت، ولم ينجح في التكيف مع الأوضاع الجديدة المتحولة، الخارجية والإقليمية والوطنية.
بعد أن انهار مشروع الاصلاح وانعدم الأمل بالخروج من الحلقة المفرغة التي تعيشها المجتمعات منذ عقود، حلقة تفاقم الفقر والبطالة والعزلة والتهميش والإحباط من كل نوع، لم يعد أمام الشعوب سوى المواجهة: مواجهة بعضها للبعض الآخر لتحقيق مكاسب وامتيازات وتقاسم منافع وموارد تتقلص أكثر فأكثر، لضمان شروط بقاء يزداد إشكالية يوما بعد يوم، ومواجهة مع خارج معاد متعدد الأوجه والحلقات، ثقافي وسياسي وعسكري واقتصادي واجتماعي، لا يزال، رغم الانهيار الكبير في مواقعه الاستراتيجية، يملك المفاتيح الأساسية لأي تحول بناء في عموم المنطقة. وهكذا تتقاطع الحروب الأهلية والحروب الوطنية، بقدر ما تنقسم الشعوب على نفسها، وتتضاءل فرص انخراطها في اقتصاد عصرها وحضارته، ويزداد بالتالي تهميشها وعزلها وضرب الحصار عليها، سواء أجاء ذلك باسم الحرب على الإرهاب أو الحرب ضد السيطرة الاستعمارية. وهو حصار مزدوج، مختار من قبل الحكومات المحلية ومفروض من قبل الدول الاستعمارية.
السؤال الذي يطرحه الجميع على أنفسهم اليوم هو التالي: إذا كان عدم التفاهم حول محتوى الاصلاح سبب اندلاع الصراع في السنوات القليلة الماضية بين النظم المحلية والدول الغربية الحامية لها، فهل يمهد التخلي عن مشروع الاصلاح بجميع أشكاله، كما تقترح ذلك أوساط كثيرة عربية وغربية، بعد أن أظهرت جميعها عجزها عن حسم المعركة لصالحها، إلى تفاهم جديد بين الأطراف المتنازعة، يعيد بناء الوضع الشرق أوسطي على أسس تضمن الاعتراف بدور أكبر للحكومات المحلية في تقرير مصيرها؟ وهل ينطوي مثل هذا الوضع على احتمالات أكثر لتنامي الفساد والعسف وسوء الإدارة والاستهتار بالرأي العام وتجيير الدولة ومواردها لصالح النخب الحاكمة، وبالتالي لتطوير سياسات أكثر امتهانا لكرامة الشعوب وحرياتها، أم أنه سيخلق فرصا أكبر لتحرر الشعوب وانعتاقها؟
الواقع المرئي المباشر يشير إلى أن هذا التفاهم سوف يتحقق على حساب الشعوب. لكن ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لمثل هذا التفاهم، إذا تحقق، حظ كبير في الحياة. بالعكس، كل الدلائل تشير إلى أن النظام العربي مثله مثل النظام الإقليمي الذي صاغه الغرب للمشرق العربي، هما وجهان لعملة واحدة. وأن كلاهما ينفقان، ولا سبيل لانقاذهما.

mardi, décembre 12, 2006

في استحالة الانتصار في المواجهة اللبنانية الحالية


يشكل الهجوم السياسي الواسع الذي نظمه حزب الله على حكومة الأغلبية المنبثقة من حركة أو انتفاضة 14 آذار، وفي صلبه تعزيز التحالف مع التيار الوطني الحر للجنرال ميشيل عون، الرد المباشر على نتائج الحرب الاسرائيلية التي شنت عليه في يوليو أغسطس الماضي. ومن الواضح أنه لا الهالة التي خرج بها الحزب من الصمود البطولي بالفعل أمام العدوان الاسرائيلي، ولا المدائح التي كيلت له من قبل الحكومة اللبنانية والرأي العام، كانا كافيين للتغطية على الحقيقة التي تفيد بان الانتصار العسكري المدوي لحزب الله لم يمنع إسرائيل في النهاية من تحقيق أحد أهداف حربها العدوانية الرئيسية، وهي كما ينص قرار مجلس الأمن 1701 نشر الجيش اللبناني في الجنوب، بعد رفض طويل من قبل حزب الله، وإقامة وضع قانوني وسياسي ضاغط على حزب الله وقضيته الرئيسية المتجسدة في الاحتفاظ بآلته العسكرية، بعد سد ذريعة المقاومة بإقفال الجبهة الجنوبية. ولم تخف هذه الخسارة السياسية عن قيادة حزب الله الذي أدرك أن اتجاه الأحداث يدفع في اتجاه تحييده في اللعبة الإقليمية، وتقويض الأسس السياسية والايديولوجية التي يقوم عليها تمسكه بسلاحه، وبالتالي حفاظه على وجوده المتميز، وتوسع نقوذه في الجنوب، داخل قاعدته الشيعية، وعلى مستوى الساحة الإقليمية أيضا.
لم يكن لدى الحزب، بسبب الضغوط الداخلية والإقليمة والدولية القوية، خيارات أخرى سوى القبول بهذه التسوية المتمثلة في تطبيق القرار 1701، والتي تشدد الحصار السياسي عليه، على أمل العودة عنها في أول فرصة سانحة. وقد جاءت هذه المناسبة مع تصميم دمشق في يوليو الماضي على تعطيل المحكمة الدولية التي قدمت الأمم المتحدة مشروعها إلى السلطة اللبنانية للتوقيع عليه.
بيد أن قرار خوض المعركة الحاسمة لم يكن ممكنا في مواجهة حكومة لبنانية منتخبة، تستند إلى قاعدة شعبية لا يمكن التشكيك فيها، وتحظى بدعم واسع على الصعيد العربي والدولي، من دون دخول دولة كايران، ذات قوة استراتيجية وموارد كبيرة ونفوذ واسع في لبنان أيضا، في صراع مع الولايات المتحدة التي تقود الحملة المناوئة لامتلاكها التقنية النووية. وهكذا التقت أجندة حزب الله الخاصة، التي تهدف إلى فك الحصار السياسي الذي يوشك أن يضرب عليه، مع أجندة النظام السوري الذي يخوض معركة بقائه أيضا من وراء معركة إسقاط المحكمة الدولية، مع أجندة الدولة الايرانية الهادفة إلى تأكيد حق طهران في النفوذ إلى أسرار التقنية النووية، لتجعل من لبنان مركز الحسم، وتقرر من وراء ذلك إعادة تشكيل خريطة القوة في المنطقة المشرقية، بعد انحسار النفوذ الأمريكي والغربي عموما. فهي بالتاكيد معركة ثلاثية الأبعاد، تحمل في حجرها ثلاث انقلابات لا انقلابا واحدا: الانقلاب على الوضع اللبناني الناشيء عن خروج الجيش السوري من لبنان بعد اغتيال الحريري، والانقلاب على الوضع الإقليمي الذي كرسه احتلال العراق من قبل التحالف الأمريكي البريطاني، ونتج عنه إحكام الخناق على النظام السوري ووضعه في عزلة شاملة، والانقلاب على الوضع الدولي الذي يقوم في ا لشرق الأوسط، أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، على التسليم بالسيطرة الغربية والأمريكية منها بشكل خاص والتعامل معها كحقيقة واقعة، وعلى القبول بازدواجية المعايير التي تستند إليها ومن ضمنها تلك التي تسمح لاسرائيل بامتلاك السلاح النووي وترفض ذلك لجميع الدول الأخرى.
وهذا المضمون الملتبس للانقلاب الحاصل الذي يحمل في الوقت نفسه تغييرات ينظر إليها الرأي العام العربي والاسلامي نظرة متباينة، هو الذي يفسر الانقسام الذي يسم موقف الجمهور العربي واللبناني عموما مما يجري. فهو بقدر ما يشكل ردا على سياسة الغطرسة الأمريكية والاسرائيلية التي زعزعت استقرار المنطقة، وقادتها إلى الدمار، وحرمتها من فرص التحول السلمي السياسي والاجتماعي، يحمل في طياته أيضا مخاطر تكريس نماذج حكم مرعبة تجاوزها الزمن، حتى الزمن العربي والاسلامي، وفي مقدمها نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية والنظام السوري ونموذج السلطة السياسية الدينية. فهو انقلاب يجمع بين قيم الشهادة والمقاومة للهيمنة الأجنبية التي يجسدها حزب الله، والمصالح الخاصة الأكثر ضيقا وأنانية لنظام السلطة السورية، إلى جانب النزعة القومية الايرانية الجامحة المختبئة وراء النزعة المذهبية. ولا يمكن أن يخرج من هذا التحالف الغريب أي مشروع ايجابي قادر على أن يملأ فعلا الفراغ الذي يتركه، كما ذكرت انحسار، النفوذ الغربي. وعلى الأغلب لن يخرج من هذا الانقلاب سوى تكريس النفوذ الايراني الذي سيدفع لا محالة إلى تجييش عربي مقابل في مواجهته، أي إلى مواجهة حتمية عربية ايرانية، لا يمكن إلا أن تعزز تمسك الدول العربية المحافظة، وهي الأكثرية، بالحماية الأمريكية. باختصار، ليس انتصار محور إقليمي، وبالتالي تكريس سياسة المحاور، هو الاستثمار الأفضل لانهيار قوة الردع والصدقية الاستراتيجية الأمريكية. بل إن سياسة المحاور سوف تعطي لواشنطن والدول الأطلسية فرصة ثانية لإعادة ترتيب أوراقها، وإعادة بناء نفوذها عن طريق توجيه المحاور الإقليمية والتلاعب بها.
ليس خطأ الحكومة اللبنانية أنها قبلت بالقرار الدولي 1701 فلم يكن لديها خيار آخر سوى الاستقالة السياسية والأخلاقية وترك لبنان يواجه مصيره لوحده امام إسرائيل والدول الكبرى. والدليل أن حزب الله نفسه لم يجد بدا من قبول التسوية الدولية المفروضة لوقف الحرب الاسرائيلية. ولا يكمن خطأها أيضا في أنها أظهرت العداء للنظام السوري او الايراني، فهي لم تفعل شيئا من ذلك، بالرغم من التصريحات الاستفزازية لبعض قادة ما يسمى بقوى 14 آذار، لكن في أنها وجدت في موقع يشكل نقطة الضعف الرئيسية في الوضع الجديد الناشيء بعد تغيير الولايات المتحدة سياستها في الشرق الأوسط، وأن إزاحتها عن هذا الموقع لا يجسد نزوعا قويا لملء الفراغ الذي تركه انحسار القوة الأمريكي فحسب وإنما يقدم أكثر من ذلك فرصا جديدة لاستكمال التحالف الثلاثي بين الجمهورية الاسلامية والنظام السوري وحزب الله انقلابه، وتغيير خريطة توزيع القوة في المنطقة.
ومن هنا ليس هناك حل للأزمة بانتصار أي فريق على الآخر في لبنان. فكل انتصار هو افتتاح لحصار جديد واقتتال. لا حل للأزمة خارج إطار التفاهم السياسي، ليس بين الأطراف اللبنانية فحسب، ولكن على المستوى الإقليمي بين العرب والايرانيين المرتبطين اليوم ارتباطا عضويا بالقضايا المشرقية أيضا. فإما أن ينجح اللبنانيون في التوصل إلى تسوية تضمن الاستقرار والتفاهم الطويل المدى، وهو ما يقتضي فصل الأجندة الوطنية اللبنانية عن أجندة الدول الأخرى، وبالتالي، كشرط له، تفاهما عربيا ايرانيا موازيا، أو أن لبنان سيتحول إلى مسرح لاستعراض قوة الأطراف المتنازعة إقليميا ودوليا، ويكون المركز الرئيسي للمواجهات المستمرة التي ستشهدها المنطقة خلال العملية الطويلة لإعادة بناء التوازنات الإقليمية، على أثر انهيار الاستراتيجية الأمريكية. وهو ما يعني أن لبنان مهدد بأن يتحول إلى ساحة حرب دائمة، وأن اللبنانيين سيتحولون إلى أدوات في يد القوى الخارجية، و لن يكون لأي فئة منهم عندئذ أمل في السيطرة أو الحكم، لا كأغلبية ولا كأقلية، كما لن يكون هناك لا سلام ولا استقرار في لبنان.

mercredi, décembre 06, 2006

المقاومة وشرط الديمقراطية المفتقد

الاتحاد 6 ديسمبر 06

ما نشهده في منطقتنا اليوم ليس إفلاس الدولة/الوكالة الأجنبية، التي نشات في ذيل الاستقلالات الشكلية الماضية فحسب. ولا انفتاح المقاومة، التي اتخذت أشكالا عصبوية، طائفية أو مذهبية أو أقوامية، على الفوضى، وإخفاقها في إعادة تشكيل وطنية جامعة أيضا، ولكن أكثر من ذلك، العودة الأليمة والمأساوية إلى منطق الصفقات التقليدية التي صاغت نظام العلاقات الدولية شبه الاستعماري في المنطقة بين النخب الحاكمة والدول الكبرى في العقود الماضية. وهو ما سوف يترجم بإعادة تكريس الدولة القهرية المعادية لمجتمعها والمقاومة العصبوية الفاقدة لأي إرادة وطنية جامعة تمكنها من تغيير موازين القوى المحلية والإقليمية لصالح الشعوب في مواجهة نخبها المتحالفة مع القوى الكبرى.
يطرح هذا التحول تحديا كبيرا على قوى التغيير التي نشأت في السنوات الماضية، سواء من تصدى منها للتغيير عن طريق إصلاح الدولة، بفرض التحولات الديمقراطية وتطوير قوى المعارضة السياسية الداخلية، أو من تمسك بخط مقاومة القوى الاجنبية، والكفاح ضدها كمدخل لعزل السلطة الاستبدادية والديكتاتورية أو تطويقها. ويدفع هذا التحدي أو ينبغي أن يدفع لا محالة إلى إعادة النظر في السياسة العربية ذاتها وبرنامجها، في شقها الاصلاحي وفي شقها المقاوم معا.
ليس التأكيد على راهنية التحويل الديمقراطي للدولة والمجتمعات هو أصل الخطأ في برنامج الاصلاح والديمقراطية الذي تبنته قوى المعارضة، التي التفت حولها قطاعات من المثقفين والطبقات الوسطى، ولكن رهانه على اندماج في الحياة الدولية لم تتوفر شروطه بعد، وارتباطه بالتالي بحسن نوايا قوى النادي الديمقراطي العالمي. وبالمثل، ليس التأكيد على أولوية الصراع لتحقيق السيادة والاستقلال هو الذي قاد المقاومة إلى طريق تعزيز الانقسام والفوضى العربيين، وإنما حصر المقاومة بالمهام الموجهة نحو الهيمنة الأجنبية. فكما أدى التفاؤل المبالغ فيه في استقلال النظم عن الاستراتيجيات الدولية الكبرى، وأحيانا الاعتقاد بتبدلها في اتجاه ايجابي، إلى المبالغة في تقدير احتمالات التحول الداخلية، قبل أن يدفع البعض إلى التعلق بأوهام الضغوط الخارجية، قاد التثبت على مفاهيم مجردة للسيادة والاستقلال إلى التقليل من مخاطر المقاومات العصبوية، ودفع إلى التغطية على الحروب الأهلية، أو الالتحاق باستراتيجيات النظم الاستبدادية التي كانت تعاني من ازمة في علاقاتها الدولية. ومن هنا، تعني إعادة النظر في السياسات التي وجهت عملنا في السنوات الماضية الرد على سؤال : كيف نبنى معارضة ديمقراطية لا يكون رهانها الرئيسي الضغوط الخارجية، وكيف ننظم مقاومة لا تقود إلى الفوضى وانقسام المجتمعات وتفكك عروتها الوطنية أو دعم النظم الاستبدادية.
يمكن تلخيص ما علمتنا إياه تجربة السنوات القليلة الماضية في نظري بأمرين: لا مجال لمعارضة ديمقراطية، في إطار دولة مستلبة الإرادة والسيادة، ولا مجال لمقاومة وطنية من دون بناء قيم القانون والمساواة والحرية والعدالة والاستقلال عند الأفراد. وهو ما يعني أن ما كان ينقص المعارضة ويضعف فاعليتها هو وجود روح المقاومة الفعلية للسيطرة الخارجية، وما كان ينقص المقاومة ويذهب أثرها هو تقدير صائب للترابط العميق بين الاستبدادات الداخلية والإملاءات الخارجية. فكما أن غياب القيم الوطنية يحول المقاومة للسيطرة الأجنبية إلى مقاومات عصبوية وفئوية بالضرورة، يلغي غياب مفهوم السيادة أيضا أي إمكانية لإصلاح مستمر ومتراكم للدولة.
والواقع، لا يعبر وجود برنامجي تغيير متناقضين، أحدهما يركز على التحول الداخلي والآخر على التغيير في العلاقات الخارجية، سوى عن غياب أجندة وطنية واحدة، داخل كل بلد عربي وعلى مستوى البلدان العربية مجموعة. وهو ما يعكس الأزمة العميقة التي تعاني منها الوطنية العربية نفسها.
في نظري، ما يدفع إلى التفكير في تبني مفهوم المقاومة ومنظورها تجاه القوى الخارجية هو نفسه الذي ينبغي أن يدفع إلى إعادة النظر في مفهوم المعارضة الداخلية، والتامل في مفهوم المقاومة بوصفها أسلوبا خاصا بمواجهة كل قوى أجنبية، أي مفروضة بالقوة، خارجية كانت ام داخلية. وفي هذه الحالة لن يعود هناك فرق بين معارضة داخلية ومقاومة خارجية تماما كما أن استمرار النظم الاستبدادية لا ينفصل بأي شكل عن استمرار نظم الهيمنة الأجنبية الخارجية. يتعلق الأمر في الواقع، كما بينت الأحداث، بنظام واحد للسيطرة والاستعباد، يتحرك على مستويات مختلفة، وتقوم بخدمته نخب متعددة الأصول والمشارب أيضا. وليس لأي مجتمع قدرة على مقاومته من دون توحيد جهود قوى التغيير والاصلاح جميعا فيه، تلك الحساسة لمسألة الحريات الداخلية والاصلاحات الديمقراطية، وتلك المتعلقة بشكل أكبر بقيم الاستقلال والسيادة والهوية.
يتطلب دفع قوى التغيير العربية في اتجاه بناء قوة مقاومة واحدة، تجمع بين مواجهة العنف الداخلي الموجه للمجتمع، والعنف الخارجي الموجه للأمة بأكملها، التخلي عن الكثير من الأوهام، والانخراط في عملية بناء طويلة، فكرية وعملية، لقوى المجتمعات، على مستوى البلدان ومستوى المنطقة معا. ومن ضمن ذلك، الكف عن النظر إلى المقاومة كممانعة سلبية تهدف إلى قطع الطريق أمام تحقيق مشاريع الآخرين، أو تقتصر على التصدي أحادي الجانب لمشاريع الهيمنة الخارجية. بالعكس، ينبغي للمقاومة أن تتجاوز شرط السلبية لتكون مصدرا لمشروع خاص بها، يتعلق بإعادة بناء الأوضاع الوطنية، المحلية والعربية. ولا يمكن أن تكون كذلك إلا بقدر ما تكون قادرة على توحيد الشعب بجميع قطاعات رأيه العام ومكوناته الدينية والأقوامية والسياسية. وهو ما لا يتحقق أبدا عن طريق فرض الرأي الواحد أو إلغاء الآخر أو العمل تحت شعارات مذهبية أو طائفية أو دينية. إن مقاومة وطنية بالفعل لا تقوم من دون عقيدة وطنية جامعة، سياسية، تتيح لأي فرد إمكانية الانتماء والانخراط فيها من دون تمييز، وتجعل من هذا الانتماء المفتوح على الجميع قاعدة لإعادة لحم الكسور المجتمعية. وبالمثل، إن مقاومة وطنية ناجعة لا تقوم من دون رؤية واضحة ومنطقية مقبولة ومشروعة بالنسبة للقسم الأكبر من الرأي العام، لإعادة بناء علاقات السلطة ونظم الحكم والإدارة والتنظيمات الاجتماعية، أي من دون رؤية لنمط الدولة المنشودة.
من هنا، لا تبني الشعارات الدينية أو الطائفية، مهما كانت، مقاومة وطنية، تشكل مشروعا لإعادة توحيد الإرادة الجماعية، وإحياء الوطنية وبعثها، ولا لإعادة بناء الدولة، وتعزيز فرص إقامة المؤسسات السياسية والقانونية، التي يقبل الجميع الخضوع لها، والعمل من ضمنها. ولا يبينها أيضا شعار الحفاظ على الأمن والاستقرار عن طريق كبت الحريات العامة وامتهان حقوق الأفراد والتسلط عليهم، بانتظار تحرير الأرض أو كسر الهيمنة الغربية. فبالاضافة إلى أن مثل هذا الموقف الذي ينظر إلى الأغلبية الشعبية وكأنها بالفطرة جاهلة أمية ولا أخلاقية، لا يمكن الثقة بها، وبالتالي لا يمكن القبول بالانفتاح عليها واحترام حرياتها ومعاملتها معاملة قانونية في وقت المواجهة مع السيطرة الخارجية، يخفي موقفا عنصريا واحتقاريا لا يمكن وصفه، فهو يقلب الحقيقة أيضا رأسا على عقب. فالواقع أن النخب الحاكمة لا تحرم الشعوب من حرياتها الأساسية، ولا توقف العمل بمبدأ حكم القانون خوفا مما يمكن أن ينجم عن معاملة السكان معاملة قانونية، والاعتراف بحقوقهم والتخلي عن ارهابهم، من جنوح إلى تجاوز المصالح العمومية، والتعلق بمصالح جزئية، طائفية أو طبقية، أو إلى التعامل مع القوى الخارجية، ولكن بالعكس، لأنها تريد أن تظل طليقة اليدين تماما أمام احتمال التوصل إلى تسويات مجحفة بحق المصالح الوطنية مع الدول الاستعمارية وأن تتفاهم مع هذه الأخيرة من وراء ظهر الشعوب على تقاسم المصالح والموارد المحلية.
هذا يعني أن الدمج بين برنامج مقاومة الضغوط الخارجية، والعمل على تحرير البلاد من شياطينها الاستبدادية والطائفية والمذهبية الداخلية، وتعميم رؤية ديمقراطية تؤكد على حقوق الأفراد وحرياتهم وعلى المساواة التامة في ما بينهم، هو محتوى برنامج المقاومة العربية المطلوبة، بقدر ما يشكل هو نفسه أساس بناء الوطنية، وتجاوز النزاعات والانقسامات العصبوية في أي مكان.

jeudi, novembre 30, 2006

في جذور الأزمة الشرق أوسطية

الوطن 30 نوفمبر 06

حكم التعارض التاريخي والمستمر في المشرق العربي بين أجندة القوى الغربية، ومن ورائها المنظومة الدولية التي تقودها، وأهدافها الاستراتيجية، وأجندة بناء دولة وطنية بالمعنى الحقيقي للكملة على منطقة المشرق العربي بالعيش في مناخ ازمة دائمة، إقليمية ووطنية لم تفتر خلال أكثر من نصف قرن.. لكن الأسلوب الفج الذي اتسمت به في السنوات القليلة الماضية سياسة التدخل الغربي، والأمريكي منه بشكل خاص، وما تبعها من تطرف مقابل في ردود الفعل العربية على هذه السياسة، ومن تنامي الحركات الارهابية التي تستهدف المصالح الغربية، قد دفع إلى تفجير هذه الأزمة وفتحها على مصراعيها، واضعا مصير المشرق العربي بأكمله، دولا وشعوبا، في مهب الريح. ونحن نواجه اليوم في الوقت نفسه عواقب انهيار الدولة المشرقية بما تمثله من إطار لبلورة إرادة سياسية جامعة وسياسات تهدف إلى تأمين مصالح المجتمع وتجذب ولاءه وتحظى بقبوله وثقته، ونتائج تقويض النظام شبه الاستعماري الذي أقامه الغرب في المشرق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والذي أخفقت الحركة القومية العربية بعد صراع طويل في أن تزيله أو تعدل في آليات عمله.
فبقدر ما أدى التعارض المتزايد بين أجندة إقامة نظام أمني للشرق الأوسط، يلبي حاجات الهيمنة الغربية بالدرجة الأولى، وأجندة بناء دولة تعبر عن إرادة مواطنيها وتلبي حاجاتهم المادية والمعنوية، من هوية واستقلال وخدمات اجتماعية، إلى تسويد حالة من النزاع الدائم، السياسي والثقافي، ولكن أيضا العسكري (حرب كل عشر سنوات تقريبا) سد الطريق على إمكانية بناء الدولة، كما قطع الطريق على إمكانية التواصل بصورة ايجابية مع المنظومة الغربية، ومن ورائها مع المنظومة العالمية التي يسيطر عليها الغرب.
وكما أن مشروع بناء الدولة الحديثة الذي ارتهن للاستراتيجيات الغربية فقد القدرة على التقدم والتحول إلى مشروع دولة وطنية، تطورت المقاومة القومية التي حملت القيم الوطنية الحديثة وكرستها خلال أكثر من نصف قرن نحو مقاومة إسلامية معادية للغرب وقيم الحداثة معا، بقدر ما أخفقت في مواجهة السيطرة الغربية والانتصار عليها. وكما وصلت الدولة التي عجزت، بسبب ارتهانها لإرادة أخرى غير إرادة مجتمعاتها، عن إنجاب التقدم الحضاري والحريات والحقوق والمشاركة السياسية التي تشكل جوهر عملها، فوصلت إلى طريق مسدود، وصلت المقاومة الاسلامية التي تخلت عن القيم المواطنية الوطنية، وراهنت على تعبئة العصبيات الدينية والمذهبية والطائفية والإتنية، بسبب غياب أفق بناء دولة بديلة، إلى طريق مسدود مماثل، فعممت الانقسام والتفكك الاجتماعي والسياسي، وفتحت الباب نحو عصر من الفوضى والخراب الذي عرفته من قبل أفغان طالبان ولم تخرج منه بعد.
يشترك العرب والغربيون سوية في ايصال الوضع في المنطقة إلى الكارثة التي يعيشها الآن. ولا يعادل فشل العرب في تغيير واقع التبعية المطلقة التي فرضت عليهم سوى إخفاق الغرب أيضا في تكييف مصالحه مع الحد الأدنى من مصالح الشعوب العربية. وهكذا كانت النتيجة صدام مستمر تحول اليوم إلى أزمة عامة، ترتقي كما عبر عن ذلك البعض إلى مستوى الحرب الحضارية، وفي بعض التصريحات إلى الحرب الصليبية. ونحن اليوم على أبواب حروب صليبية جديدة من دون ريب.
فبقدر ما بقيت مشروعا أجنبيا ووكالة للسيطرة الخارجية وقناة للنفوذ وتنفيذ الخطط والسياسات الدولية، تحولت الدولة إلى أداة غريبة سالبة للمجتمع وخارجة عليه. ولأنها أصبحت كذلك افتقدت ديناميات تطورها ونموها المعنوي والقانوني والمادي معا. صارت قزما سياسيا بكل المعاني، غير قادرة على إلهام الناس ولا إثارة حماسهم ولا إرضاء حاجتهم للقيادة والسلطة الشرعية، ولا على ملء الفراغ الذي يحدثه انحسار البنى والهياكل الايديولوجية والسياسية التقليدية، وتسارع وتيرة تحديث المجتمعات وتفتت البنى الجماعوية. وهو ما يثير ضدها نقمة مستمرة ويظهرها في نظر شعوبها كما لو كانت عملة مزورة، أو دولة كاذبة وفارغة أكثر منها إطارا شرعيا يقدم لهم شروط تعظيم فرص تحررهم وتفتح ذواتهم وتهذيبهم وتحسين شروط حياتهم ومعالجة مشاكلهم الداخلية والخارجية. فهي صنم سياسي تطلب له العبادة والتقديس لكنه لا ينطق ولا يتحاور ولا يتواصل معهم، فيتحول إلى منبع للاحباط الدائم.
من هنا نحن نعيش حالة قومية مأزومة وشديدة الحساسية، بل ملتهبة في عدائها للآخر، الخصم، وفي الوقت نفسه غير قادرة على الانجاز والتوجه نحو عمل ايجابي بناء يخرجها من المأزق ويعزز قدرتها على حل مشكلاتها. بهذا المعنى أصبحت قوميتنا قومية مقاومة سلبية، وتحد، واعتراض، ورفض، وتحطيم، وانحسرت عنها قيم العقلانية لصالح التعبئة الشعبوية والثورة الساخطة والولع بالحرق والتدمير، بقدر ما فقدت الأمل في تحقيق ذاتها واستكمال نضوجها، أي بناء دولة تعبر عن إرادتها وتعكس في مؤسساتها مصالحها وغاياتها. وقانونها العميق يقول: طالما لا يسمح لنا ببناء مؤسسات من اختيارنا فلن نسمح لاختيار الآخرين المسيطرين علينا أن يمر. نحن هنا في حالة تعطيل للبناء الذي يتم بإشراف الغير وحسب مصالحه، لا في حالة بناء ذاتي ومراكمة لعناصر التقدم من أي نوع كانت، مادية أو معنوية. وهو ما يعني حالة حرب وخراب مستوطنة. فسلبية القومية الراهنة، بما في ذلك تلك الملتحفة برداء الدين، والمتمسحة بالعروبة، ليست في واقع الأمر إلا ردا على سلبية السياسات الاستعمارية أو شبه الاستعمارية الغربية التي لا تزال تصر على إغلاق المنطقة وفرض النظم التي تنسجم مع مصالحها عليها. ومن هذا المنطلق ليست أيضا قوة تجاوز النظام والخروج منه ولكن بالعكس طرف أساسي في تأسيسه وضمان استمراره، من حيث أن السيطرة لا تستقيم من دون ممانعة تؤسس لها وتضفي الشرعية على آليات عملها، كما تبرهن على ذلك الرؤية السائدة في حقل العلاقات الدولية والمتمحورة حول فكرة الحرب ضد الارهاب والحرب الحضارية أيضا.
كما انه من غير الممكن تصور إنقاذ مشروع الدولة من دون تغيير جذري في سياسات القوى الغربية تجاه المنطقة، وتحكمها بالقرار الفعلي فيها، كذلك لن يكون هناك أمل في الانتصار على فوضى المقاومات التي تعبر عن النزاعات الأهلية والانقسامات الداخلية، من دون إعادة النظر في مفهوم المقاومة والعودة إلى قيم الوطنية ومعاييرها. وهو ما يستدعي في الوقت نفسه انقلاب في استراتيجية السيطرة الغربية يمكن الغرب من تكييف مصالحه، أو ما يعتقد أنه مصالح استراتيجية، مع مصالح شعوب المنطقة، بعد أن بقي ينظر إليها حتى الآن كنقيض لها، ومن دون اعتراف العرب أيضا، والمقاومات الاسلامية المسيطرة عليهم اليوم، بتداخل المصالح الدولية، والقبول بفتح مفاوضات جدية حول تبادل المصالح، بما يعني إعادة تعريف واضح للمصالح العربية وضمان الاعتراف بها. فإما ان يحصل تفاهم بين العرب والغرب يقود إلى تعاون يضمن مصالح الجميع ويفتح امام المنطقة أبواب التنمية والبناء والاستقرار أو أن تتحول المنطقة إلى ساحة حرب واسعة وتقبل بأن يكون مصيرها الدمار والخراب الشامل، مع ضياع مصالح الجميع، العرب والغربيين على حد سواء.

mercredi, novembre 29, 2006

في أصل خراب الشرق الأوسط وعذاب قاطنيه

الجزيرة نت 29 نوفمبر 06

ما ميز ولا يزال يميز الشرق الأوسط في نظام العلاقات الدولية مجموعة من السمات الخاصة حكمت عليه بالتحول إلى بؤرة توتر مستمرة وحرمته من عوامل أساسية للتقدم على طريق التنمية الانسانية الاقتصادية والاجتماعية وأدانت شعوبه بالبقاء في أسر النظم المافيوزية ولا تزال تدفع ببلدانه نحو العزلة والهامشية والانحلال.
الأولى التدويل الناجم عن ارتفاع حجم الرهانات الدولية التي تنطوي عليها، سواء ما تعلق بموقعها الجيوستراتيجي كعقدة مواصلات بين القارات والتكتلات الكبرى الدولية، أو كأكبر مصدر للطاقة النفطية وأعظم خزان لها، أو بوصفها البقعة التي وقع عليها الاختيار لتكون مسرحا لحل دراما المسألة اليهودية، التي ارتبطت في أوربة والمجتمعات الغربية عموما بالعداء للسامية على مدى قرون عديدة متتالية، ووجدت أقصى تعبيراتها في كارثة المحرقة والمذابح الجماعية لليهود الغربيين الذين قضوا بالملايين في القرن العشرين على يد قوى النازية والفاشية الاوروبية. ولم تنفرج هذه الأزمة إلا بإعلان فلسطين دولة إسرائيلية وصب الأوروبيين دعمهم المطلق لهذه الدولة ومساعدتها على تحقيق سياساتها بصرف النظر عن نتائج ذلك على سكان البلاد الأصليين ومصيرهم.
أعطت هذه العوامل وعوامل أخرى غيرها أقل أهمية، لمنطقة الشرق الأوسط، والمشرق العربي الذي يشكل قلبها بشكل خاص، اهمية استراتيجية استثنائية ومستمرة منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم. فالمسألة الشرقية التي شغلت دبلوماسية القرن التاسع عشر الاوروبية تعود اليوم من جديد على شكل مسألة إسلامية وعربية. وهي المسألة التي تكاد تحتل الجزء الأكبر من اهتمام الدبلوماسية الدولية وتشكل مصدر التوتر الأول في نظام العلاقات الدولية للحقبة الراهنة.
والسمة الثانية هي تباين المصالح و المواقف الدولية تجاه هذه الرهانات، ونزاعها الطويل والمستمر فيما بينها على تأمين مواقعها او تطبيق ما تعتبره حلولا تنسجم مع مصالح كل منها تجاه المشاكل التي يطرحها الأمن والاستقرار والسلام في الشرق الأوسط. وهو ما جعل من المنطقة مسرحا للصراع والتنافس بين الدول الكبرى وحولها إلى حد كبير إلى مناطق نفوذ تتقاسمها هذه الدول حسب قوتها ومبادرتها. وقد عمل ذلك كله على تدويل عملي للمنطقة، وعلى وضعها بشكل ضمني تحت الوصاية الغربية التي لم تكف في سبيل الدفاع عنها عن وضع الخطط والاستراتيجيات الدفاعية التي تضمن إغلاقها في وجه المنافسين والخصوم. وكما عمل هذا السياق الدولي على تقليص سيادة الدول الشرق أوسطية، وفرض عليها نوعا من نظام التبعية البنيوي الذي يستحيل التحرر منه، جعل من الحرب ضد القوى المحلية التي تنزع إلى السيادة والاستقلال سياسة رسمية دائمة للكتلة الغربية التي تمثل الطرف الدولي الرئيسي المسيطرة على المنطقة منذ قرنين على الأقل. وما كان لهذا الوضع إلا أن يضعف صدقية الدول المحلية، ويسيء إلى شرعية النخب الوطنية، ويضيق من هامش مبادرتها على صعيد السياسة الدولية، وتجاه الرأي العام المحلي نفسه الذي أصبح ينظر إليها على أنها أدوات في يد السيطرة الأجنبية.
وهكذا، لم يعد من الممكن الفصل بين الصراع الدولي على المنطقة والصراع السياسي داخل المنطقة وكل بلد فيها على السلطة والاختيارات الايديولوجية وما تمثله من نظم وأنماط حكم وإدارة. فأكثر مما هو الحال في أي منطقة أخرى، تتحكم العوامل الخارجية هنا في رسم حدود مسرح السياسة الداخلية وعواملها وفرصها وآفاقها التاريخية. والقانون السائد بشكل عام هو أنه لا توجد ضمانة للوصول إلى السلطة أو للنجاح في الحكم لأي قوة داخلية لا تكون مدعومة بشكل فعال وناجع من قبل الكتلة الغربية أو بعض دولها المؤثرة. لا يعني ذلك بالطبع أنه من غير الممكن لقوى غير ممالئة للغرب أن تصل إلى السلطة، ولكنه يعنى أن وصولها إلى السلطة لا يجلب الاستقرار وإنما يفتح عليها في الوقت نفسه معارك داخلية وخارجية لا تستطيع مواجهتها إلا بتطوير استراتيجيات كبرى ذات طابع دولي أيضا. كما حصل مع التجربة الناصرية التي احتمت بحركة عدم الانحياز وكانت وراء تكوينها، كما حاولت الدفاع عن نفسها واستقلال قرارها بتطوير استراتيجية هجومية في المنطقة العربية تحت إسم القومية العربية التي سعت من خلالها إلى تعبئة الرأي العام العربي ضد مواقع النفوذ والسيطرة الغربية، وجعلت من تصفية الاستعمار وذيوله نواة سياستها الوطنية والاجتماعية. ومع ذلك لم تنجح في وضع حد لنظام الوصاية الغربية واستنزفت قواها في الحروب والمواجهات الإقليمية، قبل أن تقوض أسسها الهزيمة الكبرى أمام إسرائيل في يونيو 1967.
وكما عمل وجود موضوعات رهان كبرى ذات أبعاد عالمية على تدعيم التدخلات الأجنبية في المنطقة وجذبها، أدى الخلاف بين المصالح والتوجهات الخاصة بالدول الكبرى المتدخلة وصاحبة النفوذ إلى تعريض المنطقة بشكل مديد إلى منطق الحرب الباردة الدائمة. تلك التي قسمت المنطقة لعقود طويلة بين الغرب والاتحاد السوفييتي، خلال الحرب الباردة الكلاسيكية المعروفه، وتلك التي عبرت عن التنافس الاوروبي الأمريكي بعد زوال الحرب الباردة، ثم تلك التي تتجلى اليوم في الصراع على السيطرة على الشرق الأوسط بين الكتلة الغربية والآسيوية، التي لا تزال تعمل من وراء ايران وتعزيز المحور الايراني السوري اللبناني. هكذا لم تخرج المنطقة عن منطق الحرب الباردة بالرغم من انتهاء هذه الحرب ولا يزال أمامها فرص كبيرة للغرق المديد فيها. وهو ما يعلق مصير المنطقة ودولها وشعوبها وسياساتها على النزاعات الدولية، ويحد من قدرة الشعوب على تقرير مصيرها، كما يقدم للقوى الحاكمة فرص اللعب على النزاعات الدولية للهرب من التزاماتها تجاه شعوبها، وتوفير وسائل حماية وجودها والوقوف في وجه أي معارضة تقف في طريق استمرارها. وكما أنه لا ديمقراطية ممكنة من دون إرادة شعبية حرة، لا توجد إرادة شعبية حرة من دون سيادة وطنية.
والسمة الثالثة انتشار القوميات المحبطة ونزاعاتها الدورية والمستمرة. هكذا تتمير منطقة الشرق الأوسط، اكثر من أي منطقة أخرى في العالم، بسبب التركيب الاستعماري لخريطة توزيع الدول فيها، وحرمان البعض منها وإعطاء أكثر من دولة لشعب آخر، وهو أحد نتائج وضعها الدولي المذكور نفسه، بأنها منطقة القوميات او الحركات القومية المحبطة، والوطنيات غير القادرة على تحقيق ذاتها وإنجاز أهدافها واكتمال هويتها. وبالتالي فهي منطقة القوميات والوطنيات الناقمة أيضا بسبب ما تعانيه من إخفاق وحصار وانعدام آفاق. ومن هذه القوميات واهمها القومية العربية، لكن أيضا الكردية والفارسية وغيرهما من القوميات الصغرى المهمشة أو المغدورة او المقموعة. وتشكل هذه القوميات المحبطة براكين مشتعلة، على استعداد دائم للتنازع فيما بينها، والنزاع مع الكتلة الغربية المسؤولة عن إحباطها، ومع النظام الدولي الذي يعكس إخفاقها ويكرسه. في هذا السياق يظل الدفاع عن الهوية والنزاع من اجل تأكيدها محور أجندة الحركات السياسية الشعبية، في الوقت الذي يؤدي فيه فشل المشاريع القومية وإخفاقها إلى تنامي روح العصبية الطائفية والقبلية والمذهبية داخل صفوف الكتلة الشعبية، فاتحا بذلك مسرحا إضافيا للنزاعات الإتنية داخل المجتمعات المنتمية للقومية ذاتها.
وبقدر ما تفترض الديمقراطية الاستقرار والتحول نحو أجندة تنمية سياسية وإجتماعية، تصب عنايتها أساسا على الفرد المواطن وتعزز موقعه ومكانته في المجتمع والدولة، يدفع منطق النزاع السائد بمختلف أنماطه إلى التضحية بالفرد وبفرض التنمية وتحسين شروط الحياة والمعيشة العامة للسكان، لصالح تاكيد الهوية والاستقلال والسيادة المهددة أو المقيدة أو المفرغة من مضمونها. وهو ما يعني أن فرص نمو قوى ديمقراطية قوية تظل ضيئلة جدا في مثل هذا الوضع. وهو ما تشير إليه الوقائع بالفعل في كل بلدان المنطقة. ويقدم النزاع العربي الاسرائيلي والحروب المستمرة التي فجرها، وهو النزاع الذي لا يزال مستمرا منذ قرن من دون انقطاع، النموذج الساطع عن تأثير مناخ الصراع القومي والأقوامي على مصير القوى الديمقراطية، وعلى الديمقراطية بشكل عام في المنطقة الشرق أوسطية. وأكثر فأكثر يجر النزاع العربي الاسرائيلي إلى تعبئة المشاعر والعصبيات الدينية والقومية، ويدفع إلى تحويل المقاومة الخارجية والتركيز على العدوان الأجنبي إلى الأجندة الوحيدة السائدة في السياسة العربية، ويهمش جميع القوى التي تعمل على توجيه الرأي العام نحو مطالب تتعلق بتحسين شروط ممارسة السلطة وشروط الحياة والعيش داخل المجتمعات. وليس هذا من الأمور المستغربة او الغريبة. فعندما تتعرض المجتمعات إلى عدوان خارجي دائم، يتقدم الدفاع عن المصير العام على أي دفاع آخر عن مصالح الأفراد والجماعات. وتستطيع النظم الاستبدادية التي تتحكم بوسائل الدعاية والإعلام أن تعمق من هذا الاتجاه، وأن تستفيد منه لحرف الأنظار عن ممارساتها الشائنة. وهو ما يفسر إلى حد كبير نجاحها في عزل القوى الديمقراطية بالفعل في السنوات الماضية باسم الدفاع عن المصالح القومية ومقاومة الاستعمار والصهيونية وحماية تراث الاسلام وصون كرامته امام الاعتداءات والاستفزازات الغربية.
والسمة الرابعة مركزية الدولة وضمور المجتمع المدني في تنظيم الشؤون العمومية. وترجع قوة الدولة والمكانة المركزية التي تحتلها في المجتمعات الشرق اوسطية، وقدرتها على ضبط المجتمعات واحتواء حركتها واستيعابها، إلى عاملين رئيسيين. قوة التحالفات التي تجمع النخب الحاكمة عموما مع المنظومة الدولية الغربية والمصالح التي تربط بينهما، في جميع المجالات الاستراتيجية والمالية معا. أما السبب الثاني فهو حيازتها على عوائد ريعية استثنائية بكل معنى الكملة واستخدامها لهذه العوائد، مستفيدة من تفاهمها مع الغرب، لبناء نظم مستقلة كليا عن المجتمعات، وقادرة على البقاء من دونها، وفي مواجتها معا. وهذه الاستقلالية التي نجحت هذه النظم في بنائها هي التي قوت من رصيدها في نظر الدول الغربية وزادتها مراهنة عليها كوكيلة لمصالحها وشريكة محلية لها في حفظ الامن والنظام الإقليميين. فبفضلها ضمنت هذه الدول نظما محلية تستطيع أن تستوعب حركة شعوب ومجتمعات ينظر إليها على أنها مصدرا للنزاعات القومية والدينية المتطرفة، وبالتالي لحركات مناوئة للغرب ومعادية لمصالحه. وجاءت ولادة حركات الارهاب الاسلامية في العقدين الأخيرين، واختيار بعضها الساحة الدولية، والغربية خاصة، مسرحا لعملياتها الانتقامية، لتعزز من خوف التحالف الصناعي الغربي وتزيد تعلقه بنظم برهنت على قدرتها على إخضاع الكتلة الشعبية بصرف النظر عن المعايير التي تستخدمها في إخماد حركات النقد والمعارضة والاحتجاج الداخلية، وغياب أي شكل من الحياة السياسية واحيانا القانونية فيها.
وكانت النتيجة الطبيعية والمباشرة لهذا التفاهم بين النخب الحاكمة المحلية والتحالف الغربي في الشرق الأوسط التحييد السياسي الكامل للشعوب، وشل إرادتها بالفعل، وتفتيت قواها السياسية والمدنية، وإقامة نظم متكلسة ومنغلقة على نفسها، ليس لها أي تواصل مع شعوبها، ولا تعرف طريقة أخرى لكسب تأييد هذه الشعوب ولا التعامل معها سوى استخدام وسائل القمع والقهر السافر والمقصود لذاته من أجل إعطاء العبرة والمثال. ولذلك ارتبطت صورة هذه النظم كما لم يحصل في أي نظم أخرى بتعدد قوى الأمن وتنوع أجهزته، واتساع دائرة ممارساته اللاقانونية، وشمول صلاحياته كل الشؤون العمومية. فصار الأمن هو البديل الحقيقي للسياسة. وأصبح العمل السياسي المعارض عملا فدائيا بالمعنى الحقيقي للكملة يعرض فيه صاحبه نفسه لكل المخاطر، من الصرف من الوظيفة إلى الاعتقال التعسفي إلى التعذيب إلى السجن المديد إلى القتل. وطالما شعرت النخب الحاكمة أنها تحظى برضى الغرب وتأييده، وأنها تتمتع بالموارد المادية والمالية الضرورية لتسيير اجهزتها، لم يعد هناك ما يدفعها للنظر في قضايا الشعوب، ولا التساؤل عن مصيرها، ومن باب أولى التوقف عند حقوقها ومصالحها. وهكذا حولت هذه النخب الدولة إلى مزرعة، وجعلت من قوى الجيش والأمن ميليشيات خاصة تستخدمها لفرض الإذعان على مجتمع من الأقنان، واستعملت الإرهاب لردع قوى المقاومة الضيئلة التي لا تزال تتجرأ على الوقوف في وجه الاستبداد وتوجيه النقد إلى سياساته.
من المستحيل في ظل هذا النظام الذي يلغي السياسة من الأصل، ولا يعترف بحقوق ولا واجبات، ويكرس "ألوهية" الحاكم وعصمته، كما يكرس توارث مناصب المسؤولية في كل المؤسسات، أن تقوم مجتمعات مدنية، أي أيضا سياسة، بالمعنى الحقيقي للكملة. وكل ما نعرفه من المنظمات والهياكل المدنية يتوزع بين مجموعتين، فئة المنظمات السياسية والحقوقية القائمة على جهود نخب المثقفين النشيطين المناضلين والمغامرين بمصالحهم وأحيانا أرواحهم أيضا، والمستندة في وجودها وتمويلها على المجتمع المدني العالمي، وفئة الجمعيات الخيرية التي تعمل تحت السقف المنخفض جدا للامن والسياسة الرسميين، ولا تستطيع أن تستمر وتعيش إلا بقدر ما تخضع لقاعدة الالتزام بمصالح جزئية، وتجنب الحديث او العمل في كل ما له علاقة، من قريب أو بعيد، بالشأن العام وبالقضايا المتعلقة ببناء المجتمعات المدنية. الدول تحولت إلى أجهزة ضبط وحصار وقمع، أي إلى أدوات للسيطرة المادية المباشرة والفورية، ولم تعد تتمتع بأي قيمة او بعد أو محتوى سياسي او أخلاقي او اجتماعي.

mercredi, novembre 22, 2006

الدولة والجماعة الوطنية في المشرق العربي

الاتحاد 22 نوفمبر 06
ا
لم تنجح الدولة التي نشأت في المشرق العربي، على اثر تسويات مجحفة بين النخب المحلية والقوى الأجنبية، في التطور والتحول إلى دولة مواطنيها، أي إلى مرجعية لسلطة شرعية ومقبولة من قبل المجتمع، تستطيع أن تقوده وتلهمه، وتملأ الفراغ الذي تركه انحلال الدولة السلطانية القديمة وانحسار دور السلطة الدينية التقليدية. كما أن المقاومة الوطنية الشعبية الواسعة لمشروع هذه الدولة، المستلبة الإرادة والمفتقرة للهوية والمعنى، لم تنجح أيضا في فرض التغيير، أو في بناء مجتمع سياسي فاعل، قادر على تغيير بنية هذه الدولة أو على بناء دولته الخاصة الجديدة المرتبطة به والمنتمية إليه، سواء أكانت دولة المواطنة التي تقيم العلاقات المجتمعية على اسس سياسة عقلانية وقانونية طوعية، أو دولة الأمة العربية أو الاسلامية المتماهية ثقافيا وقيميا مع الجماعة والمعبرة عنها. ولا يزال الوضع كما كان منذ عقود، بل ربما زاد التعارض اليوم بين منطق الدولة ومنطق المجتمع والسياسة، بين منطق التشرذم الذي يسم المجتمعات المدنية ويدفعها إلى التنافر، ومنطق الوحدة الذي يؤسس لأمة ويقوم على تكوين إرادة جامعة. وكما زاد عدم الاستقرار من اندفاع النخب الحاكمة وراء طلب الحماية الأجنبية، دفع الإخفاق المستمر للمقاومات الأهلية إلى تزايد الرهان على تعبئة العصبيات ما قبل السياسية المذهبية والطائفية والأقوامية معا. وهو ما يقود أكثر فأكثر إلى التجويف السياسي للدولة، وإلى تحويل المقاومات الأهلية إلى تمرد عصبيات وجماعات وطوائف، لا علاقة لمشاريعها بأي رؤية وطنية واضحة ولا بقيمها وأهدافها.
والحال، لا يبني الدولة تعميق التبعية للخارج ومطابقة السياسات الوطنية مع الاستراتيجيات الأجنبية. وهي السياسة التي اتبعتها ولا تزال الغالبية العظمى من النخب العربية التي فهمت قانون اللعبة أو البقاء في الحكم في المنطقة، وقبلت بالعمل تحت مظلة القوى الغربية الفاعلة وعلى أجندتها. وهي تدفع اليوم فاتورة خوفها وقصر نظرها واستهتارها بمعايير السيادة والأمن والاستقلال، واستسهالها الحكم بالقوة، وتهميش المجتمعات وإخضاعها. فهي تجد نفسها محاصرة ومعطلة، لا قدرة لها على وقف الهجوم الشامل الذي تتعرض له من قبل قوى التمرد على النظام، المحلية منها والإقليمية والدولية معا.
لكن، بالمقابل، لا يكفي لبناء الوحدة الوطنية والارادة الجماعية، بما تتطلبه من سيادة واستقلال، الممانعة أو المقاومة السلبية التي تقوم على السعي إلى إفشال الخطط الغربية، ونقل المعركة إلى كل مكان في العالم، بهدف زعزعة الاستقرار الإقليمي والدولي، أو تهديد سيادة الدول الأجنبية المسيطرة، في الوقت الذي يستمر فيه حرمان الشعوب، باسم القومية أو الدين أو التنمية أو الاستقرار، من الحريات والحقوق الأساسية التي لا وجود لها كشعوب، وليس كمجرد بضائع بشرية، من دونها. فإذا كانت الدولة تطلب السيادة، بعكس ما هو حاصل عند المدافعين عنها في البلاد العربية اليوم، فإن الوطنية التي تشكل روح الدولة ومبرر وجودها تطلب الوحدة والتفاهم بين أبناء الوطن الواحد، وهو ما لا يمكن أن يقوم اليوم على أسس أخرى غير أسس العدالة والحرية والمساواة، والاعتراف المتبادل، والتضامن، والتكافل، بين الأفراد الذين يكونونها، أي عكس ما تعمل عليه الممانعات الراهنة الخصوصية. وكما أنه لا يمكن تذويب المهام السياسية الخاصة ببناء الإجماع الداخلي في المهام الاستراتيجية المرتبطة بتأمين السيادة تجاه الخارج، لا يمكن أيضا تذويب مهام الحفاظ على السيادة الخارجية في المسائل السياسية الداخلية أو ردها إليها. فأساس الدولة الأمة، أو دولة المواطنة الحديثة، ركنان: سيادة الدولة التي لا يمكن قيام حقل سياسة داخلي وممارسة سياسية فعلية من دونها، وسيادة الشعب التي لا يمكن نشوء الحريات الفردية من دونها.
فالدولة مؤسسة والوطنية سياسة. وليس هناك قيمة للدولة إذا كانت لا تؤسس للسياسة، ولا قيمة للسياسة إذا كانت طائفية أو مذهبية أو فئوية أو محققة لأجندة التبعية الخارجية، ولم يكن هدفها وفي قدرتها أيضا إنشاء الحريات الأساسية الفردية والجمعية التي لا قيمة للدولة من دونها. وكما أن الدولة المفرغة من السيادة لا يمكن أن تكون مؤسسة صالحة لبناء حقل سياسة مستقل بما فيه الكفاية حتى يعكس مصالح مجتمعه، ويعبر عن إرادته العامة، كذلك لا تقود المقاومة إلا إلى الخراب والفوضى إذا اقتصرت على الصدام مع النظام المحلي والدولي القائم، ولم تنجح في بناء مفهوم بديل للدولة، أي في بلورة معالم سلطة شرعية ومؤسسات قانونية راسخة تخدم المجتمعات وتاخذ بيدها في عملية التنمية الشاملة والاندراج في الحضارة الانسانية.
لكن، في هذه الحالة، لا تتعلق الأمور بسلوك طرف واحد، خارجي أو داخلي، فحسب، ولكن بهما معا. فكي ما تكون هناك دولة مقنعة لسكانها، ينبغي أن يكون هناك نظام دولي أيضا يتيح تكوينها من حيث هي كذلك، أي يمكنها من تطوير الملكات، وفي مقدمها السيادة والاستقلال، التي لا سيادة شعبية داخل حدود الدولة من دونهما، وتوفير القدرات المادية والسياسية التي تجعل منها دولة المجتمعات والشعوب، ووسيلتهم في تحقيق أهدافهم وآمالهم حقا لا وهما، لا أن تبقى وكالة مصالح أجنبية او محلية ضيقة. وبالمثل، كي ما تكون هناك قومية بناءة، قادرة على توحيد الإرادة الجماعية والتأسيس لحياة مدنية وسياسية ناجعة وفعالة، ينبغي أن يتجاوز مفهومها رفض مشاريع الآخر وسياساته، مهما كانت عدوانية، ويؤسس لمشاريع وطنية جامعة، ملهمة ومعبئة، قادرة على توحيد المجتمعات وتفجير طاقاتها. وهو ما لا يمكن تحقيقه بالانكفاء على مفاهيم الممانعة والدفاع عن الهوية الخاصة، عربية كانت أم إسلامية أم مذهبية، ومن باب أولى على مجرد مشاعر العداء للغرب والصدام معه وتهديد مصالحه وأهدافه.
فكما أن الدولة ليست إفرازا تلقائيا، ولا تركيبا خصوصيا لهوية اجتماعية، ولكنها تركيبة عالمية تستمد معاييرها وقواعد عملها وشكلها وشرعيتها من النظام العالمي للدول الذي تأسست في إطاره، واعترف بها باعتبارها دولة مستقلة وعضوا في المنظومة الدولة، تشكل الوطنية تعبيرا عن وعي الجماعة لذاتها ونزوعها إلى التكون كفاعل تاريخي مستقل، في ساحة النشاط الحضاري العالمية. فالدولة بعكس الشعب، ذات هوية عالمية، وبوصفها كذلك فهي تشكل وسيلة للتواصل بين الشعوب وتجاوز خصوصياتها لبناء مجتمع دولي قائم على مباديء ثابتة وواحدة. ومن هنا، كما يستحيل بناء الدولة، أو التقدم في بنائها، من خلال مواجهة المجموعة الدولية أو بالخروج عليها ورفض التفاهم معها، يستحيل، بالمثل، ضمان صدقيتها واحترامها من قبل الجماعات التي تنضوي تحت رايتها إذا بقيت دولة ناقصة السيادة، وأظهرت الاستسلام للإرادة الخارجية والتبعية للجماعات الأخرى الخاصة. وفي المشرق العربي الذي خضع فيه بناء الدولة وممارستها لنفوذها، منذ تكوينها، لحاجات السيطرة الغربية، وارتبط تطور دورها ووسائل عملها، وعلاقتها بمجتمعاتها نفسها، بتطور مصالح الكتلة الغربية وتحالفاتها مع أطراف أو نخب محلية خاصة، ما كان من الممكن لفكرتها أن تستقر في الأذهان، ولا لآليات عملها ومؤسساتها أن تستقيم. فبقدر ما بدت هذه المصالح متعارضة مع المصالح الشعبية العربية أو منافية لها، أصبحت الدولة تظهر في الوعي العام وتتجلى كاداة للسيطرة الأجنبية، الخارجية أو الداخلية المتمردة على الجماعة الوطنية، أكثر منها وسيلة للتعبير عن إرادة هذه الجماعة وحاجاتها، وصار من غير الممكن لها أن تكون إطارا لنشوء وطنية فعالة وحية.

mercredi, novembre 08, 2006

تحدي القوة الايراني والرد العربي عليه

الاتحاد 8 نوفمبر 2006
على إصرار طهران على الاستمرار في عملية اكتساب التقنية النووية وتطوير عملية تخصيب الأورانيوم على أراضيها، بعكس ما اقترحت عليها الدول الغربية المعنية بحظر انتشار الأسلحة الذرية، ردت الدول العربية الرئيسية بأسلوبين. الأول جاء مبكرا على لسان الأمين العام للجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في مصر، السيد جمال مبارك، والثاني أتى من العربية السعودية وانتشر في بعض الدول العربية المجاورة، عكسته تصريحات بعض فقهاء أو علماء المملكة. قال مبارك الابن في خطبته في مؤتمر الحزب (19 سبتمبر ايلول 2006) أن مصر جاهزة للعودة إلى إطلاق برنامجها الذري الذي كانت قد أوقفته بعد كارثة شارنوبيل عام 1986. ولم تمض أيام حتى أكد الرئيس مبارك نفسه هذا الخيار مشيرا إلى حاجة مصر إلى موارد طاقة جديدة، ورغبتها في تامينها عن طريق استغلال التقنية النووية لأهداف سلمية. في المقابل نزع عدد من علماء السعودية إلى التركيز منذ بعض الوقت على الصراع المذهبي، كرد فعل على الاختراق الذي أخذ يحققه ما سمي بالمحور الشيعي أو الايراني، كما ذكر الشيخ الحوالي، في مناطق بلاد الشام، أي في سورية ولبنان، وربما في العراق أيضا، ملمحا إلى أن مثل هذا الاختراق لن يبقى من دون رد.
وبالرغم من أن العلاقات العربية الايرانية لم تكن على درجة خاصة من التوتر في السنوات القليلة الماضية، بل نزعت إلى التطبيع خلال رئاسة خاتمي، إلا أن عددا من الأحداث المهمة التي جرت في الفترة الأخيرة دفعت البلدان العربية إلى الشعور بتفاقم الخطر الايراني، لم يكن تصميم إيران على امتلاك التقنية النووية إلا أحد العوامل فيها. ومما لا شك فيه أن تدهور الاوضاع العراقية بعد التدخل العسكري الامريكي عام 2003، قد زاد من مخاوف الدول الخليجية من تحول العراق إلى منطلق لتمدد نفوذ الثورة الايرانية الاسلامية، بعد أن راهنت عليه لعقود طويلة كدرع قوي يقف في وجهها ويدرء الخطر الايراني عنها. وجاء انتخاب أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية الايرانية، وهو المعروف بتشدده وبسياسته القومية الايرانية، ليعزز من هذه المخاوف. لكن درجة الشعور بالتهديد سوف تتفاقم بشكل أكبر بعد أن نجح الرئيس الايراني الجديد في تشكيل محور قوي يجمع بين طهران ودمشق وبيروت ممثلة بحزب الله، ثم بعد الإنجاز العسكري الكبير الذي حققه هذا الحزب على إسرائيل في ايلول الماضي، وانسحاب دمشق من محور التنسيق السعودي المصري التقليدي واتهامها لشركائها السابقين بالتخاذل والتهجم عليهم. وما كان من الممكن لمشروع التقنية النووية الايرانية في مثل هذه الظروف أن يمر من دون أن يزيد من إحباط الدول العربية ومخاوفها. خاصة وأن ايران لم تقم بالجهد اللازم لتطمين هذه الدول، والخليجية منها بشل خاص، مسبقا. ولا يكفي ترداد بعض المسؤولين والمعلقين الصحفيين الايرانيين فكرة أن القوة النووية الايرانية لن تكون موجهة ضد جيرانها. كما لا يحل المشلكة تعاطف قطاعات واسعة من الرأي العام العربي الشعبي مع المشروع النووي الايراني واعتقادها بأن حصول ايران على السلاح النووي ربما يشكل عنصرا ايجابيا في توازنات الشرق الأوسط تضعف من قوة التفوق والردع الاسرائيلية وتساهم في تقليص نفوذ التحالف الغربي في المنطقة.
لكن في ما وراء كل هذه الاعتبارات، لا شك أيضا في أن مشروع ايران النووي يشكل تحديا متعدد الأبعاد للنظم العربية. فهو يهدد أولا، بقدر ما يساهم في الكشف عن ضعف الاختيارات الأمنية العربية وفراغ القوة القائم الذي نجم عن تهافت هذه الخبارات، بتعميق القطيعة بين النخب الحاكمة والشعوب، ويدفع إلى المزيد من انحسار الولاء لها. وهذا ما يعكسه منذ الآن التعاطف العربي الشعبي الواسع مع مشروع ايران النووي، ويحوله إلى مصدر تهديد سياسي يتعلق بصدقية الأنظمة نفسها وشرعيتها. وهو يفاقم من مخاطر تفكك المنظومة العربية وتعميق الشرخ الذي أصابها منذ اتفاقية كمب ديفيد ثم حروب الخليج المتتالية. وهو ما يعبر عنه منذ الآن نجاح ايران في اختراق المجال الجيوستراتيجي العربي وتكوين حلف خاضع لها يمكن أن يعمل كذراع قوية قادرة على استخدامها داخل هذا المجال لخدمة أغراضها القومية. وفي ظروف الانقسام العربي الراهن وغياب المشاريع الفيدرالية والتعاون الأمني والسياسي، يمكن لطهران النووية إذا نجحت في فرض خيارها النووي أن تتحول إلى المحاور الوحيد للغرب حول شؤون المنطقة الشرق أوسطية، من فوق رأس العرب، وأن تستعيد إلى حد كبير، في إطار سلطة إسلامية، الدور الذي كان يقوم به نظام الشاه في المنطقة في إطار عقيدة قومية امبرطورية قديمة. وفي هذه الحالة سيكون بوسع ايران التي تملك علاقات قوية وثابتة مع روسيا والصين، أن تتفاوض مع الدول الغربية على تقاسم مناطق النفوذ والمصالح في المنطقة الشرق أوسطية، على حساب البلدان العربية وربما أيضا ضدها. وليس هناك ما يمنع أن يكون ثمن هذا التفاهم، كما حصل مع العديد من الدول العربية ذات الايديولوجية القومية نفسها، غض النظر عما يحصل في فلسطين والتساهل وصرف النظر عن دعم القضية الفلسطينية بصورة عملية.
ما يستحق المناقشة إذن ليس حق الدول العربية في التخوف من امتلاك طهران للتقنية النووية، وإنما اسلوب الرد على المخاوف، وتأمين شروط الرد على التحديات والتهديدات المحتملة التي تكمن وراءها. وهنا أود أن أشير إلى خطر انجرار العرب إلى استراتيجية أمريكية تضر بمصالح العرب كما تضر بالمصالح الايرانية، بالرعم مما يبدو عليها من انحياز لصالح ضمان الأمن والاستقرار في منطقة الخليج، في مواجهة نزوع القوة والسيطرة الايرانية. فلا تخفي إدارة بوش الأمريكية، التي تتصرف على أنها طرف رئيسي، إن لم تكن الطرف الرئيسي المعني في المنطقة، عزمها على مقاومة المشروع الايراني بالقوة إذا اضطر الأمر، ورغبتها في دفع العرب إلى ضم جهودهم إلى جهودها لمواجهة الخطر الايراني. ويعني هذا الضم في الواقع تكوين جبهة عربية في مواجهة ايران ومعادية لها، تقدم للرئيس الأمريكي الغطاء السياسي الذي يمكنه من الاستمرار في سياساته التدخلية العسكرية المباشرة في الشرق الاوسط ومواجهة معارضته الداخلية والدولية. ومما يشجع بعض العرب على المراهنة على الخيار الأمريكي شعورهم بفراغ القوة الإقليمية بعد إجهاض مشاريع الأمن العربي المشترك جميعا، وغياب أي سياسات أمنية مستقلة، مما يجعل من الالتصاق بالولايات المتحدة الأمريكية والاعتماد الكامل عليها في نظر الكثيرين الخيار الوحيد القائم للدفاع عن المصالح الوطنية وضمان الأمن القومي.
بالرغم من كل ما يقال في هذا الخصوص، في الخليج بشكل خاص، لا أعتقد أن الالتصاق بالولايات المتحدة لتحقيق الأمن القومي والوطني قدر لا مهرب منه. بل أعتقد أكثر من ذلك أن الاصطفاف وراء الاستراتيجية الغربية، وخوض الحرب ضد ايران مع الدول الأطلسية، إذا حصلت، وفي سياق ذلك كله، العمل على تعبئة المشاعر المذهبية، السنية والشيعية، لخلق مناخ هذه الحرب وجر الجمهور البسيط إلى الانخراط فيها، لا يشكل خيارا أمنيا رابحا للعرب، لا على مستوى الأنظمة ولا الدول ولا الشعوب. ولعل العديد من الأطراف العربية الرسمية تدرك ذلك، وتعرف أن من الممكن لهذا الخيار أن يقود إلى نتائج معاكسة تماما للمطلوب، كما حصل مع التدخل العسكري في العراق، بيد أنها ترى ربما أنه رغم سوئه فهو الخيار الوحيد المتاح. وهذا غير صحيح.، فبالرغم من صدق المخاوف التي تحدثنا عنها، لن يكون نتيجة مثل هذا الخيار سوى تحويل العرب إلى ضحية للمواجهة الغربية الايرانية، سواء ربحت ايران الرهان مع انقسام مجلس الأمن يشأن الطريق الأسلم لحل الأزمة النووية الايرانية، وحققت حلمها في امتلاك سلاحها النووي في مدى قريب أو متوسط، أو ربحت الولايات المتحدة رهانها في عزل ايران وإعداد ظروف التدخل العسكري لتدمير البنية التحتية النووية التي تعمل على تطويرها.
من هنا يبدو لي أن السؤال الحقيقي الذي يستحق الطرح لا يتعلق بتأكيد خطر الالتحاق بواشنطن والعمل على أجندتها القومية والانخراط الأعمى في استراتيجيتها الدولية، وإنما بمعرفة فيما إذا كان من الممكن للدول العربية اتباع سياسة مستقلة عن السياسة الامريكية والاطلسية عموما، تجاه ايران وتقنيتها النووية، أم أنها مضطرة، مهما كانت تقديراتها لحجم المخاطر التي ينطوي عليها، إلى السير في الطريق التي ترسمها الولايات المتحدة التي تسيطر، شئنا أم أبينا، على الأوضاع الاستراتيجية الشرق أوسطية، والذي يستحيل من دونها الحفاظ على أمن أي دولة خليجية.
لا أعتقد أولا أنه ليس هناك بديل عن الانخراط في الاستراتيجية الامريكية لضمان الأمن الوطني والقومي العربي والخليجي. بل العكس هو الصحيح. إن هذا الانخراط هو اليوم المصدر الرئيسي للمخاطر التي يمكن أن تهدد المنطقة باكملها. وثانيا ليس من الصحيح أنه من المستحيل بناء استراتيجية أمنية عربية مستقلة عن الاستراتيجية الامريكية حتى لو لم تكن معادية لها، كما يعتقد معظم القادة العرب اليوم. ولا ينبع الايمان بإمكانية بلورة استراتيجية أمنية بديلة ذات درجة من الاستقلال الاعتقاد بزوال السيطرة الأمريكية، ولا بضرورة مواجهة واشنطن والتمرد الطفولي عليها. إنه ينبع من واقع انحسار قوة الردع الأمريكية نفسها ونشوء فراغ لا تستطيع واشنطن نفسها ان تملأه او تدعي ملأه. وهي نفسها بحاجة إلى قوى اخرى حليفة أو غير معادية على الأقل تساعدها في الحفاظ على تراجعها والتغطية على المصاعب التي تواجهها. وواشنطن تدرك أن ذلك قد حصل بسبب الأخطاء التي ارتكبتها ومحدودية الرؤية الاستراتيجية التي وجهتها وضيق أفقها. وهي نفسها تمر اليوم في مرحلة مراجعة لهذه الاستراتيجية ليس من المؤكد ان ينجم عنها شيء كثير طالما أنها مرتبطة بأجندة السياسة الأمريكية الداخلية نفسها.
باختصار إن ما كان مستحيلا البارحة أصبح ممكنا اليوم، إلى حد كبير، نظرا لما أصاب المواقع الأمريكية الاستراتيجية من تدهور في السنوات الثلاث الماضية والتناقضات التي ميزت خططها وتشوش أهدافها وتخبط تكتيكاتها، وهزائمها العسكرية المتتالية من أفغانستان إلى العراق إلى لبنان وفي النتيجة، إخفاقها في إقناع المجموعة الدولية بصحة اختياراتها. وهذا الانحسار المتفاقم في قوة الردع الأمريكية، وانعدام الثقة باختياراتها هو الذي يفسر رفض نظام مهلهل مثل نظام البشير في السودان التهديدات الأمريكية، بل حتى استقبال مبعوث الأمم المتحدة والنقاش في مسألة استقبال قوات دولية، وكما يفسر دعوة العديد من المحللين والسياسيين الأمريكيين والغربيين واشنطن إلى العودة إلى أسلوب الحوار، بما في ذلك مع طهران، لتجنب كارثة قومية أمريكية في العراق، كما حصل في الماضي في فيتنام.
بل إن هذا الفراغ الأمني الذي ولده تهافت الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة هو الذي يفسر تنامي طموحات دولة مثل ايران واندفاعها لسده من خلال تطوير قدرتها العسكرية والتقنية وتغلغلها الواضح في المنطقة العربية، سياسيا وثقافيا ومذهبيا أيضا.
من هنا، بدل الاصطفاف وراء الولايات المتحدة لدعم خياراتها الخاسرة، وتعزيز موقفها تجاه طهران، ينبغي على الدول العربية، بالعكس تماما، الاستفادة من انحسار النفوذ والقوة الأمريكيتين من أجل توسيع هامش اختياراتهم المستقلة، أي العمل على تطوير سياسة أمنية عربية مستقلة، قد يكون التفاهم العربي أولا وفتح مفاوضات مع ايران ثانيا ركيزتيها الرئيسيتين في إطار رؤية إقليمية جديدة لتعزيز استقلال المنطقة، وتوسيع هامش مبادرة دولها جميعا تجاه الأحلاف والتكتلات الدولية الخارجية. في نظري هذا هو الخيار الوحيد الناجع لاستيعاب مخاطر تنامي القوة الايرانية من جهة، وتقليل فرص الصدام والتنافس بين طهران والعواصم العربية الرئيسية من جهة ثانية، وإخراج المنطقة بأكملها من خطر التحول غلى مسرح للتنافس الدولي وللحروب الساخنة والباردة التي تنجم عنه. إن خلق منظمة إقليمية للأمن والسلام في المنطقة، بالتعاون بين الدول العربية وايران وتركيا قد يكون الخيار الوحيد القادر على سد الفراغ الاسترتيجي الذي ولده انحسار القوة الردعية الأمريكية الاسرائيلية، وعلى تجنيب المنطقة مخاطر الدخول في منافسات ونزاعات متعددة الأطراف لا نهاية لها، لا يمكن أن تكون نتيجتها سوى توسيع دائرة الخراب والفوضى في عموم الشرق الأوسط، من دون الوصول إلى أي نتيجة نهائية يستطيع أن يستفيد منها أصحاب المنطقة، بل الدول الغربية والصناعية الكبرى المتنازعة نفسها.

mardi, novembre 07, 2006

دمشق (7 تشرين ثاني/ نوفمبر) وكالة (آكي) الإيطالية للأنباء

برهان غليون لـ (آكي):
"أي حوار بين سورية والولايات المتحدة جزء من مناورة سياسية"
نص التصريح الذي نشرته وكالة آكي الايطالية
دمشق (7 تشرين ثاني/ نوفمبر) وكالة (آكي) الإيطالية للأنباء:
باسل العودات
ـ أين ترى الموقف الفرنسي من كل هذا، وهل يمكن تهميش فرنسا أو (إرضائها) بجزء (ما) من الكعكة.
ج1
من المؤكد أن أحدا لا يثق بعد ما حصل بالآخر. النظام السوري لا يمكن أن يثق بالغرب، والغرب الأوروبي الأمريكي لا يثق بالنظام السوري، ولا يعتبره نظاما قابلا للاصلاح أو يمكن التعاون معه. لكن الجميع يجد نفسه في ورطة. الإدارة الأمريكية الجمهورية الحالية تعاني من ورطة التغريز في العراق، وتخضع لضغوط قوية من قبل الرأي العام والمعارضة الديمقراطية، وعليها أن تقدم حلولا محتملة لأزمتها في العراق، حتى لا تخسر الرأي العام في الانتخابات النصفية هذا الأسبوع ثم في الانتخابات الرئاسية القادمة بعد سنتين. وليس لديها أي حل آخر سوى الاستمرار في خوض الحرب في العراق. وفي انتظار نتائج محتملة التلويح بإمكانية التوصل إلى تفاهم من خلال الحوار مع ايران وسورية وغيرها. لكن الهدف لن يتغير في نظري. ولن يكون هناك حوار جدي أو تغيير في الاستراتيجية. أما الحوار، حتى لو فتح له باب صغير، فهو للتغطية على تعزيز الجهود العسكرية وتنويم الخصوم.
وما يقال عن الإدارة الامريكية يقال عن إسرائيل التي تعيش نتائج هزيمتها العسكرية في جنوب لبنان، وتواجه بالمثل ضغوطا قوية داخل اسرائيل وخارجها للتعديل في سياستها العسكرية التدخلية. وهنا أيضا لن يكون هناك تغيير وإنما تلويح بمفاوضات مع سورية وغيرها في سبيل كسب الوقت وتمرير الظروف السياسية الحرجة.
ولا يختلف الأمر بالنسبة لأوروبة وفرنسا المنخرطة بشكل خاص في لبنان. فهي أيضا تحملت مخاطر كبيرة بإرسالها قواتها إلى هناك، ولا تريد أن تجد نفسها في موقف صعب، لكنها لا تستطيع أن تخرج من دون تحقيق مهماتها التي كلفتها بها القرارات الدولية.
وهو ما يسري على ايران وحليفتها الاستراتيجية اليوم سورية وحزب الله في لبنان أيضا. فهم جميعا لا مصلحة لهم في الدخول في مفاوضات أو التوصل إلى تسويات. ولا يعتقد أي منهم، وهو على حق، في ذلك أن هناك إمكانية للوصول إلى أهدافهم من خلالها.
باختصار كل ما يقال عن الحوار والمفاوضات هو جزء من المناورة السياسية الهدف منه عند جميع الأطراف التغطية على ضعف الموقف السياسي أو العسكري وكسب الوقت على طريق الإعداد لجولات أخرى من المواجهة أو لمواجهات حاسمة قادمة.

ـ هل تعتقد أن سورية (الآن) قادرة على تقديم مثل هذه الأثمان للولايات المتحدة (ضبط الوضع العراق، والسيطرة على الصراع الفلسطيني الداخلي).
ج2
لا تكمن المشلكة في أن سورية لا تستطيع أن تقدم ضمانات للولايات المتحدة أو لأوروبة في العراق ولبنان، فهي قادرة بالتأكيد على التخفيف من الضغوط على الأقل في ما يتعلق بالقوى المحلية التي تخضع لسيطرتها أو تتحالف معها. لكنها تكمن في أن سورية لن تفعل شيئا مثل هذا لأنه لم يعد لديها ما يمكن أن تراهن عليه في أوروبا وأمريكا، بعد قطع جسورها كاملة معهما ومع الدول العربية القريبة منها، مصر والسعودية بشكل خاص. وليس من مصلحة النظام العودة عن تحالفه مع ايران والاستقلال بمصيره عنه. فهذه هي اليوم ورقة الخلاص الوحيدة له، لأنها ورقة الضغط الحقيقية. وحتى لو قدم لها التحالف الغربي تنازلات هنا وهناك، سوف لن تترك سياستها الراهنة. وبدل أن ينفصل عن ايران من مصلحته، بالعكس، العمل على توتير العلاقات الايرانية الغربية والتصعيد في لبنان والعراق والمنطقة عموما حتى لا يبقى وحيدا في الساحة وتبقى الفوضى قائمة. فبقدر ما تزداد الفوضى في المنطقة يتعزز الاستقرار للنظام وتتضاءل مصلحة الغرب في تحويله إلى هدف مباشر أو رئيسي.

ـ هل ترى مثل تلك الصفقات أمر ممكن بعد أن خطت لجنة التحقيق خطوات متقدمة في عملها.

ج3

لا توجد لفرنسا اليوم سياسة مستقلة عن أوروبة والتحالف الأمريكي الاوروبي عموما. قد يختلف الأسلوب وطريقة التخريج، لكن لا يمكن أن تختلف الاهداف ولا الاستراتيجية. ولو كان هناك ما يمكن أن يشبه ذلك لنجحت أوروبة في بلورة استراتيجية وسياسة مختلفة في الشرق الأوسط يعد إخفاق الاستراتيجية الأمريكية.
بهذا المعنى غير مطروح اليوم من قبل احد تهميش فرنسا ولا فصلها عن أمريكا وأوروبة، وبالتالي إرضائها بجزء من الكعكة. فرنسا شريكة اليوم في جنوب لبنان في الاستراتيجية الغربية نفسها، ومورطة فيها وانسحابها منها يعني خسارة فادحة لها. إذ لا يمكن لدولة تحترم نفسها أن تغير تحالفاتها الاستراتيجية كل ما واجهت المجموعة المتحالفة مصاعب أو تحديات استثنائية. مثل هذا العمل يفقدها الصدقية ويضع اختياراتها الاستراتيجية كلها موضع ا لشك وانعدام الثقة. هذا يحصل عندنا لأنه لا يوجد هناك لا صدقية للنظم ولا مساءلة ولا رأي عام. بحيث يستطيع الحاكم أن يقفز من حبل إلى آخر من دون أن يضطر إلى تفسير حركته او تبريرها ومن دون نتائج تذكر على صدقيته، ذلك أنه في الأساس ليس هناك لا استراتيجية ولا سياسة ولكن مناورات فارغة هدفها الحفاظ على النظام وليس تكريس مصالح وطنية. بل إنه لا يوجد هناك تعريف لهذه المصالح أصلا، فهي ملحقة كليا بمصالح حماية النظام. الوضع مختلف تماما عن ذلك في الدول الكبرى. هناك مصالح وطنية عليا وبالتالي استراتيجيات ثابتة وطويلة المدى، مرتبطة بحسابات دولية وإقليمية ووطنية، تتجاوز كثيرا حسابات النظام أو مصالح الحفاظ على سلطة الحزب الحاكم أو استمرار حكومته.

mercredi, novembre 01, 2006

وسائل تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط

مؤتمر المنظمات العربية غير الحكومية
الدوحة 29 اكتوبر 1 نوفمبر 2006

كان من المفروض أن تكون هذه الكلمة مدخلا افتتاحيا للمناقشة الخاصة بجلسة تعزيز الديمقراطية في المنطقة العربية المنعقدة في إطار المؤتمر العربي للمنظمات غير الحكومية الموازي لمؤتمر الديمقراطيات الجديدة الذي افتتح اعماله بحضور عدد كبير من الوزراء والمسؤولين في المنطقة في مدينة الدوحة في التاسع والعشرين من اكتوبر 2006 تحت رعاية الامم المتحدة. لكن المناورات السياسية التي رافقت هذا المؤتمر مع إعلان وزيرة خارجية إسرائيل عن نيتها لحضوره مع وفد اسرائيلي كبير دفعتني إلى الاعتذار عن المشاركة. فمن غير المعقول أن تدعى الحكومة الاسرائيلية إلى المشاركة في نقاش مسألة تعزيز الديمقراطية في المنطقة العربية في الوقت الذي شكلت فيه سياساتها العدوانية والعنصرية تجاه فلسطين ولبنان وبقية البلاد العربية العامل الرئيسي في تقويض أسس التحول السياسي السلمي نفسه، ودفعت كما لم يحصل في أي منطقة أخرى في العالم، إلى تأجيج لهيب النزاعات القومية والدينية والطائفية والاتنية، على حساب السلام والأمن والاستقرار والتنمية معا.

منذ سنوات عدة ونحن نتحدث عن وسائل تعزيز الديمقراطية ونضع التوصيات التي نأمل أن يأخذ بها أو ببعضها أصحاب القرار، في سبيل فتح طريق التحول السلمي نحو الديمقراطية وتجنب الانفجارات التي يسببها الجمود، والفوضى التي يمكن أن تنجم عنها. لكننا لم نتقدم كثيرا في الشرق الأوسط في هذا المجال. ولعل من المناسب اليوم تجاوز الحديث قليلا في التفاصيل من أجل بلورة الإطار النظري العام الذي يساعدنا على فهم مشكلة تعزيز الديمقراطية والصعوبات التي تعترضها في المنطقة الشرق أوسطية.
من البداية يوحي الحديث غير النقدي عن وسائل تعزيز الديمقراطية بأن موضوع الخيار الديمقراطي قد تم حسمه، وأن المسألة تتعلق اليوم بتوسيع دائرة تطبيق هذا الخيار وتعميقه. وهو ما يمكن أن ينمي أوهاما كبيرة مضرة، عند الجمهور والباحثين الاجتماعيين في الوقت نفسه. والحال أن الواقع مختلف كثيرا عن ذلك في البلدان العربية. فبالرغم من حصول تغيرات جزئية هنا وهناك، وسعي بعض النظم التي تواجه تحديات تاريخية، وتتعرض لتهديدات جدية، للتغطية عليها من خلال إبراز بعض ملامح التغيير في السياسات السائدة، ليس التحول نحو الديمقراطية هو السمة الأبرز في تطور الأوضاع السياسة في المنطقة العربية، ولا احتمال ولادة ربيع ديمقراطي عربي، كما أشيع بعد تنظيم بعض الانتخابات التشريعية التعددية، هنا وهناك، في السنين الثلاث الماضية، وإنما العكس تماما. إن الطابع الأبرز للحقبة التي نعيشها الآن هو بالأحرى إجهاض عملية الحمل الديمقراطي وإجهاض الدفع الذي حصل في سبيل الديمقراطية منذ بداية هذه الألفية الثالثة، ونجاح النظم التسلطية في المنطقة في امتصاص الضغوط الداخلية والخارجية التي هيأت لهذا الدفع الديمقراطي الوليد وغذته.
إن الآمال التي صعدت منذ سنوات قليلة، بسبب التقاء إرادة إصلاح خارجية مع ارتفاع مطالب فئات حية من المثقفين والطبقة الوسطى العربية، قد انهارت اليوم، بعد أن أدى إخفاق السياسات الأمريكية المغامرة في العراق، وانهيار محادثات السلام العربية الاسرائيلية، وتخبط السياسات الغربية عموما تجاه مشاكل الشرق الأوسط وفيه، إلى تصاعد الإرهاب وتزايد مخاطر انتشار الفوضى وتعميم الخراب. وهو ما دفع إلى تراجع الكتلة الغربية عن وعودها التي أطلقتها، بعد الحادي عشر من ايلول، في إصلاح الأوضاع العربية. وحصل كما لو أن النظم العربية التي لم تهضم، لحظة واحدة، ضغوط الكتلة الغربية عليها في سبيل إجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية، لا تتماشى تماما مع مصالحها واحتكارها الكامل للسلطة والثروة، قد انتقمت لنفسها، واستعادت أو هي في طريقها لأن تستعيد، في نظر الغرب والمنظومة الدولية، جزءا كبيرا من شرعيتها التي كان انتشار الارهاب الدولي انطلاقا من حدودها، والفساد المريع الذي تميز به سلوكها، قد قضى تماما على صدقيتها، وتركها عارية أمام الانتقادات الدولية والمحلية.
ليس من الممكن اليوم الحديث عن تعزيز الديمقراطية، كحركة او كنظم محتملة التطبيق في البلدان العربية، في مستقبل منظور، كما لو أن شيئا لم يحصل، ومن دون النظر إلى الانتكاسة التي تعرضت لها آمال الديمقراطية العربية، ومراجعة سياسات الدول الغربية الكبرى، وتراجعها عن مطالبها الاصلاحية، ومعها سياسات الحركات الديمقراطية العربية الوليدة أيضا، التي تتعرض من جديد إلى ظروف قاسية تشمل المنع والملاحقة والحد من الحريات وتقييدها وإرهاب ناشطي حقوق الانسان والمنظمات المدنية عموما. ولا يشكل التأمل في هذه الانتكاسة والكشف عن أسبابها الطريق الاجباري لوقف التدهور الحاصل في الموقف فحسب، ولكنه يشكل أكثر من ذلك شرط تجنب إنكسارات ونكسات أخرى، ومنطلقا لا غنى عنه لإنقاذ مشروع الديمقراطية نفسه والعمل على إعادة بنائه على أسس تساعد على تقدمه وتحقيق أهدافه في المدى المنظور.
فالمراجعة المطلوبة لتجربة السنوات القليلة الماضية مهمة من زاويتين، زاوية فهم سلوك النظم الاتوقراطية القائمة فيها ونجاحها في مقاومة الضغوطات الخارجية والداخلية وتجنب الاصلاح والانفتاح. وزاوية إخفاق التكتل الغربي، ومن ورائه المنظومة الدولية التي دعمته في مشاريعه، في إحداث أي حركة تغيير ذات وزن أو مغزى في اتجاه تعزيز فرص تقدم خطى الديمقراطية المنشودة.

1- إخفاق مبادرة الاصلاح والديمقراطية وأسبابه
لا يرجع إجهاض موجة الديمقراطية الجديدة التي ارتفعت في السنوات القليلة الماضية في العالم العربي إلى عامل واحد فحسب ولكن إلى عوامل متعددة: عالمية ترتبط بطبيعة السياق الدولي العام وأثره على المنطقة. وإقليمية تتعلق بالمناخ السائد في الشرق الأوسط نفسه وبأوضاعه الجيوسياسية. وبعوامل وطنية داخلية تتعلق بعلاقة المجتمع المدني بالدولة ومكانة هذه الدولة، والسلطة المركزية بشكل عام، وموقعها في التنظيم المجتمعي القائم، ومعادلات القوة وتوزيع السلطة داخل المجتمعات.
فالواقع أن التدويل العميق للمنطقة، وحالة النزاع والحرب المزمنة فيها، وتسلط أجهزة الأمن كممثلة للسلطة السياسية عليها، كل ذلك يشكل أوجها لمنظومة سيطرة واحد، هي المنظومة التي أقيمت في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال تحكمه وتتحكم بعلاقاته الدولية وتوازناته الإقليمية وأنماط حكمه المحلية وهياكل مؤسساته وسلطاته في الوقت نفسه، وذلك بالرغم من كل ما تعرضت له المنطقة من هزات ومقاومات. وهي في نظري منظومة متكاملة ومتضامنة ومتساندة، تتداخل مستوياتها الدولية والإقليمية والوطنية، وتتفاعل بقوة، وترتبط نجاعة وسائلها على المستوى الدولي بنجاعة وسائلها على المستوى السياسي الداخلي، كما ترتبط هذه وتلك بمناخ الحرب المزمنة، واستمرار الاحباطات القومية عند جميع الدول والشعوب. وليس من الممكن التفكير بأي تغيير جدي في أي مستوى من مستويات عمل هذه المنظومة الثلاثية الأبعاد من دون أن يلحقه تغيير مواز في المستويات الأخرى. مما يعني أن أي تغيير سياسي في اتجاه دمقرطة النظم القائمة يحمل مخاطر فعلية لنظام الوصاية والسيطرة الخارجية الذي فرض على المنطقة بسبب وجود رهانات ذات أبعاد دولية فيها، سواء ما تعلق منها بتركز احتياطي كبير من الطاقة النفطية التي يحتاج إليها العالم الصناعي، أو بسبب ارتباط مصيرها أو ربطه بمصير إسرائيل وتوطينها وضمان أمنها، أو بسبب ما تمثله من عقدة مواصلات استراتيجية دولية. وبالمثل، يشكل أي تغيير في اتجاه بناء نظم ديمقراطية شعبية وتتمتع بقسط كبير من الشرعية تهديدا للتوازنات الاقليمية، وبالتالي لمصالح تلك القوى التي تكيفت مع الوضع القائم، ولا تزال تسعى إلى استثماره بكل ما تملك من قوة، وفي مقدمها إسرائيل التي تحاول، في إطار مشروع التوسع الإقليمي الذي تسعى إليه، هضم الأراضي العربية المحتلة وابتلاعها. وكما عزز الارهاب، والحرب الدولية التي أطلقتها الولايات المتحدة ضده، من الضغوط الدولية على الشرق الأوسط، وزاد من أهميه ضبطه والسيطره على مقدراته في الاستراتيجية العالمية، عمل النزاع الإقليمي المستمر وإفشال مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية على تفاقم العنف، ودفع النظم التسلطية السائدة إلى مزيد من التشدد والضغط على مجتمعاتها خوفا من أن تجد نفسها تحت ضغوط متقاطعة ومتعارضة معا، من الخارج والداخل. من هنا لا يزال هناك شعور قوي لدى جميع الأطراف المستفيدة من النظام القائم في الشرق الأوسط بأنه لا مصلحة واضحة لها في التغيير، حتى لو كانت مقتنعة بأن الاصلاح لم يعد يحتمل التأجيل.
هذا ما يفسر تردد الدول الغربية في سحب دعمها عن الأنظمة التعسفية اللاقانونية، ثم تراجعها السريع بعد إعلانها في السنوات الأخيرة الماضية عزمها على الإصلاح. كما يفسر لماذا كان من غير الممكن بناء قوى داخلية قادرة على تحقيق التحولات الديمقراطية، ولا حتى على مواجهة الخراب المدني والسياسي الذي تحدثه النظم التسلطية، ويدفع إلى سيطرة العقلية الفردية الأنانية وتعميم الفساد. ولماذا لا يزال من غير الممكن الفصل بين غياب فرص التنمية السياسية الداخلية، أي داخل حدود البلدان، واستمرار الحروب والنزاعات القومية والوطنية المزمنة، والتي أخذت في الفترة الأخيرة تتحول بصورة واضحة إلى حروب دمار وانتقام، فاقدة هي نفسها أي أمل في تحقيق أي انتصار غير ما تكبده من خسائر وآلام للخصم. وهو ما يفسر أخيرا العلاقة الوثيقة التي تربط بين استمرار الحروب والنزاعات الإقليمية وتخليد نظم السيطرة الأمنية لأكثر من نصف قرن من جهة، وتغول القوى الكبرى على المنطقة ونزاعها المستمر فيما بينها على السيطرة السافرة عليها، بكل ما يستدعيه ذلك من تبرير الحروب والتدخلات العسكرية والسياسية الدائمة، وإضفاء الشرعية على سياسات الاحتواء والتلاعب والاستيعاب ضمن الاستراتجيات الدولية المتنافسة للقوى السياسية والأحزاب والنخب والطوائف والإتنيات المتنازعة في ما بينها أيضا، من جهة ثانية. وهو ما يجعل حياة مجتمعات الشرق الأوسط فوضى عارمة، ويفقدها كل أمل في الثبات والاستقرار والقيام على أسس ومباديء موضوعية وعقلانية وشرعية. فالتلاعب والغش والخداع والمراوغة هي مفردات السياسة المتبعة من قبل جميع الأطراف، الداخلية والخارجية، ولغتها المشتركة.
لكن مشكلة الديمقراطية في الشرق الأوسط لا تنبع من تداخل هذه العوامل أو بالأحرى الأزمات الدولية والإقليمية والوطنية، مع تباين تأثيراتها وتحييد بعضها للآخر، فحسب، ولكن أكثر من ذلك من عدم قدرة أي طرف من الأطراف المعنية، الخارجية والإقليمية والداخلية، على حسم النزاعات القائمة لصالحه وفرض أجندته على المنطقة. وهكذا لم يتمكن أي طرف من الاطراف الدولية والإقليمية والوطنية المنخرطة في الصراعات متعددة المستويات أن ينجح في تحقيق الهدف الذي يسعى إليه في مواجهة الأطراف الأخرى وضد إرادتها. وهذا يصح على مسائل السياسة الدولية، كما يصح على مسائل النزاعات الإقليمية والصراعات السياسية الداخلية. ولا شك أن تدهور وضع المنطقة في النظام الدولي، ومناخ الحرب والعنف الذي يميز علاقات أطرافها الإقليمية، وحالة الضعف والتشتت التي وصلت إليها المجتمعات المدنية، كل هذه العوامل تقلل أكثر من احتمال أن ينجح أحد هذه الأطراف في أن يكون عاملا حاسما لوحده في أي تغيير منشود، دوليا كان أو إقليميا أو وطنيا.
من هنا يبدو لي أن مصير الديمقراطية، مثله مثل مصير المسائل الأخرى العالقة، كالتسوية الشرق أوسطية وتحرر المنطقة ككل من ضغط النزاعات الدولية عليها، مرتبط بحصول توافق بين العوامل الداخلية والخارجية، يعوض عن ضعف العوامل جميعا وعدم قدرتها، كل لوحده، على التحول إلى عوامل حاسمة. وهو ما يرهن عليه فشل الضغوط الغربية التي مورست على النظم في السنوات الماضية في اتجاه فرض إصلاحات ديمقراطية، كما يبرهن عليه يوميا إخفاق قوى المجتمع المدني في فرض احترامها على النظام، بل انتزاع اعتراف السلطة والجمهور الواسع بوجودها وشرعيتها. فمن الصعب في الظروف الدولية والإقليمية السائدة أن تنجح هذه القوى في النمو بما فيه الكفاية حتى تشكل عامل ضغط فعال، وتجبر الأنظمة على تقديم تنازلات، وعلى الانفتاح على الطبقة الوسطى وقبولها شريكا في الحياة السياسية. وبغياب توافق واسع بين الأطراف الفاعلة الثلاثة : الدولية والإقليمية والمدنية، ليس هناك أي أمل في حصول تغيير ديمقراطي حقيقي إلا من خلال ثورة أهلية تقلب الوضع القائم وتقيم على أنقاضه وضعا جديدا. وهو ما لا يظهر بعد كاحتمال وارد الحدوث في الأفق القريب.
لكن المهم أن نعرف أن غياب هذا التوافق بين الأجندات الدولية والإقليمية والوطنية كان السبب الرئيسي لإخفاق موجة الديمقراطية التي أطلقت الكثير من الآمال في مطلع هذه الألفية الثالثة. فهو الذي جعل جهود الأطراف المختلفة المعنية، إلى حد أو آخر، بتغيير الأوضاع الفاسدة التعسفية، تدخل في منافسات ضارة، وتحيد في النهاية بعضها البعض. وكما أن وحدة الشعارات لا تخفي حقيقة أن القوى الداعية إلى التغيير، في الداخل والخارج، لم تكن تعمل على موجة واحدة، ما حصل هناك أيضا أي إجماع أو تفاهم على أجندة واحدة أو منسجمة.
فلم تتفق حتى دول التحالف الغربي على محتوى الاصلاحات الديمقراطية المطلوبة ومضمونها ووتيرة تحقيقها. وكان الخلاف واضحا بين الأمريكيين والأوروبيين حول تقدير ما ينبغي عمله وبناء اجندة عملية للاصلاحات المنشودة. وهو ما سمح للنظم التسلطية بالمناورة وكسب الوقت حتى تتغير الأوضاع الإقليمية وتتطور أزمة الاحتلال الأمريكي في العراق. وبالمثل، ولد إخفاق سياسات الدول الكبرى في حل النزاعات الإقليمية، ولو بصورة تدريجية وبطيئة، كما وعدت، وضعا سياسيا ونفسيا انفجاريا معاديا للخيار الديمقراطي، ودافعا إلى المقاومة ورد الفعل. وليس من المبالغة القول إن مشاريع الاصلاح الديمقراطي التي قاتلت من أجلها قوى عربية فتية ببسالة، ودفعت تضحيات كبيرة لتاكيد فكرتها، في وجه نظم أمنية قاسية، كانت ضحية السياسات الخرقاء التي اتبعت في السنوات الخمس الاخيرة، سواء اكان ذلك على مستوى العلاقات الدولية، مع توسيع دائرة الحرب على الارهاب، ومن ورائه على الاسلام والعروبة، أو على مستوى العلاقات الإقليمية، مع ترك الحكومات القومية الاسرائيلية المتطرفة تقضي على حلم الفلسطينيين، وتدمر شروط حياتهم، وتجعل من الاغتيال اليومي لقادتهم سياسة رسمية. والأمر نفسه ينطبق على دفع العراق نحو الحرب الأهلية، وإطلاق يد الجيش الاسرائيلي في لبنان للرد على عملية عكسرية محدودة أسفرت عن أسر جنديين إسرائيليين. ثم أخيرا، على مستوى كل بلد شرق أوسطي، مع تعاون الدول الصناعية مع نظم ضد نظم أخرى، واتباع سياسات انتقائية في تطبيق الاصلاحات وتقديمها. لقد قطعت هذه السياسات الطريق على أي تفاهم بين الأطراف، وجعلت من حروب التدمير الشامل، الخارجية والإقليمية والأهلية، في فلسطين والعراق ولبنان، البديل الوحيد للحلول السياسية المتفاوض عليها والتي تقدم مخرجا مقنعا إلى حد او آخر لجميع الأطراف.
ما كان من الممكن في هذه الظروف الدولية والإقليمية المتوترة، والمشجعة على المواجهات والصدامات وحروب الحضارات، أن يكون لضغوط قوى المجتمع المدني في البلاد العربية أي نتائج تذكر. وأمكن للسلطات التي اعتادت خرق القانون احتواء هذه الضغوط وامتصاصها بسهولة، قبل أن ترتد إلى هذه القوى نفسها لتحاول تحطيمها وتفتيتها. وهكذا، بدل أن تساعد الضغوط الداخلية والخارجية على دفع النظم نحو الانفتاح، زادت من نزوعها إلى الانكماش على نفسها، وحرضتها على التنكيل بالقوى الديمقراطية ومحاولة تصفيتها. وها هي النظم تفسها تعود، كما كانت في السابق، إلى الاستخدام الموسع للعنف، والمراهنة على قوة القمع وتحويل اجهزة الامن الواسعة الانتشار إلى أداة وحيدة للحكم والتحكم بالقرار، في مواجهة مجتمعات مفككة ومذررة، مفتقرة للموارد الخاصة وللقيادات أيضا.
ومع ذلك، لم يكن من الصعب تصور أجندة واحدة ومتفق عليها بين الأطراف لحلحلة أزمة الشرق الاوسط وإخراج شعوبه من محنتها. بل لقد ظهرت ملامح مثل هذه الأجندة بالفعل مع مؤتمر مدريد للسلام وبعده، وقامت على الجمع بين تفاهم دولي تمثله اللجنة الرباعية، وخطة لتهدئة الأوضاع الإقليمية وفتح باب التسوية السياسية، تمثلها خريطة الطريق التي تبنتها الرباعية والدول العربية، والتي تنص على خلق دولة فلسطينية إلى جانب الدولة الاسرائيلية القائمة في أفق 2005، وتعاون دولي مع القوى الداخلية، الرسمية والأهلية، للمساعدة على فتح النظم وتوسيع دائرة المشاركة السياسية.
لكن الإدارة الأمريكية رمت بهذه الأجندة عرض الحائط، بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، وأحلت محلها أجندة خاصة بها لمواجهة متطلبات التغيير، وحسم النزاعات الدولية والإقليمية والداخلية الوطنية لصالحها وحدها، وبطريقتها الخاصة. ولم ينجم فشلها عن التردد في حل النزاعات والمشاكل العالقة، ولكنه نجم من أنها أرادت أن تحل مسألة الصراع الدولي على المنطقة، الذي يشكل عبئا لم يعد يحتمل عليها، ومهربا للنظم المختلفة من مواجهة الاستحقاقات الداخلية، بفرض سيطرتها المنفردة على المنطقة بأكملها، وإخراج اللاعبين الآخرين، بما فيهم أقرب حلفائها من الأورييين، من حلبة المنافسة، بدل العمل على بلورة إجماع دولي حول تحييد المنقطة عن النزاعات الدولية. وأنها أرادت أن تحل مشكلة النزاع الإقليمي المستمر، والذي يزداد شراسة وتعفنا وعنفا بسبب تفاقم الاحباط عند الجميع، عن طريق الزج بكل ثقلها مع حكومة اليمين القومي الاستعماري المتطرف في اسرائيل، ومحاباة القومية الاسرائيلية على حساب جميع القوميات الأخرى. وأرادت أن تحل مشكلة انفصال النخب الحاكمة، سياسيا بفضل دعم الغرب لها، واقتصاديا بسبب توفر العوائد النفطية والريعية الكثيرة، عن شعوبها وتجاهلها حقوقها وتغولها عليها، بالعمل على استتباع هذه النخب بشكل أكبر، وفرض نظام الإذعان عليها لتدخل في استراتيجيتها وتعمل بأمرها، بدل تطوير هامش مبادرة المجتمعات وتوفير وسائل حمايتها وتعزيز استقلالها تجاه النظم التسلطية المغلقة. لقد أرادت تحالفا أقوى مع الحاكمين لدفعهم نحو الديمقراطية، بدل تقليم أظافرهم وإجبارهم على احترام إلتزاماتهم، والتراجع عن سياساتهم التعسفية، كأي نظم سياسية تحكم باسم شعب وتمثل مصالحه الوطنية.
هكذا ما كان لموجة الديمقراطية التي ارتفعت في المنطقة في السنوات الماضية أن تصل إلى غير طريق مسدود. مسدود على الصعيد العالمي، بعد أن فتتت السياسة الامريكية الاجماع الدولي الذي كان قائما من حولها، بما في ذلك داخل التحالف الغربي المتحكم بمصير المنطقة. ومسدود على المستوى الإقليمي بسبب انهيار آمال السلام بعد تجميد خارطة الطريق والعودة إلى الحل العسكري، وما يجره ذلك من إشعال نيران العنف وتفاقم مشاعر الاحباط والرغبة في الانتقام وتحقيق انتصارات وهمية، وتراجع التفكير العقلاني والانساني في الخروج من الأزمة الإقليمية. ومسدود على المستوى المحلي بسبب نجاح النظم القائمة، التي خرجت منتصرة من معركة الضغوط الأجنبية، وأكثر ثقة بنفسها، في تكوين نظم أمنية مستقلة كليا بمواردها المادية والسياسية عن الشعب، وقائمة في فلك خاص بها، وفي قلعة معزولة تماما عما حولها. وهي الاجهزة التي ساهمت الدول الكبرى، ومناخات الحروب الإقليمية المستمرة، منذ عقود، في تكوينها وتطويرها.
2 – دروس التجربة الماضية
لست متأكدا أبدا من أن الديمقراطية، حتى في أشكالها الدنيا، أي التعددية البسيطة، مع توسيع قاعدة المشاركة السياسية قليلا لاستيعاب فئات من الطبقة الوسطى في النظم القائمة، ذات أولوية اليوم في أي أجندة دولية أو إقليمية أو محلية. ومع يقيني بأن من الصعب على قوى المجتمع المدني لوحدها حسم المعركة لصالح التحول نحو الديمقراطية والحد من تغول النظم التسلطية واللاقانونية، يظل من المفيد فهم دروس التجربة السابقة، لتوجيه خطى أولئك الذين لا يزالون مؤمنين، في داخل المنطقة وخارجها، بأن الديمقراطية لا تزال تشكل هدفا أخلاقيا في حد ذاتها تستحق التعزيز، كما أن تحقيقها يشكل أحد المفاتيح الرئيسية أيضا لإخراج المنطقة من أزمتها التاريخية الطاحنة وبلورة التسويات والحلول السياسية الضرورية لإقامة شروط صالحة للحياة والعمل والانتاج والابداع الانساني في هذه المنطقة من العالم. وليس هناك في نظري ما يمنع من التفاؤل باحتمال العودة إلى مناخات نهاية التسعينات التي ولدت أملا كبيرا في تطور مبادرات تخرج الشرق الأوسط من محنته، ويكون لها تأثير كبير على تطوره الأمني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي أيضا. ومما يشجع على هذا التفاؤل تفاقم المأزق الذي تتخبط فيه السياسات الأمريكية والاسرائيلية الشرق أوسطية التي حكمت موقف الغرب والعالم كله وحكومات المنطقة أيضا تجاه المشاكل المطروحة. فبقدر ما بينت تجربة السنوات الماضية بأن تجديد حياة النظم التعسفية والتسلطية لا ينفصل عن الاستراتيجيات الدولية السائدة ولا عن التوازنات الإقليمية القائمة، يتطلب تعزيز ا لديمقراطية، تغييرا مماثلا على هذه المستويات الثلاث. وهو ما يستدعي :
- التوصل إلى تفاهم بين الأطراف المعنية حول أجندة تتجاوز مسألة الديمقراطية نفسها وتشمل في الوقت نفسه موضوعات تتعلق بالوضع الدولي والإقليمي والوطني معا. فليس من الممكن فصل مسألة الديمقراطية عن مسألة انتزاع المنطقة من الارتهان للنزاعات الدولية وضمان حد أدنى من الأمن والاستقلال لها وتقرير المصير لشعوبها. وليس من الممكن كذلك التفاهم حول أجندة ديمقراطية تقنع جميع الأطراف المعنية بالتعاون لتحقيقها من دون التوصل إلى تسويات سياسية للنزاعات والحروب الإقليمية العديدة العالقة، وفي مقدمها النزاع العربي الاسرائيلي، لكن ليس وحده. وليس من الممكن كذلك وضع هذه الأجندة الديمقراطية موضع التطبيق العملي من دون مرافقتها ببرنامج دعم شامل للمجتمع المدني، يتضمن دعم الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية الرائدة، ودعم المؤسسات والمنظمات الاجتماعية، ودعم الهيئات المدنية والسياسية العاملة على توفير الأطر القانونية والسياسية لتوسيع دائرة مشاركة الأفراد في الحياة العمومية. فالديمقراطية ليست في الشرق الأوسط، اجندة سياسية داخلية، ولكنها جزء من أجندة إقليمية ودولية معا، بقدر ما يمس تغيير العلاقة بين النظم التسلطية والشعوب مصالح إقليمية، ويؤثر أيضا على مصالح دولية استراتيجية. ولذلك قد يستدعي التفاهم على أجندة ديمقراطية في هذه البلدان تفاهما موازيا على أجندة تسوية إقليمية، وربما إعادة نظر في شروط السيطرة الغربية على المنطقة وأسلوب تعاملها مع شعوبها. هذه هي النتيجة الطبيعية لما يسم الوضع في الشرق الاوسط من تدويل فعلي، يجعل ان تغيرات السياسة الداخلية لا تؤثر فقط على مصالح القوى المحلية والداخلية فحسب، ولا تخضع لقواها الذاتية، ولكنها تؤثر على مصالح إقليمية ودولية كبيرة وتخضع لتأثيراتها أيضا.
- وهذا يعني ضرورة وجود رؤية شاملة لقضايا المنطقة لا تجزئتها. لا يمكن فصل قضية دمقرطة الحياة السياسية في هذا البلد او ذاك في الشرق الأوسط عن بقية القضايا الأخرى الكبيرة التي تشغل الرأي العام بأكمله وأحيانا تشكل بؤر اهتمام أقوى وأشد فيه. والاعتقاد بأن الديمقراطية يمكن أن تكون دواءا يشفي من الإحباطات الوطنية والقومية، او تعويضا عنها، يقود لا محالة إلى تقويض أسسها بقدر ما يظهرها وكأنها وسيلة للالتفاف على الإرادة الشعبية بوسائل أخرى. الديمقراطية لا يمكن أن تكون تعويضا عن انتهاك السيادة الوطنية أو عن التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية. بالعكس، أظهرت تجربة السنوات القليلة الماضية أن انتهاك السيادة، الوطنية للبلدان العربية أو بعضها، واستمرار انتهاك الحقوق الفلسطينية يفرغ مشروع الديمقراطية من محتواه، ويفقده الصدقية ويسمح للقوى المعادية له بتعبئة الرأي العام ضده بوصفه خطة أو جزءا من خطة، أو غطاءا لخطة إستعمارية.
- رفض الديمقراطية الانتقائية أو تأكيد وحدة القضية الديمقراطية في المنطقة. لا يمكن فصل قضية الديمقراطية في أي بلد عن قضية الديمقراطية في أي بلد آخر في المنطقة أيضا. فإما ان تكون الديمقراطية هدفا مشتركا وواحدا تجاه دول المنطقة جميعا، بما فيها بالتاكيد إسرائيل، أو أنها ستتعرض إلى تشكيك بصدقيتها، وتظهر وكانها تكريس جديد لقاعدة الكيل بمكيالين، واستخدام الديمقراطية وسيلة للضغط على الدول، لا كمشروع وغاية في ذاتها. لا يمكن للديمقراطية أن تتقدم في البلدان العربية إذا كانت انتقائية، مطلوبة للعراق وليست مطلوبة لسورية، مطلوبة للبنان ومستبعدة من مصر أو تونس أو العربية السعودية. وهذا يعني إما أن تكون هناك خطة جدية لدمقرطة النظم السياسية في عموم المنطقة العربية أو أن الديمقراطية ستظل شعارا تستخدمه القوى الدولية في نزاعها على المصالح والنفوذ في الشرق الأوسط، مع ما يعنيه ذلك من نزع الصدقية عن القضية الديمقراطية وتحويلها إلى أداة من أدوات الصراع القومي والوطني.
- تغيير الرؤية الغربية السائدة منذ عقود في ما يتعلق بضمان الأمن والمصالح الاستراتيجية في الشرق الاوسط. لا يمكن في الشرق الأوسط التوفيق، كما حصل في بلدان أوروبة الشرقية، بين أجندة الديمقراطية وأجندة السيطرة الغربية. فالديمقراطية تهدد لا محالة بزوال سياسات التبعية والإلحاق بقدر ما تعيد السيادة والقرار للشعوب والرأي العام، بينما يحتاج استمرار السيطرة والاشراف على المصالح الاستراتيجية والحيوية الغربية والحفاظ عليها إلى تقييد هذه السيادة والاحتفاظ بها دائما تحت السيطرة بوسائل مختلفة، كان أبرزها حتى الآن تعزيز الوصاية السياسية للنخب الحاكمة عليها. وكما لم تشجع صيغة الديمقراطية المقيدة والفاقدة للسيادة الطبقات الوسطى على التحمس لمشاريع الاصلاح الغربية، لم تثر مشاريع الديمقراطية الوطنية التي تبنتها شرائح واسعة من الطبقة الوسطى والمثقفة العربية اهتمام الدول الغربية، ولا نالت ثقتها. وفي ما وراء الصراع بين مشاريع الدمقرطة والاستبداد، كان النزاع قويا أيضا بين مشاريع الهيمنة الغربية المقنعة بنموذج شكلي لديمقراطية مفروضة، ومشاريع الصراع لا نتزاع السيادة والحرية وحق المشاركة داخل البلدان العربية من قبل النخب والطبقات الوسطى والمثقفة.
- احترام المعايير الدولية الواحدة في التعامل مع الشرق الأوسط وعدم إخضاعه لمعايير مزدوجة، وهو شرط كسب الثقة واستعادة الصدقية. لا ينسجم تحقيق الديمقراطية وتعزيزها مع سياسات الحرب والتهديد والمراوغة والاستفزاز والاقصاء. فالطريقة التي واجهت بها الكتلة الغربية نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية بسبب فوز قائمة حماس قد قوض صدقية الدعوة الغربية للديمقراطية، وأظهر أن ما هو مقصود منها ليس تمكين الشعب من التعبير عن إرادته بحرية، وإنما ايصال القوى المؤيدة للغرب أو القادرة أكثر على الانسجام مع سياساته واستراتيجيته إلى السلطة، في البلاد العربية بدل القوى القائمة الفاشلة. وهذا يعني أن تعزيز الديمقراطية يحتاج إلى تبني أساليب ووسائل عمل ديمقراطية هي أيضا، وفي مقدمها الحوار والتفاهم والتواصل. وهو ما يستدعي مسبقا الاعتراف بالشعوب العربية كطرف أصيل، وبحقوقها الكاملة، وليس اعتبارها تابعا للنظم أو أدوات نفوذ أو صراع على النفوذ، حتى لو كان لا يزال لديها، بسبب ظروف الحكم والثقافة السائدين، استعدادات كبيرة للتبعية والالتحاق والاستزلام.
والنتيجة لن يسطيع أي طرف أن يحقق أهدافه أو يضمن مصالحه بدون التفاهم عليها مع الأطراف الأخرى. كما أن أحدا لن يسطيع الوصول إلى حل لمشكلته بتجاهل مشاكل الأطراف الأخرى. فليس هناك في الشرق الأوسط مهرب اليوم من فتح مفاوضات جوهرية وشاملة تطرح جميع الملفات العالقة للبحث مرة واحدة وتضم جميع القوى المعنية، الدولية والإقليمية والوطنية، لمناقشة مستقبل الشرق الأوسط المهدد ومصيره. ومن دون ذلك لن تكون هناك إمكانية لا للحفاظ على المصالح الغربية الاستراتيجية والنفطية، ولا للسلام والاستقرار الاقليميين، ولا للديمقراطية والتنمية الانسانية، ولكن للفوضى الشاملة والخراب الذي سيقضي على مصالح الجميع.
من هنا أعتقد أن المطلوب اليوم، في إطار مواجهة شاملة لمشاكل المنطقة، مؤتمرا عالميا لمعالجة أزمة الشرق الأوسط في أبعادها المختلفة، بما فيها بعدها السياسي المتعلق بغياب الديمقراطية، الذي لا يمكن فصله عن هذه الأزمة، تشارك فيه جميع القوى المعنية، العربية والدولية، الرسمية والمدنية، من حكومات ومنظمات المجتمع المدني والمجتمعات السياسية والمثقفين والخبراء. ومن الضروري تحول هذا المؤتمر إلى منتدى دائم يعقد دوريا تحت إشراف الأمم المتحدة لمواجهة مشاكل الأمن والسلام والتنمية الإقليمية. ربما لن يستطيع مثل هذا المؤتمر ايجاد الحلول السريعة للمشاكل المطروحة، وليست هناك حلول جاهزة لهذه المشاكل. لكنه سيكون أفضل وسيلة لتغيير مناخ العلاقات الدولية والإقليمية المتعلقة بالمنطقة ولخلق جو من التواصل والحوار يعيد بناء بعض الثقة بين الأطراف، ويساهم في وضعهم جميعا أمام مسؤولياتهم، ودفع الرأي العام العالمي للضغط عليهم، في سبيل التوصل إلى تسويات تدعم سياسات السلام والأمن والديمقراطية والازدهار للجميع. فلا تنفع كثيرا في نظري وسائل الضغط والحصار، وأسوأ منها وسائل التدخل العسكري والسياسي. ولا توجد للأسف وسائل أخرى غير الرهان على تعبئة الرأي العام، المحلي والعالمي، وعلى ما يمكن أن ينتجه الحوار والنقاش والتفاوض من ثقة متبادلة بين الأطراف تدفع بهم إلى تقديم التنازلات الضرورية للوصول إلى التسويات المطلوبة للنزاعات الملتهبة والمزمنة التي لا تحول دون قيام حياة ديمقراطية سليمة في عموم المنطقة فحسب ولكنها تقوض أسس الحياة المدنية فيها.

mercredi, octobre 25, 2006

في معنى المقاومة الوطنية

الاتحاد 25 اكتوبر 06

قلت في مقال سابق أن الرأي العام العربي ممزق بين خيار إصلاح الدولة، بالرغم من كل ما يسمها من نقائص، وفي مقدمها ارتهانها للإرادة الخارجية، المافيوية والأجنبية، على أمل تحسين شروط عملها، وخيار المقاومة الذي يعكس انهيار الثقة بالدولة ويطمح إلى بناء سلطة أهلية، متحررة من الهيمنة الأجنبية، وقادرة على تلبية مطالب المجتمعات المتعلقة بالاستقلال الضامن للكرامة والهوية. وبينت في مقال آخر كيف أن سياسات السيطرة الخارجية قد قوضت مشروع الدولة ووضعته على طريق مسدود، كما يشير إلى ذلك تعثر خطط الاصلاح وموتها قبل أن ترى النور. وبالمثل كيف أن المقاومة التي نشأت في سياق الصراع ضد الدولة القاصرة، وعلى أنقاض الوطنيات التي نشأت بعد الاستقلال، قد ولدت بالضرورة في إطار مقاومات محمولة على العصبية، مما يحرمها من أي أمل في أن تقود إلى طريق آخر غير الصدامات المذهبية والطائفية والإتنية والدينية. فهي بالتعريف غير قادرة على إعادة بناء الوطنية السياسية التي تشكل روح الدولة القانونية، التي تساوي بين المواطنين وتجمع بينهم في إطار سياسي واحد يتجاوز الولاءات الجزئية العقائدية والإتنية.
وكل يوم يمر يتأكد فيه بشكل أكبر الوصول إلى هذا الطريق المسدود الذي دخل فيه مشروع الدولة، وطريق الفوضى الذي يهدد بإدخالنا فيه مشروع المقاومات المذهبية. وما حصل في الأيام القليلة الماضية من استعراض ميليشيات القاعدة لقوتها في شوارع الرمادي العراقية يعكس تماما مستقبل المجتمعات الخاضعة لمقاومات لا يمنعها عداؤها الفعلي والقاسي للأجنبي من أن تسير في اتجاه بناء إمارات تحكمها ميليشيات خاصة، تلغي مشروع الدولة القانونية، وتقود حتما إلى تعميق الانقسامات والنزاعات الداخلية. تماما كما عكس انهيار حلم الدولة الفلسطينية الموعودة، وتفجر الصراع على السلطة الوطنية الوهمية بين القوى القومية والاسلامية في فلسطين، المازق الذي وصل إليه مشروع الدولة المرتهنة للاجنبي والمفرغة من الاستقلال والسيادة.
في هذه الحالة على ماذا يمكن للشعوب العربية أن تراهن للخروج من الوضع المتردي الذي تعيشه على جميع المستويات، وما هو البديل لسياسات إصلاح الدولة وتوسيع عمليات المقاومة؟
والجواب أنه لا يمكن الفصل بين الدولة والمقاومة أصلا . فالدولة الحديثة من حيث هي دولة المواطنين، والتجسيد لإرادتهم تفترض من داخلها مبدأ المقاومة، أي التصدي لكل محاولات مصادرة هذه الإرادة من قبل قوة داخلية أو خارجية، ولا تستقيم من دون ضمان حق المقاومة، بل الثورة، لتأكيد قيم الحرية والمواطنية والسيادة الشعبية ضد مغتصبيها. وبالمثل ليس لأي مقاومة قيمة وشرعية إذا لم تقد إلى بناء هذه الدولة القانونية المواطنية التي تضمن الحريات والحقوق المتساوية. والفرق بين التمرد والمقاومة يكمن بالضبط في أن التمرد هو سمة الحركات التي تقف ضد الدولة رفضا للقانون والشرعية، بينما تقوم المقاومة لتأكيد تطبيق القانون المصادر وشرعيته. فأي دولة من دون ضمان حق مقاومة الشعب مدانة بالتحول إلى مملكة خاصة، بل مزرعة للمسكين بها، وأي مقاومة لا تنطلق من مبدأ تحقيق الحرية والسيادة الشعبية والقانون تتحول إلى تمرد يعطل إمكانية نشوء دولة جديدة مؤسسة على مباديء العدل والشرعية بدل تقريب اجلها. وهذا الارتباط بين المقاومة التي تجسد المصدر الشعبي للسلطة، وتعبر عن إرادة المجتمع التي تكمن وراء الدولة، وتضمن السير السليم لمؤسساتها، والدولة التي تشكل التجسيد المؤسساتي لحكم الحرية والسيادة والقانون، هي أساس تنظيم الإرادة الشعبية على أسس قانونية وعقلانية سليمة.
ولم يحصل الانفصال والتعارض بين مشاريع الدولة ومشاريع المقاومة إلا بقدر ما حصل إفسادهما معا وأفراغهما من مضمونهما. فانحط معنى الدولة ليطابق واقعها الراهن المساوي لفكرة التسلط بالقوة على مقدرات شعب وموارده وتحويله إلى أداة لخدمة السلطة والممسكين بها، وانحط معنى المقاومة لتصبح قناعا لمشاريع حروب أهلية سافرة أو خفية. وهكذا خرجت الدولة عن إرادة المجتمع وعليه وتحولت المقاومة إلى ذريعة لتشريع الميليشيات الأهلية المناوئة لفكرة الدولة والسلطة المركزية. هذا يعني أنه لا ينبغي لإخفاق شبه الدولة التي نشأت في بلداننا تحت الوصاية الاستعمارية المستمرة، ان تدفعنا إلى الكفر بمفهوم الدولة كإطار شرعي وعقلاني وحيد لتنظيم الحياة الاجتماعية أو جزء كبير منها. ولا ينبغي كذلك أن تدفعنا المقاومات المرتبطة بالانقسامات العصبوية، المذهبية والطائفية أن يسود في أفهامنا معنى المقاومة الوطنية والانسانية. فالمطلوب هو، بالعكس، استعادة مشروع الدولة وانتزاعه من حجر استراتيجيات السيطرة الدولية وتأهيله، وإصلاح المقاومة الأهلية التي لا سيادة لدولة ولا لحرية لأفرادها من دونها. وهو ما يتطلب العمل على إعادة الانسجام بينهما، بوصفهما مبدأين ناظمين للحياة السياسية في عصرنا: مبدأ السيادة (للدولة) والحرية (للمجتمع). فبالحرية نضمن عدم استلاب الدولة للقوى الخارجية، محلية او اجنبية، وبالسيادة نقي المقاومة من التحول إلى تمرد وخروج على القانون والشرعية. أي نؤكد تحرير الدولة من ارتهانها لغير الإرادة الاجتماعية، وتحرير المجتمع من الارتهان لإرادة قوى معادية للدولة، ومانعة من إعادة بنائها كدولة مواطنيها، بصرف النظر عن إنتماءاتهم وأصولهم الإتنية.
لا ينشأ هذا الانسجام بين المبدأين من تلقاء نفسه، ولكنه يحتاج إلى البناء. ويستدعي البناء العمل الواعي والدؤوب ضد الانحرافين القائمين معا: على صعيد بنية الدولة وبنية المقاومة. وبقدر ما يعكس هذان الانحرافان تحلل العقد الوطني، يستدعي تصويب عمل الدولة والمقاومة انبعاثا أو بعثا فكريا وسياسيا لفكرة الوطنية الجامعة. وكما أن قصر الوطنية العربية في المرحلة القومية السابقة على مواجهة السيطرة الغربية وتاكيد الذات ضد الآخر كان هو السبب الرئيسي في موتها، بعد ان قادها إلى سراديب التسلطية المظلمة، تشكل إعادة إحياء قيم المواطنية، والدفاع عن الحريات الفردية، وحق المقاومة الاجتماعية لسلطات الفساد والنهب والتسلط السائدة، أي لتمرد النخب الحاكمة على الشرعية والقانون، الشرط الرئيسي لولادة وطنية عربية جديدة وانبعاثها. وهي شرط إعادة بناء الدولة كدولة سيدة وفي الوقت نفسه دولة مواطنيها ومبرر وجودها.
وبقدر ما يتقدم هذا النشاط النقدي، الأخلاقي والفكري والسياسي، الذي يتصدى لتحقيق مهامه مثقفون وناشطون مدنيون وسياسيون من كل الاتجاهات، تتطور بإزائه حركة مقاومة وطنية تجمع بين مهام التصدي للاستبداد، وما يمثله من اغتصاب الدولة ومصادرة الإرادة العامة، وتغليب الولاءات الخاصة على الخضوع الطوعي الجامع للقانون من جهة، ومهام التصدي للهيمنة الأجنبية التي تمنع الدولة من الانصياع لإرادة مجتمعها ومواطنيها من جهة ثانية. في هذه الحالة لن تكون المقاومة لا نقيضا للدولة وسيطرة حكم القانون، ولا وسيلة للتغطية على الحرب الأهلية واغتصاب الإرادة العامة، ولكن عملية إعادة بناء أخلاقية وقانونية وسياسية للحقيقة الوطنية، على مستوى المجتمع المدني ومستوى الدولة معا. وتتطابق مع عملية تأهيل الدولة لجعلها دولة الجماعة، وتأهيل الجماعة لجعلها جماعة سياسية مدنية متجاوزة للانقسامات العصبوية. وفي هذه الحالة سيحل محل التعارض المصطنع بين الدولة كرمز للسيادة، والمقاومة كرمز لتأكيد الهوية الاجتماعية والشعبية، وحدة عميقة بين الدولة كقاعدة للحياة القانونية والمؤسسية التي تضمن حقوق الأفراد وحرياتهم وتطمئنهم عليها، والمقاومة التي تشكل روح الوطنية السارية في الدولة والجاهزة في كل مرة تتعرض فيها للتهديد، من الداخل والخارج، إلى الانطلاق لتثبيت مباديء السيادة والاستقلال تجاه العدوان الخارجي الواقع، وتثبيت حقوق الأفراد وحرياتهم تجاه العدوان الداخلي الناجم عن جنوح بعض جماعاتها إلى مصادرتها لجعل الدولة آلة في خدمة مصالحهم الخاصة وتلبية مطامعهم.
الدمج بين الدفاع عن الوطن ضد الضغوط الخارجية، والعمل على تحريره من شياطينه الاستبدادية والطائفية والمذهبية الداخلية، وتعميم رؤية ديمقراطية تؤكد على حقوق الأفراد وحرياتهم وعلى المساواة التامة في ما بينهم ينبغي أن يكون إذن جوهر برنامج المقاومة العربية المنشودة، بقدر ما يشكل هو نفسه أساس بناء الوطنية وتجاوز النزاعات والانقسامات العصبوية في أي مكان.
باختصار، ليس من الممكن بناء دولة من دون وطنية جامعة تقف وراءها وتكون حاملة لها ومحركة لمؤسساتها وآلتها. وأصل الوطنية اليوم ليس العرق ولا اللغة ولا الثقافة ولا الإرادة المشتركة بقدر ما هو أجندة سياسية تاريخية. وعندما نقول أجندة فنحن نعني أن الأمة برنامج عمل وليست شيئا معطى، وراثة عن الأجداد، أو إفرازا لحقائق ومباديء فكرية. إنها تنشأ وتنمو وتتطور وتنضج بقدر ما تتوفر للجماعة سياسات عملية تمكنها من حل التناقضات الخارجية، أي مسألة السيادة وتأمين هامش مبادرة وطنية مستقلة والتناقضات الداخلية، الأفقية والعمودية، التي تقسمها أو تباعد بين أطرافها وتمنع من تكوين إرادة عامة جامعة لا بد منها لتحويلها إلى ذات فاعلة. ولهذا لن يكون من الممكن إعادة بناء الوطنية العربية المزعزعة من دون النجاح في الوصول إلى أجندة وطنية عربية يتحد فيها ويترابط بطريقة ديناميكية هدف انتزاع القرار الوطني من الوصاية الخارجية من جهة، وإعادة استملاك الشعب للدولة القائمة وتأهيلها وأنسنتها من جهة ثانية.
فليس من الممكن بلورة أجندة وطنية عربية مع بقاء الدولة والدول رهينة الاستراتيجيات الأجنبية أو تحت رحمتها، أو في قبضة قوى محلية منفصلة عن المجتمع وخائفة منه. وليس من الممكن أيضا بلورة أجندة وطنية من دون إحياء الوطنية الجامعة التي دمرتها المقاومات العصبوية، وإعادة بنائها على أسس العدل والحرية والمساواة والتضامن بين أعضائها، وتربية الأفراد على الاعتراف والاحترام المتبادلين وروح التعاون والتضحية ونكران الذات، لصالح الهدف الجماعي الأسمى. فهذه الوطنية هي التي تضمن تحويل الدولة إلى دولة حقيقية، دولة مواطنيها، وتسمح لها بانتزاع هامش مبادرة فعلي في إطار العمل الإقليمي والدولي، تجاه الدول والقوى المهيمنة الأخرى. وفي مثل هذه الدولة لن يبقى هناك أي تعارض بين مهام بناء السلطة كسلطة سياسية وقانونية ديمقراطية، ومهام بناء السياسة الخارجية كسياسة تأكيد للاستقلال ومقاومة التدخلات الأجنبية والحفاظ على وحدة الإرادة الوطنية وتعزيزها. وعندئذ لن تنفصل السياسة عن العقيدة ولا الجماعة عن الدولة.
وبقدر ما ننجح في تحويل الدولة إلى دولتنا، أي موطن إجماعنا ومختصر إرادتنا كجماعة نستطيع أن نتجاوز نزاعاتنا وأن نوحد انفسنا، وأن نعيد في الوقت نفسه بناء علاقاتنا الدولية أيضا، على أسس مختلفة تضمن استقلالنا وسيادتنا. فليست المقاومة كما نريدها ونفهمها في حقيقة الأمر سوى النزوع إلى السيادة الجمعية التي تخونها الدولة، الوكالة الأجنبية أو المزرعة الشخصية والعائلية. وليست الدولة المرضعة، أو البقرة الحلوب للقابضين عليها، سوى التعبير المباشر عن انفصال الدولة عن مجتمعاتها وتحولها إلى أداة لإخضاع هذه المجتمعات ونزع السيادة والكرامة والفضيلة عنها. وإذا لم ننجح في إصلاح مفهوم المقاومة ومفهوم الدولة معا، من الممكن أن لا يكون ما قام به حزب الله سوى آخر صفعة أمكن للعرب توجيهها لاسرائيل الصاعدة والمتفوقة حتى زمن طويل.
ينجم عن ذلك أنه لا ينبغي علينا، مهما وصل وضع الدولة من امتهان لصالح القوى الخارجية، ولا أقصد بها الأجنبية فحسب، أن نتخلى عن نقد الدولة، بما يعنيه هذا النقد من تأكيد أولويتها وتبيان طرق إصلاحها ووسائله، أي ضرورة إنقاذ فكرتها من الضياع والفساد. فهذا ما يعزز مكانتها باعتبارها إطار التنظيم الوحيد الذي نصبو إليه، في مقابل مشاريع التنظيم الطائفي والإتني والمذهبي الذي يفتن قطاعات واسعة من الرأي العام العربي اليوم، بسبب انهيار الايمان بشبه الدولة القائمة وقرف الجمهور منها ومن وسائل عملها القمعية.
كما ينجم عنه ضرورة تجاوز مفهوم المقاومة الذي نشأ في سياق سقوط الدولة تحت السيطرة الخارجية وانفصالها عن المجتمع وفقدانها لحقيقتها الوطنية، والذي يحصر معنى المقاومة بالمهام الموجهة نحو إزالة الهيمنة الأجنبية، مبررا أي نوع من أنواع المقاومة، مهما كانت الأسس والمباديء التي يقوم عليها، طائفية أو مذهبية أو إتنية. والواقع أن إزالة الاستبداد الذي يشكل أساس التفاهم بين النخب المحلية المغتصبة للسلطة والهيمنة الأجنبية المستفيدة منها، ينبغي أن يكون الهدف الأول لأي مقاومة وطنية. والنجاح فيه هو شرط إنقاذ مشروع الدولة المهدد وشرط تحرير إرادة الشعوب وتنظيمها لتحقيق النجاح في مقاومة الهيمنة الخارجية. ولا ينبغي أن تخدعنا المظاهر والشعارات. فتركيز النظم الاستبدادية التي تجمعهما رسالة قتل الحرية وانتهاك حقوق شعوبهما كما لا يفعل أي طرف أجنبي، على خطاب العداء للخارج والانتقام منه، لا يهدف سوى إلى حرف أنظار الرأي العام عن السيطرة الداخلية شبه الاستعمارية، والتغطية على الطابع الطائفي والعصبوي للنظم وحركات التمرد والانشقاق والتصدع المنتشرة اليوم في المجتمعات العربية. وهي لا تقصد من وراء ذلك سوى إلى قطع الطريق على بلورة أجندة وطنية لصالح تمرير أجندة السلطة التسلطية أو فرضها. فلا يمكن للنظام القائم على لجم الرأي العام وإخضاعه والسيطرة عليه بالقوة ومنعه من الحركة، أن يكون هو نفسه نظام المقاومة والصمود والعمل على استعادة حقوق الشعب في وجه الضغوط الخارجية. فليس هناك ما يدفع النخب التي تنتهك حقوق شعوبها وتتكل بهم وتحرمهم من حق المشاركة إلى أن تضحي من أجل تأكيد هذه الحقوق تجاه القوى الأجنبية. إن التركيز على العداء للأجنبي غالبا ما يهدف لدى مثل هذه الأنظمة إلى طمس حقيقة الحرب التي تشنها على مجتمعها. ولا يمكن لنظام لا يستمر إلا بتخليد الحرب الأهلية وتقسيم المجتمعات وتفتيتها وشل إرادتها أن يكون، مهما فعل، نظام مقاومة وطنية. وأفضل مثال لما تطمح إليه هذه الأنظمة وما يمكن أن تقود إليه معا هو النظام الليبي الذي انتهت به معاركه الطاحنة ضد السيطرة الأجنبية إلى التسليم الكلي لها بعد ضمان مصادقة الدول الاستعمارية على سيطرته وعائلته على مقدرات البلاد التي يحكمها بالقوة والاحتيال.
إن رفض حصر معنى المقاومة في ممانعة الخطط الأجنبية أو التصدي لها لا يعني تجاهل هذه الخطط وغض النظر عنها، أو كما يفعل بعض اليائسين، التغطية عليها، أو النظر إليها باعتبارها ثانوية، ولكن بالعكس. إنه يعني أن معركة التحرر من الهيمنة الأجنبية تمر اليوم باقتلاع جذور التسلط الداخلي الذي يقدم الشعب مكتوف اليدين، ويحرمه من فرصة الدفاع عن نفسه وحقوقه. وأن تجاهل معركة الحرية لصالح مقاومة الهيمنة الخارجية أو فصلهما الواحدة عن الأخرى يجعل المقاومة تعمل لصالح النظم الاستبدادية التي هي الضمانة الحقيقية والوحيدة لنظم السيطرة الخارجية. من هنا ليست مقاومة وطنية تلك التي ترفض أن تضع التصدي للخطط الأجنبية في إطار مشروع أشمل يهدف إلى إعادة بناء الأوضاع السياسية والقانونية على أسس الحرية ويعمل على توحيد الشعب بجميع قطاعات رأيه العام ومكوناته الدينية والأقوامية والسياسية. وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق فرض الرأي الواحد أو إلغاء الآخر أو العمل تحت شعارات مذهبية أو طائفية أو دينية. إن مقاومة وطنية بالفعل لا تقوم من دون عقيدة وطنية جامعة، سياسية، تتيح لأي فرد إمكانية الانتماء والانخراط فيها من دون تمييز، وتجعل من هذا الانتماء المفتوح على الجميع قاعدة لإعادة لحم الكسور المجتمعية. وإن مقاومة وطنية حقيقية لا تقوم من دون رؤية واضحة ومنطقية، مقبولة ومشروعة بالنسبة للقسم الأكبر من الرأي العام، لإعادة بناء علاقات السلطة ونظم الحكم والإدارة والتنظيمات الاجتماعية. باختصار، ليست وطنية تلك المقاومة التي ترفض اليوم برنامج الديمقراطية. ولا يمكن للمقاومات التي تستند على عصبيات طائفية أو مذهبية أو أقوامية أن تبني أسسا صالحة لإعادة توليد إرادة جامعة وإحياء الوطنية وبعثها، ولا لإعادة بناء الدولة وتعزيز فرص إقامة المؤسسات السياسية والقانونية التي يقبل الجميع الخضوع لها والعمل من ضمنها.

dimanche, octobre 15, 2006

الشروق الجزائرية 15 اكتوبر 06 المتطرفون الغربيون والاسلام

المتطرفون الغربيون يجرون المسلمين إلى معارك دينية

حوار ليلى لعلالي

السؤال 1 :
أثارت تصريحات بابا الفاتيكان الأخيرة حول الإسلام موجة من الاحتجاجات الشعبية و انتقادات رجال الدين والسياسة، ولكن البابا لم يعتذر كما لم تعتذر من قبل حكومة الدانمارك اثر نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول محمد "ص" . ألا تعتقد أن العرب باتوا بحاجة الآن الى عقول تفكر وتنتج للتعريف بهوية العرب والمسلمين وإيصال الحقيقية الى الآخر بالوسائل التي يفهمها ويحترمها ؟

غليون:
هذا يعني أنه لو لم يقل البابا ما قاله في محاضرته، أو لو أنه اعتذر عنه، لما كانت هناك حاجة عند العرب للتفكير والتعريف بالهوية وايصال الحقيقية إلى الآخر بالوسائل التي يفهمها؟ وهل أصل التفكير رد الإساءة؟ ولماذا نحن مهتمين إلى هذه الدرجة بالآخر وما يقوله عنا وغير مهتمين إطلاقا بواقعنا نفسه، الذي هو أسوأ بكثير مما نظن، وكذلك بما نقوله نحن عن أنفسنا. فلم أسمع عربيا واحدا منذ سنوات لا يتهم قومه بالتخلف والتفكك وانهيار المعايير الخلقية والمدنية. هل صورتنا عن أنفسنا نحن العرب والمسلمين صورة ايجابية حتى نطلب من الآخرين أن ينقلوا عنا هذه الصورة، وهل تسمح أوضاعنا على جميع المستويات، خاصة على المستوى الأخلاقي والمدني والسياسي، بأن نكون صورة ايجابية عن ذاتنا وأن يبلور الآخرون صورة ايجابية عنا؟ الواقع هو المهم إصلاحه، أقصد واقعنا. وتضخيم أخطاء الآخرين ليس سوى وسيلة للهرب من هذا الواقع والسعي للتغطية عليه وطمسه. أي الاصرار على الاستمرار في تبرير العجز عن تغيير الواقع العربي والاسلامي وإصلاحه.


السؤال 2 :
هل كانت تصريحات البابا مجرد هفوة من هفوات الغرب أم أنها كانت مقصودة ، وكيف يمكن أن يتحقق الحوار بين الشرق والغرب في ظل وجود تيارات داخل كلا الطرفين لا تريد لهذا الحوار أن ينجح من منطلقات معروفة ؟

غليون:
ما الفرق في أن تكون هفوة أو مقصودة؟ وحتى لو كانت محاولة للاستفزاز، فهل علينا أن نسير في اللعبة ونستفز وندخل في منطق الحرب الحضارية كلما أراد بعض المتطرفين الاسرائيليين وحلفائهم الغربيين إدخالنا فيها لتشديد الحصار علينا وتشديد عزلتنا العالمية؟ ما دمنا مقتنعين بأن ديننا ليس دين عنف، وهو بالفعل ليس دين عنف بأي حال، فلماذا تثير لدينا أخطاء بعض الغربيين في قراءة تراثنا، أو سعيهم إلى استدراجنا إلى معارك ايديولوجية ودينية، كل هذه الثورة وذاك الطوفان من الانفعال وردود الأفعال؟ من لديه مشروع خاص لا يخضع للاستفزازات ولكنه يعمل على تحقيقه بأي ثمن، وبصرف النظر عن رأي الآخرين وردود أفعالهم. ومشكلتنا أنه لم يعد لدينا أي مشروع تاريخي أو اجتماعي أو سياسي سوى الرد على من يتهجم علينا، مشجعين بذلك كل من لديه رغبة في الشهرة على استخدام التهجم علينا والاساءة لنا كي يحظى بدرجة من الانتشار والحظوة الدولية ما كان ليحلم بهما في أي مناسبة أخرى. ردود أفعالنا الانفعالية المتطرفة أصبحت تربة خصبة لانتاج الأفكار المعادية للعرب والمسلمين والتحرش بهم.
ثم ما علاقة كل ذلك بالحوار؟ ومن قال إن الحوار لا يستمر إلا إذا خرست الأصوات المتطرفة والاستفزازية؟ أولا، نحن لسنا في حوار مع أحد، والشعب الذي يرفض الحوار بين أطرافه لا يقبل الحوار مع الآخرين، ولا يعرف كيف يحاورهم. نحن نتحدث عن حوار، والغربيون كذلك، لكن ليس هناك أي حوار منظم ولا نقاش جدي حول أي نقطة مهمة في ملف العلاقات العربية الاسلامية الغربية. ثم إن وجود متطرفين يرفضون الحوار ليس سببا لقطعه بل العكس هو الصحيح. إنه يستدعي تعميقه لعزل المتطرفين وتجاوز المحن التي يمكن أن يجرونها على الشعوب بسبب تطرفهم وتجاهلهم للمصالح المشتركة التي يمكن أن ينمونها فيما بينهم لصالحهم جميعا.

السؤال 3 :

هناك حالة جمود فكري في الوطن العربي، تظهر من خلال غياب دور المفكر وغياب تأثيره في الساحة وفي المجتمع الذي يعيش بداخله . كيف يمكن تحرير الفكر العربي من هذا الجمود ؟

غليون:

أولا تحرير الفكر لا يتم بقرار من أحد. فإما أن ينمو فكر حر في المجتمعات أو أن الشروط والظروف الداخلية والخارجية لا تسمح بنمو فكري ويبقى الفكر جامدا. وليس هناك علاقة بين جمود الفكر ودور المفكرين في الحياة العامة. فقد يكون هناك فكر حر ومتحرر ونضالي أيضا لكن من دون أن ينعكس في دور واضح للمفكرين على مسار الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهذا أقرب إلى وصف الوضع العربي الراهن من فكرة الجمود. ضعف دور المثقفين والمفكرين في الحياة العامة العربية ناجم عن جمود النظام السياسي العربي وتحوله حلقة مغلقة على بعض المجموعات البيرقراطية العسكرية والأمنية والمافيوزية، وعزل المفكرين والرأي العام بأكمله، أكثر بكثير مما هو ثمرة لجمود الفكر العربي. السؤال متى يمكن تحرير النظام السياسي من الاستعمار البيرقراطي والزبوني المدمر حتى يمكن إطلاق عملية المشاركة السياسية الواسعة التي تضم المفكرين وغيرهم من المواطنين، كما تفتح النقاش الوطني الحقيقي والعقلاني حول جميع المسائل التي لا يزال من الممنوع الحديث الجدي والعقلاني فيها، أو التي تحول الحديث فيها إلى كليشيهات جامدة ووصفات مبسطة تعكس الفراغ الفكري والسياسي للطغم الحاكمة والأجهزة الأمنية التي تعتمد عليها وتخضع لمنطق عملها في الوقت نفسه.
السؤال 4 :

تكتب كثيرا عن الديمقراطية المفقودة في الدول العربية وخاصة في بلدك سوريا .
كيف يمكن أن تتحقق هذه الديمقراطية إذا كان هناك عجز عن تغيير الأنظمة الاستبدادية، وإذا كان مشروع الإصلاح الأمريكي قد أعطانا نموذج العراق؟

غليون:
من قال إن العمل النظري والسياسي من أجل الديمقراطية لايكون مشروعا إلا إذا تغيرت الأنظمة الاستبدادية أو كانت هناك قوى قادرة على تغييرها؟ وما علاقة المعركة العربية من أجل الديمقراطية التي يخوضها ملايين المثقفين والسياسيين والمواطنين العرب، ويضحون بسنوات طويلة من عمرهم في السجون، وأحيانا يفقدون فيها حياتهم تحت التعذيب أو بالقتل والاغتيال والاختطاف، بمشروع الاصلاح الأمريكي الذي أعطانا الوضع العراقي نموذجا عنه؟ وكيف تسمحين لنفسك بتقويض شرعية الكفاح الديمقراطي في العالم العربي، الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من معركة إنسانية تضم كل المجتمعات، من أجل انعتاق الشعوب وفرض احترام إرادتها على الحكام الطغاة والظالمين، وتأكيد حقها في المشاركة في تقرير المصير العام، وضمان حقوق الانسان والحد من الانتهاكات الصارخة لها، بالربط التعسفي بين هذا الكفاح الانساني العظيم واستراتيجيات السيطرة الاستعمار الأمريكية أو الغربية التي تطلق شعارات فارغة لخداع الرأي العام وايقاع التشويش في الوعي العربي والاسلامي؟ ألا يعبر سؤالك عن نجاح الولايات المتحدة في تحقيق هذا الهدف حتى عند النخبة العربية بجعل نفسها وصيا على الديمقراطية وجعل الديمقراطية لا شرعية لأنها مرتبطة بالمشاريع الأمريكية، بينما يصبح الطغيان، الذي هو البضاعة السياسية الوحيدة التي سوقها الغرب والولايات المتحدة في بلادنا خلال أكثر من ستين عاما حسب تصريح الرئيس الأمريكي جورج بوش نفسه، هو الحكم الوطني أو نموذج الحكم الوطني وبالتالي الشرعي الوحيد أيضا؟
الكفاح من أجل الديمقراطية في البلاد العربية والاسلامية هو التعبير عن طموح العرب إلى الحداثة والحضارة والتقدم السياسي والفكري والأخلاقي، كباقي الشعوب والمجتمعات الأخرى، وليس له علاقة بمشروع الاصلاح الأمريكي المذكور. وهو كفاح مستمر منذ عقود، وتعبر عنه انتفاضات وثورات لم تتوقف لم يكن الأمريكان حلفاؤها ولكن العكس تماما. ثم إن ما تسميه بمشروع الاصلاح الأمريكي ليس سوى فقاعة أطلقت للفت الانظار وتبرير احتلال العراق والتغطية عليه، لم تلبث حتى انفجرت وتبين فراغ مضمونها اليوم. وقد كفت واشنطن عن الحديث في الاصلاح وعن الضغط على النظم العربية التي دعتها من قبل لتطبيق الاصلاح. اليوم لا أحد يتحدث عن شيء آخر، لا في سورية ولا غيرها، سوى عن الحرب ضد الارهاب الذي يريد الأمريكيون والحكام العرب إقامة تحالفهم الجديد على قاعدتها. والحكومات التي ترددت لفترة في القبول بإقامة تحالف جديد مع واشنطن على هذه القاعدة بسبب خوفها على المساس في هذا السياق ببعض أدوات عملها الإقليمي، تراجعت عن ترددها السابق، ولا تطلب شيئا آخر سوى قبولها في هذا التحالف وتطمينها على وجودها بعد ما حصل من توتر خطير في علاقاتها مع واشنطن بسبب المساومة على ثمن الدخول في هذا التحالف ودورها فيه.

السؤال 5 :
يعرف عن الأستاذ غليون انتقاده المستمر للنظام السوري بسبب سياسة التضييق التي يمارسها على حرية الرأي والفكر .هل ما زلت على موقفك، ولماذا تلوم النظام مادامت قوى التغيير ومن بينها النخبة والأحزاب السياسية تفشل في تحقيق التغيير وفي طرح البدائل ؟

غليون:
يبدو أن علي أن أكرر هنا إجابتي عن سؤال سابق. فمن قال أن عجز قوى التغيير عن التغيير يضفي الشرعية على النظام القائم ويفرض التشريع لنظام القهر والاضطهاد والطغيان؟ هل ينبغي للمثقف العربي أن يتبنى موقف الوقوف مع القائم والمنتصر مهما كان؟ هل هذه سياسة أو عقيدة أو أخلاق يمكن نشرها وتعميمها على الشبيبة العربية أو العالمية؟ نظام الطغيان يظل كارثة وينبغي أن يدان حتى لو انتصر على القوى المناهضة له. ولا يقدم له هذا النصر أي شرعية جديدة أو تبرير. إنه مدان لأنه يسيء إلى المجتمع بأكمله ويقوض الأسس والمباديء التي يقوم عليها ويشكل مصدرا للبؤس والقلق والعذاب للأفراد، بقدر ما ينكر حقوقهم ويستبيح حرماتهم ويهددهم في وجودهم. والتفكير بغير ذلك ليس شيئا آخر سوى انتهازية سياسية وضلوع مع الطغيان. هذا ينطبق على النظام السوري وعلى أي نظام آخر يسلك سلوكه في العالم أجمع.

السؤال 6 :
هناك من يعتبر أن النظام السوري خرج منتصرا من العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان . هل توافق على هذا الرأي ، وهل تعتقد أن هذا النظام يمكنه أن يفلت من القبضة الأمريكية والغربية لو مال الى التحالف المصري ـ السعودي بدل تحالفه الحالي مع إيران وحزب الله .

غليون:
ولنفرض أنه خرج منتصرا، ما الذي يقدمه هذا النصر للشعب السوري وللبنان ولشعوب المشرق والمنطقة عموما؟ هل تعزيز الطغيان من أجل التوصل إلى اتفاق أفضل مع واشنطن، يقوم على قبول الإدارة الامريكية الحمقاء بالتعامل مع الطغيان في المنطقة كما كان في السابق، هو أمر يستحق الابتهاج؟ وهل سيصبح النظام السوري في حالة اتفاقه مع واشنطن على أسس تكريس وجوده كما هو، أكثر احتراما لحقوق مواطنيه والمواطنين اللبنانيين وأكثر إصرارا على المطالبة بالجولان المحتل؟ لماذا لم يفعل ذلك عندما كان في غاية التوافق مع واشنطن في بداية حكم الرئيس الجديد لدرجة أصبح فيه التعاون بين أجهزة الامن السورية والمخابرات المركزية الأمريكية، تعاونا علنيا واستراتيجيا حسب تصريحات المعنيين أنفسهم؟ هل لدى النظام السوري مشروع وطني فعلا يريد من سياسته الراهنة الدفاع عنه وتعظيم فرص تحقيقه؟ أم أنه يدافع عن نمط للسيطرة أكثر تخلفا من نظم القرون الوسطى، وما هو هذا البرنامج الوطني أو الاجتماعي أو الثقافي الذي لم يسمع به أحد بينما لا يزال النظام في الحكم منذ 43 عاما؟ لماذا تريدون من الشعوب أن تظل تركض وراء أوهام فارغة من أي معنى بدل ايقاظها على واقعها وتشجيعها على المشاركة والفعل؟
ثم ما قيمة أن يفلت النظام أو لا يفلت من القبضة الأمريكية بالنسبة للمهام الكبرى المطروحة على شعوب تقف أمام تحديات ومخاطر لا حدود لها، وتعيش في ظروف قد تقود إلى انفجارها وتمزقها، كما هو حاصل في العراق وفي فلسطين وفي لبنان وغيرها؟ هل ستبقى محاور النقاش السياسي العربي، وتساؤلات وأسئلة الصحافة متمحورة حول مستقبل علاقات هذا النظام أو ذاك بواشنطن ولندن وباريس، ونزاعه او اتفاقه معها، أم ينبغي الكشف عن واقع الشعوب ودورها ومكانتها ومصيرها ومستقبلها وقدراتها على إعادة بناء نفسها وتجنب الحروب الأهلية أو الخروج منها؟
حقق النظام السوري نصرا في لبنان بالتاكيد، لكنه نصر فارغ وملغوم ستكون عواقبه قاسية على سورية وعلى لبنان بقدر ما سيدفع النظام السوري الذي يعيش في منطق الحصار إلى اتخاذ مواقف خاطئة كالسابق، تحمل مخاطر أكبر على سورية ومصالحها الإقليمية والدولية. وبدل أن يفلت من القبضة الأمريكية كما تقولين، فهو يسير في خط يدفع الامريكيين إلى الاعتقاد بأن ضرب سورية قد يكون الهدف العملياتي الأفضل في إطار مواجهة القوة الايرانية وتحالفها مع حزب الله. وهما قوتان أصعب منالا بكثير من دمشق.
السؤال 7 : هل ربح لبنان أم خسر في العدوان الأخير ، وما هو موقفك من القوات الدولية التي نشرت في لبنان وما هو دورها بالتحديد ؟

غليون:
الجواب نفسه عن سورية. العبرة في المدى الأطول وليس في الساعة ذاتها. لبنان ربح بصده عدوانا أمريكيا إسرائيليا غاشما. لكن إذا كان هذا النصر سيقود إلى تفجير الوضع اللبناني والعودة إلى حرب أهلية، يكون النصر ملغوما، حتى لو أنه مرغ أنف القوات الاسرائيلية بالوحل. والقوات الدولية ليست حلا، بل إن وجودها هو التعبير عن غياب الحل. القوات الدولية لا تمنع انفجار الوضع الداخلي ا للبناني الذي هو اليوم الشاغل الاول للبنانيين وللعرب أيضا. فدورها الرئيسي هو بالضبط حماية إسرائيل وتقييد حركة حزب الله على طريق تجريده من سلاحه بوسائل لبنانية. وهذا أيضا يظهر المفارقة التي يتسم بها هذا النصر والنصر السوري الذي نجم عنه. الأمور لا تطرح بمعيار الحاضر الفوري، ولا تطرح أيضا على مستوى اللعبة أو المناورة الاستراتيجية الصغيرة، وإنما بمعايير التحولات التي يمكن أن تقود إليها وفي حساب المناورة الاستراتيجية العامة التي تستهدف المنطقة المشرقية برمتها. وهنا نستطيع أن نقول إن العرب اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والعراقيين وغيرهم لم ينجحوا في تجميع عناصر استراتيجية أكثر للدفاع عن استقلالهم وحرية أوطانهم ومواطنيهم وضمان حقوقهم، ولكنهم مستمرين في الانغماس في أزمة عميقة تعصف بهم، ولا يملكون إزاءها سوى ردود الأفعال المتضاربة، والتنازع فيما بينهم لرد الخطر عنهم في اتجاه الجار العربي، كما هو واضح من النزاع السوري اللبناني الذي أشعلته بشكل أكبر نتائج الحرب الاسرائيلية الاخيرة.
السؤال 8 :
هناك هواجس عربية من مساعي إيران للنفوذ والسيطرة على منطقة الشرق الأوسط. هل تعتقدون أن هذه الهواجس مشروعة ؟ و ماهي قراءتكم لدور إيران في المنطقة ؟

غليون:
نعم هي هواجس مشروعة، وبشكل خاص بعد استلام تيار أحمدي نجاد المتعصب مذهبيا للسلطة في طهران. فايران نجاد، من وراء التعصب الديني الذي تظهره، تسير في اتجاه تعزيز استراتيجية قومية ايرانية محض، جوهرها تمكين ايران من الحصول على السلاح النووي الذي يجعلها الطرف الأقوى في الشرق الأوسط والمحاور الوحيد للغرب وشريكه على حساب مواقع الدول العربية الأخرى ونفوذها. الشرق الأوسط الجديد الذي تحلم به ايران هو شرق أوسط يقوم على التفاهم بين طهران والغرب على اقتسام مناطق النفوذ في المشرق العربي، السياسية والاقتصادية والمذهبية والايديولوجية، ومن وراء ذلك تكريس تهميش الشعوب العربية واستبعادها لصالح نظم تابعة مسيرة من الخارج، كما كان لبنان مسيرا من الخارج لصالح تفاهم ضمني سوري أمريكي فرنسي قبل أن تنهار أسس هذا التفاهم عام 2003.
السؤال 9 :
العدوان الإسرائيلي على لبنان عزز الانقسام الموجود في المنطقة العربية ، بل أنه عمق الخلافات العربية ـ العربية . ما هي رؤيتك أستاذ غليون لمستقبل البيت العربي في ضوء هذا التشرذم ؟

غليون:
الوضع العربي مأساوي بكل المعايير. وما هو أكثر مأساوية فيه ليس الانقسام بين الحكام والنظم والفئات الحاكمة فحسب، ولكن أكثر من ذلك انعدام الثقة التام في ما بينها، ومزاودتها بعضها على البعض الآخر في التراجع والتنازل، لكسب ثقة الأمريكيين المتصدين لمشروع إعادة هيكلة المنطقة والحصول على ضمانات للحفاظ على النظام من قبلهم. وهذا يعني أننا، بالرغم مما نشهده اليوم من كوارث في فلسطين والعراق ولبنان، لسنا في نهاية النفق ولكن ربما في بدايته.