mercredi, février 27, 2008

في جذور الثقافة السلبية

الاتحاد 27 فيفرييه 08

ا1- اللحظة الاستعمارية
كما أن من الصعب فهم الوضع الذي وصلت إليه المجتمعات العربية من دون اعتبار الشروط الجيوسياسية والعوامل الخارجية التي جعلت من منطقة الشرق الأوسط مركز نزاعات دولية استراتيجية، وشلت حركة أبنائه عن بناء حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية بصورة طبيعية، من الصعب أيضا فهم التخبط الذي تعيشه هذه المجتمعات وعجزها عن التحرر والانعتاق السياسي، أي عن التحكم بشرط وجودها التاريخي، من دون اعتبار طبيعة الثقافة السياسية التي تسيطر عليها، وتوجه عقول أبنائها وقلوبها.
وليس المقصود بهذه الثقافة ثقافة العرب أو المسلمين الكلاسيكية، أي ما بقي حيا من التراث العربي المدني والديني، وإنما تلك الاختيارات والتوجهات والاستعدادات الذهنية الجديدة التي نمت وتطورت وترسخت خلال القرن الماضي، وتحولت إلى ثقافة رئيسية، تطبع تفكيرنا وسلوكنا وتوجه أفعالنا الفردية والجمعية، وتشكل أساس هويتنا. وهي نمط من الثقافة السلبية والسالبة التي تعززت في المواجهة مع العدوان الخارجي - وفي مرحلة لاحقة مع العدوان الداخلي الذي تمثله النظم الاستبدادية الداخلية. وبصرف النظر عما حققته من نتائج في مواجهة الاستعمار، رسخت هذه الثقافة قيما وأنماطا من التفكير والنظر تنحو إلى توجيه التفكير نحو استيعاب المخاطر الخارجية وإحباطها، أكثر مما تعمل على تنمية النظر إلى النفس والتأمل في نقائص الذات والعمل على إصلاحها وبناء الحياة الجمعية المنظمة والأخلاقية. ومن مقدمة تلك المواجهات وما آلت إليه الموقف الذي يسيطر على رؤيتنا للغرب وطرق الكفاح ضد سيطرته والتعامل معه.
وضعت التجربة الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر العرب أمام معضلة مواجهة القوة الضاربة للعسكرية الأوروبية التي كانت تجهلها من قبل. وقد زاد من الشعور بخيانة الغرب مبادئه وتعاليمه اتسام ثقافة النخبة العربية التي كانت سائدة في ذلك الوقت بالقيم الليبرالية وتمثلها العميق لها أحيانا، مما جعلها تعتقد وتتصرف على أساس أنها ند لأخواتها الغربيات وشريكة لها في بناء عالم الحداثة والديمقراطية والازدهار الاقتصادي.
لكن مواجهة الاستعمار وضعت العرب في وضعية جديدة. فقد كان من الطبيعي والمنتظر أن يكفوا عن أن ينظروا إلى أنفسهم كشركاء للغرب في الحضارة وحلفاء له في الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية في وجه الامبرطوريات المحافظة، كما حصل خلال مرحلة النهضة الثقافية في القرن التاسع عشر، وأن ينظروا بالعكس إلى الدول الغربية كخصم أو عدو ينبغي مقاومته واتقاء شره. وعلى هذه الأرضية سوف تولد منذ العقود الأولى للقرن العشرين حركات الاسلام السياسي المحذرة من الغرب والداعية إلى الفصل بين الأخذ بالمدنية أو الحداثة والتحالف مع الدول الغربية أو الخضوع لها، كما ستولد الحركات اليسارية أو الشيوعية العربية المعادية أيضا للغرب بوصفه مركز الاستعمار والامبريالية. وإلى هذه الحقبة يرجع شك العرب بالغرب وبنواياه الحقيقية والتشكيك الأول بالحداثة ذات المصدر الغربي، نفسها، وخلطها البسيط أحيانا بثقافة الغرب وخياراته.
وقد جاءت المسألة الاسرائيلية لتمدد في عمر هذه اللحظة الاستعمارية وتزيد في تعميق الشرخ الذي أحدثته في ثقافتنا السياسية. لقد كان تبني الغرب مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ثم الاعتراف بإسرائيل دولة مستقلة على أرض فلسطين أو على جزء منها، ضد آمال الفلسطينيين والشعوب العربية جميعا، ثم تزويدها بالوسائل والأسلحة التي تمكنها من فرض سيطرتها بالقوة على العرب والانتصار عليهم في حروب عديدة متوالية، وأخيرا تهرب الدول الغربية من مسؤولياتها تجاه الفلسطينيين وإزاء ما نجم عن إنشاء إسرائيل ودعم مشاريع توسعها العسكرية من نزوح للفلسطينيين وتفاقم محنتهم الانسانية والوطنية، ومن الحروب الدورية العربية الاسرائيلية، والاستيطان والعنف، كان كل ذلك سببا في إحداث شرخ لا يرمم بين العرب والغرب. وقد تجاوز هذا الشرخ اليوم حلبة النزاع السياسي والعسكري ليدخل مجال الثقافة والدين والأخلاق، ويؤسس لما أصبح يسمى بالحرب الحضارية أو الثقافية. لم يعد المطلوب مقاومة الغرب أو سيطرته الاستعمارية بسلاحه، أي بسلاح الوطنية والدولة القومية والمقاومة المسلحة والسياسية لتأكيد الحرية والاستقلال. أصبح من الضروري التبرؤ من التحالف معه ومن نمط تنظيمه المدني والسياسي وازدواجية المعايير التي تميز أخلاق ساسته وأهله. وهكذا سيقود إخفاق المقاومة الوطنية للتوسع الاسرائيلي إلى نشوء "المقاومة" الاسلامية بكل ما يعنيه ذلك أيضا من إعادة أسلمة النظم المدنية والسياسية العربية والتحرر كليا إذا أمكن مما تركته الحقب السابقة من آثار للغرب في الحياة العامة والعمومية. لم تعد المقاومة تعني هنا في الواقع سوى القطيعة مع الغرب بكل ما يعنيه ويعبر عن هويته، أي الانسحاب ببساطة من العالم الذي يسيطر هذا الغرب عليه وعلى توجهاتها الرئيسية.
تشير هذه اللحظة الاستعمارية وما تلاها من مناورات وصراعات عنيفة إلى بعض الشروط التي قادت إلى بلورة الاتجاهات السلبية البعيدة المدى التي سوف تسم موقف الرأي العام العربي من الغرب ومن ورائه من العالم الحديث بأكمله، وتعكس النتائج السلبية التي أدت إليها. ولعل الاتجاه الأكثر تعبيرا عنها هو الانقلاب الذي طرأ على الموقف الايجابي الذي ولد في منتصف القرن التاسع عشر، عند المثقفين والنخب الاجتماعية، من العالم ومن الحداثة المكتشفة. فبعد التماهي مع ايديولوجيات التقدم الغربية والسعي إلى تمثلها ونقلها إلى الثقافة العربية بكل السبل، ساد موقف سلبي لم يلبث حتى تحول إلى موقف العداء للحداثة نفسها بوصفها هوية الغرب وجزءا من تراثه.
أما في ما يتعلق بالنتائج السلبية لهذه التجربة المرة، فتتجسد، في المشرق العربي بشكل خاص، في ما أدت إليه من دفع النخب العربية إلى خيانة مبادئها هي نفسها. ففي السعي إلى بناء رد فعال على هذه السيطرة الاستعمارية، لم يكن امام هذه النخب سوى المراهنة على تشكيل وطنيات محلية تعتمد عليها ضمن حدود الدول القائمة لخوض معركتها الخاصة، مبتعدة بذلك بشكل متزايد عن الفكرة العربية التي أسست عليها شرعية استقلالها عن السلطنة العثمانية وتكوينها مشروع دولة عربية مستقلة عن الخلافة والدين. وكان هذا أول انشقاق يحصل في الضمير السياسي العربي، ويدخل التشوش والنزاع داخل مفهوم الأمة وتصورها، مما لا يزال مستمرا حتى اليوم، بين الانتماء القومي العربي والانتماء الوطني المحلي. ومما فاقم من أزمة المفهوم والضمير القوميين معا هو استناد هذا المشروع القومي منذ البداية إلى التحالف مع الدول الغربية. وهو ما لم توفر استغلاله في ما بعد الحركات الاسلامية أثناء انتقامها من سيطرة الأفكار القومية الحديثة على الرأي العام.
ولعل هذا يفسر إلى حد كبير لماذا لم يكن بمقدور الحقبة الاستقلالية ولا الكفاح ضد السيطرة الغربية أن يسفرا، كما كنا نتوقع ونسعى، عن قيام دولة العرب القومية ولا عن بناء دولة أمة، عربية كانت أم قطرية، بقدر ما أدى إلى تخبط الرأي العام العربي وتنامي نزاعاته الداخلية إزاء تحديد مفهوم الأمة ومفهوم الدولة نفسها، ومفهوم الهوية والقومية. مما ترك مؤسساتنا السياسية مفتقرة لأي مبدأ محرك واضح أو رؤية متسقة سياسية وأخلاقية.

vendredi, février 15, 2008

في مخاطر الاستهتار بحق المعارضة وهدر القانون

الجزيرة نت فيفرييه 08
الحياة السياسية في العديد من البلاد العربية مأساة حقيقية، يخاطر فيها المرء بدفع سنوات طويلة من عمره في السجون والمعتقلات لممارسة نشاطات لا تتجاوز التعبير السلمي عن الرأي أو المشاركة في ندوة أو اجتماع غالبا ما يحصل داخل أسوار قاعات الاستقبال الشخصية، بينما يحتل الحزب الحاكم وأجهزته دوائر الدولة من القمة إلى القاعدة ويسيطر، بترتيبات شبه قانونية أو قانونية مزيفة، على جميع المؤسسات الأهلية النقابية وغير النقابية، ولا يترك مساحة داخل أجهزة الإعلام الرسمية والخاصة حتى للتعبير عن اختلاف وجهات النظر داخل صفوف الحزب أو الإئتلاف الحاكم نفسه.
يعتقد الكثير من المسؤولين أن قهر حركات المعارضة وأعضائها لا يؤثر كثيرا على حياة البلاد ما دام الأمر لا يتعلق إلا بمجموعة قليلة من الأفراد الذين يرفضون الانصياع للأمر الواقع، ويصرون على الاشتغال في قضايا، أدرك الجمهور الواسع أن لا أمل في الاشتغال بها، ولم يعد لممارستها، والمقصود هنا بالتأكيد السياسة، أي قاعدة شرعية. و ربما اعتقد بعضهم أن هذا القهر، بأي ذريعة جاء، يصب في النهاية في مصلحة المجتمع بقدر ما يجنب البلاد مشاكل التنازع السياسي والتنافس على السلطة، ويضمن مناخا هادئا لجذب الاستثمارات والعناية بالتنمية الاقتصادية. فهو ثمن بخس لكسب المزيد من سنوات الاستقرار وضمان التحكم بمستقبل البلاد ومصيرها بعيدا عن تيارات التوتر الداخلية والنفوذ الخارجية.
لكن الواقع غير ذلك تماما. وبصرف النظر عما تمثله هذه السياسة من اعتداء على حقوق الأفراد الشخصية - فنحن نفترض أنهم مناضلون يعرفون منذ انخراطهم في عملهم أنهم اختاروا طريق التضحية ونكران الذات - من الواضح اليوم أن هذه السياسة أصبحت تدفع بالدول بشكل أكبر إلى الوقوع في المخاطر التي تسعى إلى تجنبها بالضبط، أي إلى الاحباط والتوتر والانقسام في الداخل، وانهيار الثقة الخارجية بمستقبل واضح ومستقر للبلاد. فهي تظهر أكثر فأكثر للرأي العام، العربي والعالمي، الطبيعة الاحتكارية والانفرادية للسلطة القائمة، وطلاقها الكامل، في سبيل تأكيد نفسها وفرض احترامها على مجتمعها، مع المباديء المدنية والسياسية الرئيسية التي لا تقوم من دونها حياة مدنية ولا سياسية في أي مجتمع معاصر. أعني مبدأ الشرعية واحترام الحريات الفردية والمساواة القانونية والمشاركة السياسية لجميع الأفراد. ولعل أخطر ما تشير إليه هو أن السلطة لا تقوم في هذه البلاد على مبدأ ولا نظام، وإنما هي سلطة تعسفية واعتباطية، يتصرف فيها القابض على زمام الأمر أو يستطيع أن يتصرف ويبيح لنفسه أن يفعل ما يشاء بمن يشاء وأينما شاء. فهي تعطي للعالم صورة عن مجتمعات بدائية لا تخضع في سلوكها لقانون آخر سوى قانون الغلبة والاستئثار. وهي تعيد تربية مجتمعاتها بالفعل على حسب قاعدة الغلبة والاستئثار التي تتحول إلى قانون مستبطن ومتمثل من قبل جميع الأفراد والفئات.
والحال أن منطلق تكوين الأمم والدول والشعوب هو تأكيد قانون الحق مقابل حكم القوة. ذلك أنه من دون حق يعلو على القوة ليس هناك أمل في بناء أي علاقات ايجابية ومثمرة بين الأفراد. وهذا هو الذي ميز منذ البداية مجتمع الإنسان عن مجتمع الحيوان، وجعله منتجا لثقافة وحضارة ومدنية. ولم تنشأ الدولة في العصر الحديث وتستقطب ولاء الناس وتتحول إلى مركز رابطة سياسية، أي أمة، بديلا عن السلطنة وحكم العصبية الطبيعية أو قوة الاستيلاء، إلا بقدر ما أصبح مفهومها متطابقا مع مفهوم الحق أو قانون الحق، وتكريس سلطة القانون وضمان ممارسة هذه السلطة بما يعزز كل يوم بشكل أكبر مفهوم الحق والعدل والانصاف والمساواة، ويحد من إقامة العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الواحد على قاعدة القوة والغلبة الطبيعية، أي الحيوانية.
هذا هو الذي يفرق في الواقع بين الحضارة والبربرية، أي بين العنف الذي تمارسه سلطة سياسية شرعية، باسم القانون وتطبيقا له بالفعل، والذي يشكل أساس المدنية والسلام والاستقرار الاجتماعيين، بقدر ما يلغي الحاجة إلى استخدام الخواص للقوة، والعنف الذي تمارسه ميليشيات خاصة كانت تخضع في القرون الوسطى للاقطاعيين وتمكنهم من فرض الخضوع وعمل السخرة على الفلاحين الأقنان، وتمارسه اليوم الميليشيات المتنافسة على السلطة والموارد في البلاد العديدة التي انهارت فيها الدولة وأصبحت نهبا لأصحاب المشاريع الشخصية والخاصة من هواة الحرب والقتال. وهو الذي يفرق بين السلطة القائمة على مؤسسات تعمل بموضوعية وثبات، والسلطة الشخصية المستندة إلى إرادة الحاكم الفرد وتفضيلاته وأهوائه ومشاعره الذاتية. فبدل أن يكون الحاكم أو صاحب السلطة والمسؤولية خادما للدولة وأداة في يدها لتحقيق مطالب العدل القائم على تطبيق قواعد قانونية متساوية وموضوعية، أي لا تتبدل حسب وضع الشخص وأصله، تتحول الدولة ومؤسساتها من إدارة وشرطة وجيش وحكومة وبرلمان وقضاء إلى أدوات في خدمة إرادة شخصية تنزع بطبيعة سلطتها المطلقة إلى تبني سياسة العظمة والسمعة الذاتية، وتقود حتما إلى الاستبداد.
يهدف هدر معنى القانون والحق وإقامة العلاقات الاجتماعية على منطق العنف والقوة في البلاد العربية وغيرها إلى الحؤول دون ظهور أي قوى واعية ومنظمة بديلة، وتحطيم أي قوى ناشئة مهما كانت جنينية. والنتيجة تعقيم المجتمع ومنعه من توليد أي نخب سياسية يمكن أن تشكل تحديا في يوم ما للنخبة الحاكمة. وهذا ما تشهده مجتمعاتنا العربية تماما. فعلى مدى نصف قرن، لم تكف آلة التعقيم عن تصفية أي نواة نخب سياسية جديدة نشأت في سياق تفاقم الأزمات والتناقضات الداخلية أو تبدل السياقات الخارجية. وقد طورت لتحقيق ذلك ترسانة هائلة من الدعاية الايديولوجية والتلاعب بالتمايزات الدينية والقومية، وتأبيد القوانين الاستثنائية والأحكام العرفية والحكم بالطرق العسكرية والأمنية والإدارية، التي لا تقيدها فيها قوانين، ولا تلزمها دساتير، ولا تضطرها لإخضاع عملها لأي قواعد مرعية ثابتة سوى إرادة الحاكم وحاجة السلطة لتأكيد قوتها وإبراز عظمتها أو تلقين من يطمح إلى معاداتها أو حتى تجاهلها درسا في القسوة والانتقام. هكذا أصبحت حالة الطواريء هي الحالة العادية وصارت العودة إلى الحالة الطبيعية التي يسود فيها القانون وتحترم فيها حقوق الأفراد مشروع ثورة سياسية حقيقية.
يضمن غياب القانون للحاكم أن يقضي على خصومه من دون أن يتحمل أي مسؤولية، وأن يحرم المجتمع من إمكانية توليد نخب بديلة سياسية، وأن يلقن الأفراد الذين يرفضون الخضوع للأمر الواقع درسا لا ينسى في ضرورة الإذعان والانصياع لحكم القوة. ويحلم بسبب ذلك بأن يبقى على سدة السلطة من دون رقيب، وأن لا يكون لحكمه حدا زمنيا واضحا ولا معقولا، أي بأن يتحول حكمه إلى قضاء وقدر. وهو غالبا ما ينجح في ذلك، لكن مقابل تكليف المجتمع ثمنا باهظا قد لا ينجح في تحمله. فالنتيجة الطبيعية لمثل هذا الحكم وتلك الإدارة هي خراب البلدان وجعل شروط الحياة الإنسانية والمدنية الطبيعية مستحيلة في البلاد. فأول ما يتأثر بغياب القانون والحق هو الاستثمار، عند الأفراد والجماعات معا، ليس بالمعنى الشائع والضيق اليوم لاستثمار رؤوس الأموال ولكن، أكثر من ذلك بكثير، بمعنى الاستعداد للانخراط الايجابي في العالم، مما لا غنى عنه لحث الأفراد على بذل الجهد وشحذ الإرادة والإجادة والإبداع.
والحال، لا تجد النخب المتكونة والمحرومة من فرص تحقيق ذاتها والمشاركة في تقرير مصيرها، في مجتمعات يغيب عنها منطق الحق وحكم القانون، سوى الرحيل نحو فضاءات أرحب تستطيع أن تثمر مواهبها فيها بشكل أفضل، أو الانخراط في سياسة المواجهة الانتحارية القاتلة. بينما تصبح الاستقالة الوطنية والإنسانية هي القاسم المشترك للنخب المندمجة في النظام والطامحة إلى الاندراج في مشروع سلطة يكاد ينحط إلى مستوى المؤامرة على مصير شعب والتعاون على سلبه سيادته وحقوقه وموارده. وهكذا بينما تتجمع مواهب المجتمع وصفوة أعضائه الأكثر استعدادا لبذل الجهد والتضحية في الخارج، تفرض شروط الإذعان والانصياع على النخب الباقية التقزيم الذاتي، السياسي والفكري والأخلاقي، بل التجرد من القيم الوطنية والإنسانية معا، وتحل المنافسة بين أفرادها على احتلال مواقع الحظوة عند الحاكمين محل المنافسة على حمل المسؤوليات العمومية والنجاح فيها، ويسود التصفيق والتسبيح بحمد الحاكم وتمجيده محل الاجتهاد والجد في تكوين الكفاءات وتحسين الخبرات والمهارات.
ليس من الصعب أن يتحول الحاكم في مثل هذا النظام القائم على قاعدة الالحاق الشخصي والاستتباع والانصياع، إلى ملك إله، ويترسخ عنده الاعتقاد بامتلاك رسالة كونية أو شبه كونية انتدب لتحقيقها، سواء أرادت الغالبية من المجتمع ذلك أم لا. وهو ما يفسر عودة نظمنا إلى تقاليد وممارسات العهود البائدة التي اعتقدنا أنها ذهبت إلى الأبد، أعني عهود السلاطين الذين يتصرفون ببلادهم وعبادهم كما لو كانوا أتباعا لهم، ولا يطلبون من رعاياهم مشاركة ولا مشورة سوى الدعاء لهم في المساجد والجامعات، والتسبيح بحمدهم ومديح أفعالهم وأقوالهم في وسائل الإعلام. وهم يرون في هؤلاء الرعايا عبئا عليهم، ولا يشعرون تجاههم بأي واجب أو التزام، بل يتوجب على هؤلاء في نظرهم تقديم فروض الطاعة اليومية والتعبير عن تبجيلهم وامتنانهم للحاكمين لتوفيرهم شروط إبقائهم على قيد الحياة. وينعكس تأليه الحكام وتقديسهم تلقائيا ومباشرة في تبخيس قيمة الأفراد أمام أنفسهم، وتحويلهم بل تحولهم الطوعي إلى عبيد وأرقاء وأقنان. فهم يشعرون حقا بعد فترة من الزمن بأنهم مدينون بوجودهم وحياتهم وأمنهم واستقرارهم وحلهم وترحالهم لصاحب أمرهم، الذي هو في الوقت نفسه ولي نعمتهم ومربيهم ومعلمهم. هو وحده الذي يستحق الشكر والعبادة، وهم جميعا، من أعلى الهرم إلى أسفله، عيال لا عقل ولا إرادة لهم، ولا صلاح لأمرهم إلا برضى سيدهم وكرمه وغفرانه.
غياب القانون بمعنى وجود مفهوم للحق واحترام الحقوق، هو جوهر نظام العرب السياسي الراهن، وهو القاعدة التي يقوم عليها استمرار السلطة الراهنة وتجديد النظام. وكما يفسر الخراب العام الذي تعيشه البلاد في جميع ميادين النشاط الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي والفكري، وتنامي مشاعر الاحباط والبؤس وانعدام الثقة والمسؤولية معا عند الغالبية العظمى من فئات المجتمع وأفراده، يفسر أيضا استقطاب المجتمع بين أباطرة مؤلهين، من ذوي السلطة والمال والجاه، الذين يفعلون ما يريدون، ويأمرون، ولا يسألون عما يفعلون، وعبيد محرومين، لا يملكون مالا ولا سلطة ولا عطفا ولا جاها، لا قيمة لهم ولا احترام.

في مخاطر الاستهتار بحق المعارضة وهدر القانون

الجزيرة نت فيفرييه 08
الحياة السياسية في العديد من البلاد العربية مأساة حقيقية، يخاطر فيها المرء بدفع سنوات طويلة من عمره في السجون والمعتقلات لممارسة نشاطات لا تتجاوز التعبير السلمي عن الرأي أو المشاركة في ندوة أو اجتماع غالبا ما يحصل داخل أسوار قاعات الاستقبال الشخصية، بينما يحتل الحزب الحاكم وأجهزته دوائر الدولة من القمة إلى القاعدة ويسيطر، بترتيبات شبه قانونية أو قانونية مزيفة، على جميع المؤسسات الأهلية النقابية وغير النقابية، ولا يترك مساحة داخل أجهزة الإعلام الرسمية والخاصة حتى للتعبير عن اختلاف وجهات النظر داخل صفوف الحزب أو الإئتلاف الحاكم نفسه.
يعتقد الكثير من المسؤولين أن قهر حركات المعارضة وأعضائها لا يؤثر كثيرا على حياة البلاد ما دام الأمر لا يتعلق إلا بمجموعة قليلة من الأفراد الذين يرفضون الانصياع للأمر الواقع، ويصرون على الاشتغال في قضايا، أدرك الجمهور الواسع أن لا أمل في الاشتغال بها، ولم يعد لممارستها، والمقصود هنا بالتأكيد السياسة، أي قاعدة شرعية. و ربما اعتقد بعضهم أن هذا القهر، بأي ذريعة جاء، يصب في النهاية في مصلحة المجتمع بقدر ما يجنب البلاد مشاكل التنازع السياسي والتنافس على السلطة، ويضمن مناخا هادئا لجذب الاستثمارات والعناية بالتنمية الاقتصادية. فهو ثمن بخس لكسب المزيد من سنوات الاستقرار وضمان التحكم بمستقبل البلاد ومصيرها بعيدا عن تيارات التوتر الداخلية والنفوذ الخارجية.
لكن الواقع غير ذلك تماما. وبصرف النظر عما تمثله هذه السياسة من اعتداء على حقوق الأفراد الشخصية - فنحن نفترض أنهم مناضلون يعرفون منذ انخراطهم في عملهم أنهم اختاروا طريق التضحية ونكران الذات - من الواضح اليوم أن هذه السياسة أصبحت تدفع بالدول بشكل أكبر إلى الوقوع في المخاطر التي تسعى إلى تجنبها بالضبط، أي إلى الاحباط والتوتر والانقسام في الداخل، وانهيار الثقة الخارجية بمستقبل واضح ومستقر للبلاد. فهي تظهر أكثر فأكثر للرأي العام، العربي والعالمي، الطبيعة الاحتكارية والانفرادية للسلطة القائمة، وطلاقها الكامل، في سبيل تأكيد نفسها وفرض احترامها على مجتمعها، مع المباديء المدنية والسياسية الرئيسية التي لا تقوم من دونها حياة مدنية ولا سياسية في أي مجتمع معاصر. أعني مبدأ الشرعية واحترام الحريات الفردية والمساواة القانونية والمشاركة السياسية لجميع الأفراد. ولعل أخطر ما تشير إليه هو أن السلطة لا تقوم في هذه البلاد على مبدأ ولا نظام، وإنما هي سلطة تعسفية واعتباطية، يتصرف فيها القابض على زمام الأمر أو يستطيع أن يتصرف ويبيح لنفسه أن يفعل ما يشاء بمن يشاء وأينما شاء. فهي تعطي للعالم صورة عن مجتمعات بدائية لا تخضع في سلوكها لقانون آخر سوى قانون الغلبة والاستئثار. وهي تعيد تربية مجتمعاتها بالفعل على حسب قاعدة الغلبة والاستئثار التي تتحول إلى قانون مستبطن ومتمثل من قبل جميع الأفراد والفئات.
والحال أن منطلق تكوين الأمم والدول والشعوب هو تأكيد قانون الحق مقابل حكم القوة. ذلك أنه من دون حق يعلو على القوة ليس هناك أمل في بناء أي علاقات ايجابية ومثمرة بين الأفراد. وهذا هو الذي ميز منذ البداية مجتمع الإنسان عن مجتمع الحيوان، وجعله منتجا لثقافة وحضارة ومدنية. ولم تنشأ الدولة في العصر الحديث وتستقطب ولاء الناس وتتحول إلى مركز رابطة سياسية، أي أمة، بديلا عن السلطنة وحكم العصبية الطبيعية أو قوة الاستيلاء، إلا بقدر ما أصبح مفهومها متطابقا مع مفهوم الحق أو قانون الحق، وتكريس سلطة القانون وضمان ممارسة هذه السلطة بما يعزز كل يوم بشكل أكبر مفهوم الحق والعدل والانصاف والمساواة، ويحد من إقامة العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الواحد على قاعدة القوة والغلبة الطبيعية، أي الحيوانية.
هذا هو الذي يفرق في الواقع بين الحضارة والبربرية، أي بين العنف الذي تمارسه سلطة سياسية شرعية، باسم القانون وتطبيقا له بالفعل، والذي يشكل أساس المدنية والسلام والاستقرار الاجتماعيين، بقدر ما يلغي الحاجة إلى استخدام الخواص للقوة، والعنف الذي تمارسه ميليشيات خاصة كانت تخضع في القرون الوسطى للاقطاعيين وتمكنهم من فرض الخضوع وعمل السخرة على الفلاحين الأقنان، وتمارسه اليوم الميليشيات المتنافسة على السلطة والموارد في البلاد العديدة التي انهارت فيها الدولة وأصبحت نهبا لأصحاب المشاريع الشخصية والخاصة من هواة الحرب والقتال. وهو الذي يفرق بين السلطة القائمة على مؤسسات تعمل بموضوعية وثبات، والسلطة الشخصية المستندة إلى إرادة الحاكم الفرد وتفضيلاته وأهوائه ومشاعره الذاتية. فبدل أن يكون الحاكم أو صاحب السلطة والمسؤولية خادما للدولة وأداة في يدها لتحقيق مطالب العدل القائم على تطبيق قواعد قانونية متساوية وموضوعية، أي لا تتبدل حسب وضع الشخص وأصله، تتحول الدولة ومؤسساتها من إدارة وشرطة وجيش وحكومة وبرلمان وقضاء إلى أدوات في خدمة إرادة شخصية تنزع بطبيعة سلطتها المطلقة إلى تبني سياسة العظمة والسمعة الذاتية، وتقود حتما إلى الاستبداد.
يهدف هدر معنى القانون والحق وإقامة العلاقات الاجتماعية على منطق العنف والقوة في البلاد العربية وغيرها إلى الحؤول دون ظهور أي قوى واعية ومنظمة بديلة، وتحطيم أي قوى ناشئة مهما كانت جنينية. والنتيجة تعقيم المجتمع ومنعه من توليد أي نخب سياسية يمكن أن تشكل تحديا في يوم ما للنخبة الحاكمة. وهذا ما تشهده مجتمعاتنا العربية تماما. فعلى مدى نصف قرن، لم تكف آلة التعقيم عن تصفية أي نواة نخب سياسية جديدة نشأت في سياق تفاقم الأزمات والتناقضات الداخلية أو تبدل السياقات الخارجية. وقد طورت لتحقيق ذلك ترسانة هائلة من الدعاية الايديولوجية والتلاعب بالتمايزات الدينية والقومية، وتأبيد القوانين الاستثنائية والأحكام العرفية والحكم بالطرق العسكرية والأمنية والإدارية، التي لا تقيدها فيها قوانين، ولا تلزمها دساتير، ولا تضطرها لإخضاع عملها لأي قواعد مرعية ثابتة سوى إرادة الحاكم وحاجة السلطة لتأكيد قوتها وإبراز عظمتها أو تلقين من يطمح إلى معاداتها أو حتى تجاهلها درسا في القسوة والانتقام. هكذا أصبحت حالة الطواريء هي الحالة العادية وصارت العودة إلى الحالة الطبيعية التي يسود فيها القانون وتحترم فيها حقوق الأفراد مشروع ثورة سياسية حقيقية.
يضمن غياب القانون للحاكم أن يقضي على خصومه من دون أن يتحمل أي مسؤولية، وأن يحرم المجتمع من إمكانية توليد نخب بديلة سياسية، وأن يلقن الأفراد الذين يرفضون الخضوع للأمر الواقع درسا لا ينسى في ضرورة الإذعان والانصياع لحكم القوة. ويحلم بسبب ذلك بأن يبقى على سدة السلطة من دون رقيب، وأن لا يكون لحكمه حدا زمنيا واضحا ولا معقولا، أي بأن يتحول حكمه إلى قضاء وقدر. وهو غالبا ما ينجح في ذلك، لكن مقابل تكليف المجتمع ثمنا باهظا قد لا ينجح في تحمله. فالنتيجة الطبيعية لمثل هذا الحكم وتلك الإدارة هي خراب البلدان وجعل شروط الحياة الإنسانية والمدنية الطبيعية مستحيلة في البلاد. فأول ما يتأثر بغياب القانون والحق هو الاستثمار، عند الأفراد والجماعات معا، ليس بالمعنى الشائع والضيق اليوم لاستثمار رؤوس الأموال ولكن، أكثر من ذلك بكثير، بمعنى الاستعداد للانخراط الايجابي في العالم، مما لا غنى عنه لحث الأفراد على بذل الجهد وشحذ الإرادة والإجادة والإبداع.
والحال، لا تجد النخب المتكونة والمحرومة من فرص تحقيق ذاتها والمشاركة في تقرير مصيرها، في مجتمعات يغيب عنها منطق الحق وحكم القانون، سوى الرحيل نحو فضاءات أرحب تستطيع أن تثمر مواهبها فيها بشكل أفضل، أو الانخراط في سياسة المواجهة الانتحارية القاتلة. بينما تصبح الاستقالة الوطنية والإنسانية هي القاسم المشترك للنخب المندمجة في النظام والطامحة إلى الاندراج في مشروع سلطة يكاد ينحط إلى مستوى المؤامرة على مصير شعب والتعاون على سلبه سيادته وحقوقه وموارده. وهكذا بينما تتجمع مواهب المجتمع وصفوة أعضائه الأكثر استعدادا لبذل الجهد والتضحية في الخارج، تفرض شروط الإذعان والانصياع على النخب الباقية التقزيم الذاتي، السياسي والفكري والأخلاقي، بل التجرد من القيم الوطنية والإنسانية معا، وتحل المنافسة بين أفرادها على احتلال مواقع الحظوة عند الحاكمين محل المنافسة على حمل المسؤوليات العمومية والنجاح فيها، ويسود التصفيق والتسبيح بحمد الحاكم وتمجيده محل الاجتهاد والجد في تكوين الكفاءات وتحسين الخبرات والمهارات.
ليس من الصعب أن يتحول الحاكم في مثل هذا النظام القائم على قاعدة الالحاق الشخصي والاستتباع والانصياع، إلى ملك إله، ويترسخ عنده الاعتقاد بامتلاك رسالة كونية أو شبه كونية انتدب لتحقيقها، سواء أرادت الغالبية من المجتمع ذلك أم لا. وهو ما يفسر عودة نظمنا إلى تقاليد وممارسات العهود البائدة التي اعتقدنا أنها ذهبت إلى الأبد، أعني عهود السلاطين الذين يتصرفون ببلادهم وعبادهم كما لو كانوا أتباعا لهم، ولا يطلبون من رعاياهم مشاركة ولا مشورة سوى الدعاء لهم في المساجد والجامعات، والتسبيح بحمدهم ومديح أفعالهم وأقوالهم في وسائل الإعلام. وهم يرون في هؤلاء الرعايا عبئا عليهم، ولا يشعرون تجاههم بأي واجب أو التزام، بل يتوجب على هؤلاء في نظرهم تقديم فروض الطاعة اليومية والتعبير عن تبجيلهم وامتنانهم للحاكمين لتوفيرهم شروط إبقائهم على قيد الحياة. وينعكس تأليه الحكام وتقديسهم تلقائيا ومباشرة في تبخيس قيمة الأفراد أمام أنفسهم، وتحويلهم بل تحولهم الطوعي إلى عبيد وأرقاء وأقنان. فهم يشعرون حقا بعد فترة من الزمن بأنهم مدينون بوجودهم وحياتهم وأمنهم واستقرارهم وحلهم وترحالهم لصاحب أمرهم، الذي هو في الوقت نفسه ولي نعمتهم ومربيهم ومعلمهم. هو وحده الذي يستحق الشكر والعبادة، وهم جميعا، من أعلى الهرم إلى أسفله، عيال لا عقل ولا إرادة لهم، ولا صلاح لأمرهم إلا برضى سيدهم وكرمه وغفرانه.
غياب القانون بمعنى وجود مفهوم للحق واحترام الحقوق، هو جوهر نظام العرب السياسي الراهن، وهو القاعدة التي يقوم عليها استمرار السلطة الراهنة وتجديد النظام. وكما يفسر الخراب العام الذي تعيشه البلاد في جميع ميادين النشاط الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي والفكري، وتنامي مشاعر الاحباط والبؤس وانعدام الثقة والمسؤولية معا عند الغالبية العظمى من فئات المجتمع وأفراده، يفسر أيضا استقطاب المجتمع بين أباطرة مؤلهين، من ذوي السلطة والمال والجاه، الذين يفعلون ما يريدون، ويأمرون، ولا يسألون عما يفعلون، وعبيد محرومين، لا يملكون مالا ولا سلطة ولا عطفا ولا جاها، لا قيمة لهم ولا احترام.

mercredi, février 13, 2008

لوكالة آكي حول القمة العربية في مارس في دمشق

برهان غليون لـ آكي: توظيف القمم العربية للضغط على الحكومات أمر مضر
دمشق (12 شباط/ فبراير) وكالة (آكي) الإيطالية للأنباءاستبعد المفكر والباحث السوري برهان غليون أن تقوم السعودية ومصر بمقاطعة مؤتمر القمة نهاية الشهر المقبل في العاصمة السورية دمشق، مؤكداً أن توظيف اجتماعات القمة كوسائل للضغط على الحكومات "أمر مضر للعرب عموماً"، ودعا إلى نقل نتائج القمة والخلافات فيها إلى الرأي العام "حتى يوضع كل طرف عربي أمام مسؤولياته"، على حد تعبيره وأشار غليون، الأستاذ في علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بباريس، في تصريح لوكالة (آكي) الإيطالية للأنباء، إلى أنه كان هناك بالفعل رهان كبير على أن يدفع انعقاد مؤتمر القمة العربية المقبل في دمشق الحكومة السورية إلى "تطرية يدها" في لبنان والتشجيع على تسوية هناك تسمح بانتخاب العماد ميشيل سليمان رئيساً للجمهورية. وقال "ربما شكل التلويح باحتمال مقاطعة الرياض والقاهرة لهذا المؤتمر أحد أوراق الضغط التي استخدمت لحث النظام السوري على القبول بتسوية ولو جزئية ومؤقتة في لبنان"، ومع ذلك، تابع غليون، "لا أعتقد أن هاتين العاصمتين ستقاطعان المؤتمر بالفعل، وأنا لست مع هذه المقاطعة.. ولا ينبغي أن يكون الخلاف بين الحكومات، مهما كانت درجته، سبباً في تجميد الاتفاقات أو الاستحقاقات القانونية سواء أتعلق الأمر بالقمة العربية أم بغيرها".
وجدد غليون "أعتقد أن من المضر للعرب عموماً أن تستخدم اجتماعات القمة كوسائل للضغط مهما كان السبب، لأن نتيجة ذلك ستكون تعطيل هذه المؤتمرات والتضحية بالاتفاقات والقرارات التي صوتت عليها الجامعة العربية بصعوبة في الماضي لا أكثر"، على حد تعبيرهوبالمقابل رأى الباحث السوري أنه "على الدول العربية حضور جميع الاجتماعات، واستغلالها لطرح مسائل الخلاف والتوصل إلى حلول بشأنها، وربما الخروج بتصريح للرأي العام العربي يشير إلى الاختلاف ويقر بفشل التوصل لحل له، أي يعكس ما حصل بالفعل"، وأوضح "مثل هذا الموقف يعبر عن احترام أكبر للرأي العام العربي وعن شعور أقوى بالمسؤولية تجاهه وتجاه المشاكل العالقة بين الدول والحكومات العربية". وتابع "أما رفض حضور المؤتمرات بسبب وجود الخلافات فهو غير مبرر مثله مثل الخروج من المؤتمر بالتغطية على الخلافات أمام الرأي العام وتبويس اللحى العربي التقليدي، باختصار، الاستحقاقات السياسية العربية ينبغي أن تحترم في وقتها ومكانها، والخلافات ينبغي أن تنقل للرأي العام حتى يوضع كل طرف عربي أمام مسؤولياته"، وحول ما يتردد عن ضغط غربي على بعض الدول العربية لحثها على مقاطعة هذه القمة، قال "من المحتمل أن تمارس أوروبا مثل هذا الضغط، كما من الممكن أن تمارسه الولايات المتحدة، ذلك أن ما يهم الدول الأجنبية هو الوصول إلى أهدافها، ولا يهمها الحفاظ على الحد الأدنى من وحدة الصف العربي، وما بالك بالحفاظ على مستقبل التعاون أو تكوين كتلة عربية"، وأضاف "نحن نسعى بالعكس إلى ألا تكون الخلافات بين الدول العربية سبباً في شل الجامعة العربية وتحويل البلاد العربية إلى توابع للدول الكبرى تستخدمها لتطبيق أجنداتها القومية" الخاصة
وأعرب غليون عن أمله "أن ننجح بدفع الحكومات العربية إلى احترام التزاماتها السياسية والارتقاء إلى درجة من الجدية في معالجة مسائل الاختلاف الطبيعية وغير الطبيعية، في تعزيز الأمل بإمكانية تكوين أجندة سياسية عربية مشتركة، أي سياسة عربية في مواجهة الاختراقات الدولية والإسرائيلية المتزايدة لسياسات وأمن الدول العربية" على حد قولهوحول المطلوب من سورية لتقنع الدول العربية المشاركة في قمتها، قال "ليس من المطلوب من أي عاصمة عربية أن تتخلى عن سياستها أو تغير أجندتها القطرية في سبيل ضمان احترام الاستحقاقات المتعلقة بمؤتمرات القمة، فهذه سياسة سلبية ينبغي التخلي عنها"، وتابع "المطلوب من أي عاصمة لديها أجندة مختلفة عن الإجماع العربي أن تثبت للأقطار الأخرى أن السياسة التي تتبناها لا تتناقض مع مصالح الدول العربية الأخرى، وأن تبحث عن نقاط اللقاء التي تضمن استمرار الحد الأدنى من اتساق المصالح والمواقف العربية المشتركة. فكما أنه لا قيمة ولا شرعية لسياسة قطرية تدفع إلى تمزيق الكتلة العربية، ليس هناك أيضاً قيمة ولا شرعية لسياسة عربية مشتركة لا تأخذ بالاعتبار مصالح الدول القطرية الأساسية"، ورغم أنه قلل من أهمية القمم العربية، إلا أنه وفي سياق عرضه لقراءته للمرحلة القادمة (ما بعد القمة) فيما لو لم تشارك دول عربية رئيسية فيها، وقال غليون "لا أعتقد أن القمم العربية في ظروف الشقاق العربي والإقليمي العميق القائم سوف تفضي إلى شيء مهم وأساسي، سواء حضر الجميع أم غابوا.. لا يمكن للجامعة العربية أن تقدم خدمة للأقطار العربية وتكون إطاراً فعالاً للعمل العربي المشترك ومصدر سياسة عربية موحدة ما لم تنجح الدول العربية في تغيير توجهاتها الاستراتيجية وتقرر بالفعل التوجه نحو بناء سياسة عربية واحدة.. ونحن لا نزال بعيدين جداً عن هذا"، وتابع "وما دامت التحالفات الخارجية للأقطار العربية هي التي تحدد اليوم، بشكل أكبر، في سورية والقاهرة والرياض وغيرها، استراتيجيات الأمن القطري الحقيقية، فلن يكون هناك أمل في التوصل إلى أي اتفاق"، على حد وصفه.
وختم غليون "لكن من المفيد في نظري تأكيد الالتزام بمؤتمرات القمة حسب مواعيدها وأجنداتها حتى نرسخ تقاليد سياسية وقانونية ضرورية للتقدم في المستقبل، ونضمن بناء مؤسسات تعيش وتتحرك بالرغم من الخلافات السياسية بين الحكومات والنظم القائمة. ولذلك أرى في انعقاد المؤتمر ذاته بحضور الجميع معنى أهم مما ينجم عنه من إنجازات بغياب البعض أو مقاطعة البعض" الآخر

لوكالة آكي حول القمة العربية

برهان غليون لـ آكي: توظيف القمم العربية للضغط على الحكومات أمر مضر
دمشق (12 شباط/ فبراير) وكالة (آكي) الإيطالية للأنباءاستبعد المفكر والباحث السوري برهان غليون أن تقوم السعودية ومصر بمقاطعة مؤتمر القمة نهاية الشهر المقبل في العاصمة السورية دمشق، مؤكداً أن توظيف اجتماعات القمة كوسائل للضغط على الحكومات "أمر مضر للعرب عموماً"، ودعا إلى نقل نتائج القمة والخلافات فيها إلى الرأي العام "حتى يوضع كل طرف عربي أمام مسؤولياته"، على حد تعبيره وأشار غليون، الأستاذ في علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بباريس، في تصريح لوكالة (آكي) الإيطالية للأنباء، إلى أنه كان هناك بالفعل رهان كبير على أن يدفع انعقاد مؤتمر القمة العربية المقبل في دمشق الحكومة السورية إلى "تطرية يدها" في لبنان والتشجيع على تسوية هناك تسمح بانتخاب العماد ميشيل سليمان رئيساً للجمهورية. وقال "ربما شكل التلويح باحتمال مقاطعة الرياض والقاهرة لهذا المؤتمر أحد أوراق الضغط التي استخدمت لحث النظام السوري على القبول بتسوية ولو جزئية ومؤقتة في لبنان"، ومع ذلك، تابع غليون، "لا أعتقد أن هاتين العاصمتين ستقاطعان المؤتمر بالفعل، وأنا لست مع هذه المقاطعة.. ولا ينبغي أن يكون الخلاف بين الحكومات، مهما كانت درجته، سبباً في تجميد الاتفاقات أو الاستحقاقات القانونية سواء أتعلق الأمر بالقمة العربية أم بغيرها". وجدد غليون "أعتقد أن من المضر للعرب عموماً أن تستخدم اجتماعات القمة كوسائل للضغط مهما كان السبب، لأن نتيجة ذلك ستكون تعطيل هذه المؤتمرات والتضحية بالاتفاقات والقرارات التي صوتت عليها الجامعة العربية بصعوبة في الماضي لا أكثر"، على حد تعبيرهوبالمقابل رأى الباحث السوري أنه "على الدول العربية حضور جميع الاجتماعات، واستغلالها لطرح مسائل الخلاف والتوصل إلى حلول بشأنها، وربما الخروج بتصريح للرأي العام العربي يشير إلى الاختلاف ويقر بفشل التوصل لحل له، أي يعكس ما حصل بالفعل"، وأوضح "مثل هذا الموقف يعبر عن احترام أكبر للرأي العام العربي وعن شعور أقوى بالمسؤولية تجاهه وتجاه المشاكل العالقة بين الدول والحكومات العربية". وتابع "أما رفض حضور المؤتمرات بسبب وجود الخلافات فهو غير مبرر مثله مثل الخروج من المؤتمر بالتغطية على الخلافات أمام الرأي العام وتبويس اللحى العربي التقليدي، باختصار، الاستحقاقات السياسية العربية ينبغي أن تحترم في وقتها ومكانها، والخلافات ينبغي أن تنقل للرأي العام حتى يوضع كل طرف عربي أمام مسؤولياته"، وحول ما يتردد عن ضغط غربي على بعض الدول العربية لحثها على مقاطعة هذه القمة، قال "من المحتمل أن تمارس أوروبا مثل هذا الضغط، كما من الممكن أن تمارسه الولايات المتحدة، ذلك أن ما يهم الدول الأجنبية هو الوصول إلى أهدافها، ولا يهمها الحفاظ على الحد الأدنى من وحدة الصف العربي، وما بالك بالحفاظ على مستقبل التعاون أو تكوين كتلة عربية"، وأضاف "نحن نسعى بالعكس إلى ألا تكون الخلافات بين الدول العربية سبباً في شل الجامعة العربية وتحويل البلاد العربية إلى توابع للدول الكبرى تستخدمها لتطبيق أجنداتها القومية" الخاصةوأعرب غليون عن أمله "أن ننجح بدفع الحكومات العربية إلى احترام التزاماتها السياسية والارتقاء إلى درجة من الجدية في معالجة مسائل الاختلاف الطبيعية وغير الطبيعية، في تعزيز الأمل بإمكانية تكوين أجندة سياسية عربية مشتركة، أي سياسة عربية في مواجهة الاختراقات الدولية والإسرائيلية المتزايدة لسياسات وأمن الدول العربية" على حد قولهوحول المطلوب من سورية لتقنع الدول العربية المشاركة في قمتها، قال "ليس من المطلوب من أي عاصمة عربية أن تتخلى عن سياستها أو تغير أجندتها القطرية في سبيل ضمان احترام الاستحقاقات المتعلقة بمؤتمرات القمة، فهذه سياسة سلبية ينبغي التخلي عنها"، وتابع "المطلوب من أي عاصمة لديها أجندة مختلفة عن الإجماع العربي أن تثبت للأقطار الأخرى أن السياسة التي تتبناها لا تتناقض مع مصالح الدول العربية الأخرى، وأن تبحث عن نقاط اللقاء التي تضمن استمرار الحد الأدنى من اتساق المصالح والمواقف العربية المشتركة. فكما أنه لا قيمة ولا شرعية لسياسة قطرية تدفع إلى تمزيق الكتلة العربية، ليس هناك أيضاً قيمة ولا شرعية لسياسة عربية مشتركة لا تأخذ بالاعتبار مصالح الدول القطرية الأساسية"، ورغم أنه قلل من أهمية القمم العربية، إلا أنه وفي سياق عرضه لقراءته للمرحلة القادمة (ما بعد القمة) فيما لو لم تشارك دول عربية رئيسية فيها، وقال غليون "لا أعتقد أن القمم العربية في ظروف الشقاق العربي والإقليمي العميق القائم سوف تفضي إلى شيء مهم وأساسي، سواء حضر الجميع أم غابوا.. لا يمكن للجامعة العربية أن تقدم خدمة للأقطار العربية وتكون إطاراً فعالاً للعمل العربي المشترك ومصدر سياسة عربية موحدة ما لم تنجح الدول العربية في تغيير توجهاتها الاستراتيجية وتقرر بالفعل التوجه نحو بناء سياسة عربية واحدة.. ونحن لا نزال بعيدين جداً عن هذا"، وتابع "وما دامت التحالفات الخارجية للأقطار العربية هي التي تحدد اليوم، بشكل أكبر، في سورية والقاهرة والرياض وغيرها، استراتيجيات الأمن القطري الحقيقية، فلن يكون هناك أمل في التوصل إلى أي اتفاق"، على حد وصفعوختم غليون "لكن من المفيد في نظري تأكيد الالتزام بمؤتمرات القمة حسب مواعيدها وأجنداتها حتى نرسخ تقاليد سياسية وقانونية ضرورية للتقدم في المستقبل، ونضمن بناء مؤسسات تعيش وتتحرك بالرغم من الخلافات السياسية بين الحكومات والنظم القائمة. ولذلك أرى في انعقاد المؤتمر ذاته بحضور الجميع معنى أهم مما ينجم عنه من إنجازات بغياب البعض أو مقاطعة البعض" الآخر

vendredi, février 01, 2008

الطريق من غزة وإليها

الاتحاد 30 جنفييه 08


وصف يوري أفنيري سقوط معبر رفح على أيدي الفلسطينيين المحاصرين منذ سبعة أشهر بأنه حدث تاريخي يساوي في مغزاه سقوط جدار برلين. وكان هذا الجدار قد أقيم في وسط ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ليكرس تقسيم القوتين العظميين المنتصرتين في هذه الحرب، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، العالم إلى مناطق نفوذ لهما، وضمان استمرار النظام ثنائي القطبية الذي قام على هذا الاقتسام. ومن المعروف أن سقوط جدار برلين قد شكل ضربة قاضية لاتفاقيات يالطا التي ولد منها، في 12 فبراير 1945، النظام الجديد، وأنهى بالمناسبة نفسها تقسيم أوروبة بين كتلة شرقية وكتلة غربية، كما دق جرس إعادة توحيد ألمانيا الفدرالية وتطبيع العلاقات بينها وبين الدول الأوروبية الأخرى، وفي مقدمها عدوتها التاريخية فرنسا. وكان ذلك إشعارا بقرب مخاض توحيد أوروبة وولادة الاتحاد الأوروبي الذي يشكل اليوم أحد أهم التكتلات الدولية الناجحة في العالم.
لست متاكدا من أنه سيكون لفتح معبر رفح الدوي نفسه الذي قاد إلى انهيار النظام الأوروبي بل والعالمي القديم وولادة نظام جديد مكانه. لكن ليس هناك شك في نظري في أن فتح هذا المعبر بالقوة الشعبية ذاتها التي أسقط بها جدار برلين قد أعلن كما لم يحصل في أي وقت سابق إفلاس سياسة إسرائيل الفلسطينية وانهيار دفاعاتها التي أقامتها لعزل الشعب الفلسطيني وفرض الاستسلام عليه وحرمانه من حقوقه الوطنية. وفي ما وراء ذلك يحمل هذا الإفلاس في طياته إفلاس النظام الإقليمي الذي نشأ من تطبيق اتفاقيات يالطا المحلية، أقصد اتفاقيات كمب ديفيد الشهيرة (17 سبتمبر 1978) التي أنهت سياسيا حرب أكتوبر 1973 وفككت المعسكر العربي وكرست انسحابه من المواجهة الاسرائيلية، وترك الشعب الفلسطيني يواجه مصيره لوحده أمام إسرائيل منتصرة وعاتية، حليفة استراتيجية للولايات المتحدة. وهو ما مهد لانتصار التيارات المتطرفة في المشروع الاسرائيلي وتبوء اليمين القومي والديني والعنصري الداعي إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهويد جميع أراضي فلسطين وإلحاقها بالدولة العبرية، سدة السلطة في إسرائيل من دون انقطاع منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهذا الوضع نفسه هو الذي سيشجع الاتجاهات الامبرطورية في الإدارة الأمريكية ويغذي، منذ وصول بوش الابن إلى السلطة في واشنطن، الحلم الأمريكي بالسيطرة الانفرادية والمباشرة على الشرق الأوسط وإلحاق جميع الدول العربية باستراتيجيتها الدولية.
لا يعني هذا الإفلاس انهيار هذا النظام الإقليمي ولا سقوط الاتفاقيات التي قام عليها ولكنه يمهد لحقبة قادمة من التخبط والانشقاق والتصدع داخل هذا النظام في أكثر من مكان ومستوى، والتي ستنتهي بتقويضه واستبداله بنظام آخر، من المبكر اليوم تحديد معالمه أو التأمل فيه نظرا للسيولة الكبيرة التي تتسم بها علاقات القوى المحلية والإقليمية. ومن بوادر هذا التصدع وأهمها في اعتقادي تفتت جدار العزل العنصري الذي تستند إليه بقوة سياسة إسرائيل التوسعية والاستعمارية العدوانية. ولا أعني بجدار العزل العنصري الجدار المادي الذي بنته سلطات الاحتلال في السنوات الماضية في الضفة الغربية لتكريس قطع الصلات تماما مع الفلسطينيين، وإجبارهم على العيش في معزل لا إنساني، وإنما ذاك الجدار الكامن في الفكر والشعور الاسرائيليين عموما، أعني العنصرية ذاتها التي نمت وترعرعت هي نفسها في حضن الاحتلال، وصارت العامل الأهم في إعادة إنتاجه أيضا. ومنذ الآن سوف تتعالى أصوات عديدة، في إسرائيل والعالم أجمع، أسكتها في العقود الماضية اليأس والاستسلام للأمر الواقع، لتعلن رفضها لسياسة الميز العنصري والحكم على شعب كامل بالحصار الدائم والموت. ومثل ما فرضت الأحداث على القاهرة العودة عن قرار إعادة إغلاق الحدود مع فلسطين، سوف تفرض على إسرائيل التراجع عن سياسة العزل والتجويع الجماعي والتنكيل بالسكان. وفي موازاة ذلك ستسقط أيضا مبررات بناء الجدار العازل الكبير في الضفة الغربية، بقدر ما سيكتشف الرأي العام، في إسرائيل والعالم أجمع، عجز سياسات القمع واستخدام القوة عن تشكيل مخرج أو حل للاحتلال، أي أن تكون بديلا عن الحل الحقيقي الذي هو ببساطة إنهاء الاحتلال بما يعنيه ويتضمنه من سياسات استعمارية واستيطانية.
لكن سقوط هذا الجدار، وما يعنيه من أخراج القضية الفلسطينية من الطريق المسدود يتوقف، منذ الآن وإلى حد كبير، على ما سيحصل في فلسطين وداخل الصف الفلسطيني نفسه. فلن يكون لإسقاط جدار العزل العنصري الاسرائيلي قيمة إذا استمر بإزائه جدار العزل والانقسام والتفتت السياسي الفلسطيني، الذي لم يفصل الضفة عن القطاع فحسب ولكنه فصل الفلسطينيين بعضهم عن بعض، ووضع بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر كالأعداء. ويستدعي هذا تجاوز الاستراتيجيات الحزبية وإعادة بناء الجبهة الوطنية كمقدمة لإعادة توحيد الأرض والشعب الفلسطينيين. وفي هذا المجال تقع على حركة حماس مسؤوليات استثنائية في التحرر من أوهام الاستمرار في بناء دولة مستقلة في غزة والقبول بتنازلات وتضحيات كبيرة في سبيل إعادة الصدقية للسلطة ولمنظمة التحرير، أي للوحدة ا لفلسطينية، والمراهنة على الصراع من داخلهما ومع جميع قطاعات الرأي الفلسطيني لتعديل السياسة الفلسطينية وتقويمها. كما يتوقف على ما سيحصل داخل الدول العربية أيضا، من مبادرات شعبية وردود أفعال تقطع الطريق على إمكانية استعادة المبادرة من قبل النظام الإقليمي الناشيء في حضن اتفاقات كمب ديفيد ومتعلقاتها.
لقد نجح تدمير جدار برلين في تقويض النظام الدولي القديم، وإسقاط نظام القهر السوفييتي الذي قام عليه، بقدر ما قدمت الأوضاع القارية لشعوب أوروبة الشرقية النازعة للانعتاق فرصا للتقدم والاندماج في عملية إعادة بناء إقليمية شاملة رعتها الدول الديمقراطية القوية القائمة. وهو ما يفسر السرعة التي جرى فيها بناء الاتحاد الأوروبي أيضا في غضون سنوات من انهيار الجدار. وفي الشرق الاوسط لن ينجح فتح معبر رفح في كسر حصار غزة ما لم يتحول إلى إشارة الإنطلاق لكسر الحصار المفروض داخل البلاد العربية نفسها على الشعوب، وهدم جدران العزل المشادة في عموم المنطقة بوسائل ومناهج تختلف قليلا او كثيرا عن الوسائل والمناهج الاسرائيلية الفجة، وفتح المعابر الآمنة بين بلدانها وشعوبها.
لكن مهما كان الحال، يشكل ما حدث على معبر رفح إشارة إضافية إلى الاتجاه الجديد الذي تسير إليه الاحداث في المنطقة، وأعني به اتجاه عودة الشعوب، بعد تغييب طويل، إلى الانخراط في الحياة العمومية وانتزاع المبادرة من النظم والقوى الأجنبية معا. ولا ينفصل نمو هذا الاتجاه عما جرى ولا يزال يحصل في المنطقة من تغيرات عميقة تحصل في العمق، ربما كان أبرز أحداثها في السنوات القليلة الماضية انهيار الاستراتيجية الأمريكية الشرق أوسطية وإخفاق الاستراتيجية الاسرائيلية. الأولى بسبب نزعتها الانفرادية الامبرطورية التي وحدت في مواجهتها جميع دول العالم وشعوبه، بما فيها الشعب الأمريكي نفسه، والثانية بسبب تسممها بالفكرة الاستعمارية الاستيطانية وإمعانها في إنكار الحقوق الفلسطينية ومراهنتها الكلية على مراكمة القوة واستخدام العنف لتحقيق أهدافها اللاأخلاقية.