mercredi, février 27, 2008

في جذور الثقافة السلبية

الاتحاد 27 فيفرييه 08

ا1- اللحظة الاستعمارية
كما أن من الصعب فهم الوضع الذي وصلت إليه المجتمعات العربية من دون اعتبار الشروط الجيوسياسية والعوامل الخارجية التي جعلت من منطقة الشرق الأوسط مركز نزاعات دولية استراتيجية، وشلت حركة أبنائه عن بناء حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية بصورة طبيعية، من الصعب أيضا فهم التخبط الذي تعيشه هذه المجتمعات وعجزها عن التحرر والانعتاق السياسي، أي عن التحكم بشرط وجودها التاريخي، من دون اعتبار طبيعة الثقافة السياسية التي تسيطر عليها، وتوجه عقول أبنائها وقلوبها.
وليس المقصود بهذه الثقافة ثقافة العرب أو المسلمين الكلاسيكية، أي ما بقي حيا من التراث العربي المدني والديني، وإنما تلك الاختيارات والتوجهات والاستعدادات الذهنية الجديدة التي نمت وتطورت وترسخت خلال القرن الماضي، وتحولت إلى ثقافة رئيسية، تطبع تفكيرنا وسلوكنا وتوجه أفعالنا الفردية والجمعية، وتشكل أساس هويتنا. وهي نمط من الثقافة السلبية والسالبة التي تعززت في المواجهة مع العدوان الخارجي - وفي مرحلة لاحقة مع العدوان الداخلي الذي تمثله النظم الاستبدادية الداخلية. وبصرف النظر عما حققته من نتائج في مواجهة الاستعمار، رسخت هذه الثقافة قيما وأنماطا من التفكير والنظر تنحو إلى توجيه التفكير نحو استيعاب المخاطر الخارجية وإحباطها، أكثر مما تعمل على تنمية النظر إلى النفس والتأمل في نقائص الذات والعمل على إصلاحها وبناء الحياة الجمعية المنظمة والأخلاقية. ومن مقدمة تلك المواجهات وما آلت إليه الموقف الذي يسيطر على رؤيتنا للغرب وطرق الكفاح ضد سيطرته والتعامل معه.
وضعت التجربة الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر العرب أمام معضلة مواجهة القوة الضاربة للعسكرية الأوروبية التي كانت تجهلها من قبل. وقد زاد من الشعور بخيانة الغرب مبادئه وتعاليمه اتسام ثقافة النخبة العربية التي كانت سائدة في ذلك الوقت بالقيم الليبرالية وتمثلها العميق لها أحيانا، مما جعلها تعتقد وتتصرف على أساس أنها ند لأخواتها الغربيات وشريكة لها في بناء عالم الحداثة والديمقراطية والازدهار الاقتصادي.
لكن مواجهة الاستعمار وضعت العرب في وضعية جديدة. فقد كان من الطبيعي والمنتظر أن يكفوا عن أن ينظروا إلى أنفسهم كشركاء للغرب في الحضارة وحلفاء له في الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية في وجه الامبرطوريات المحافظة، كما حصل خلال مرحلة النهضة الثقافية في القرن التاسع عشر، وأن ينظروا بالعكس إلى الدول الغربية كخصم أو عدو ينبغي مقاومته واتقاء شره. وعلى هذه الأرضية سوف تولد منذ العقود الأولى للقرن العشرين حركات الاسلام السياسي المحذرة من الغرب والداعية إلى الفصل بين الأخذ بالمدنية أو الحداثة والتحالف مع الدول الغربية أو الخضوع لها، كما ستولد الحركات اليسارية أو الشيوعية العربية المعادية أيضا للغرب بوصفه مركز الاستعمار والامبريالية. وإلى هذه الحقبة يرجع شك العرب بالغرب وبنواياه الحقيقية والتشكيك الأول بالحداثة ذات المصدر الغربي، نفسها، وخلطها البسيط أحيانا بثقافة الغرب وخياراته.
وقد جاءت المسألة الاسرائيلية لتمدد في عمر هذه اللحظة الاستعمارية وتزيد في تعميق الشرخ الذي أحدثته في ثقافتنا السياسية. لقد كان تبني الغرب مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ثم الاعتراف بإسرائيل دولة مستقلة على أرض فلسطين أو على جزء منها، ضد آمال الفلسطينيين والشعوب العربية جميعا، ثم تزويدها بالوسائل والأسلحة التي تمكنها من فرض سيطرتها بالقوة على العرب والانتصار عليهم في حروب عديدة متوالية، وأخيرا تهرب الدول الغربية من مسؤولياتها تجاه الفلسطينيين وإزاء ما نجم عن إنشاء إسرائيل ودعم مشاريع توسعها العسكرية من نزوح للفلسطينيين وتفاقم محنتهم الانسانية والوطنية، ومن الحروب الدورية العربية الاسرائيلية، والاستيطان والعنف، كان كل ذلك سببا في إحداث شرخ لا يرمم بين العرب والغرب. وقد تجاوز هذا الشرخ اليوم حلبة النزاع السياسي والعسكري ليدخل مجال الثقافة والدين والأخلاق، ويؤسس لما أصبح يسمى بالحرب الحضارية أو الثقافية. لم يعد المطلوب مقاومة الغرب أو سيطرته الاستعمارية بسلاحه، أي بسلاح الوطنية والدولة القومية والمقاومة المسلحة والسياسية لتأكيد الحرية والاستقلال. أصبح من الضروري التبرؤ من التحالف معه ومن نمط تنظيمه المدني والسياسي وازدواجية المعايير التي تميز أخلاق ساسته وأهله. وهكذا سيقود إخفاق المقاومة الوطنية للتوسع الاسرائيلي إلى نشوء "المقاومة" الاسلامية بكل ما يعنيه ذلك أيضا من إعادة أسلمة النظم المدنية والسياسية العربية والتحرر كليا إذا أمكن مما تركته الحقب السابقة من آثار للغرب في الحياة العامة والعمومية. لم تعد المقاومة تعني هنا في الواقع سوى القطيعة مع الغرب بكل ما يعنيه ويعبر عن هويته، أي الانسحاب ببساطة من العالم الذي يسيطر هذا الغرب عليه وعلى توجهاتها الرئيسية.
تشير هذه اللحظة الاستعمارية وما تلاها من مناورات وصراعات عنيفة إلى بعض الشروط التي قادت إلى بلورة الاتجاهات السلبية البعيدة المدى التي سوف تسم موقف الرأي العام العربي من الغرب ومن ورائه من العالم الحديث بأكمله، وتعكس النتائج السلبية التي أدت إليها. ولعل الاتجاه الأكثر تعبيرا عنها هو الانقلاب الذي طرأ على الموقف الايجابي الذي ولد في منتصف القرن التاسع عشر، عند المثقفين والنخب الاجتماعية، من العالم ومن الحداثة المكتشفة. فبعد التماهي مع ايديولوجيات التقدم الغربية والسعي إلى تمثلها ونقلها إلى الثقافة العربية بكل السبل، ساد موقف سلبي لم يلبث حتى تحول إلى موقف العداء للحداثة نفسها بوصفها هوية الغرب وجزءا من تراثه.
أما في ما يتعلق بالنتائج السلبية لهذه التجربة المرة، فتتجسد، في المشرق العربي بشكل خاص، في ما أدت إليه من دفع النخب العربية إلى خيانة مبادئها هي نفسها. ففي السعي إلى بناء رد فعال على هذه السيطرة الاستعمارية، لم يكن امام هذه النخب سوى المراهنة على تشكيل وطنيات محلية تعتمد عليها ضمن حدود الدول القائمة لخوض معركتها الخاصة، مبتعدة بذلك بشكل متزايد عن الفكرة العربية التي أسست عليها شرعية استقلالها عن السلطنة العثمانية وتكوينها مشروع دولة عربية مستقلة عن الخلافة والدين. وكان هذا أول انشقاق يحصل في الضمير السياسي العربي، ويدخل التشوش والنزاع داخل مفهوم الأمة وتصورها، مما لا يزال مستمرا حتى اليوم، بين الانتماء القومي العربي والانتماء الوطني المحلي. ومما فاقم من أزمة المفهوم والضمير القوميين معا هو استناد هذا المشروع القومي منذ البداية إلى التحالف مع الدول الغربية. وهو ما لم توفر استغلاله في ما بعد الحركات الاسلامية أثناء انتقامها من سيطرة الأفكار القومية الحديثة على الرأي العام.
ولعل هذا يفسر إلى حد كبير لماذا لم يكن بمقدور الحقبة الاستقلالية ولا الكفاح ضد السيطرة الغربية أن يسفرا، كما كنا نتوقع ونسعى، عن قيام دولة العرب القومية ولا عن بناء دولة أمة، عربية كانت أم قطرية، بقدر ما أدى إلى تخبط الرأي العام العربي وتنامي نزاعاته الداخلية إزاء تحديد مفهوم الأمة ومفهوم الدولة نفسها، ومفهوم الهوية والقومية. مما ترك مؤسساتنا السياسية مفتقرة لأي مبدأ محرك واضح أو رؤية متسقة سياسية وأخلاقية.

Aucun commentaire: