vendredi, juillet 24, 2015

مصير العرب أمام تخلي واشنطن وتغول طهران

حققت الدول الغربية، بالتوقيع على الاتفاق النووي في فيينا، في 14 يوليو/تموز 2015، إنجازاً استراتيجياً مهماً، من وجهة نظر مصالحها، قدمت موسكو نصيبها من المساهمة فيه، على سبيل المقايضة، لقاء مكاسب مقبلة، يمكن للغرب أن يضمنها لروسيا، في مواقع أخرى، وربما في الشرق الاوسط. وبعكس ما تقوله الدبلوماسية الغربية، لا يتمثل هذا الإنجاز في تأجيل البرنامج النووي العسكري لإيران، وإنما في إنهاء أكثر من ثلاثة عقود من العداء والحرب الباردة الإيرانية الغربية، وتجنب التورط في حرب مباشرة معها. 
في المقابل، حققت طهران، أيضا، بإنهائها حالة العداء هذه، وتصالحها المرتقب مع الغرب، مكاسب رئيسية لا يستهان بها، أهمها الاعتراف بايران قوة إقليمية كبرى، وبالتالي، الاعتراف بمصالحها الإقليمية وحتمية التفاوض معها حولها، ومن ضمنها وجود مليشياتها ودورها في الإقليم. وثاني هذه المكاسب إلغاء العقوبات وفك الحصار الدولي المضروب من حولها منذ عقود، بما يعنيه ذلك من القبول بالنظام الايراني القائم كما هو، وتعزيز وجوده وإضفاء الشرعية التي حرم منها زمناً طويلاً، بسبب طابعه الديني وسياساته التوسعية واعتماده الإرهاب، بكل أشكاله، استراتيجية دولية وإقليمية لفرض مصالحه وتوسيع دائرة نفوذه. ومنها ثالثاً، تحويل طهران من طرف منبوذ وخارج على القانون الدولي إلى طرف رئيسي في أية مفاوضات إقليمية مقبلة، وشريك مقبول ومطلوب في حل النزاعات الإقليمية التي ساهمت هي نفسها في تفجيرها. وبالتالي، الاعتراف لطهران بدور رئيسي في إعادة الأمن والسلام والاستقرار إلى المنطقة، وبحضور قوي ودائم في كل مشاوراتها. ولا أعتقد أن الرأي العام الغربي، أو الإيراني، سوف يعارض، في غالبيته الساحقة، إذا وضعنا جانبا استخدامه في استراتيجية الصراع على السلطة بين النخب الحاكمة هنا وهناك، هذا الإنجاز. 


من سيدفع ثمن المصالحة الغربية الإيرانية؟
السؤال الرئيسي الذي يطرح علينا، نحن الذين نعيش في المنطقة التي تطمع فيها إيران، والخاضعة أيضا لهيمنة الغرب: ما مصير النزاعات التي تفاقمت داخل الإقليم المشرقي، على هامش هذا النزاع الأول؟ وهل سيساهم حل الخلاف الغربي الايراني في إخراج المنطقة من حالة الصراع والفوضى المعممة التي تغذت من هذا النزاع؟ أم أن المنطقة هي التي ستدفع ثمن هذه المصالحة في المستقبل، كما دفعت فاتورة المفاوضات من دم أبنائها في سورية والعراق واليمن، وغيرها من البلدان التي حاولت طهران، من خلال زعزعة استقرارها، إظهار قوتها، والضغط على المفاوض الغربي؟
على الرغم من المؤشرات العديدة التي تدفع إلى الاعتقاد بأن ما سيحصل بعد الاتفاق لن يختلف عما حصل من أجل إنجازه، إلا أن الجواب ليس حاضراً ولا سهلا. ولا أقصد أن من الممكن لواشنطن، بعد أن ضمنت مصالحها الرئيسية في إنهاء النزاع مع إيران، أن تبدل من سياسة مسايرة النزوعات التوسعية لطهران، في المشرق العربي، حفظاً لتوازنات المنطقة الأساسية، أو تطمينا لحلفائها الآخرين، في الخليج. فسياسة الدول وعلاقاتها بعضها بالبعض الآخر قائمة على تقدير قوة بعضها البعض ونفوذها، ومن الممكن لواشنطن أن تعتبر نفوذ إيران ضمانة لحد أدنى من الاستقرار في المنطقة، وأن تراهن حتى على تعاونها وقدرتها على تعبئة "الحشود الشعبية"، من أجل مواجهة داعش والمنظمات المتطرفة، وهي مصلحة رئيسية أيضا للغرب، بعد تأجيل قنبلة إيران النووية. وفي هذه الحالة، سوف تطلب واشنطن من العرب، أيضاً، مهلة أخرى، لغض النظر عن سياسات طهران التوسعية والتخريبية، وربما، أكثر من ذلك، دعم إيران في مجهودها ضد داعش، والتعاون معها باعتبارها الدولة الأقدر على توفير المليشيات المطلوبة لتحقيق هذا الهدف.
ولا أقصد من ذلك، أيضاً، احتمال أن يغير الموقف الإسرائيلي المناوئ لأي اتفاق بين الغرب وطهران، من إصرار واشنطن، فليس من الصعب على تل أبيب أن تتعايش، اليوم، مع الاتفاق كما تعايشت من قبل مع احتمال صنع القنبلة النووية الإيرانية في الفترة السابقة، من دون أن تخفف من استعدادها للتدخل العسكري عند الضرورة، مستندة على العرف الدولي الذي تطور إزاءها على أنها دولة فوق أي قانون. بل أعتقد أن القادة الإيرانيين الذين بنوا سمعتهم الثورية على مناوأة إسرائيل، كما بنوها من قبل على مناوأة الشيطان الأكبر، قادرون، وبسرعة أكبر مما يتصور الإيديولوجيون في معسكرنا، على قلب الأوراق، وعقد تفاهم سري، وحتى شبه علني مع إسرائيل، إذا تيقنوا من أن سياستهم الإقليمية لن تلقى أية مواجهة جدية من العرب، وأن في وسعهم تقاسم النفوذ في المنطقة مع تل أبيب، والاحتفاظ، نتيجة ذلك، بمشروعهم الامبراطوري. ولن ترفض إسرائيل أن تعترف لطهران، بضم ما تسميه الهلال الشيعي في مقابل أن تضم هي ما تبقى من جنوب سورية، وتطلق يدها في بقية المناطق. وهذا هو معنى مطالبة بعض المسؤولين الإسرائيليين الدول الاعتراف بضم الجولان السوري، بذريعة أن الدولة السورية لم يعد لها وجود.
ما قصدته أن جزءاً مهما من الجواب يتوقف علينا، أو على ما سنفعله نحن العرب، وأخص بالذكر دول المشرق العربي، ومنها دول الخليج التي تجد نفسها اليوم في خط الدفاع الأول، بعد سقوط سورية والعراق تحت النفوذ الإيراني. فإذا اقتصرنا، في نظرنا، كما كنا نفعل ولا نزال دائماً، على بناء حساباتنا على تحليل منطق المصالح الدولية، سواء ما تعلق منها بمصالح الولايات المتحدة والغرب عموما وإسرائيل، بل وبعض الحكومات العربية الأخرى، بدل التفكير في ما ينبغي علينا نحن أن نفعله إزاء التطورات الإقليمية، وما نستطيع فعله، فلن نجد هناك أية بارقة أمل في أن نرى الأمور تتقدم بشكل يضمن الحد الأدنى من مصالحنا. حتى نعرف في ما إذا كان في وسعنا الوقوف في وجه تفاهم أميركي إيراني يحصل على حسابنا، ينبغي أن نقرر، أولاً، نحن أنفسنا، ماذا نريد وماذا يتوجب علينا فعله للتأثير بأقصى ما نستطيع على رسم مصير المنطقة. وهذا يعني أن ما سيحدد فيما إذا كان التفاهم سيتم على حسابنا أم لا ليس ما تريده الأطراف الأخرى وحدها. ولكن، ماذا نريد نحن، وماذا نستطيع أن نفعل.
فإذا فقدنا الإرادة في الدفاع عن أنفسنا ومصالحنا، أو راهنا فقط على تناقضات المصالح الأجنبية (مثلا إسرائيل وإيران، تركيا وإيران)، أو اعتمدنا على الحماية التي من المفروض أن توفرها الأمم المتحدة، وما يسمى بالمواثيق والقوانين الدولية، بعد أن فقدنا الحماية الأميركية الحقيقية، فسيكون الجواب حتما، أننا، كما دفعنا ثمن التوقيع على الاتفاق النووي من دم أبنائنا في سورية، وقبل العالم كله، بما في ذلك الأمم المتحدة، أن يصرف النظر عن جرائم الإبادة الجماعية، واستخدام الأسلحة الكيماوية، حتى لا يتعكر جو المفاوضات الدولية مع طهران، سوف ندفع ثمن تطبيق الاتفاق، وما يهدف إليه من مصالحة إيرانية غربية، وأكثر من ذلك احتمال مصالحة روسية غربية أيضا. ولا علاقة لذلك بأية مؤامرة خفية، أو تفاهمات مسبقة بين واشنطن وطهران، أو بأية حظوة لمذهب، أو دين على حساب مذهب أو دين آخر. الدول وحوش كاسرة، لا تتردد في أكل بعضها بعضاً، إن وجدت لذلك سبيلا، وليست هناك رحمة في صراع الشعوب والدول، عندما يغيب القانون. وقد أظهرت الأحداث الكارثية للسنوات الخمس الماضية أنه لا توجد روادع قانونية لأي عدوان، عندما تتلاقى المصالح بين الدول والجماعات، حتى داخل القبيلة نفسها. وشاعرنا زهير هو من قال:
وَمَنْ لَـمْ يَـذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ/ يُـهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ الـنَّاسَ  يُظْلَمِ

هل من مشروع لتوحيد الشباب العربي؟
حتى لا نكون كبش الفداء للمصالحة الغربية الإيرانية المنتظرة منذ سنوات، ليس هناك سوى حل واحد، هو أن نكون موجودين. يعني أن نكون موجودين بذاتنا لا بغيرنا، وأن نكون بذاتنا يعني أن نكون بقوة شعوبنا ووحدتنا، وأن نشعر بمسؤولياتنا ونتحملها، وأن تكون لدينا خططنا واستراتيجياتنا ودفاعاتنا، ووسائل الحفاظ على أمننا، وحماية حقوق مجتمعاتنا، أي أن يكون لدينا تصورات واضحة ومتفق عليها لمصالحنا الوطنية والعربية المشتركة، مستقلة عن مصالح النخب الحاكمة ونظمها، التي يمكن أن تبرر، كما حصل في سورية، التحالف مع الأعداء لضمانها، ولو أدى ذلك إلى دمار البلاد، وتشريد الشعب وانهيار الدولة. وهذا يعني، أيضاً، أن نعترف لشعوبنا بالحق في مناقشة شؤوننا بحرية ونقد سياساتنا وتطوير خططنا وخياراتنا، وهذا هو محتوى التفكير الاستراتيجي. وهذه هي وظيفة السياسة التي حرمت الشعوب العربية من ثمارها، خلال عقود طويلة، لحساب الحكم بالقوة والقهر والإرهاب. 

وهذا مطروح قبل أن يوقع الاتفاق النووي، ومطلوب سواء وقع أم لا. إنه يتعلق بوجودنا ومصيرنا ومصير دولنا، وشروط حياة شعوبنا وقيمنا. ومشكلتنا هي، حتى الآن، أننا كنا غائبين عن أنفسنا، أو مغيبين أنفسنا لصالح الأطراف الأخرى التي نعتقد أنها صاحبة الصولة والجولة والقوة، التي تقرر مصيرنا من ضمن تقريرها مصير العالم بأكمله، وليس لدينا خيارات سوى استرضائها أو الإذعان لها، والنتيجة استقالتنا الاستراتيجية التي تضاف إلى استقالتنا السياسية والأخلاقية تجاه مستقبلنا ومصير شعوبنا.
نحن بحاجة إلى إصلاح شؤوننا، سواء غيرت واشنطن أو طهران من سياستها تجاهنا، أو لم تغيرها، وسواء نجح التحالف مع تركيا أو لم ينجح. وكنا بحاجة له قبل أن تبدأ طهران مشروعها النووي، وبعد التوقيع على وقفه، وقبل أن تتدخل في شؤوننا، وبشكل أكبر اليوم، وهي تصول وتجول في بلداننا وتفتت مجتمعاتنا. ولم يعمل إجهاضنا ثورات الربيع العربي بدل الاستجابة لتطلعات شعوبنا، إلا في تعميق الثغرة التي جرأت الآخرين علينا. ما حصل لنا، في السنوات الماضية، من تغول إيران علينا واستهانة الغرب بحقوقنا وإرادتنا وصرفه النظر عن مصالحنا وتخليه عنا هو نتيجة سوء نظمنا وتنظيمنا، وتخبط سياساتنا، وضعف خياراتنا، وإخفاقنا في تحقيق الحد الأدنى من واجباتنا تجاه مجتمعاتنا. إنه ثمرة تخلينا عن شعوبنا وخيانتنا التزاماتنا.
مشكلتنا الرئيسية هي نحن. بقاؤنا في هذا العصر المضطرب، من دون مبدأ وطني جامع، منقسمين على أنفسنا داخل دولنا، وفي ما بين حكوماتنا، في مشرق تتنازعه المطامع الإقليمية والدولية، يقوض قدراتنا ويحرمنا من أي أمل في الحفاظ على مصالحنا، الآن وفي المستقبل. وما لم نقم بمراجعة حقيقية لسياساتنا الوطنية والإقليمية والدولية، سنكون فريسة سهلة لكل الطامعين بنا. ولا يكفي، في هذا المجال، ترقيع علاقتنا العربية/العربية، ولا الإصلاحات الشكلية لنظم مجتمعية فاسدة ومتهاوية، ولا زيادة الإنفاق على الأجهزة الأمنية والجيوش والذخيرة والسلاح، ولا الرهان على تناقض مصالح الدول الأجنبية، فلا يمنع العداء وتناقضات مصالح الدول التي هي وحوش مفترسة، من التوصل إلى تفاهم، لتقاسم جسدنا، إذا سمحنا لأنفسنا بأن نتحول إلى فريسة سهلة وسائغة.
نحن بحاجة إلى مشروع سياسي ومجتمعي، يلهم الشباب ويحمسهم، ويستدرك خمسين عاما من الخيارات الخاطئة والسياسات الضعيفة وغير الوطنية، ويرد على تطلعات أجيالنا للاندماج في العالم ومسايرة قيم العصر. وبديله الوحيد النكوص إلى قيم القرون الوسطى وتقاليد "داعش" والغبراء.
ولا يوجد مشروع سياسي من دون قاعدة شعبية عريضة، فقوة تركيا اليوم نابعة من نجاحها في توحيد الأتراك حول ثورة تنموية، ومشروع اللحاق بالغرب ومساواته. وهو في الواقع مشروع تركيا الحديثة، منذ نشوء حزب الاتحاد والترقي والثورة الأتاتوركية، ولو أنه استعيد اليوم بغلالة إسلامية. اما إيران فهي تعيد تبني مشروع الشاه القديم، وتعبئ شعبها حول مشروع الهيمنة الإقليمية والتفوق القومي والمذهبي، مستفيدة من الزخم الذي وفرته الثورة الشعبية التي اتخذت صبغة دينية.
وبالنسبة للعرب، لا يوجد مشروع آخر يمكن أن يعيد لهم الروح، ويوحد صفوف شبابهم، ويحرر طاقاتهم سوى مشروع الربيع العربي الذي ضحوا في سبيله بأرواحهم، وكل ما يملكون، ووقفت في وجهه، ولا تزال، كل قوى الجمود والظلام والفساد، المحلية والأجنبية. العمل على تلبية مطالب الحرية والعدالة والكرامة والمساواة وبناء المنظومة العربية، المحلية والإقليمية، اللازمة لذلك، هو المشروع الوحيد الممكن والقابل للحياة، فحكم الطغيان إلى زوال، ولن يكون هناك بديل آخر، سوى تفاقم الانقسام والفوضى والهزيمة والخراب.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/7/23/%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%AA%D8%AE%D9%84%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86-%D9%88%D8%AA%D8%BA%D9%88%D9%84-%D8%B7%D9%87%D8%B1%D8%A7%D9%86#sthash.5aJRticA.dpuf

mardi, juillet 14, 2015

تقسيم سورية

كثر الحديث، في الأشهر الأخيرة عن تقسيم سورية. بعض القائلين به يفعل ذلك إقراراً بأمر واقع، بعد انحسار سلطة الدولة، وسيطرة المليشيات المسلحة المتعادية على مناطق مختلفة منها. وبعضهم الآخر اعتقاداً بأن المكونات الطائفية والقومية السورية لن تستطيع أن تتعايش، بعد سنين طويلة من الحرب الدموية، وأن الاعتراف لكل منها بدويلة خاصة مستقلة، أو تابعة لفدرالية واهية، هو أقصر طريق لوضع حد للحرب، بعد أن فشلت كل الجهود السياسية في إيجاد حل يضمن بقاء الدولة السورية الراهنة، ووحدة أراضيها واستمرارها. ويريد بعض ثالث التقسيم، من باب الأمل بإنهاء سورية كقوة ومحوها من الخارطة، أو بهدف الحصول على حصة من اقتسامها. ولا يعدم هذا المشروع متحمسين سوريين، من بين النخب الجديدة الصاعدة التي تفتقر للخبرة، وتريد الوصول إلى السلطة بأي ثمن وأسرع وقت. 
يفترض هذا، أولاً، أن تقسيمات الأمر الواقع الناجمة عن حرب السنوات الخمس الماضية من الحرب ليست اعتباطية خاضعة للتحول مع تغير المعطيات العسكرية، وإنما هي ترجمة لحقائق عميقة قومية أو مذهبية، وأن لسيطرة المليشيات على هذه المساحة أو تلك من سورية مشروعية: حماية أتباع أو استعادة حقوق. ومن ضمن هذا الافتراض أن "داعش" تمثل السنة مثلاً، وأن نظام الأسد يمثل العلويين، وأن حزب الاتحاد الديمقراطي يمثل الأكراد، وأن الجيش الحر يمثل المناطق التي يسيطر عليها، وأن هذه السيطرة يمكن أن تكون مستقرة ودائمة لن تتغير. وهو يفترض كذلك أن السوريين "مكونات"، أي، كما تستخدم المفردة اليوم، جمع أو حشد من جماعات أهلية، تحركها عصبية الحفاظ على هويتها الخاصة، أكثر مما تشدها قيم الوطنية والمواطنة والكرامة الفردية والحرية والإنجازات الحضارية العالمية، وأنه لا يوجد خارج هذه الأطر الأهلية سوريون متحررون من عصبياتهم، ينظرون إلى أنفسهم مواطنين، أو يطمحون إلى أن يكونوا مواطنين؛ أي أفراد مستقلون وأحرار، لهم الحق في تقرير مصيرهم من دون وصاية، وبصرف النظر عن موقف زعماء عشائرهم وقبائلهم ورجال دينهم وكنائسهم، قبل أن يكونوا سنة وشيعة ومسيحيين ومسلمين، أو يفترض ربما أن هؤلاء السوريين المواطنين المستقلين عن عصبية عشائرهم وقبائلهم ومذاهبهم لا يكونون إلا نسبة ضئيلة، لا يعتد بها، ولا ينبغي أن يحسب لها حساب. كما يفترض أن لهذه "المكونات" القومية والمذهبية قيادات مكرسة ومعروفة ومعترفاً بها، ولها أجندات موحدة، أو واحدة، تتحرك على أساسها، وأن من ضمن هذه الأجندات الانفراد بحكم ذاتها، والانفصال في شؤونها إلى هذا الحد أو ذاك عن شؤون الجماعات الأخرى. 

وهذا يفترض أكثر من ذلك أن كل ما عرفه السوريون، في القرنين الماضيين، من حياة ذات سمة حديثة ووطنية، وما بذلوه من جهود للتغلب على عطالة الماضي، وتقاليد القرون الوسطى، والانغراس في ثقافة العصر وتمثل قيم الحداثة السياسية والاجتماعية وشعاراتها، من مواطنة وتفكير حر وإيمان بقيمة العلم والتقدم والسعادة الدنيوية ومواكبة الحضارة العالمية لم يكن إلا سراباً، وأن كل ما عاشوه من تجربة سياسية، منذ نشوء الدولة في العشرينيات من القرن الماضي، وما خاضوه من معارك وطنية ضد الاحتلال الأجنبي، وما نجم عن ذلك من نهضة سياسية، ومن انتشار للأحزاب والنقابات والأفكار الجديدة، وكذلك كل ما قدموه من تضحياتٍ، في صراعهم المرير والدامي ضد الديكتاتوريات، الأولى والثانية والثالثة، ثم ضد حكم عائلة الأسد الهمجي، وكل مشاركاتهم السياسية والعسكرية في قضايا العرب الكبرى الفلسطينية والقومية، وما حفلت به ثقافتهم الحديثة من إبداعات في كل العلوم والآداب والفنون، وما أنتجه كفاحهم الطويل من أفكار وأحلام وتطلعات من أجل الحرية والكرامة والمشاركة والتقدم، لم يكن سوى أوهام أو حلم صيف انقضى.
بل هو يفترض، وهذا هو الأهم، أن ثورة آذار التي جمعت السوريين بالملايين في شوارع مدن سورية وقراها، هاتفين من أجل الكرامة والحرية، بكل اللغات، ومنشدين لكل رموز الوطنية السورية، بصرف النظر عن أصولهم القومية والدينية، لم تكن سوى خداع للذات، وكذب على النفس، يخفي الحرب المقيمة والأبدية بين "المكونات" الطائفية والقومية. وأن حافز السوريين للثورة لم يكن التطلع إلى نهاية الديكتاتورية والقمع والقتل والإرهاب، وفي سبيل انتزاع حقوقهم الإنسانية، وإنما انتقام الأكثرية المذهبية من الأقليات الدينية والقومية، والقضاء على كل مختلف وغريب، لا ينسجم مع الهوية الأصلية. ويفترض، أيضاً، أن ما عرفته سورية، في السنوات الخمس الماضية، لم يكن له علاقة بأي ثورة ديمقراطية أو وطنية، وإنما كان انفجارا للحرب الأهلية الباردة المستمرة منذ عقود، بل قرون طويلة، والتي تتغذى، كما يقول أنصار الأسد، من الأحقاد والضغائن الطائفية المكبوتة من الأكثرية الخائفة على ثقافتها وهويتها التقليدية وجمودها والعاجزة عن مسايرة العصر. وهو يفترض، أخيرا، أن السوريين حمقى، وأن التاريخ عبث، وأن بشار الأسد على حق، وأنه لا علاج لتخلف السوريين، والسنة منهم خصوصاً، سوى بنصب محرقة على امتداد الأرض السورية ووضعهم فيها. وهذا هو مضمون ما يردده قادة مليشيات الأسد السوريون والإيرانيون واللبنانيون والعراقيون وأتباعهم من المثقفين الضالين، وهذا هو خطابهم اليومي العلني والمكتوب. وهذا ما يحصل بالفعل منذ سنوات خمس متتالية. 

عوامل الانقسام

ليس هناك شك في أن خمس سنوات من الحرب الدموية زعزعت المجتمع السوري، ومزقت نسيجه القومي والديني، وعمقت المخاوف وعدم الثقة المتبادلة بين جميع الطوائف والجماعات، بما في ذلك داخل الطائفة والجماعة الواحدة، وليس بينها فحسب. لكن، على الرغم من ذلك، لا يحتاج الأمر إلى عبقرية خاصة، لمعرفة أن شبه "الكانتونات"، القائمة هنا وهناك بالقوة، ليست ثابتة، ولا تترجم، في معظمها، حقائق قومية أو مذهبية، بمقدار ما تعبر عن معطيات عسكرية متحولة، وأن قادة هذه المليشيات أبعد ما يكونون عن تمثيل الجماعات المنحدرين منها، وأن جميع السياسات والخطط التي طبقها النظام وطهران، لتفجير النزاعات الطائفية والإثنية وتغذية غول الإرهاب لم تجعل أغلبية السوريين يشيحون بنظرهم عن أهداف ثورتهم الحقيقية، وهي إسقاط الأسد، والخلاص من كابوس الاستبداد وجميع الاحتلالات الداخلية والخارجية التي ارتبطت به، وأصبحت جزءاً منه، وأنه حتى داخل الجماعات التي نجحت هذه المخططات في استعدائها، بعضها على بعض، ودفعها إلى التناحر، لا تزال الأمور بعيدة عن الحسم، ولا يزال هناك أغلبية ساحقة من السوريين، من كل الطوائف والقوميات، متمسكة بتراث سورية الحديثة وهويتها، وأن مطالب الدولة والحرية والكرامة التي كانت وراء ثورة آذار لا تزال محرك كفاح السوريين على اختلاف تياراتهم، حتى لدى القطاعات التي استعادت تحت النار تضامناتها الأهلية التقليدية، على حساب روح المواطنة وقيمها، وأن جلافة الأسد وحلفائه ومراهنتهم الوحيدة على العنف لم تنقذا رهاناتهم السياسية، لكنهما حكمتا عليهم بالفشل، وسوف تقودهما إلى الانتحار. 
لا يعني هذا أنه لا يوجد تهديد للوحدة السورية، بل هناك عمليات عسكرية في أكثر من منطقة، لا هدف لها سوى رسم حدود الدول الجديدة التي يطمح أصحابها إلى إقامتها على أشلاء الدولة السورية. إنما ليس هؤلاء كل السوريين، ولا يمثلون بالضرورة تطلعات أغلب أفراد الجماعات التي ينحدرون منها. كما أن ذلك لا يعني أن سورية لا يمكن أن تتفجر وتنقسم، بل يكاد موضوع تقسيمها يصبح حديث الساعة في الصحافة والدبلوماسية الدولية. لكنه يعني أن سورية إذا كانت ستتقسم، فليس ذلك بسبب الحرب الأهلية التي دفعتها إليها طغمتها الحاكمة وحلفاؤها، ولا هشاشة بنيانها ونسيجها الوطني، كما هو الحال في كل البلدان الحديثة النامية، ولا نتيجة قرار أحد أمراء الحرب، مهما كانت قوته العسكرية، وإنما إذا قرر المجتمع الدولي والأطراف النافذة فيه تقسيمها. وأفضل مثال على ذلك لبنان الذي لا يزال يحافظ على وحدته الشكلية، على الرغم من 17 عاما من الحرب الأهلية. 

ومن الواضح أن مثل هذا القرار لم يتخذ بعد لدى أي دولة كبرى، لكن فرضية التقسيم، باسم الفدرالية أحيانا، تزداد تواتراً في الأوساط الدبلوماسية الغربية، وتبدو وكأنها الخيار الوحيد المطروح لوقف العنف وبسط السلام والأمن، بعد خمس سنوات من القتل والاقتتال والدمار. وهي، في الواقع، ليست فرضية ولا تنطوي على أي خيار، وإنما تشكل طريقاً للهرب من استحقاق الحرية والديمقراطية والمواطنة لجميع السوريين، واستبداله بإرضاءات رمزية لتطلعات هوياتية وهمية، لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي خداع من المجتمع الدولي، للتغطية على فشل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتأكيد من الدول الكبرى المتنازعة على استهتارها بالمواثيق الدولية، واستعدادها الدائم للإخلال بالتزاماته، وإمعانها في إخضاع مصير سورية وشعبها لأجندة صراعات المصالح الدولية.
ليس الهدف من التقسيم، ولن يكون، كما يدعون، إرضاء جوع السوريين المفترض للهوية ما قبل الوطنية، وحل مشكلة التوترات الطائفية والقومية، بما في ذلك بالنسبة للأكراد والعلويين الذين يطرحون، من دون شك، اليوم أسئلة حقيقية على المدافعين عن مشروع بناء سورية الموحدة المقبلة، وإنما إرضاء جميع الأطراف الدولية والإقليمية على حساب السوريين جميعا، وتحويل البلاد إلى مناطق نفوذ على هذه الطوائف والقوميات نفسها، وإخضاع هوية السوريين الوطنية وهوياتهم الأهلية معا لمصالح هذه الدول الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية. وستكون في هذا التقسيم نهاية سورية، في صورتها الوطنية الجامعة والمتعددة الجديدة. وبدل أن نعمل على استعادة دولة كبيرة فاشلة، وإنقاذها سوف يترتب علينا إدارة خمس دول فاشلة ومفتقرة كل مقومات الدول الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية التي تحتاجها، لكي تتحول إلى دولة بالفعل. وفي المدى المتوسط، لن يستفيد أي طرف من هذا التهديم والإعدام السوري، لا محلياً ولا إقليمياً، بما في ذلك طهران، وإنما سيكون الرابح الأكبر داعش وأخواتها، أي روح الضغينة والحقد والانتقام والعنف والفوضى. 
في المقال المقبل، سأبين أن تكاليف التقسيم، الإنسانية والسياسية والجيوسياسية، ستكون أكبر بكثير في سورية من تكاليف إعادة بنائها، حتى لو احتاج الأمر إلى تحقيق بعض التسويات، والقيام بتضحيات من أكثر من طرف، لتحقيق ذلك، وخصوصاً من الأكثرية العربية والسنية التي سيكون تقسيم سورية على حسابها، وبهدف إضعافها وتحييدها، وتهجير القسم الأكبر من أبنائها. - See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/7/13/%D8%AA%D9%82%D8%B3%D9%8A%D9%85-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9#sthash.bQH2da21.dpuf

samedi, juillet 04, 2015

داعش، انهدام في الحضارة

لا يشك أحد في أن داعش يشكل، اليوم، تهديدا خطيرا لأكثر من جماعة وطرف، على المستويات، المحلي والإقليمي والدولي، وأنه ليس من الممكن مواجهته، ووضع حد لتهديداته، من دون تعاون عدد كبير من الأطراف، داخل المنطقة المشرقية وخارجها. لكن، من الواضح أن التركيز الكبير على خطره لم ينعكس في أي خطط جدية مشتركة لمحاربته، أو حتى لاحتواء نموه وتهديداته. ولذلك، لا يزال، على الرغم من الإجماع الدولي الذي أثاره ضده، يتمدد ويشن هجمات متوازية على أكثر من جبهة، ويشكل، أكثر من ذلك، مصدر إغراء وإغواء لآلاف الشباب، منزوعي الهوية في الشرق المعدم، وفي الغرب الغني، على حد سواء. 

هل داعش منتج عربي وإسلامي؟
بخلاف ما تشيعه الصحافة والإعلام العالميان، داعش ليس منتجاً عربياً أو إسلاميا بالدرجة الأولى، حتى لو أن عربا ومسلمين هم من يملأون صفوفه، وأن شعوبهم هي التي تدفع الثمن الأفدح لانتشاره وجنونه. كما أن مشكلته لا تختصر في مسألة الإرهاب والتطرف فحسب، ولا يمكن مواجهته، كما تأمل دول التحالف الدولي، بتحييده عن جميع القضايا الأخرى، السياسية والاجتماعية والدينية والجيوسياسية. 

يمد داعش جذوره في عمق المشكلات الوطنية والدولية والاجتماعية غير المحلولة، أو التي تركت تتعفن من دون حل، وهو ينمو في ثنايا وتناقضات السياسات المحلية والدولية لنظام العالم الذي ولد، بعد نهاية الحرب الباردة، وما ارتبط به من انتهاكات خطيرة، بقيت من دون رد، وقوّضت مفهوم حكم القانون، على مستوى الدول ومستوى الإقليم والمجتمع الدولي معاً، وشجعت على استسهال التضحية بالقيم والمبادئ الإنسانية المكرسة في مواثيق الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، وفي الدساتير الوطنية، في كل مكان. وكان لهذه الانتهاكات الدور الأكبر في زرع روح الكراهية والحقد والانتقام والعدمية عند أعداد كبيرة من سكان العالم، ممن فقدوا الأمل بحياة طبيعية كريمة، وعانوا من ظلم الأجهزة الأمنية، ومن استهتار الدول المجهضة، أو أشباه الدول التي تولت التحكم بشؤون الجماعات وتسييرها، بحقوقهم، وفشلها في تقديم الحد الأدنى من الأمان والاستقرار النفسي والمادي لملايين البشر، والذين وجدوا في حفنة من المغامرين والخارجين على الدين والشريعة والقانون المعول الذي يسمح لهم بالتعبير عن مشاعرهم، وهدم الهيكل بأكمله على رؤوس الجميع.
ليس هناك مثال أكثر تعبيراً عن انهيار الآمال التي علقت على نهاية الحرب الباردة، مما حصل ويحصل في سورية والمشرق. فقد رفع زوال الاستقطاب الدولي والنزاع التاريخي الذي ارتبط به بين نظامين متخاصمين، يطمحان إلى الهيمنة العالمية، من مستوى توقعات الشعوب والمجتمعات، وجعلها تعتقد أن حقبة جديدة من بسط السلام والأمن والتعاون الدولي واحترام ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي قد ولدت، وأن القضايا المعقدة التي أوجدتها الحرب الباردة، أو ساعدت على تعفنها، ومنها قضية فلسطين، لكن ليس وحدها، سوف تجد، أخيراً، الحل المناسب لها بتعاون الدول وتفاهم الشعوب.
لكن العقود الأربعة التي أعقبت انهيار جدار برلين، بحروبها ونزاعاتها وتدخل الدول الكبرى بشكل أو آخر، وما حدث في أفغانستان وإيران والعراق والبوسنة وبلدان إفريقية عديدة، من مذابح جماعية وعمليات إبادة موصوفة، وما يحدث في سورية وليبيا والمشرق عموما اليوم، ومنذ خمس سنوات، من مجازر وجرائم وصلت إلى حد استخدام الأسلحة الكيماوية، قد أسقطت كل الأوهام، وأظهرت أن ميثاق الأمم المتحدة الذي التزمت به الدول، وأقر حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق المدنيين بالحماية وبالتضامن ضد جرائم الحرب والإبادة، لم يكن سوى حبر على ورق، وأن عمليات القتل المنظم والمبرمج وعمليات التطهير القومي أو الطائفي أو الديني لم تصبح أبداً من الماضي، ولا يكاد مرتكبوها يخشون أي عقاب، بينما يقف المجتمع الدولي مكتوف اليدين، عاجزاً عن القيام بأي رد فعل عملي. هذا يعني أننا على الرغم من الضجيج الإعلامي والبيانات الدبلوماسية واللقاءات والمؤتمرات ودعوات التعاون والحفاظ على السلام والاستقرار، لا نزال نعيش في مجتمع دولي تحكمه القوة، ويكاد يعترف رسمياً بحق الفتح والغزو. 

لا يمس تقويض معنى القانون والتضامن الإنساني منظومة الأمم المتحدة العاجزة وحقل العلاقات الدولية فحسب. نجد صورة أكثر سوداوية له في حقل العلاقات الإقليمية في أكثر من منطقة وقارة. وهنا، أيضاً، تبرز حالة المشرق والشرق الأوسط عموما حالة استثنائية في الاستهتار بحقوق الشعوب وأمنها واستقرارها والمحافظة على مستقبل أجيالها. ولا تكاد توجد هنا حدود لإرادة السيطرة والعمل بجميع الوسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية والدينية، من أجل كسر التوازنات القائمة وتقويض حياة المجتمعات واستقرارها، وسرقة مواردها، بما في ذلك أرضها وتراثها، إلى درجة لم تعد تخشى فيها الدول الطامحة في زيادة وزنها ونفوذها من الإفصاح عن إرادتها و"حقها" في بسط سيطرتها على هذه الدولة أو تلك، أو إلحاقها بشكل علني بها، أو محو الحدود وإعادة بناء إمبراطوريات بائدة تعود إلى (ما قبل التاريخ). كما أن الشعوب التي أملت أن نهاية الحرب الباردة سوف تخفف من الضغوط الخارجية، وتسمح بولادة موجة جديدة من التحولات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، لم تجد أمامها سوى تعزيز النظم المافيوية، والمزيد من التسلط والنهب والقهر وخرق القانون، أو تعليقه بشكل رسمي، من خلال قانون الطوارئ، وأخيراً في تنظيم حروب أهلية وبرمجة القتل المنظم وحصار التجويع والدمار الشامل الذي تقوم به أنظمةٌ، كانت تحظى بدعم الغرب وروسيا والصين، في الوقت نفسه، ولا تزال. واليوم، يقف الشرق الأوسط كله في طريق مسدود، وعلى شفا حرب طاحنة، تهدد بالقضاء على مستقبل المنطقة بأكملها، إن لم تكن قد قضت عليه بالفعل.

داعش وتقويض حكم القانون
داعش ليس ثمرة وجود آلاف الأفراد المتعطشين لسفك الدماء والخارجين على القانون في بلدانهم، والناقمين على السلام والأمن الدوليين، والمطلوب قنصهم وتصفيتهم، فحسب. إنه الابن الشرعي لتقويض حكم القانون واستسهال هدر حياة الإنسان والتضحية بالملايين لأتفه المصالح، وتمريغ كرامة البشر بالوحل، وإخضاعهم بالقوة، وإذلالهم بالعنف والاحتيال. وفي الوقت نفسه، الرد الصاعق عليه بسياسات أكثر همجية، تجعل من الهدر المسبق لحياة الإنسان، وتقويض الأمن والسلام والاستقرار في العالم، المبدأ والغاية والمصير والقانون. هذا يعني أن داعش ليس ابن الماضي، وما بقي في تراث الشعوب من قيمه البدائية، ولا ابن القرن الماضي وخبرته الاستعمارية الأليمة وحساباته المعلقة. إنه الوجه الهمجي لنظام حضارتنا القائم اليوم، وتناقضات مبادئه وممارساته، وقد تحول إلى دولة مسخ، وصار يحلم بإرساء أسس مدنية وحضارة مبدأها الاستهتار بحياة الإنسان. هو ابن الخوف والرعب الدائم الذي كتب على ملايين البشر بسبب تغول الدول الأكبر، وطمع الدول الطامحة إلى العظمة في تعزيز أمنها على حساب أمن الآخرين ووجودهم، وتجاهل مصالح وحيوات ملايين البشر الذين تركهم نظام نيوليبرالية العولمة الجديد على قارعة التاريخ، من دون أمل ولا مستقبل. إنه الانهدام الأخطر داخل (نظام العالم الجديد) الذي وعد بمستقبل زاهر، ولم يأت إلا بمزيد من الظلم والقهر والاستهتار بحقوق الناس وهدر حياتهم وحرياتهم. داعش هو الخلاصة المكثفة لسياسات الغزو والإبادة الجماعية والتهجير والحكم بقانون الطوارئ والأحكام الاستثنائية، والفساد المالي، ومراكمة الثروة وسرقة الموارد وهدرها على حساب التضامن الإنساني وحريات الأفراد وحقوقهم، والرد الوحشي عليها، في الوقت نفسه.
من الطبيعي أن يكون هذا الانهدام في الحضارة الأعنف والأعمق في الشرق الأوسط على قدر المظالم والاختلالات والتفاوت في الحقوق والمصالح والثروات وتناقض الوقائع مع الآمال والتوقعات: انهداما في الروح والعقيدة والمذهب، وانهداما في العلاقات الوطنية والاجتماعية، وفي الدولة، فكرة ومؤسسة، لصالح المليشيات المتطرفة وغير المتطرفة الدينية والقومية والعشائرية والطائفية، وفي منظومة العلاقات الإقليمية التي تحدد قواعد تعامل الدول مع بعضها في المنطقة، واحترام كل منها سيادة الأخرى، وفي علاقة المنطقة بأكملها بالمجتمع الدولي الذي انسحب تماما من المشرق، وتركه فريسة صراع القوة المجردة، وحروب الاستنزاف والموت الجماعي المبرمج. وأخيراً انهداما في منظومة حقوق الشعوب والإنسان التي أقرت المساواة والعدالة والأخوة والتضامن الانساني ضد حروب الإبادة والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات المتكررة للحق والقانون. يكفي أن نتابع ما يجري منذ سنوات في سورية وليبيا واليمن وغيرها، وما يكتب حول مصيرها وتقسيمها أو اقتسامها ومستقبل شعوبها، حتى ندرك أننا لا زلنا نعيش في القرون الوسطى، وأن "قانون" القوة المجردة والعنف البدائي وحده الذي يقرر، اليوم، وفي هذه المنطقة، مصير الأفراد والجماعات والدول والأقاليم.
لأن الحكومات المسؤولة تدرك أن داعش ليس مسألة تطرف وإرهاب فحسب، وإنما هو أكثر من ذلك، ولا يمكن مواجهته من دون معالجة الثغرات الخطيرة في بنية نظام العالم الراهن المنتج كل أشكال الهمجية، للجوع والفقر والخوف والتشرد والموت، مثل ما ينتج السلام والأمن والرفاه والرخاء، إن لم يكن أكثر، والذي يراكم من الخيرات بمقدار ما ينتج من النفايات والبؤس، النظام الذي يدعي تأسيس حكم القانون والتضامن الإنساني، ولا يتردد في فرض نفسه بالقوة المجردة والتدخلات الهمجية والاحتيال. أقول، لأنها تدرك صعوبة حل مشكلة داعش، مع الحفاظ على السياسات الفاسدة نفسها، فهي تحجم عن أي التزام جدي بمواجهة داعش، وتترك الأمر للشعوب المعدمة، بعد أن قوّضت توازناتها ومزقت نسيجها سياسات السيطرة والسطو والتهميش والابتزاز التي كلفت بها عملاءها المحليين الصغار. باختصار، إنها تتخلى عنها للإرهاب، وتحكم عليها بالحرب الدائمة والدمار والموت. 

شيطنة داعش هي أفضل وسيلة لتبرير الهرب من مسؤوليات مواجهته، ورمي المسؤولية على الآخرين، أولئك الذين كانوا، ولا يزالون، ضحاياه الحقيقيين. هكذا يتحول داعش إلى خطيئة أصلية قادمة من خارج التاريخ والعالم والعقل، كعفريت خرج من قمقم الدين من دون إنذار، لا قبل لأحد ولا لدولة في مواجهته، أو حتى وضع حد لشهوة القتل التي تسكن أعضاءه. ولا يهدف التركيز المتزايد عليه كأجندة شبه وحيدة للسياسة الدولية، مع غياب أي مبادرات عملية لوقف تمدده، إلا إلى تجنيب السياسات الفاسدة التي تكمن وراء ولادته ونموه الصاعق أي نقد، وإلى الحفاظ من دون تغيير على ضيق أفق الأجندات القائمة على تعظيم المصالح القومية ومنطق الهيمنة وتراكم الثروات والمكاسب الفئوية، على جميع المستويات المحلية والوطنية، الإقليمية والعالمية، على حساب الآخرين.
داعش هو مختصر ثقافة الأنانية والعنف والقهر والإكراه ومستنقع إعادة إنتاجها في الوقت نفسه. إنه الثمرة المرة للاستقالة الجماعية والتخلي عن قيم التضامن الإنساني وهدر الحياة الإنسانية والكرامة البشرية. ليس مستغرباً بعد ذلك أن نجد بين الدول من يطالب بالتحالف مع النظم البدائية والهمجية نفسها التي كانت وراء نشوء داعش، وأحيانا خططت له، لوضع حد لتمدده، مع التأكيد على أن أحداً لا يعرف متى يمكن القضاء عليه، بل في ما إذا كان ذلك ممكناً حقاً.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/7/3/%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%AF%D8%A7%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9#sthash.CwUVLM6V.dpuf