mercredi, juillet 28, 2010

في ضعف القوى الديمقراطية العربية

الاتحاد 28 يوليو 10 بعنوان " الديمقراطية والممارسات التمييزية"

يثير ضعف قوى الديمقراطية والتغيير الاجتماعي في البلاد العربية تساؤلات مستمرة حول مصير المجتمعات العربية في ميادين البحث الدولية. وبعد التفاؤل الذي أثارته الفورة الاصلاحية والديمقراطية في مطلع الألفية الثالثة، وساهمت به تقارير التنمية الإنسانية للمنطقة العربية التي عمل عليها مثقفون عرب من كل الأنحاء، تسود منذ سنوات موجة من اليأس والقنوط، وربما التسليم بأن أفق التحول السياسي في العالم العربي يكاد يكون معدوما، وإذا وجد ففي حدود ما يمكن أن يتفضل به نظام تسلطي، يأمل البعض أن يقوده شعوره بالقوة، بعد انهيار مشروع الشرق الأوسط الكبير وفشل الحرب الأمريكية العراقية، إلى التخفيف من قبضته الأمنية وحساسيته المفرطة تجاه التعددية الفكرية والسياسية.

ولعل أبرز النقاط التي تدفع الباحثين إلى الشك بمستقبل التحول السياسي والاصلاح في البلاد العربية الضعف الواضح في قوى التغيير وهشاشة هيكلتها السياسية والفكرية. وكثيرا ما يبالغ هؤلاء في وضع اللوم على المجتمعات العربية نفسها، أو بالأحرى على الثقافة الاسلامية لتفسير ذلك. والحال أن هذه المجتمعات وتلك الثقافة ليست منفصلة عن الأوضاع التي تعيشها هذه المجتمعات ضمن المنظومة الدولية القائمة ، وهي ليست نسخة طبق الأصل عن التراث الذي كان من دون شك بعيدا في قيمه عن قيم الديمقراطية كما نفهمها اليوم، لكنه لم يكن في ذلك مختلفا أبدا عن تراث أي مجتمعات قرسطوية أخرى.

لفهم ضعف قوى الديمقراطية في معركة التحول والتغيير الاجتماعيين من جهة وقوة حركات التمرد الإتنية والطائفية والدينية من جهة ثانية، وتفسير كيف يعيد النظام القائم إنتاج نفسه ويتغلب على الأزمات العميقة التي تهدده، ينبغي التركيز في نظري على مجموعتين من العوامل الموضوعية والكشف عن الترابط والتفاعل فيما بينهما ·

المجموعة الأولى تتعلق بصيرورة المجتمع السياسي نفسه وبتكوين الرأي العام والثقافة الحديثين والنظم السياسية، وهو جزء من التطور التاريخي للمجتمع عموما ، انطلاقا من موارده الخاصة واعتمادا عليها، سواء كانت تراثا ثقافيا أو موقعا جيوستراتيجيا أو موارد طبيعية، أي التراث كما نظرنا إليه نحن الحديثين، لا كما هو بالمطلق، ولا كما نظر إليه أسلافنا· والثانية تتعلق ببنية الدولة وطبيعة عملها كما تكونت في إطار منظومة دولية مندمجة، رغم التناقضات والنزاعات، وعبرها، أي كجزء من نظام عالمي تحكمه مجموعة من القواعد الثابتة نسبيا التي يسعى علماء العلاقات الدولية إلى دراستها واكتناه مضمونها.

تشير العوامل المتعلقة بولادة المجتمع السياسي الحديث وصيرورته إلى الممارسات والأنماط الثقافية والاجتماعية والإدارية والحقوقية التي تبلورت خلال حقبة الانتقال، فأنشأت الاطار العام الذي تتحدد فيه علاقات الناس الجمعية، ونوعية الفاعلين المختلفين وتصوراتهم لأدوارهم ونفسياتهم، واختياراتهم السائدة، والتطلعات الخاصة التي تحركهم ·

وللاختصار يمكن القول أن ما يسم هذه الممارسات القائمة في أغلب البلاد العربية اليوم ويشكل طابعها المميز بالمقارنة مع ما يماثلها في أكثر المجتمعات الديمقراطية هو أنها أعادت ترجمة العلاقة الحديثة بين النخب الاجتماعية والشعب، وما تتضمنه من توزيع متنوع للمسؤوليات وللمهام ومساواة قانونية وأخلاقية معا، على ضوء النموذج التقليدي الذي يفصل بشكل قطعي بين مرتبة الأعيان والوجهاء التي تحظى بكل الحقوق والسلطات ومرتبة العامة المحرومة من أي اعتبار. فتكاد البنيات الطبقية تتحول هنا إلى بنيات أصنافية ثابتة أو طوائف مغلقة على نفسها. فالمكانة الاجتماعية لا تنبع هنا من المسؤولية والكفاءة والاختصاص وإنما من الهوية الاجتماعية. وليس من السهل لمن ولد في طبقة فقيرة أن يخالط المراتب الحاضنة للنبالة والشرف إلا نادرا وكمكافأة على خدمات استثنائية. وحتى عندما تحصل الانقلابات الاجتماعية وتتسلم فئات من أصول دنيا مقاليد الامور فإنها سرعان ما تعيد بناء نمط المراتبية الارستقراطي السابق، وربما بصورة أكثر حدة وقطعية. والنتيجة هي نشوء مجتمع مقتقر للحراك الاجتماعي والتفاعل بين المناطق والطبقات، إلا ما يحصل نتيجة ثورة تقلب المراتبية القائمة وتعيد توزيع الأدوار والمواقع على النمط ذاته لكن بصورة معاكسة. فتحول السادة إلى عبيد والعبيد إلى سادة. وهذا ما يقطع الطريق على صيرورة تكون الأمة الحديثة، بما تعنيه من مساواة بين الأفراد وتكافؤ فرص الوصول إلى مناصب المسؤولية.

يعني الحراك الاجتماعي الذي هو السمة الرئيسية للمجتمع السياسي الحديث (أي القومي) أن الكفاءة هي التي تحدد المكانة الاجتماعية، أو الهوية الطبقية، وبالتالي تفتح مجال الانتقال من المرتبة الأدنى إلى المرتبة الأعلى، وبالعكس، الهوية الطبقية، أو الاعتبار الاجتماعي الناجم من الانتماء إلى مرتبة معينة هو الذي يحدد آفاق ترقي الأفراد واحتمالات تأهيلهم المهني والفني. فبدل الحراك نجد هنا إعادة إنتاج للمراتبية الاجتماعية وإدانة للأفراد بالانخراط في المصير المرسوم لهم بالولادة. وهذا ما يحول دون نشوء ممارسات جماعية واجتماعية حديثة تبرز التفاعل بين النخبة والقاعدة، مما لا يقوم من دون المساواة القانونية والأخلاقية، ومن دون التحقق من اشتغال آلية صعود أبناء الشعب أنفسهم نحو القمة. وبغياب هذا التفاعل الهيكلي الذي يسم المجتمع الحديث ويشكل مصدر تطوره وتقدم القيم المدنية والاجتماعية، يحل التعايش بين الطبقات الثابتة أو الطوائف، وينشأ في موازاة هذا التعايش نمطا من تقسيم العمل الاجتماعي تتطابق فيه المهنة مع الهوية الطائفية.

تبقى العلاقات الاجتماعية في هذا النمط بالضرورة محكومة بمنطق خضوع الأدنى للأعلى ووضع النظام الاجتماعي برمته في خدمة النخب الاجتماعية وإرضاء حاجاتها. ولا ينطبق هذا الأمر على النخب السياسية التي تسعى إلى تعزيز سلطتها وضمان البقاء إلى أطول فترة ممكنة في موقع الحكم·، وإنما بشكل مماثل على النخب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. لذلك ليس لأصحاب المناصب العليا في أي ميدان هما وعملا سوى منع الطامحين من الطبقات الأضعف من الصعود وترك مواقعهم "الطبيعية". وأول آليات هذا المنع أو استراتيجياته تشويه صورة الطبقات الشعبية وتصويرها كما لو كانت ذات هوية ثابتة منحطة أو سلبية تليق بالمكانة الاجتماعية الضعيفة والثابتة التي تحتلها ولا تستحق الخروج منها.

وبالمقابل لا تنظر النخب السائدة في هذا النمط من العلاقات الاجتماعية إلى مواقعها المتميزة في النظام الاجتماعي بوصفها ثمرة الكفاءة أو الاحتراف وإنما نتيجة طبيعية لهوية وخصائص جمعية، تميز الطبقة المغلقة أو الطائفة التي تنتمي إليها وتبرر احتكارها لمناصب المسؤولية. وهي تطلب أن ينظر إلى مواقعها باعتبارها حقائق طبيعية شبه بيولوجية ، ثابتة ودائمة، تماما كما أن الشمس والقمر حقائق أو ظواهر قائمة وغير مطروحة للنقاش، ولا يمكن أن توجه إليها أي مساءلة أو اعتراض. وفي مثل هذه الحالة ليس من الطبيعي أن ترفض هذه النخب، أن يطرح سلوكها أو أسلوب عملها وبالأحرى بقاءها في مناصب المسؤولية، على النقاش، وإنما أن تتعرض لأي نوع من المساءلة أو المحاسبة الشعبية. والنخب التي اعتادت استعمال الشعب مطية للوصول إلى أهدافها الخاصة وتكريس تفوقها وسيطرتها الدائمة، لا تستطيع مهما كان خطابها أن تولي أي اعتبار لتنظيم الشعب وتأهيله وتدريبه على المبادرة والمشاركة والعمل العمومي وتحمل المسؤولية.

mercredi, juillet 14, 2010

إسرائيل على خطى الابارتايد

الاتحاد 14 يونيو 10

الصراع الذي يدور الآن في الشرق الأوسط ، والذي تشكل إسرائيل محوره ، لا يتعلق بوجود إسرائيل، ولا بضمان أمنها وسلامتها وازدهارها أيضا. فللا تكف الدول الغربية عن تأكيد ذلك إلى درجة الملل. كما أن اتفاقات التجارة والتعاون العلمي والتقني، والمساعدات والمعونات المالية المنتظمة التي تقدمها لها هذه الدول في الميادين المدنية والعسكرية، لا تترك ادنى شك في ذلك. ما هو موضوع الصراع والنزاع والتفاوض اليوم، في نظر العالم أجمع، وبشكل خاص على مستوى الرأي العام الواسع، هو مكانة إسرائيل ودورها أو بالأحرى وظيفتها في المنطقة.

فقد بدأ عدد متزايد من الحكومات والمنظمات الانسانية الدولية والرأي العام في التعبير عن نفاذ صبره من وضع إسرائيل نفسها فوق القانون، ومن مواصلة سياسات توسعية واستيطانية تهدد حياة السكان الفلسطينيين وتزيد في مأساتهم التاريخية، ومن استسهال الضغط على الزناد وشن الحروب والهجمات الوحشية على القرى والمدن والتجمعات المدنية كلما لاحت لقادة تل أبيب في الأفق ملامح ضغوط خارجية تطلب منهم تعديل موقفهم أو تلطيفه في التعامل مع قضايا الحرب والسلام والتسوية الإقليمية. وآخرها العودة عن تجميد الاستيطان في الضفة والبدء بتنفيذ مشروع هدم 22 منزلا في حي سيوان المقدسي ، بينما لا تزال إسرائيل ترفض القبول بوفد تحقيق دولي في جريمة الهجوم على أسطول الحرية الموجه لفك حصار غزة.

مر دور إسرائيل الإقليمي بحقبتين رئيسيتين. الأولى واكبت نشأتها في المشرق العربي تحت رعاية الامبرطورية البريطانية منذ بداية القرن العشرين. وهو الدور الذي كرسته اتفاقيات سايكس بيكو وكان تجسيدا حيا لها، أعني فصل مصر عن آسيا العربية وقطع الطريق على قيام دولة عربية موحدة على أنقاض الدولة العثمانية في المنطقة الشرق أوسطية، مما يضمن إبقاء المنطقة تحت النفوذ الغربي الكامل، والبريطاني بشكل خاص، ويؤمن، من خلال السيطرة المباشرة على موقعها الجيوستراتيجي الحساس ، استقرار النفوذ البريطاني في مصر والهند، ثم في ما بعد، أي بعد زوال الاحتلال البريطاني للقطرين الكبيرين، السيطرة على منابع الطاقة النفطية الوفيرة، بالإضافة إلى استرضاء الجاليات اليهودية وحشد طاقاتها وراء السياسة البريطانية في النزاعات الأوروبية العنيفة التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين.

لكن حرب السويس عام 1956، بمقدار ما أدت إلى إنهاء نموذج الاستعمار التقليدي البريطاني والفرنسي، وبروز نمط جديد من الهيمنة السياسية والاقتصادية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والشركات الصناعية العملاقة، أنهت هذا الدور، إنما لصالح دور أكبر وأقوى. فقد تحولت إسرائيل، في ظل التحالف الجديد من خط دفاع أول عن النفوذ الغربي من خلال احتلال فلسطين نفسها كفعل استعماري أول، والحفاظ على الأوضاع والتوازنات التقليدية، إلى فاعل وشريك رئيسي في مشروع الهيمنة الإمبريالية. فأصبحت سيفا مسلطا على العرب. وتحولت إسرائيل في هذه المرحلة، بالاتفاق مع الغرب والتعاون معه، إلى قاعدة عسكرية أو شبه عسكرية، قائمة في أرض المكان، تمارس الضغط والتهديد والحرب النشطة والمستمرة الرامية إلى إكراه الدول العربية على الالتحاق بالغرب وقبولها العمل ضمن أجندته العالمية، ودفعها نحو الالتزام بالمصالح الاستراتيجية وأحيانا السياسية الأمريكية ، في مواجهة شعوبها المتطلعة إلى الاستقلال والتنمية والتعاون والتكتل.

وعززت الحرب الباردة، التي انعكست في العالم العربي في شكل صراع بين قوى المحافظة القريبة من الغرب أو المراهنة على دعمه، وقوى التحرر والتقدم المتطلعة إلى دعم الاتحاد السوفييتي، وظيفة إسرائيل العدوانية هذه بشكل مضطرد وزادت من أهميتها في الاستراتيجية الغربية.

وفي إطار تحقيق هذه الوظيفة نشط الغرب في إعادة تسليح إسرائيل وتعزيز قدراتها العسكرية الهجومية. ولم يوفر وسيلة لرفع كفاءة قواتها الاستراتيجية وتزويدها بأحدث التقنيات، بما في ذلك التقنية النووية التي كانت من بين الدول القليلة التي حصلت عليها بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يكن تعداد سكانها يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة. كما لو يوفر وسيلة من أجل تعزيز نفوذها السياسي والمعنوي في العالم، فساهم في إبراز صورتها كدولة بريئة لأنها دولة ضحايا النازية الأبرياء، وجعل منها، كما أصبح مكرسا في الخطاب الغربي، واحة للتقدم والازدهار والديمقراطية في صحراء التخلف الاقتصادي والتأخر الاجتماعي وسيطرة النظم الأبوية والقبلية العربية.

وقد نجحت إسرائيل في أداء مهمتها التاريخية نجاحا باهرا. وكان انتصارها في معركة تحييد العرب وشل مقاومتهم أكبر مما كانت تتصوره هي نفسها، وأكثر مما كان يتوقعه منها حلفاؤها الغربيون أيضا. فقد رسخت الاحتلال في فلسطين، وثبتت حدود اتفاقيات سايكس بيكو الاستعمارية، وضمنت استقرار الأنظمة القريبة من الغرب، وشتت قوى العالم العربي وحطمتها، وقطعت عليها طريق التحرر والوحدة والتنمية. لقد نجحت في القضاء على أحلام المشرق العربي وآماله جميعا. هكذا يجد العالم العربي نفسه اليوم، بعد اكثر من نصف قرن من المقاومة العنيدة والصراع والنزاع الذي لعبت فيه إسرائيل دورا محوريا لصالح تجديد نظام ا لسيطرة الامبريالية، أي تجريد شعوب المنطقة من استقلالها وضرب إرادتها الحرة وفرض أجندة خارجية عليها، أكثر تمزقا وأكثر فقرا وأكثر عجزا وأقل مبادرة مما كان عليه قبل نصف قرن.

كان نجاح إسرائيل في القيام بوظيفتها الجديدة مثار إعجاب كبير من قبل حلفائها الغربيين بل والعالم أجمع. وحصدت منه الصهيونية نتائج كبيرة. فبعد أن حققت بتحالفها مع الاستعمارية البريطانية بناء دولتها المستقلة، تمكنت بفضل هذا النجاح من أن تعزز موقعها داخل التحالف الغربي، فأصبحت درة هذاالتحالف في المشرق ومحظيته. وكاد أو يكاد تعبير بعض قادة الدول الغربية، على مختلف مستوياتهم، عن حبهم لاسرائيل وتمسحهم بأعتابها ودفاعهم عنها يتفوق على التعبير عن حبهم لبلدانهم وتمسكهم بمصالح شعوبهم. وعن جدارة، ذلك أن إسرائيل أنجزت للغرب، ولنفسها بالطبع، بمهمة لم تكن هناك أي قوة قادرة على القيام بها من خارج المنطقة، مهما علت وعظم شأنها.

وغير هذا النجاح ، الذي جعل من إسرائيل، بفضل المعونات الهائلة والرعاية الغربيتين، القوة الاستراتيجية الأولى في المنطقة، من نظرة إسرائيل والاسرائيليين لأنفسهم وعلاقتهم بمحيطهم، فولدت فكرة إسرائيل الكبرى كمشروع جاهز للتنفيذ، أي مشروع الاستيطان أو الاستعمار الاستيطاني. وانبعث من جديد لدى قادة إسرائيل حلم الصهيونية الأولى في جمع يهود العالم في فلسطين. فصار جلب المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفييتي والحبشة وغيرها، وبناء المستوطنات في الأراضي العربية المحتلة، محور السياسة الاسرائيلية لعقود. وكانت حرب 1967 فاتحة هذه السياسة الاسرائيلية الجديدة التي أصبح التوسع الإقليمي أو الجغرافي هدفها الأول. ولن تمض سنوات قليلة حتى نشأت إلى جانب إسرائيل 1948 إسرائيل استيطانية جديدة في ضواحي القدس ومدن الضفة والجولان.

لكن هذه الحقبة التي جندت فيها اسرائيل نفسها حصان الرهان الرئيسي للسياسة الغربية في المنطقة انتهت أو تكاد مع زوال الحرب الباردة من جهة، وزعزعة نظام الشرق الأوسط الاستعماري وشبه الاستعماري تحت ضغط التحولات الإقليمية والجمود والفوضى والحرب الدائمة من جهة ثانية، وإخفاق الإدارة الجمهورية السابقة بقيادة جورج دبليو بوش في حربها العالمية ضد الإرهاب التي سعت من خلالها إلى استعادة المبادرة وإعادة بناء نظام السيطرة الاستعمارية في الشرق الأوسط انطلاقا من العراق.

ففي أوج عظمتها وانتصارها، تشعر اسرائيل اليوم بهشاشة الأسس التي تقوم عليها قوتها المستعارة. وتظهر السياسات الغربية الجديدة لما بعد فشل حرب العراق، وأفغانستان، ومن ورائها الحرب على الإرهاب، أن إسرائيل تعيش اليوم ازمة فقدانها وظيفتها الاستراتيجية التي حولتها من أداة في يد الاستعمار البريطاني إلى شريك في التحالف الغربي ضد العالم العربي في الستينات، وجعلت منها بالمناسبة ذاتها محور سياسات الشرق الأوسط لعقود طويلة. وفي سياق ذلك، تدخل إسرائيل أكثر فأكثر في نفق المواجهة غير المنتظرة مع الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة الامريكية. وهي تشعر اليوم بأنها محاصرة، وأن الغرب الذي مكنها من أن تطبق على الفريسة العربية هو الذي يطلب منها الآن التخلي عنها.

فإسرائيل التي قدمت للغرب خدمة لا تقدر بثمن بتحطميها العالم العربي وإحباط مطامح شعوبه وآمالها، كانت تعتقد أنها ضمنت تماما مشروعها الاستيطاني الرامي إلى ضم الأراضي الفلسطينية والعربية وتهويدها، تحت غطاء مفاوضات سياسية ماراتونية لا تفضي إلى نتيجة، وأن غض الغرب نظره، كما حصل حتى الآن عن حركة الاستيطان الزاحف ليس مسألة مفروغ منها فحسب وإنما هو التزام أخلاقي ورد للجميل. ومن هنا يعيش الرأي الاسرائيلي اليوم حالة إحباط عميق، ويتهم طلب الغربيين وقف الاستيطان أو تجميده، بعد أن صرفوا النظر عنه لعقود طويلة، بالخيانة والنفاق.

لا يرجع الخلاف الناشب اليوم بين الغرب، حكومات ورأيا عاما معا، إلى رغبته في التخلي عنها بعد أن استخدمها لتحقيق أهدافه، كما يعتقد الكثير من المحللين الاسرائيليين، وإنما يرجع إلى تراجع مواقع الغرب نفسه في الشرق الأوسط، على أثر المغامرة المدمرة التي قامت بها واشنطن في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، والتي كان أحد أهدافها الرئيسية أو ربما الأولى حماية إسرائيل وتأمين مستقبلها. وقد أملت تل أبيب أن تخرج منها شريكا شرعيا ومعترفا به لواشنطن في حكم المنطقة وصياغة أجندتها الأمنية والسياسية والاقتصادية.

لكن حسابات الحقل لم تنطبق على حسابات البيدر، واضطرت الولايات المتحدة، تحت ضغط الهزيمة العسكرية والسياسية والأخلاقية غير المعلنة في العراق إلى تغيير سياستها كليا في المنطقة. وهذا ما عبر عنه تصويت الناخب الأمريكي لباراك أوباما وايصاله إلى السلطة، وما سوف يعلن عنه الرئيس الجديد صراحة من رغبة في إعادة بناء العلاقات العربية والاسلامية-الأمريكية على أسس جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والحوار والشراكة الاقتصادية.

ويعتقد الغربيون، أمريكيين واوروبيين، أن هذه السياسة هي الوحيدة القادرة على أنقاذ ما يمكن أنقاذه من المصالح الغربية ومواقع النفوذ، بعد الإخفاق في حرب العراق التي كانت تهدف إلى منع انهيار نظام الشرق الأوسط الغربي، وإعادة السيطرة على المنطقة والتحكم في أجندتها ومصيرها لعقود طويلة قادمة، باسم القضاء على الارهاب والعنف ونشر الديمقراطية واحترام الحقوق الانسانية.

ومن الطبيعي أن يجر انهيار نظام الشرق الأوسط بعد الفشل في إنقاذه، تغيير السياسة الغربية، وفي إطارها أيضا تغيير وظيفة إسرائيل ودورها في هذه السياسة. فلم يعد المطلوب منها في السياسة الجديدة التي تهدف على تطمين الحكومات العربية وتعزيز قدراتها العسكرية والسياسية تجاه تيارات الاحتجاج والتمرد العاتية، إسلامية وشعبية ديمقراطية، أن تكون كلب الحراسة الشرس والمجنون الذي لا يسأل عن احد، كما حصل حتى الآن، وإنما بالعكس تطمين الأنظمة الإقليمية ومراعاة ظروفها. ولا يعني هذا التخلي عن إسرائيل أو التضحية بها وإنما دفعها إلى لعب دور أكثر ايجابية والتقليل من الرهان على قوتها العسكرية وإبراز تفوقها الكاسح على الدول العربية وبالأحرى اعتمادها مفتاح المنطقة الاستراتيجي، أو وكيلا للغرب مطلق الصلاحية في أرض مستعمرة. وبالمثل لا تعني السياسة الجديدة تغيرا في الموقف من المصالح العربية الأساسية، أعني مصالح الشعوب والمجتمعات، وإنما التراجع نحو خطوط دفاعية أكثر نجاعة في الدفاع عما تبقى من مصالح الغرب الاستراتيجية. وليست خطوط الدفاع الأنجع هذه سوى إعادة تجنيد الأنظمة العربية ووضعها على سرج الحصان، وتوكيلها لحفظ الامن، بدل الإطاحة بها أو زعزعة استقرارها كما كان يحلم المحافظون الجدد بهدف اجتياح المنطقة وتوكيل إسرائيل وصية على مصيرها.

باختصار، تحلم السياسة الأمريكية والغربية الجديدة في أن تستعيد جزءا من سيطرتها على المنطقة بعد زعزعة النظام الإقليمي الذي أقامته في المرحلة السابقة، وكانت قوة اسرائيل وتفوقها ونشاطيتها الحربية ركنه الرئيسي، من خلال العودة إلى التحالف مع النظم العربية القائمة وتقريبها منها، بما في ذلك النظم التي لديها مشاكل معها. وهي تامل في أن تنجح في تكوين جبهة متراصة منها تقف ضد الصعود الايراني. ومن الحتمي ان مثل هذا المشروع لا يمكن تحقيقه مع استمرار تسليط اسرائيل ككلب حراسة شرس وقتال في المنطقة، وأن إضفاء أي حد من الصدقية على هذه السياسية يتطلب كبح جماح إسرائيل ووضع حد لأطماعها في التوسع الإقليمي الاستيطاني.

وبالمقابل تسعى اسرائيل من أجل الحفاظ على سياستها القومية المتطرفة ومشروعها الاستيطاني إلى المحافظة على دورها ككلب حراسة شرس ومفيد للغرب والعالم أجمع. من هنا تضخيمها للخطر الايراني وتركيزها على الإرهاب والحركة الاسلامية وحرصها على إظهار تهلهل النظم والحكومات العربية وعدم قدرتها على ضبط الأوضاع.

ويكاد وضع إسرائيل اليوم أن يكون مشابها لوضع جنوب أفريقيا العنصرية قبل انهيار النظام العنصري. فبعد أن كان هذا النظام الحليف الأوثق للغرب في سياسته الاستعمارية القديمة، دخل في تناقض عميق مع الغرب نفسه عندما أصر على الاستقلال بمشروعه العنصري الخاص، ولم يقنجح في إعادة تأهيل نفسه لمواكبة التحولات العميقة التي حصلت في أفريقيا وقادت إلى انهيار النظام الاستعماري القديم وولادة سياسات السيطرة غير المباشرة المراهنة على تجنيد النخب المحلية والتعاون معها وجذبها نحو الغرب، سياسة ومصالح وثقافة معا.

بالتاكيد سيقول الاسرائيليون إنه ليس من العدالة أن يكون ضحايا النازية، كما يحبون تسمية أنفسهم، هم الذين يقدمون التضحية الأكبر لاستعادة نفوذ الغرب في العالم العربي والاسلامي أو وقف انهيار مواقعه ونفوذه. فقد اعتادت خلال العقود الطويلة الماضبة على أن تتقاسم الغنائم لكن ليس الغرائم. بيد أن الوضع لم يعد يسمح

للغرب بمثل هذا الكرم الذي عود إسرائيل عليه. وهو يواجه في الشرق مخاطر ولادة نظام إقليمي جديد قائم على تعاون دول المنطقة وتفاهمها، خاصة بعد الانعطاف العميق المغزى للسياسة التركية في اتجاه الجنوب. مما يجعل حلم الغرب بالابقاء على نموذج سيطرته شبه الاستعماري في المنطقة صعب المنال.

وهو يدرك على كل حال أن إسرائيل ما كانت قادرة على أن تصل إلى ما وصلت إليه من قوة وازدهار وتفوق لولا رعاية الغرب ودعمه. فهل كان من الممكن تصور قيام إسرائيل نفسها والحفاظ على بقائها خارج سياق هذه الاستراتيجية، وهل تستطيع إسرائيل أن تعيش فعلا من دون الغرب أو بالانفصال عنه؟ هذا مالا يحتاج إلى جواب لأن الجواب قدمه قبل ما يقارب العقدين نظام جنوب أفريقيا العنصري نفسه.

فكما ذهب نظام جنوب افريقيا العنصري بسبب رفضه الخروج من شرنقته ومواكبة التحولات الدولية والإقليمية الأفريقية، تبدو إسرائيل اليوم هي الثانية ضحية فصام العظمة التي تعيشه، والذي يقطع صلتها تماما بالواقع، وسعيها إلى تمديد عصر الحرب الباردة والتشبث الأعمى بالحرب العالمية على الإرهاب التي رفعها اليمين الأمريكي المتطرف، وكانت السبب الرئيسي في الإجهاز على نظام السيطرة الغربية في المنطقة.