lundi, janvier 30, 2006

رسالة من أسير سوري في سجون الاحتلال في الجولان

ا
تحية جولانية وبعد
بداية اسمح لي أن أعرف عن نفسي. أنا الاسير السوري وئام محمود عماشة من قرية بقعاتا في الجولان السوري المحتل من التراب الصامد تحت قمم جبل الشيخ. مضى من عمري 25 عاما وخصلة شيب تشهد على فظاعة المحتل. اعتقلت المرة الأولى عام 1997 وكان عمري 16 عاما وحكم علي سنة ونصف وأعيد اعتقالي عام 1999 بعد ستة شهور من الافراج عني. وحكم علي خمسة سنوات. وقبل أن أشرف على نهاية هذا الحكم تمت إعادتي من السجن إلى أقبية التحقيق لأجد أمامي عدة تهم تصب بمصابها النهائي في مقاومة الاحتلال ليضاف للسنوات الخمس عشرون سنة. هذا هو واقع الجولانيين والشعوب الرازحة تحت نير الاحتلال الغاشم. ولست الأسير الوحيد من الجولان، بل عددنا اليوم 11 أسيرا وبيننا امرأة. وقد دخل السجون خلال فترات مختلفة عدد كبير من أهالي الجولان. وقد حاولنا خلال سنوات طويلة تطوير الصلة بدمشق والسلطة في سوريا. إلا أنها اقتصرت على بعض الصلات الأمنية وبقي المواطن السوري دون معرفة ووعي بهذا الملف. ليس بشق الأسرى فحسب وإنما بمستوياته المختلفة. والحقيقة فقد كنا دوما حذرين في طرح مواقفنا وآرائنا تجاه ما يجري في الوطن من تغييب للحريات والديمقراطية والفساد وتغييب المواطن والمواطنية، لكننا أدركنا وتحديدا بعد أن استشهد أحد رفاقنا هايل أبو زيد، بعد قضاء عشرون عاما في الأسر، أدركنا عمق الصلة والارتباط بين فقداننا لحريتنا داخل الأسر وفقدان المواطن لحريته في الشام وعالمنا العربي عموما. نحن نرى اليوم هذه الأوطان سجونا ليست أقل من سجننا، فإذا كان سجننا المادي، والاحتلال في الجولان قسم العزل في هذا السجن الكبير، فإن أوطاننا العربية هي سجون تقتل كل إمكانية تحررنا من هذا العزل عن الوطن الأم. لقد أدركنا بأن أكبر توازن استراتيجي يمكن أن نحققه كدول عربية هو منح المواطن حريته وحقه في ممارسة الديمقراطية.
من هذه الزاوية ومن هذا الباب نرغب بالتواصل معكم ومع غيركم من المفكرين العرب، على أمل أن نتمكن من خلالكم الوصول لعقول المواطن السوري والعربي عموما لتعريفهم بملف الجولان من جهة ومن جهة أخرى التعريف بقضية الأسرى السوريين.
وعليه آمل أن ترى هذه الرسالة كبداية وتعارف أولي. كما نرجو أن تزودنا بانتاجك الفكري الذي وصلنا منه بعض المقالات واطلعنا على المقابلة التي أجرتها معك محطة الجزيرة وشاهدنا إطلالتك الغنية على محطة ل بي سي في برنامج الحدث.

ختاما لك منا خالص التقدير والاحترام
التوقيع وئام
معتقل الجلبوع
22/1/2006


في الجولان
الأخ العزيز وئام عماشة

تلقيت بسرور رسالتكم التي تقدم لي فيها نفسكم وأنت، مع العديد من رفاقك الذين قضى بعضهم وبعضهم لا يزالون يرزحون في سجون الاحتلال الاسرائيلي البغيض، من أبطال سورية البررة. فلا تعتقد أن شباب الحركة الديمقراطية السورية لا يعرفون ما قمتم به منذ بداية الاحتلال، وما لا تزالون تقومون به من أعمال بطولية. إنهم ينظرون إليكم جميعا بفخر واعتزاز، ويدركون أنكم لا زلتم، بكفاحكم وبطولاتكم، تدافعون وحدكم، خلال ما يقارب العقود الأربعة، عن كرامة وطنكم سورية وهوية أرضكم الجولانية العزيزة.
بالتأكيد بقي التواصل، لأسباب معروفة من الجميع، ضعيفا بينكم وبين أبناء شعبكم الذي أريد له أن ينسى الاحتلال أو يبعده عن تفكيره حتى يستمر في الاحتفاء الذي لا ينتهي بعرس التقدم العتيد في ظل قيادته الملهمة. لكن أود أن تعرفوا أن الجولان وأهله لا يزالون يعيشون في قلوب جميع السوريين. وكلهم أو أكثرهم يعتقدون، وأنا منهم، أن تحرير الجولان وعودته إلى حجر أمه جزء لا يتجزأ من قضية الديمقراطية السورية وبرنامجها، تماما كما أن الاحتلال والاستبداد وجهان للعملة ذاتها وفرعان لشجرة مسمومة واحدة. إن حرية السوريين لا تتجزأ ولا يمكن الفصل بين طرد الاحتلال في الجولان، واستعادة أهله لحقوقهم الوطنية، واستعادة شعبنا السوري بأكمله لحقوقه السياسية والمدنية. فكلاهما جزء من قضية واحدة، قضية تأكيد سيادة الشعب السوري واستقلاله وكرامة أبنائه.
تأكدوا أننا معكم وسنظل معكم، ليس من قبيل الالتزام الأخلاقي فحسب، ولكن لأن الحرية السورية نفسها، حرية الوطن وحرية السوريين أنفسهم، لا يمكن أن تستقيم ولا أن تقوم اليوم ما دامت سيادة الدولة نفسها منقوصة وما دام جزء من أراضيها يرزح تحت نير الاحتلال والاضطهاد. ولن أبخل من جهتي بأي جهد كي أساعد على تمتين الصلات معكم وتقديم كل العون لكم للتواصل مع أبناء وطنكم في سورية ومع نشطاء الحرية والحركة الديمقراطية فيها بشكل خاص. ولن أتوقف أيضا عن تشجيع كل النشطاء السوريين على التعريف بقضيتكم، وبقضية العزيز وئام عماشة بشكل خاص، في الأوساط السياسية السورية والعربية، وعن دفع بعض المثقفين الآخرين لكسر جدار العزلة الذي يريد الاحتلال والاستبداد، كل لأسبابه الخاصة، إحاطتكم به لضرب الحصار عليكم وإخراس صوت الحرية الذي يتوهج في قلوبكم ويلهب عقولكم.

مع خالص المودة

برهان غليون

mercredi, janvier 18, 2006

عندما تتحول الخيانة إلى مقياس الوطنية

الاتحاد 18 كانون الثاني 06

قلت في مقال سابق أن تحلل الحركة الوطنية لحقبة الكفاح من أجل الاستقلال ومن بعدها الحركة القومية الشعبية التي عرفتها المجتمعات العربية في الخمسينات والستينات قد أفسح المجال أمام صعود البيرقراطية الحكومية وتفاقم سيطرتها على الدولة والمجتمع عبر أحزابها الأوحدية أو الأجهزة الأمنية المرتبطة بها. لكن هذا الصعود لم يكن الثمرة الوحيدة لتحلل الوطنية العربية واختفاء برامجها السابقة، بوجهيها القطري والقومي معا. لقد رافقه أيضا أو تبعه تدريجيا زوال أي مرجعية وطنية ضرورية لتحديد غايات الاجتماع السياسي وبلورة خيارات واضحة ومقبولة، وتطبيق برامج عمل تاريخية فعالة، وتحقيق التسويات الضرورية بين مجموعات المصالح والتيارات العقائدية والسياسية المتنافسة. فمن دون هذه المرجعية ليس من الممكن قيام أي سياسة لا من حيث هي بلورة لتوجهات واضحة ومقبولة، ولا من حيث هي مسؤولية ومحاسبة أو مساءلة عن تحقيقها. ومن هنا لا تعني الأزمة الوطنية خروج الشعب من السياسة، نتيجة الانكفاء الذاتي أو التراجع أمام القمع، فحسب، ولكن أكثر من ذلك افتقار النخب الاجتماعية إلى التفكير المشترك الضروري للتوصل إلى بلورة سياسات وطنية جامعة. وهو ما يفسر ما حصل بالفعل في العقود الأربع الماضية من انفراط عقد الجماعة الوطنية وتشتت الرأي العام السياسي، وبالتالي من تمديد تلقائي للوضع القائم، وفي ما وراء ذلك إلى إطلاق يد النخب الحاكمة، أو التي نجحت في الاحتفاظ بالسلطة بطريقة أو أخرى، في تقرير سياسة البلاد وتحويل أجندتها الخاصة، أي أجندة إعادة إنتاج سلطتها ونظامها ومصالحها، إلى أجندة بديل للأجندة الوطنية. وإذا كانت هناك ظاهرة تعبر بقوة عن هذه الوضعية، وتعكس حقيقة خروج الشعب من السياسة، وتشتت النخب الاجتماعية، واستفراد القوى الحاكمة بالسلطة، وإخضاعها لخدمة أجندة تجديد نظامها القائم، فهي ظاهرة توريث السلطة الجمهورية. ليس بما هي تعبير عن انعدام الخيارات عند النخبة الحاكمة فحسب، ولكن أكثر من ذلك من حيث التعبير عن عجز المجتمع السياسي نفسه عن اقتراح بدائل ممكنة نظرية وعملية لهذا التمديد التلقائي للنظم القائمة.

وبغياب مفهوم واضح للمصلحة الوطنية عند الرأي العام، سواء ما تعلق منها بالأمن الوطني أو بالوحدة الداخلية أو بالتنمية أو بأي ميدان من ميادين النشاط العمومي، لا يبقى هناك مجال لتكوين إرادة أخرى غير تلك الإرادة الحاكمة، والتي توحد أفرادها المصالح المشتركة في الحفاظ على النظام، وأحيانا إرادة الرئيس والزعيم، التي تكاد تتحول إلى إرادة إلهية أو شبه إلهية، مقدسة ومطلقة معا، لا تخضع لأي شكل من أشكال المحاسبة أو المساءلة. وفي هذه الحالة لم تتحول الحكومات إلى مجالس أركان لأصحاب المصالح المسيطرة والإطار التنفيذي لتوزيع المغانم والمكارم والصفقات على قوى التحالف الحاكم، حسب قاعدة القرابة والنفوذ والقوة فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، أمكن لزعيم فرد أن يجعل من الدولة والمجتمع ومواردهما معا أدوات في خدمة بناء هرم مجده الشخصي وزعامته القومية أو الإقليمية.
من الواضح أنه لا توجد اليوم، في معظم البلدان العربية، أجندة وطنية، ولا من باب أولى أجندة قومية عربية، ولكن أجندة نظاموية تتعرض هي نفسها الآن للتآكل والتخبط، مع تبدل موازين القوى وتفاقم نزاعات شبكات المصالح القائمة والمتآلفة، البيرقراطية والخاصة، الزبائنية والعائلية والتجارية والكبمرادورية معا. وفي منظور هذه الأجندة، تكمن المصلحة الوطنية في المطابقة المطلقة بين النظام والدولة. وبهذا المعنى يصبح معيار الأمن الوطني تعزيز النظام ودعمه بأي وسيلة كانت، ذلك أن زعزعة النظام هي زعزعة استقرار البلاد. ومن وسائل تعزيز النظام الحفاظ على موقعه الإقليمي والدولي، ووقف أي نشاط اجتماعي أو سياسي يثير الشك في استمرار النظام، وفي مطابقة مصالحه لمصالح الوطن. كما يصبح معيار الوحدة الوطنية التفاف الشعب، بكل مكوناته وتياراته وجماعاته، من دون نقاش ولا تساؤل أو تردد، حول النخبة الحاكمة والرئيس القائد الذي يمثلها، تماما كما يشير إلى ذلك شعار التظاهرات التي غالبا ما تنظمها السلطات القائمة، والذي يشكل الهتاف للرئيس وإعلان فدائه بالروح والدم شعارها الأوحد. أما في سورية فقد جاء تجديد الشعار موافقا لإرادة التجديد السياسي وحقيقته، فحل محل شعار بالروح بالدم الذي احتفظ به البرلمان شعار : "الله وسورية وبشار وبس". وهو يعني في الواقع بشار وبس، ذلك أن الله وسورية ليسا مجال اختيار وموضوع نقاش من قبل أحد. فكما لا يمكن لمؤمن أن يجادل في وجود الله، لا يمكن لسوري أن يضع سوريته موضع مساومة واختيار. هكذا يتطابق مفهوم الوطنية في النظم القائمة مع الولاء للرئيس وتقديسه والتماهي مع خياراته الاستراتيجية والسياسية. وأي نقاش لهذه الخيارات ولأسلوب إدارة الشؤون الداخلية والخارجية عموما، حتى لو لم تكن من إنتاجه الشخصي، هو خروج من دين الوطنية، وخيانة تعادل التعامل مع الدول الأجنبية.
يظهر هذا الوضع كيف تجردت الوطنية من جميع برامجها التاريخية، الخارجية المتعلقة بالأمن والسيادة والاستقلال، والداخلية المتعلقة بحقوق الأفراد السياسية والمدنية وتحولت إلى عقد لعبادة الشخصية. فرئيس النظام هو "سقف الوطن". فهو الكافل لجميع مؤسسات النظام والحامي لها، بمصلحيها ومخربيها، وهو رمز الوطن ومعيار الوطنية. وكل انتقاد لهذا العقد، في أي وجه من وجوهه، سواء أكان نظريا، عبر انتقاد السياسات، أو عمليا عبر تشكيل منظمات معارضة ليست مبرمجة من قبل النظام، بل حتى جمعيات المجتمع المدني، يشكل خرقا لسقف الوطن وتجاوزا لخيمته. وكما أن الوطنية الجديدة، كما يتصورها أصحاب النظام، لم تعد ترتب على المواطن أي التزامات أو واجبات سوى التماهي مع القائد الملهم، وتأكيد الولاء له، فلا يترتب على قادتها وممسكي زمام الأمر فيها، أيضا، أية مسؤوليات.
هكذا لا تبدو الوطنية مرتبطة بحقوق وواجبات ومصالح والتزامات تخص الجميع وكل فرد، وتحتمل النقاش والتطوير والتجديد والتحسين، وإنما هي سقف للحرية وتقييد للحق والقانون تفرضهما مقتضيات الأمن ويتجسدان عبر تعزيز القيود والحدود التي تؤمن وحدها الوحدة والالتحام والانتظام. فليس المطلوب من أحد، لا من الشعب ولا من المسؤولين، تأدية أي واجب من أي نوع كان، ولكن الطاعة والولاء من جانب، وقمع المتجاوزين للحدود والقيود من جانب آخر. ولذلك لا تتجلى الوطنية هنا عبر إنجازات، سواء أجاءت من المواطنين أم من النظام، ولكن عبر تأكيد الثوابت والكشف عن الخيانات أو إنتاجها وتصنيفها والمعاقبة عليها، تماما كما كان إيمان الكنيسة القرسطوية لا ينمو ولا يتجلى إلا من خلال تعميم المحارق المعدة للسحرة والملحدين. ومثلما تطابق التعبير عن هذا الإيمان في الماضي مع علم الزندقة الذي طورته محاكم التفتيش حتى أصبحا شيئا واحدا، يتطابق مفهوم الوطنية الجديدة مع علم الخيانة ولا يستقيم إلا به. فمن دون هذا الإنتاج المستمر للخيانات، تبقى وطنية الولاء الشخصي المطلق، الخالي من الحقوق والواجبات والمسؤوليات والالتزامات، فارغة، بالضرورة، من أي مضمون.

dimanche, janvier 15, 2006

تفجير العالم العربي

الجزيرة نت 15 كانون الثاني 06

لم تكن حقبة العولمة حقبة سعيدة بالنسبة للعالم العربي، لا ككتلة ولا كأقطار متفرقة. فقد كان عليه أن يتحمل أكثر من جميع المناطق الأخرى القسط الأكبر من أعباء إعادة بناء النظام العالمي الجديد أحادي القطبية، وما ارتبط ولا يزال يرتبط به من صراعات دموية ومنازعات اقتصادية واستراتيجية. ويمكن القول بالإجمال إنه وإن تمكنت بعض الدول على المستوى الفردي من تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية المؤقتة، إلا أن العالم العربي ككل قد خسر على طول الخط من جراء بروز ديناميات العولمة الراهنة التي تجسدت آثارها الرئيسية في تعميق الفجوات ومكامن النقص والتناقضات التي كانت موجودة من الحقبة السابقة، وفي أحيان كثيرة تفجيرها.
من هذه الفجوات، الفجوة الاستراتيجية التي تشير إلى تراجع شروط الأمن الخارجي بالمعنى القومي أو الإقليمي والوطني القطري على حد سواء. فمما لا شك فيه أن العالم العربي قد شهد تدهورا خطيرا في هامش استقلاله ومبادرته القومية، أي الشاملة. وهو ما يتجسد في إغلاق أفق بناء تكتل سياسي عربي يضمن الأمن الجماعي ويؤكد مشاركة العرب في تحديد سياسة إقليم الشرق الأوسط ومستقبله. فمنذ الآن أصبحت مشاريع الشرق الأوسط الكبير أو الشراكة المتوسطية التي تقسم البلاد العربية بين متوسطية وغير متوسطية، هي الوحيدة المطروحة على جدول العمل الإقليمي، من دون أي أمل بالتحقيق الجدي أيضا. وفي المحصلة غياب أي أفق للتكتل الحقيقي سواء أقام على أسس التقارب العربي أو التقارب الإقليمي، بين البلدان العربية. كما شهد العالم العربي تدهورا خطيرا أيضا في ميدان الأمن الوطني الخاص بكل بلد عربي. وهو ما يعكسه انهيار التفاهم العربي وتفجر النزاعات العربية العربية والحروب الأهلية التي فتحت البلدان العربية أمام التدخلات الخارجية ووسعت من دائرة انتشارها ورقعتها مع تحويل العالم العربي إلى ساحة واحدة للحرب العالمية على الإرهاب وبالتالي للحرب الإرهابية. وهكذا فقد العالم العربي عنصري الأمن والاستقرار الذين لا غنى عنهما في أي تنمية إنسانية، بما في ذلك التنمية الاقتصادية.
وشهد عصر العولمة العربي أيضا تعميق علاقة التبعية التي حاولت الحركة الوطنية والقومية السابقة المستحيل من أجل قطعها وضمان الاستقلال الوطني وتأكيد السيادة الشعبية. فالعالم العربي يعتمد اليوم في استمرار أمن دوله ونظمه السياسية واستقراره الاقتصادي وتأمين حاجاته التقنية والعلمية والصحية والثقافية، بل في بقاء دوله نفسها أو بعضها، على ما يتلقاه من دعم خارجي أو من حماية أو وصاية أجنبية.
فقد نشأت الدول العربية في حضن النظام الاستعماري القديم وسعت فور الخروج من تحت السيطرة الأجنبية إلى الانضواء تحت راية منظمة إقليمية هي الجامعة العربية. وبالرغم من أن هذه المنظمة لم تتسم بالكثير من الفعالية السياسية ومن باب أولى العسكرية، إلا أنها قدمت للشعوب العربية مظلة إقليمية عززت من هامش مبادرتها الوطنية كما شكلت منتدى سمح للدول العربية بمناقشة خلافاتها والتوصل إلى تسويات لا ترقى إلى درجة الحلول للنزاعات ولكنها تفضى إلى تخفيف التوترات والحفاظ على مظهر الإجماع العربي. وقد جاءت حركة الوحدة العربية في الستينات وما ارتبط بها من قوة شعبية لتعزز الشعور بالمصير المشترك لدى المجتمعات العربية وتقوي الانتماء لمجموعة واحدة كبرى ذات مصالح متقارية، ولها مصلحة في العمل المشترك، وربما تكوين كتلة إقليمية مؤثرة في وقت ما. وقد شكل التعاون في المسألة الفلسطينية نوعا من الصدقية لهذه الكتلة القائمة بالقوة إن لم يكن بالفعل.
بيد أن استراتيجية الوحدة العربية لم تستطيع أن تتغلب على عوامل السيطرة الخارجية التي كانت ترمي إلى منع نشوء تكتل، بل حتى تحالف عربي فعال، ضد إسرائيل. وقد تحقق لها ذلك عندما وقعت القاهرة على اتفاقية كمب ديفيد عام 1979، والتي استعادت بموجبها سيناء المحتلة، من دون أي اعتبار لمصير الأراضي العربية المحتلة الأخرى، وفي مقدمها فلسطين والأراضي السورية. وبالرغم من الصدع الذي هز الجامعة، إلا أن الحاجة إلى التكاتف في وجه الضغوطات الخارجية دفعت الدول العربية، من منطلقات براغماتية، إلى التمسك بالمنظمة الإقليمية التي أصبح وجودها وحده يشكل نوعا من الحماية الشكلية للدول، تجاه الخارج وتجاه الداخل أيضا، بما يؤمنه لكل منها من هامش مبادرة خارجية ومن أداة للضغط والحماية والمفاوضة الجماعية لصالح هذه الدولة أو تلك. وهكذا بدل أن تكون قاعدة مشروع تكتل عربي مطلوب لدرء المخاطر الأمنية وخلق سوق اقتصادية واسعة ضرورية للدخول في عصر العولمة أصبحت الجامعة العربية إحدى الأدوات الرئيسية التي تملكها الدبلوماسيات العربية لتأكيد وجود الدولة الوطنية وانغلاقها.

هكذا، منعت الضغوط والتدخلات الخارجية من بناء أي إطار للأمن الجماعي العربي، فبقيت اتفاقية الدفاع العربي المشترك ورقة ميتة كما دفنت المنظمة العربية للصناعات العسكرية في مهدها. وبدل الانطلاق من الجامعة العربية التي كانت تمثل قاعدة جاهزة للعمل العربي نحو بناء تكتل إقليمي يسمح باستيعاب تغيرات ميزان القوى الدولي ويضمن للعالم العربي وبلدانه المختلفة هامشا ضروريا للمناورة الاستراتيجية، اتجهت الحكومات العربية منذ الثمانينات في اتجاه العمل الفردي المنفصل، وأخفقت جميع محاولاتها في التوصل إلى صيغة لتطوير النظام الإقليمي العربي، بما في ذلك الصيغ الاقتصادية المحض كما حاول تجسيدها مؤتمر الاقتصادين العرب الذي عقد في عمان عام 1980 تحت شعار التنمية العربية.
وفي سياق هزيمة الحركة القومية العربية والحكم بالتجميد والعجز على النظام الإقليمي العربي المجسد في الجامعة العربية سوف ينهار التفاهم العربي السابق، حتى في حدوده الشكلية وتبرز من ورائه تناقضات المصالح وبرامج العمل الخاصة. وهكذا سيترافق دخول العالم العربي في عصر العولمة بسلسلة من الحروب الخارجية والعربية العربية والأهلية التي ستقوض صدقية الدول العربية وتدمر أسس استقرارها الاستراتيجية. وفي مقدمة هذه الحروب الحرب الاسرائيلية المستمرة لابتلاع الأراضي المحتلة وتحطيم المقاومة الفلسطينية واللبنانية التي ستبلغ ذروتها في محاصرة العاصمة اللبنانية بيروت من قبل القوات الاسرائيلية عام 1982، وتكبيدها القوات السورية المتواجدة فيه هزيمة عسكرية جديدة. وبالإضافة إلى حروب ليبيا جنوب الصحراء وحرب الصحراء الغربية التي سممت حقل العلاقات المغاربية ثم الحروب الداخلية العديدة التي فجرها التنافس بين الدول العربية على احتلال موقع متميز في القضية الفلسطينية، لن يمض وقت طويل حتى تفجرت عام 1979 الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثمان سنوات، في إطار التفاهم مع الدول الصناعية الغربية على كبح جماح الثورة الايرانية الاسلامية والحد من أثارها وعواقبها الاستراتيجية على المنطقة النفطية. وقد شق الموقف من هذه الحرب الرأي العام العربي شعوبا وحكومات على حد سواء. لكن الضربة القاضية للنظام العربي ستأتي من العراق البعثي بعد احتلاله لدولة الكويت، وإعلانه قرار إلحاقها بالعراق وضمها إليه. فلم تقوض هذه الحرب والقرارات التي تبعتها الأسس التي قامت عليها الجامعة العربية وتعمق الشك بنجاعتها وشرعية الرهان عليها فحسب وإنما عززت إرادة الدول الصناعية في بسط سيطرتها المباشرة على المنطقة، بما في ذلك اختراق المنظومة الأمنية الوطنية في البلاد العربية. وقد جاء تصويت أغلبية دول الجامعة العربية على القرار الذي اتخذته قمتها لدعم الحرب التي قررها التحالف الدولي ضد العراق عام 1991 لينهي أسطورة العمل العربي المشترك ويؤكد السير الحثيث للبلدان العربية نحو خيار التدويل. وهذا ما أكدته، في الأشهر التالية، مسارعة دول الخليج العربية إلى توقيع اتفاقيات التعاون العسكري والحماية المتبادلة مع الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ومنذ هجومات 11 سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك، والرد الأمريكي عليها باحتلال العراق عام 2003، وما تبعه من التفكيك المادي لدولته ومؤسساتها، فقد العالم العربي سيطرته على شؤونه الأمنية وتحول إلى منطقة نفوذ مباشر ودائم للقوى الإطلسية. وفي هذا الإطار طرحت الإدارة الأمريكية الجمهورية على لسان الرئيس جورج بوش مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يهدف إلى تكريس هذا الوضع وإعادة بناء المنطقة تبعا لحاجات العولمة الاستراتيجية والعسكرية، أي إلى إدخال دول غير عربية في التكتل المنشود، وفي مقدمها إسرائيل التي شكلت الحاجة إلى مقاومة توسعها محور البناء الإقليمي العربي، ومن وراء ذلك تصفية فكرة العروبة نفسها كحامل لمشروع إقليمي مستقل وإلغاء أي أمل لها في أن تستعيد المبادرة الاستراتيجية في المنطقة بما تمثله من نزعة استقلالية وأجندة وطنية خاصة ومصالح متناقضة مع المصالح الأطلسية، خاصة في ميدان النفط وضمان أمن إسرائيل وتطمينها على مستقبلها.
وما حصل هنا في الواقع على صعيد النظام الإقليمي لا يتنافى مع معطيات التاريخ، تاريخ العولمة، ولكنه يصب فيه. فما عجزت عن تحقيقه البلاد العربية سوف يتحقق تبعا لحاجات العولمة، لكن هذه المرة تحت الوصاية الأمريكية ولخدمة أهدافها الاستراتيجية معا. فبدل الخروج المنظم والواعي نحو استراتيجيات إقليمية وعالمية تحترم مصالح الشعوب ووشائج القربى التي تجمع بينها، كما كان عليه الحال في أوروبة، شهد العالم العربي خروجا تبعيا وإكراهيا معا مفروضا بالقوة السياسية والعسكرية كان من نتيجته تعريض المجتمعات للحروب والنزاعات الدموية، وانتزاع سيادة البلدان الفردية وإلحاقها بنظام الهيمنة الدولية الذي يستجيب لمصالح السيطرة الخارجية. فبقدر ما أخفقت البلدان العربية في التكيف إراديا مع حاجات العولمة الاستراتيجية، وجدت نفسها ضحية الاستراتيجيات البديلة أو المناوئة التي استخدمت معطيات العولمة ذاتها وحاجاتها من أجل فرض إعادة تركيب المنطقة من وجهة مصالحها الخاصة فحسب، أي إعادة فتح الحدود في ما بينها حسب حاجات الأجندة الأمريكية، حارمة المنطقة وبلدانها معا من الاستقلالية الاستراتيجية التي تضمن استقرار التوازنات الإقليمية بعيدا عن التدخلات الخارجية المستمرة والمفاجئة، كما تضمن المشاركة في القرارات الجماعية المتعلقة بمصير المنطقة ومصير شعوبها.
ويشكل هذا الاختراق الواسع للمنطقة من قبل الاستراتيجيات الدولية، وحرمان الدول من سيادتها واستقلال قرارها، تحديا كبيرا للمجتمعات العربية التي تطمح إلى الاستفادة من فرص العولمة في سبيل ترسيخ قاعدة الاستقرار وتحقيق التكتل الإقليمي من أجل التكامل وخلق شروط الازدهار لجميع السكان، لا في سبيل ضمان تدفق الموارد الطبيعية والبشرية والرساميل للخارج. وبالمقابل إن ما حصل بالفعل في إطار العولمة هو تدويل المنطقة من جهة وإخضاعها لحاجات الحرب العالمية ضد الارهاب التي أصبحت البوصلة الوحيدة للاستراتيجية الأمريكية العالمية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. وهي الحرب التي تدور رحاها بالدرجة الرئيسية في البلاد العربية وتتحول أكثر فأكثر إلى حرب الدول العربية والحكومات الرسمية ضد مجموعات الإرهاب التي تمثل هي نفسها تعبيرا عن الأزمة الخطيرة التي تعيشها حركة المواجهة العربية وما وصلت إليه من انسداد. فهي تتحول بشكل من الأشكال إلى حرب أهلية عربية إسلامية. ويشكل تجريد المنطقة العربية من مشروعها الخاص ووضعها تحت الوصاية، باسم الكفاح ضد الارهاب العالمي وتدمير أسلحة الدمار الشامل ونشر الأمن والديمقراطية، جزءا من أجندة العولمة الأمريكية، ويدخل في باب تدويل الأمن والسياسة العربيين.

لكن، لم يضمن تدويل قضايا الاستراتيجية والأمن الوطني في البلاد العربية المزيد من الأمن، ولا ساهم في تحقيق الاستقرار. لقد فجر بالأحرى الأزمة العميقة التي تعيشها المجتمعات العربية والتي ساهمت الضغوط الغربية القوية والمتواصلة في تفاقمها والمد في أجلها، من خلال منع أي تكتل إقليمي استراتيجي عربي، والإبقاء على توازن قوة يخدم مصالح الحفاظ على الأمن والاستقرار في اسرائيل، من دون أن يأخذ بأي اعتبار مصالح الحفاظ على الأمن والاستقرار في البلاد العربية.
وهكذا كانت نتيجة هذه العولمة الاستراتيجية زيادة الانفاق العسكري لدى الدول العربية، لكن مع تفاقم سوء الأوضاع الأمنية، وتدهور قدرات الدول على الاحتفاظ باستقرارها وضمان الحد الأدنى من استقلال قراراتها الوطنية. مما يعني أن مزيدا من النفقات العسكرية قد قاد، بالعكس تماما مما ينتظر منه، إلى المزيد من التبعية والاختراقات الخارجية. فقد بلغت نسبة الانفاق العسكري لدول مينا بين 12-13% من الناتج المحلي بين 1995 و1999. هذا مع العلم أن بلدانا عربية عديدة تخفي حجم نفقاتها الدفاعية الحقيقي بسبب تحويل القطاع العسكري إلى قطاع اقتصادي حافل بالمؤسسات والشركات التي تشكل بؤرة للفساد ومصدر لتحقيق المغانم السريعة للنخب الحاكمة.

samedi, janvier 14, 2006

نهاية الاستبداد

ملحق النهار 2كانون الثاني 06

في سياق الرد الحماسي على العنف المنفلت والإبقاء على روح التفاؤل الإنساني، يعتقد البعض أن من الضروري التأكيد دائما على أن استخدام العنف لا مبرر له وانه خطأ يعكس جهل صاحبه. ذلك أن العنف لا يحل أي نزاع، وأن الطريق الوحيدة لإزالة الخلافات السياسية، أو لتحقيق المصالح الإقتصادية، إذا كانت هناك خلافات أو مصالح، هي طريق الحوار. ويقول آخرون إن عمليات القتل تعكس خواء جعبة فاعليها أو الموصين عليها، وانفلات الواقع من سيطرتهم، وسعيهم اليائس إلى الحفاظ على حد أدنى من الصدقية. ويقول طرف ثالث لا يعبر العنف المنفلت إلا عن الانهيار المعنوي لأنصاره وافتقارهم إلى جميع المعايير الأخلاقية والسياسية والقيم الإنسانية. بيد أن القاتل يستهزيء بهؤلاء جميعا، ويرد عليهم بضحكة مدوية ترتطم بكل الجدران، ليعم صداها أركان الدولة وقاعات مجلس الأمن ولجان التحقيق الدولية بأكملها. صرخة تقول: الحقوا بي إذا شئتم. ستتعبون كثيرا قبل أن تمسكوا بي. وما أن تغلقوا النافذة التي يدخل منها الموت، حتى تنفتح أمام أعينكم أبواب لا تحصى. ولعلكم تعترفون في النهاية بعجزكم، وتسلموا بأنه لا توجد إلا طريقا واحدة لوقف العنف هي القبول بالعنف نفسه والتعايش معه. القانون؟ إلعوبها مع غيري.
والقاتل على حق. ليس صحيحا أن القتل لا يفيد في شيء، أو أنه تعبير عن الجهل أو فقدان المنطق والعقل. ولو كان كذلك لما شعر بخطره أحد، ولا أدانه أصحاب القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الدينية. والعنف يغير مصائر شعوب وحضارات بأكملها. والقتل سلاح فتاك ليس بالنسبة للأفراد فحسب، ولكن بالنسبة للجماعات والمجتمعات أيضا. فهو وسيلة لردع الخصم أو الآخر ولي ذراعه، وإن أمكن لإخراجه كليا من ساحة المواجهة والمنافسة الفكرية أو السياسية. ومن الممكن إلغاء فكر بإلغاء شخص، ومن الممكن ترويع شعب بقتل قياداته بحيث يسهل بعد ذلك فرض القيادات المطلوبة عليه، ومن الممكن "تطهير" أرض بإبادة شعب وأخذ مكانه. هذا ما قامت به السلطات الاستعمارية في العديد من الحالات. وهو ما تقوم به الديكتاتوريات التي نجحت بالقتل وتعميم العنف في أن تحافظ على نفسها لعقود طويلة، في بقاع مختلفة من الأرض، وأن تستمر، طالما بقي قادتها على قيد الحياة، أو نجحوا في تجنب الاغتيال.
وفي العالم العربي، هذا ما فعلته ولا تزال تفعله إسرائيل منذ قيامها وحصولها على الدعم الاستثنائي من المجتمع الدولي، أي من الدول الكبرى التي تشكل الأركان الحقيقية لهذا المجتمع، وتقوم بدور الوصاية عليه. وبالقتل وحده نجحت القيادات الصهيونية الطامحة إلى إقامة وطن قومي صاف لليهود في فلسطين على أنقاض شعبها وبالرغم منه، في الانتصار على الفلسطينيين، وفرط عقد اجتماعهم، وتشريد أكثرهم وفرض الإذعان والخضوع على من بقي منهم تحت السيطرة الاسرائيلية. وليس المقصود بهذا الدعم ما حصلت عليه المنظمات المقاتلة اليهودية من عدة وعتاد، ولكن المقصود أكثر من ذلك بكثير، أي التغطية الأدبية، والتهريب من المسؤولية، وتجنيب القيادات الصهيونية المساءلة والمحاسبة ودفع الثمن عن الجرائم المكررة التي ارتكبتها ضد الفلسطينيين، وفي أحيان كثيرة تحويل الضحايا أنفسهم إلى جلادين مسؤولين عن موتهم هم أنفسهم وتبرئة الجلادين من دم الضحية.
لكن في ما وراء إسرائيل وما حصلت عليه من تغطية وتبرئة من المسؤولية وتجنب العقاب، بسبب التعاطف الواسع الذي حظيت به الجماعات اليهودية التي تعرضت للمذابح النازية، تغطي عملية التهريب من المسؤولية والعقاب قائمة طويلة من الأشخاص والأحداث والأعمال التي شكلت قانون الحياة في المنطقة الشرق أوسطية خلال عقود طويلة ماضية. فالمجتمع الدولي نفسه الذي قدم لاسرائيل دعما لا مشروطا في مواجهتها مقاومة الشعب الفلسطيني ومطالبته بحقوقه، قدم دعما لامشروطا مماثلا للنخب العربية الحاكمة التي سايرت سياساته الإقليمية تجاه شعوبها وحركاتها المطالبة باحترام حقوقها ومصالحها الرئيسية. وقد شكل هذا الدعم المزدوج وغير المشروط قاعدة موضوعية متينة للتفاهم العملي والتعاون الفعلي بين اسرئيل والنخب العربية، وخلق وضعا استثنائيا في المنطقة خارج القانون أو معاد للقانون وللقيم الإنسانية. فأصبح العنف، بما يعنيه من تطهير عرقي وتمثيل واغتيال وإرهاب، من الأمور الطبيعية والعادية. ولم يعد هناك ما يردع أي طرف من الأطراف القادرة على ممارسة العنف، وفي مقدمها النخب الحاكمة التي تحولت إلى شبكات مصالح مافيوية، عن استخدام القتل والإرهاب كأداة لممارسة الحكم وإلغاء السياسة لضمان استمرارها بصورة تلقائية.
ومن هذا الدعم اللامشروط للنخب الديكتاتورية، وغض النظر المستمر عن العنف بأشكاله المختلفة، واستثناء المنطقة بأكملها من حكم القانون، في سبيل التشريع لاغتصاب الحقوق الفلسطينية، سيولد ويترعرع ويكبر وحش الاستبداد الرهيب الذي يخيم بظله اليوم على الشرق الأوسط بأكمله ويحوله إلى منطقة امتهان كرامة لإنسان بامتياز وانتهاك حقه في الحياة كما لم يحصل في أي وقت ولا يحصل في أي مكان.
لكن في ما وراء المثال الاسرائيلي، والدعم اللامشروط الذي قدمه الغرب الامبريالي للنظم المعادية لشعوبها والمفروضة عليها لخدمة المصالح الأجنبية، ما كان من الممكن لوحش الاستبداد أن ينمو ويصل إلى ما وصل إليه من قوة ونفوذ ومقدرة على التخريب والدمار من دون ما سيطر على المجتمعات والأفراد في البلاد العربية، الخارجة لتوها من تحت السيطرة الاستعمارية، بعد قرون طويلة من التعقيم الاستبدادي العثماني، من ثقافة الموت والأنانية والاستقالة الأخلاقية والسياسية، والاستهتار بالمباديء والقيم الكونية، والتعلق الدنيء بالمصالح الشخصية والعائلية، وغياب الرؤية الجماعية والتاريخية. فهو ابن الثقافة العربية الجديدة والضعيفة الفاقدة لمنابعها الروحية والمفتقرة في الوقت نفسه للمصادر العقلية النقدية، بمثل ما هو ابن نظام السيطرة شبه الاستعمارية، وربيب التفاهم مع المشاريع الصهيونية والتسهيل لقيام الدولة الاسرائيلية على أرض غريبة وبوسائل الترغيب والترهيب أيضا. فكلاهما، وحش الاستبداد ووحش الاستيطان والاستعمار يقتاتان من الحشيشة نفسها ويستخدمان الوسائل ذاتها: العنف المنفلت في حالة من غياب القانون والاستقالة الأدبية الداخلية والعالمية.
لم ينهزم الاستبداد بعد، ولم يطح به في أي موقع من المواقع العربية، لأن إسرائيل ومشروعها الاستيطاني الذي يشكل الضرع المغذي للاستبداد والمشتري الرئيسي له معا، لم يضعفا ولا فقدا المبادرة أيضا. ولا تزال الشعوب العربية أسرى نظامي العنف الموصوف هذين. وسيمر وقت طويل قبل أن يدرك الرأي العام العربي بأن الاستبداد ليس إلا الامتداد الحتمي والطبيعي للعنف الأصلي الاسرائيلي وأذرعه الضاربة أيضا. وأن تكسير هذه الأذرع هو المدخل الوحيد لتحجيم المشروع التوسعي الاستيطاني، قبل فرض العودة إلى مباديء الحق والقانون على المجتمع الاسرائيلي والمجتمع الدولي أيضا في منطقة الشرق الأوسط.
لا يزال العنف الممارس ضد الشعوب العربية وضد الأفراد مستمرا في العالم العربي لأنه لا يزال له مردود/ أو لا يزال من الممكن صرفه، بالرغم من كل الإدعاءات وتظاهرات البراءة والتخلي عن السياسات السابقة، في عواصم العالم الرئيسية. والذين يعتمدونه لغة للمخاطبة والحوار لا يفعلون ذلك إلا لأنهم على يقين من أنه لا يزال تجارة رابحة، ولا يزال هناك طلب كبير عليه، لأسباب متعددة، وبأشكاله المختلفة أيضا، من قبل أصحاب القوة والجبروت الذين كانوا لفترة طويلة المدربين والراعين المباشرين للقتلة. ولعل أهم هذه الطلبات يأتي اليوم من حاجة إسرائيل للأمن والسلام الذي لا تؤمنه لها سوى أنظمة استبدادية ليس لأصحابها هم سوى شل إرادة الشعوب التي يسيطرون عليها وليس لهذه الشعوب نفسها خيار سوى الصراع المستمر للتخلص من أنظمتها. هكذا يشكل الاستبداد والعنف المرافق له، بل المكون لجوهره، الوسيلة الرئيسية لتحييد المجتمعات العربية وإخضاعها لحاجات السيطرة الداخلية والخارجية. ولن يتوقف العنف والاستبداد الذي ينتجه إلا بقبول أولئك الذين زرعوا العنف ورعوه ولا يزالون يراهنون عليه بوضع حد لنظام السطو على مصالح الشعوب وحقوقها المشروعة، في المنطقة العربية وفي العالم أجمع.

mercredi, janvier 11, 2006

في جذور الأزمة الوطنية العربية

الوطن 10 كانون الثاني 06

ذكرت في مقال سابق أن الفكرة الوطنية، والحركة التي ارتبطت بها، قد نشأت في العالم العربي، وفي سورية بشكل أكبر، في سياق الكفاح من أجل الاستقلال ضد القوى الاستعمارية. وتطابق مفهومها أيضا مع الحفاظ على هذا الاستقلال وتحقيق الأجندة المرتبطة به. ولا تختلف هذه النشأة عما حدث مع جميع القوميات والدول الوطنية العديدة التي ولدت في الكفاح ضد عدو خارجي، وليس بالضرورة ضد سلطة قهرية استبدادية داخلية. لكن، بعكس ما حصل في معظم البلاد الأخرى، لم تمثل الحقبة الوطنية المرتبطة بالاتحاد ضد عدو خارجي، إلا فترة بسيطة شكلت مدخلا نحو حقبة التأسيس الوطني الداخلية، أي حقبة بناء العلاقة الوطنية الجديدة التي تعيد إخضاع الدولة للمجتمع والجماعة لقانون المساواة والندية، والتي تكون سمة المجتمعات الوطنية. أما في المنطقة العربية فلم تنته معركة الصراع ضد النفوذ أو السيطرة الأجنبية مع نيل الاستقلال ولكنها استمرت بعده بصورة أقسى، وكرست حقبة ما بعد الاستقلال مفهوم وطنية المواجهة أكثر مما ساعدت على فتح آفاق جديدة للانتقال نحو مفهوم ايجابي يؤسس للحريات الفردية ولدولة المؤسسات القانونية. ويرجع ذلك لسببين رئيسيين: تفتت العالم العربي وضعف دوله من جهة وقوة المصالح الاستراتيجية، النفطية والجيوسياسية والسياسية للدول الكبرى بها. كما كان لقيام إسرائيل، والحرب المستمرة التي فجرتها حركتها الاستيطانية، دورا كبيرا ومتواصلا أيضا في ترسيخ المضمون الخارجي الذي تبلور في حقبة الصراع ضد الاحتلال للوطنية.
ومن أنقاض الوطنيات المحلية التي انهارت تحت الضغوط الخارجية القوية وأخفقت في الحفاظ على استقلال الدول الفتية، أو في إعطاء هذا الاستقلال مضمونا أكثر من شكلي، ولدت القومية العربية التي عبرت عن نشوء وطنية جامعة، لا تختلف في الهدف والمضمون عن سابقتها، ولكنها ترمي إلى تحسين شروط الشعوب العربية جميعا في مواجهة التدخلات الاجنبية والرد عليها. وقد عكست "الوطنية" القومية الجديدة التي استعادت، لكن بصورة أكثر اتساقا وقوة، فكرة الوحدة الوطنية في مواجهة المخاطر الخارجية، حاجة المجتمعات العربية التي سئمت من الوصاية أو شبه الوصاية الأجنبية، إلى توسيع إطار المقاومة والعمل، عبر حدود الدول العربية ومن ورائها، في سبيل تعزيز قدراتها وزيادة فرص نجاحها في الحصول إلى استقلالها الناجز والفعلي. ومن هنا أصبحت الوحدة العربية الشعار المركزي للحركة القومية العربية، بقدر ما ظهرت هذه الوحدة على أنها الأداة الرئيسية والضرورية لتطبيق الأجندة السياسية المتمحورة حول القضاء على الاستعمار والصهيونية، والوقوف في وجه الأحلاف العسكرية المفروضة ومواجهة الضغوط، الاقتصادية والسياسية والثقافية للدول الغربية.
والواقع أن الفكرة القومية لم تغير في الغاية الرئيسية للحركات الوطنية الماضية ولا حادت عنه، ولكنها جاءت باستراتيجية ووسائل عمل وإمكانيات أكثر نجاعة وشمولا. ولذلك نجحت بسهولة في جب ما قبلها من الوطنيات لصالح تأسيس وطنية عربية جامعة كان لها صدى شعبيا لا مثيل له لدى جماهير البلدان العربية. وبقدر ما حظيت الحركة القومية بزعامة كارزمية واستفادت من انتشارها الواسع في كل الأقطار العربية، شكلت بالفعل خطرا كبيرا على مراكز النفوذ الغربية المتغلغلة في المنطقة، وهددت العديد من مواقعها التاريخية. وبعد أن حررت الجمهور العربي من مشاعر الضعة والمذلة والخنوع والاستسلام للتفوق الغربي، استحدثت ثقافة قومية كان لها دور كبير في ايقاظ مشاعر السيادة والكرامة الكامنة وتفجيرها عند ملايين العرب. وهكذا نجحت هذه الحركة في فتح جبهة واسعة للتحرر من النفوذ الأجنبي شملت المنطقة العربية برمتها وخلال عقود طويلة.
في هذا السياق حصل التطابق بين اهداف هذه الحركة القومية والأجندة الوطنية الخاصة بكل قطر من الأقطار العربية، فصار التكتل من حول الزعامة الناصرية والمشاركة في أجندة الصراع لتحقيق السيادة العربية وضرب مواقع النفوذ الغربي هو معيار الوطنية عند الشعوب على المستوى القطري والقومي معا. ووسمت النظم التي رفضت تكييف سياساتها مع هذه الأهداف، أو التي لم تتعامل بايجابية مع أجندة الصراع ضد قوى السيطرة الأجنبية، من قبل هذه الشعوب نفسها، باللاوطنية إن لم تتهم بالخيانة. وصارت تصفية القواعد العسكرية وتأميم الشركات الأجنبية وإقامة مؤسسات وسياسات تعزيز الاستقلال والسيادة العربية، على مستوى المنطقة ككل وداخل كل دولة عربية، مقياس الولاء للوطنية، بينما أصبح ينظر لأي شكل من أشكال التحالف، بل التعاون مع القوى الغربية، بمثابة خروج على الإجماع العربي الوطني.
وفي سياق هذه الوطنية العربية الصاعدة تطورت أيضا أجندة وطنية داخلية اكتست طابعا شعبويا قويا، وجمعت بين إدماج النخب الاجتماعية، وبشكل خاص المنبثقة من أصول ريفية، في الحياة الوطنية والسياسية، وتطبيق برنامج إصلاحات داخلية، اقتصادية واجتماعية، اتسمت بسمة الاشتراكية وعملت على إعادة توزيع الثروة بصورة أكثر عدالة.
بيد أن هذه الوطنية العربية الجديدة الجامعة، التي سيطرت عليها الصفة الشعبوية التي تقوم على تعبئة الجمهور العريض وراء قيادة تاريخية كارزمية، على حساب بناء مؤسسات الدولة السياسية والقانونية، لم تنجح في تحقيق هدفها في الوحدة العربية التي تشكل الرافعة الرئيسية للتخلص من الهيمنة الأجنبية. وبدل أن تنجح في القضاء على نظام السيطرة الخارجية سقطت هي نفسها تحت ضربات النفوذ الاستعماري الغربي المعشعش في المنطقة، وأخذت بالانحسار منذ حرب حزيران يونيو 19967، لتخلف وراءها حركة شعبية ضائعة وقيادات حائرة لم تلبث حتى تفككت وتفسخت أمام إغراءات السلطة المطلقة الموروثة والضغوط الخارجية. وبانهيار التحالف الاجتماعي الذي كان يقف وراء تحقيقها، فقدت الأجندة الوطنية القومية حاملها التاريخي وبدأت هي نفسها بالذوبان والانحلال. وكان من علائم ذلك الطلاق المتنامي بين الأجندة القطرية والأجندة القومية الوطنية، والانفصال المتزايد بين برنامج المواجهة الخارجية وبرنامج الاصلاحات الاجتماعية الداخلية. وشيئا فشيئا حلت الاستراتيجيات القطرية محل الاستراتيجية العربية القومية، كما تخلت النخب الحاكمة عن السياسات الشعبوية، بالرغم من استمرارها في تزيين سياساتها القطرية بأوشحة قومية وشعارات شعبية فارغة من أي مضمون.

وبموازاة انهيار الحركة القومية وتراجع الحركة الشعبية، ستبرز بقوة بيرقراطية الدولة لتصبح القوة الاجتماعية والسياسية الرئيسية التي يستند إليها النظام، وتستولي بسرعة على مقاليد السلطة وعلى مؤسسات الدولة ومواردها. وفي هذا السياق لتفكك الحركة القومية الشعبية، وصعود بيرقراطية الدولة، وانحسار الفكرة الوطنية وتشتت برنامجها، ستولد آلية الانفصال المتزايد بين الدولة والمجتمع، واستقلال كل واحد منهما بنفسه. وهو ما أسس لبداية أزمة الوطنية العربية بنموذجها القطري القديم ونموذجها القومي السابق معا. فلم يعد لدى الدولة البيرقراطية الجديدة أي برنامج لتوحيد الجماعة الوطنية أو المساهمة في توحيدها وتجاوز تناقضاتها، باستثناء برنامج الحفاظ على الوضع القائم وإعادة إنتاج المصالح الحاكمة والسائدة كما رست عليه الحال في الحقبة السابقة. وسيطرة هذا البرنامج الجديد للحفاظ على الوضع القائم هو الذي يفسر كيف تحول محور نشاط النظم الحاكمة نحو بناء الأجهزة الأمنية والتثمير فيها وتوسيع صلاحياتها حتى قضت على الحركة الشعبية كليا، وحلت محلها كقاعدة للحكم، ولم تلبث حتى أكلت الدولة نفسها ومؤسساتها.

lundi, janvier 09, 2006

مسارات الجزيرة ج3 العرب والحداثة الغربية

سماع الجزيرة
ShowMedia/showMedia.aspx?fileURL=/mritems/streams/2006/1/9/1_589446_1_13.wma
غليون.. العرب والحداثة الغربية ج3

مقدم الحلقة: مالك التريكي
ضيف الحلقة: برهان غليون/ أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون
تاريخ الحلقة: 9/1/2006
- الثقافة السياسية العربية- الحداثة من منظورها العربي
مالك التريكي: يرى مدير مركز دراسات الشرق المعاصر في باريس برهان غليون أن المضمون الأساسي للتاريخ الحديث عند جميع الأمم هو انخراطها في عملية التحديث وسعيها الناجح أو المخفق إلى استيعاب الحداثة سواء من حيث هي وسائل إنتاج أم نظم سياسية أم قيم إنسانية ويعتقد برهان غليون أن المشكلات الأساسية في المجتمعات العربية أن هي ناجمة عن الأخذ بحداثة رثة استعمالية واستهلاكية ومن مظاهر هذه الحداثة الممسوخة أن الثقافة السياسية لدى الشعوب العربية قد أصبحت تُستَخدم عاملا تفسيريا بل وسلاحا تبريري لاستمرار الاستبداد وذلك بزعم أن الثقافة الشعبية لا تقتضي الحرية ولا تشعر أن بها حاجة إلى الديمقراطية.
الثقافة السياسية العربية
برهان غليون- أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون: هذا اللي بيدفع.. بيجعل بعض النخب الحاكمة تقول إنه أنتم تتحدثون هذه مطالب مثقفين، أنتم تريدون الحرية لكن شعبي يريد الخبز وهذا ليس خطأ الشعب.. القيم الرئيسية التي تحرك الشعوب العربية هي قيم لأنه يعيش في ظروف اقتصادية سيئة جدا هي ظروف مادية، الإنسان قبل ما يحلم بالحرية.. حرية التعبير وخاصة هو لا يعبر عن شيء وليس لديه شيء يعبر عنه بسبب أيضا فقر الثقافة وفقر التربية الثقافية والفكرية فصحيح أنه مطلب الحرية ليس مطلب أولي في الثقافة السياسية العربية كما هي موجودة اليوم على الأقل عند الرأي العام لكن أنا بدي أميَّز بين نوعين من الثقافة السياسية.. فيه ثقافة سياسية يعني مجموعة القيم العميقة التي تحرك الرأي العام، الإنسان العادي، العربي العادي وفيه ثقافة سياسية بمعنى الثقافة العالمة، الثقافة المنظمة، الثقافة الفكرية، الفكر السياسي اللي يحرك النخب..
مالك التريكي: ثقافة النخبة.
برهان غليون: وهذا له تأثير كبير لأنه يؤثر على السياسي، يؤثر على المناضل الإداري، يؤثر على النخبة اللي بدها تسيير البلاد فبالتأكيد أنه ثقافتنا السياسية على مستوى الرأي العام يعني العامة هي ثقافة مازالت كثير مرتبطة بخمس قرون من السيطرة أو أكثر من السيطرة السلطانية التي كانت تقوم على تعقيم الوعي السياسي عند الناس.. ممنوع حدا يتكلم بالسياسة وعلى كل لم يكن لم تكن السياسة موضوع شعبي في ذلك الوقت لكن كان فيه قهر للفرد وكان فيه تربية تمحو الشخصية وتنمية تمحو.. تربية تمحو الإرادة وتراهن على الاندماج الأعمى للفرد بالقبيلة بالعشيرة بالطائفة بالطريقة الصوفية فنحن ليس لدينا ثقافة فرد بمعنى أنه مشكلتنا الرئيسية عند العامة هو أننا ليس لدينا ثقافة فرد وعندما أقول ثقافة فرد ما بأحكي عن الأنانية والفردية مالها علاقة أيضا، فيه ناس يفكروا.. إطلاقا بهذا الموضوع، الفرد بمعنى كل إنسان يشعر كما قلت باحترام نفسه، بمسؤوليته، بكونه عضو فاعل ومشارك في مصير في الجماعة وهو ليس إمعة.. الفرد عكس ما نسميه باللغة العربية إمعة يعني تابع لغيره، يمشي وراء الآخرين ويقلدهم وليس له رأي ولا موقف.
مالك التريكي: والغريب أن هنالك حديثا مشهورا.. حديثا نبويا شريفا للرسول صلى الله عليه وسلم أنه ينصح أصحابه من المسلمين ألا يكون أحدكم كالإمعة.
برهان غليون: تماما ولكن المسلمين تحولوا بسبب النظم السلطانية القهرية اللي هي مبنية على القهر حقيقة وإلغاء التفكير النقدي وإلغاء الفردية إلى إمعات، يعني حولوا مجتمعات كاملة إلى إمعات ونحن نشاهد هذا يوميا أمام أعيننا اليوم كيف تحول النظم الراهنة الناس إلى إمعات، عندما أمنع الناس من التفكير، من التنظيم السياسي، من الكتابة، من التعبير عن الرأي، من المشاركة في وسائل الإعلام، عندما أفرض عليهم الصمت المطلق إذا كانوا مخالفين إلا إذا كانوا يريدون التصفيق للحاكم وللحزب الحاكم إلى آخره، عندما ألغي حتى منتديات صغيرة يجتمع فيها عشرات وأحيانا أقل من المثقفين في منزل وفي صالون أو منزل خاص من أجل تبادل الرأي حول ما يجري في البلاد.. عندما أمنع كل هذا أنا أحول الناس لإمعات، أطلب منهم ألا يفكروا.. أنتم ليس عليكم أن تفكروا.. هناك زعيم ملهم..
مالك التريكي: يتولى مسؤولية التفكير.
برهان غليون: هو يتولى التفكير ويتولى القيادة ويتولى العمل مكانكم وبالحقيقة نحن خلقنا شعوب ومجتمعات عاطلة فكريا ولأنها عاطلة فكريا وعاطلة سياسيا ستكون عاطلة عن العمل أيضا، نحن يعني نعيش أكثر الشعوب تعاني من البطالة.. العطالة والبطالة الاقتصادية اليوم لأنه قتلنا شعوبنا فعلا عندما قتلنا كل فرد، شعور كل فرد بذاته كفرد فاعل مسؤول حر قادر مشارك، هذه على المستوى العام ينبغي النقاش فيها على مستوى يعني الثقافة العامة موضوع أساسي يستحق التحليل والتفكير من قبل المثقفين، الآن على مستوى الثقافة العالمة اللي سميتها العالمة اللي هي الثقافة النظرية.. بالحقيقة حتى اليوم عندما يفكر الإنسان بالكتب التي.. السياسية التي تربي المجتمع والنخب على الديمقراطية أو على رؤية سياسية جديدة أو على مضمون القيم الحديثة السياسية.. قيم الحداثة السياسية، مهم نشوف في مؤلفات كثير يعني في بعض المؤلفات اللي هي تلخيص لأفكار غربية مفكرين غربيين لكن تفكير عميق من قِبلنا نحن كعرب بمسائلنا مش موجود والحقيقة الثقافة هي مرتبطة بالتجربة مثل البحث العلمي البحث العلمي ما ممكن أنا أخترع نظريات إذا ما كنت عم بقوم ببحث علمي ولا يمكن أن نخترع لثقافة سياسية نظرية حديثة عميقة إذا لم نمارس نحن تجربة ديمقراطية حديثة..
مالك التريكي: تراكمية.
برهان غليون: تراكمية وفقرنا بها الموضوع هو سبب فقرنا في الممارسة الديمقراطية أيضاً على مستوى مجتمعاتنا لذلك أنا أعتقد إنه هذه الصعوبة اللي تواجهنا واللي بتلقي مسؤولية كبيرة أكثر من أي يمكن منطقة أخرى على عاتق المثقفين الديمقراطيين واللي عندهم شعور بمصير يعني بدورهم في مساعدة مجتمعاتهن على التقدم، ربما تبدأ ثقافتنا السياسية اليوم.. نحن نبني ثقافة سياسية جديدة، ليس لدينا ثقافة سياسية نظرية حقيقة، لدينا الفقه السياسي القديم اللي لا يفيدنا اليوم في سيئ لكن ثقافتنا تبدأ اليوم الحديثة من نقد الاستبداد ونقد النظم الشمولية ونقد الممارسات القمعية القائمة في المجتمعات العربية وأعتقد إنه إذا كان في شيء حدث بالمجتمعات العربية في الخمسة عشر أو العشرين سنة الماضية وإيجابي ويستحق الذكر هو بروز وانبثاق هذه الروح النقدية العميقة.. هذا الفكر النقدي العميق فيما يتعلق بالوضع السياسي العربي، أعتقد إن هذا أكثر وجه إيجابي وبراق اليوم من الفكر العربي هو نقد تجربة الدكتاتورية لأنه عشناها ونحن نقدم الكثير في هذا الموضوع لأنه عشنا وعانينا وأنا لازلت مصر على أنه الفكر مرتبط بالمعاناة يعني ليس هناك فكر عميق بدون معاناة عميقة وأعتقد إن شعوبنا عانت..
مالك التريكي: الكثير.
برهان غليون: وربما ستعاني الكثير من القهر ونظم القهر الراهنة وهذه بداية بناء الفكر السياسي والثقافة السياسية العربية الحديثة.
مالك التريكي: ولذلك سميت أزمة الدولة العربية بمحنة الدولة العربية.. استعمال كلمة المحنة له مدلول وتتصور أن ما يُنتَج الآن فكرياً في هذا المجال.. مجال نقد الاستبداد سيؤدي إلى إنتاج نصوص تأسيسية يكون لها دور في تكوين الثقافة الشعبية مثلما كان مثلاً لجون ستيوارت ميل وكتابه الشهير (On Liberty) لتوماس بين وألكسيس دي توكفيل وتكوينهم للثقافة السياسية الشعبية في الديمقراطية الغربية.
برهان غليون: أنا أعتقد أن نقد الاستبداد يفتح مباشرة على مفاهيم جديدة هي المواطنية.. هي الحرية اللي تجاهلناها خلال فترة طويلة أو اعتبرناها قيم ثانوية على قيم السيادة الفرد، الشعور بأن هو سيد مصيره وليس إمعة وتابع، على مسالة الدستور، على مسألة القانون، على مسألة العقد الاجتماعي والعقد الوطني.. أنا أسميه العقد الوطني بمعنى مش فقط مسائل تتعلق (كلمة بلغة أجنبية) التقليدي مفهوم جديد، العقد الوطني بمعنى الرؤية الشاملة لمجموعة القيم التي ستحرك هذا المجتمع وتوحده فيما بينه.. فيما بين أفراده فأعتقد إنه نقد السياسي يفتح نقد النظم التسلطية.. يفتح مباشرة نحو بناء ثقافة سياسية إيجابية متعلقة بالديمقراطية والديمقراطية كما نفهمها نحن ونأصلها في ثقافتنا وفي تفكيرنا ولكن في هيك الأساس بتجربتنا من أجلها.. من أجل.. بتجربة النضال من أجل الديمقراطية ستولد نظرية الديمقراطية العربية، ليست لا تقليد للآخرين ولأن نظرية الديمقراطية العربية هي ليست كتالوج للمطالب الديمقراطية أو قائمة مطالب.. نظرية الديمقراطية العربية تعني نظرية إقامة الديمقراطية في وضع اسمه الشرق الأوسط للدول الغربية مصالح كبري فيه، موجود في صراع وطني عميق مع الإسرائيليين ومع أيضاً نظام شبة استعماري يحاول أن يسيطر عليه، مع ثقافة عامة ضعيفة فيما يتعلق بموضوع الحرية، مع نخب أيضاً لا تزال تعيش إلى حد كبير أقدامها مغروزة قدم في الماضي وقدم في الحاضر ولم تستوعب وتستبطن قيم الحداثة كلها، كيف سنحل جميع هذه المشاكل؟ إذا نجحنا في حل جميع هذه المشاكل نوجد نظرية في الديمقراطية العربية، هذه هي النظرية يعني كيف أبني الديمقراطية في هذا الوضع وهذه الظروف الجيوسياسية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة، أيضاً لازم ما ننسي دور الريع النفطي في تخريب الحياة السياسية وفي إطفاء وفي إعطاء الدولة أو النخبة الحاكمة قدرة استثنائية على شراء الناس وعلى استتباعهم وعلى بناء أجهزة قمع وسيطرة قوية جداً لسحق أي إرادة تحرر داخل هذه المجتمعات.
[فاصل إعلاني]
الحداثة من منظورها العربي
مالك التريكي: الريع النفطي بما أنك ذكرته هو مظهر من مظاهر الاقتصاد غير الإنتاجي الفسادي والإفسادي وله مظاهر كثيرة في مجتمعاتنا، هذا يندرج في إطار عدم القدرة على هضم الحداثة مما أنتج ما تسميه بالحداثة المشوهة وبقايا حداثة تقضي على إمكانية الدولة، أعمالك في السنوات الأخيرة تتركز على نقد الحداثة ليس من منظور غربي مثلما تُنقد الآن في نظريات ما بعد الحداثة وهذه الموضة والتقليعة لكن من منظور عربي.
"جوهر التحدي التاريخي الذي تواجهه المجتمعات وخاصة العربية هو استيعاب التقدم التكنولوجي والعلمي والأخلاقي الذي نشأ مع الحداثة"برهان غليون: يعني أنا برأيي إنه جوهر التحدي التاريخي اللي تواجهه المجتمعات كلها والمجتمعات العربية كجزء منها هو استيعاب التقدم التكنولوجي والعلمي والأخلاقي إلي نشأ مع الحداثة، استيعاب الحداثة واستبطان الحداثة هو إلي يجعلنا نكون داخل العصر وليس خارج العصر وليس على هامش العصر وإذا بقينا على هامش العصر فلأنه لم نستوعب المكتسبات العلمية والتقنية والأخلاقية والسياسية التي أتى بها العصر، الآن أنا قلت إنه من دراسة ما حصل حتى منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم واضح إنه نحن لم نفهم من الحداثة إلا الطابع الأداتي لها ما يقال الأداتي يعني كأدوات وحتى إذا بدنا نرجع لأسئلة الريع وتوفر الريع عندنا صار يصورنا صرنا نشوف الحداثة من منظور اللي يسموه باللغات الأجنبية (Gadgets) يعني هي شراء شغلات غريبة.
مالك التريكي: آخر مقتنيات التكنولوجيا الترفيهية.
برهان غليون: لكن عقلنا وقيمنا وسلوكنا وتفكيرنا يبقى مرتبط..
مالك التريكي: في القرون الغابرة..
برهان غليون: وليس في القرون الغابرة إنما متخبط بين الماضي والحاضر يا ريت بقي لأنه لو بقي كما كان فكر أجدادنا كان عنده حد أدنى من الاتساق، ما هو الحداثة المشوهة هي حداثة.. الحداثة الرثة أنا سميتها، هي حداثة لكن هي حثالة الحداثة يعني الحثالة باللغة اللي تبعنا العربية الفصحى تعني ما يتبقى في الكأس من..
مالك التريكي: من أسوأ ما بقى من المشروب أو..
برهان غليون: فهي فعلا نحن أخذنا أسوأ ما بقي ما يمكن أن تعطيه الحداثة الغربية سواء في مستوى السياسة.. مستوى السياسة أخذنا نظم حديثة من حيث المظهر فيها في برلمانات أحيانا حتى النظم الشمولية عندها برلمانات وعند إدارة حديثة وعندها.. وتستخدم التكنولوجيا الحديثة والكمبيوتر بالإدارة لكن ما تفتقد إليه هذه الدولة الحديثة اللي اسمها الحديثة هو علاقتها بالشعب هو إنه الشعب اللي بيحركها، روح الشعب ومبادرة الشعب ومسؤولية الشعب اللي وكل فرد فيه اللي بتحركها الدولة وبتجعلها تخدم مصالح المجتمع ككل هو المفقود فجعلنا هذه اسمها حداثة سياسية منحطة ورثة يعني أداتية فقط تُستَخدم للسيطرة على الشعب بدل أن تكون أداة في تحريره، على المستوى الاقتصادي ما هي نمط الحداثة الاقتصادية طبعا اليوم نحن اقتصادنا لم يعد اقتصاد زراعي تقليدي إطلاقا ولا ببلد عربي.. اقتصاد صناعي في حد أدنى من الصناعات تجاري..
مالك التريكي: خدمات.
برهان غليون: خدمات لكن كله اقتصاد ليس قائم إطلاقا على الإنتاج وعلى قيم العمل وتشجيع العمل وتكوين العمل بتأهيل العاملين من أجل زيادة الإنتاجية والدخول في المنافسة في السوق، نحن يقوم اقتصادنا أنا بأسميه اقتصاد (Speculative) بنقول نحن يعني..
مالك التريكي: مضاربي.
برهان غليون: على المضاربي، المضاربي بكل الميادين والثروات الحقيقة تنشأ بالمضاربي لا تنشأ بالإنتاج، ليس الغني اليوم يعني الملياردير هو اللي قام بصناعة أو أنشأ مصنع فيه إبداع تكنولوجي أو فيه سبق ما بالتنظيم وبالإدارة و(كلمة بلغة أجنبية) حتى جعل منه رائد في ميدان من الميادين وسمح لصاحبه إنه يراكم ثروة كبيرة.. هذا أقل شيء موجود ببلداننا العربية، الذي يراكم.. تراكم رأس المال الراهن ناشئ عن علاقة مع السلطة مباشرة ولذلك نشوف إنه أبناء المسؤولين هم الأغنى هم أصحاب الثروات، انتقلت الثروة خلال الأربعين السنة الماضية من الطبقات الإقطاعية التقليدية اللي استثمرت نفوذها بالأرض وبالدولة من أجل جني رأسمال استثمر قسم منه بالصناعة لرأسماليين إذا شئنا بين قوسين هم أبناء المسؤولين اللي نجحوا عن طريق نفوذهم في الدولة في أن يراكموا كل أو أن يعني يجنوا أرباح هائلة ليست تعبيرا لا عن نجاح تكنولوجي ولا نجاح إداري ولا بذل جهد استثنائي في نقل التكنولوجيا أو في العمل الصناعي، فهذا أيضا على المستوى الاقتصادي أنشأنا نظام قائم على رأسمالية المضاربة ولا يمكن أن يستمر إلا بقدر ما أن هناك ريع طبيعي نستطيع أن نبثه باستمرار في الاقتصاديات الملحية كما لو كان هناك مضخة.. يأتي الريع يدخل في الاقتصاد وبعض المسؤولين أو المرتبطين بالمسؤولين وليس فقط أبنائهم لكن أيضا المجموعات المرتبطة بالسلطة تجني أو تراكم رأسمال جديد، فليس هناك تقدم لا في التكنولوجيا ولا في الإنتاجية ومؤشرات المؤسسات الدولية بتدل على أنه العالم العربي يتراجع معدل نمو الإنتاجية يتراجع في العالم العربي بمعنى يتراجع أيضا التكوين.. التكوين العلمي والتأهيل المهني والتكنولوجي إلى آخره، فهذا هو نمط من الحداثة الرثة، اقتصاد حديث إلي يروح على أي بلد عربي بيشوف أنه نحن لا نختلف عن..
مالك التريكي: كل مظاهر الحداثة موجودة.
برهان غليون: لكن رثة، مدننا مدن حديثة، بناء حديث، لكن روح الشعب بالي بتسير البلديات وتنظم الأمور وتساعد المواطن وتخلق له فرص ليكون سعيد في المنطقة إلي هو عايش فيها غير موجود فالمدن أصبحت نوع من إلي يسموه هنا مدن صفيح حتى المدن الكبرى هي مدن صفيح لأنه مثل.
مالك التريكي: تريف المدن.
برهان غليون: تريف ما فيها روح ما فيها الصلة ما في مواطن فيها ناس كل واحد يبحث عن بوسائله الخاصة بطريقته الخاصة وحسب قوته عن مورد يعيش فيه والضعيف يموت في المدن.. يموت حتى إذا بده يشتري عنده دكان حاجة إذا كان طفل صغير ممكن ينتظر خمس ساعات لأنه الآخرين يجيؤوا ويدوسوا عليه ويمدوا أيدهم من فوق رأسه ويأخذوا وهذه حصلت مرتين ثلاثة حاولت إنه تنرفزت عشان أعطي درس إنه في طفل عم ينتظر صار له ساعتين وما حدا يشوفه ولا..
مالك التريكي: غريب أنك تذكر هيك لأن هذا يذكرني طبعا بقصة ربما ليس لها ارتباط مباشر لكن يذكرني بقصة النبي موسى عندما هجر مصر وذهب إلى مدين ووجدت أن هنالك فتاتين تريدان أن تسقياه ولا تستطيعان أن تسقياه لأن الراجل يأتون يستسقون من البئر ولا تستطيعان أن تستسقيان فسقى لهما موسى، لها معنى أخلاقي في مبدأ الحضارة.
برهان غليون: مبدأ القوة، مجتمعات قائمة على القوة يعني قائمة على مبدأ القوي يأكل الضعيف.
مالك التريكي: ولأن القوي يأكل الضعيف ما تفضلت به عن تجمع الثروات لدى النخبة الحاكمة وما يرتبط بها من شرائح اجتماعية في نقد للمسار التاريخي الغربي.. مسار الحداثة الغربية في المسار التاريخي الغربي كانت الطبقة البرجوازية الإنتاجية التي أنتجت الثروات هي وصلت عبر نخبتها السياسية والفكرية إلى السلطة بينما عندنا أصبح الوصول إلى السلطة هو مفتاح لإنتاج الثروة.
برهان غليون: هو وسيلة طبعا هناك الإنتاج والمصانع والاقتصاد الحي ونجاح الناس في الاقتصاد، ما هو كل المشروع الرأسمالي ناجم عن إنه كيف تنجح أنت اقتصاديا عشان يصير لك مكانة في المجتمع وبالتالي أيضا مكانة في السياسة ومعظم الرؤساء الأميركيين والمسؤولين الأميركيين أصلا آتين من مشاريع رأسمالية من مؤسسات رأسمالية، اللي أنا بدي أقوله إنه الحداثة الرثة شو؟ إنه هي أيضا.. وهذا ذكرته، ضد الحداثة بمعنى ضد القيم العميقة للحداثة، يعني هي المظهر اللي يُستَخدم من أجل تكريس شيء لا له علاقة لا بالقديم يعني ليس له علاقة بثقافتنا نحن لا نعيش فيه وهذا هو اللي أنا أريد أؤكد عليه، ليس له علاقة بثقافتنا وليس له علاقة بثقافة الحاضر عن غيرنا.
مالك التريكي: لكي نشرحها دكتور برهان غليون لكي نشرحها بمثال مثلا من أفكار الحداثة الأساسية هي التعاقد.. مفهوم التعاقدية وليس علاقات القربة مثلا أن الاقتصاد العصري يقوم على التعاقد القانوني وليس على علاقة القربة، نحن نقيم العلاقات القربة والعشائرية والقبلية مقام العلاقات التعاقدية على أساس أن ابن عمي أولى بهذه الوظيفة إذا كان لي مجال لكن أخلاقية التضامن القبلي والعشائري والأسري ليست موجودة مثلا بالمعنى الحقيقي.
برهان غليون: ليس هناك قيم مدنية لكن هناك قيم زبائنية ونحن نعيش على النظام الزبائني..
مالك التريكي: تبادل مصالح.
"الحداثة الرثة هي نقل لشروط حياة جديدة لكن دون محركها الروحي الداخلي الرئيسي، وهي تخلق قيما مضادة للقيم الحديثة"برهان غليون: من فترة طويلة لكن أنا اللي بدي أقوله إنه الحداثة الرثة هي نقل فعلا لشروط حياة جديدة لكن من دون محركها الروحي الداخلي الرئيسي وهي تخلق قيم مضادة للقيم الحديثة، يعني الدولة بدل ما تخلق مواطنيها الدولة الحديثة هدفها تخلق مواطنيها، فرد حر، كل شيء معمول من أجل إنه الفرد يصير سعيد وحر وينبسط بوجوده ويساهم ويشارك، الدولة عندنا صارت موجودة فقط لإلغاء الحرية، هذا الواحد بيشوفه وعشان هيك هي حداثة مضادة وليس فقط مشوهة ويختلف الوضع عن الوقت اللي كنا بعهد السلطان، السلطان كان الناس ما لهم علاقة بالسياسة يعشوا حياتهم إلى آخره لكن هون الدولة تتدخل في حياتهم الشخصية وتتدخل في أفكارهم وتكونهم مش الجامع هو اللي بيكونهم وكل شيخ يُكَوِّن التلاميذ وكما يشاء كما كان في الزوايا والكتاتيب، اليوم الدولة تُكوِّن كل الأفراد يعني في أداة قوية جدا خلقت ظاهرة جديدة.. الحداثة الرثة ولا الحداثة المضادة أنا أسميها، هي نمط جديد وليست لا تقليد للماضي ليست محافظة، نحن ليس في إطار المحافظة ولسنا في إطار الحداثة، هو شيء هجين يعني بنية حديثة جديدة بالأحرى تأخذ من الحداثة أدواتها من أجل أن تحقق عكس أهدافها..
مالك التريكي: لتمسخ..
برهان غليون: حداثة مسخ، هي حداثة مسخ، الدولة لا تنتج مواطنيها وحرية وإنما تنتج العكس، الدستور هو أداة للتسلط وليس أداة لضمان حقوق الأفراد، القانون هو وسيلة بأيد القوي من أجل لأنه بيحسن يرشي ويفسد من أجل أن يُخضِع الضعيف وليس كما هو بالأصل دفاع عن.. القانون هو لحماية الضعيف..
مالك التريكي: ليس حكم العقل بل حكم الطبيعة.
برهان غليون: وليس حكم العقل وإنما حكم القوة لأنه في الماضي كان في حكم الدين لم يكن تاريخ المجتمعات الإسلامية في الماضي يقوم على حكم القوة.. كان قائم على حكم الدين إلى حد كبير.
مالك التريكي: كرادع قوي.
برهان غليون: كرادع الناس مؤمنين والشيوخ والوجهاء والفقهاء يتدخلون في حياة الأفراد وفي كل حي وقرية ففي نظام له اتساقه وله منطقه.
مالك التريكي: معقوليته.
برهان غليون: معقوليته ومنطقه، الآن لا عدنا لنظام القوة، الحداثة المضادة هي حداثة قائمة على تكريس مبدأ القوة يعني مبدأ الطبيعة، مبدأ الضعيف ومبدأ التوحش لذلك أنا أقول إنه نحن ظاهرة من الظواهر المجتمعات اليوم تعيش شروط قريبة جدا من اللي كنا نسميه البربرية الهمجية يعني البربرية بمعنى الهمجية.. الهمجية ليست شيء قديم، الهمجية هي عدم قدرتك على السيطرة على قواعد عمل النظام الراهن حال يصير فيه تخبط واقتتال بدون أي ضابط.
مالك التريكي: يعني حالة الطبيعة التي تحدث عنها توماس هوبز في كتاب (Léviathan) الشهير.
برهان غليون: الإنسان ذئب للإنسان، كل إنسان ذئب للإنسان الآخر، يمكن هذه القاعدة لا تنطبق اليوم على أي مجتمع آخر غير المجتمع العربي، الفرد ذئب لأخيه الفرد الآخر، العربي ذئب لأخيه العربي وهذا ينطبق حتى على العلاقات بين الدول.
مالك التريكي: شكرا جزيلا دكتور برهان غليون على استضافتك لنا في بيتك الفارسي شكرا.
برهان غليون: شكرا.
المصدر:
الجزيرة

mercredi, janvier 04, 2006

موارد التسلطية العربية

الاتحاد 4 كانون الثاني 06
عشية انتهاء الحرب العربية الاسرائيلية عام 1973 كتبت في مجلة "مواقف" مقالا بعنوان عصر الحرب الأهلية، قلت فيه إن نهاية الحرب ضد إسرائيل سوف تكون فاتحة نزاعات عديدة بين الدول العربية وداخل كل دولة عربية على حد سواء. فقد كان يبدو لي أن النظم التي ولدت في حجر الفكرة القومية والوطنية قد تخلت عن كل التزاماتها في ما يتعلق بالبرنامج الوطني الداخلي حتى لم يبق هناك عامل آخر تستند إليه، أو يمكن أن تستند إليه الوحدة الضعيفة والشكلية للشعوب العربية، سوى التفاهم النسبي ضد إسرائيل. وكان يبدو لي أنه، مع تلاشي فعالية هذا العامل، بإعلان انتهاء حالة الحرب وتبني العرب، وعلى رأسهم الرئيس أنور السادات في ذلك الوقت، السلام كاستراتيجية نهائية، لم يبق هناك ما يمكن أن يوقف عملية فرط عقد الأمة العربية إذا لم تبادر النخب العربية إلى إعادة بناء الرابطة الوطنية والقومية على أسس أخرى، ايجابية، أي لا تنبع من التفاهم ضد آخر، وإنما من التعاون بين أبناء الوطن الواحد لتحقيق مشروع أكبر وأعظم من الحرب، أي من أجل إعادة بناء العلاقات الوطنية نفسها على أسس جديدة تضمن الاحترام والعدالة والمساواة بين جميع المواطنين وللجميع أيضا.
من هنا جاءت فكرة كتاب "بيان من أجل الديمقراطية" الذي صدر بعد سنتين من ذلك التاريخ ليشير، في إطار تفسير أزمة الحركة الوطنية/القومية في البلاد العربية، إلى حجم القطيعة التي نشأت بين النخب المحلية وبين الشعوب، وضرورة الخروج من الايديولوجيات الشمولية وتصحيح العلاقة مع المجتمع. هكذا بدت الديمقراطية لي كمخرج من أزمة الوطنية العربية واستباق لحقبة الحرب الأهلية. وكان وراء هذا التحول نحو بناء الداخل الوطني اعتقادي بأن التفاهم ضد إسرائيل قد كسر ولن يمكن إعادة إحياؤه، لأن اهتمامات النخب العربية الحاكمة قد تبدلت ومصالحها ترسخت. بل سيتحول الموقف من إسرائيل إلى منبع خلافات وتوترات ونزاعات عربية عربية، كما حصل بالضبط مع توقيع أنور السادات لاتفاقيات كمب ديفيد وانقسام العالم العربي النهائي وفرط التحالف العربي نهائيا بعد سنة من صدور "البيان".
ماذا نشاهد اليوم؟
لا تزال الحرب الأهلية مستمرة بأشكال مختلفة، ولا تزال المجتمعات العربية تفتقر لمقومات رابطة وطنية حقيقية، أي لا تزال أزمتها الداخلية مستفحلة، وهي التي تدفع أطرافا متعددة فيها إلى البحث عن حلول لهذه الأزمة في العودة إلى النماذج الدينية أو الانكفاء على الأطر التقليدية الطائفية والعشائرية بسبب غياب أفق البديل المواطني الحديث. ولا يزال هناك من يستخدم المقاومة الخارجية والصراع ضد إسرائيل والأمبريالية في سبيل تخليد علاقة الاستعمار الداخلي وإضفاء المشروعية على نمط السلطة الداخلية ذات الطبيعة الاستعمارية حتى لو كانت محلية، أي السلطة التي تدافع عن امتيازات ومصالح استثنائية لا قانونية، عن طريق السيطرة على الدولة وأجهزتها والتحكم بها وتحطيم إرادة المجتمعات وكسرها بالقوة في سبيل فرض الوصاية عليها وحرمانها من حقوقها الطبيعية في التعبير عن نفسها وإدارة شؤونها والمشاركة في صنع مصيرها بيدها. لا يزال هناك من يزين الاستبداد بين المثقفين العرب أنفسهم، ويدافع عن استمراره باسم الوقوف في وجه السيطرة الأجنبية، ولا يزال هناك سياسيون يمارسون الرقابة على الصحف والكتب والإذاعات والتلفزات وعلى ضمير الكتاب والمفكرين باسم النقاء الثقافي والوحدة الوطنية، ويعتبرون وجودهم في السلطة ضمانة لحماية الشعب من مخاطر الحريات الفكرية والمنافسات السياسية.
لكن، ليس للاستبداد المستمر في العالم العربي الآن ومنذ عقود، سبب واحد وحيد، وإنما أسباب ثلاثة متضافرة. الأول هو من دون شك المشكلة الاسرائيلية لما سببته من زعزعة لأسس التفكير السياسي والوطني وما أحدثته من ابتكار في استخدام العنف المنهجي المنظم للقضاء على المقاومات الوطنية وما لقنته للنخب العربية الحاكمة من دروس في كيفية كسر الإرادة الشعبية. فالقهر الإسرائيلي للعرب شعوبا ودولا معا هو الأساس العميق لنظام العنف الشامل الذي سيطر على العلاقات الاجتماعية العربية داخل البلدان منفردة وبين البلدان في ما بينها. ويشكل اليوم ضمان أمن إسرائيل وحماية مشروعها التوسعي سببا للإبقاء على النظم الاستبدادية المأزومة، بقدر ما يشكل ضعفها قاعدة لشل إرادة الشعوب العربية وتحييدها.
والثاني هو الدعم اللامشروط الذي قدمته الدول الكبرى ذات المصالح الحيوية في المنطقة العربية لنظم العنف الجديدة المتكونة على منوال نظام العنف الإسرائيلي ومثاله. فكما قدم المجتمع الدولي، الذي صاغت شريعته هذه الدول نفسها، الدعم الكامل لاسرائيل في مشروعها لفرض نفسها بالقوة والعنف على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة جميعا، خلال أكثر من نصف قرن، قدم هذا المجتمع نفسه دعما لا يقل عنه شمولا لتلك النظم العربية التي استجابت لمصالحه وقبلت بالعمل ضمن استراتيجيته. وقد شكل هذا الدعم المزدوج وغير المشروط قاعدة موضوعية متينة للتفاهم العملي والتناغم الموضوعي بين العمف الاسرئيلي الموجه للشعوب العربية عموما والعنف الرسمي الموجه داخل كل مجتمع من قبل النخب الحاكمة إلى شعوبها. وخلق هذا العنف المضاعف وضعا استثنائيا في المنطقة أيا وضعا خارجا عن القانون أو معاد للقانون وللقيم الإنسانية. فأصبح العنف، بما يعنيه من قتل وسحل وتطهير عرقي وتمثيل واغتيال وإرهاب، من الأمور الطبيعية والعادية. ولم يعد هناك ما يردع أي طرف من الأطراف القادرة على ممارسة العنف، وفي مقدمها النخب الحاكمة التي تحولت إلى مافيات فعلية، عن استخدام القتل والإرهاب كأداة لممارسة الحكم وإلغاء السياسة لضمان استمرارها بصورة تلقائية.
لكن، وهذا هو السبب الثالث، ما كان من الممكن للاستبداد أن يصل إلى ما وصل إليه من قوة ونفوذ ومقدرة على التخريب والدمار من دون ثقافة الأنانية والاستقالة الأخلاقية والسياسية، والاستهتار بالمباديء والقيم الانسانية، والتعلق بالمصالح الشخصية والعائلية، وغياب الرؤية الجماعية والتاريخية التي سيطرت على المجتمعات العربية الخارجة لتوها من تحت السيطرة الاستعمارية، بعد قرون طويلة من التعقيم الاستبدادي العثماني. فهو ابن الثقافة العربية الضعيفة الراهنة المنقطعة عن منابعها الروحية والفكرية العميقة والمفتقرة في الوقت نفسه للمصادر العقلية النقدية، بمثل ما هو ابن نظام السيطرة شبه الاستعمارية، وربيب التفاهم مع المشاريع الصهيونية والتسهيل لقيام الدولة الاسرائيلية على أرض غريبة وبوسائل إرهابية. فكلاهما، الاستعمار والاستبداد يقتاتان من الحشيشة نفسها ويستخدمان الوسائل ذاتها: القتل والعنف المنفلت في حالة من غياب القانون والاستقالة الأدبية الداخلية والعالمية.
وما دام نظام الاستعمار والاستيطان معمولا به ومشرعا له عالميا في المنطقة العربية، لن يجد الاستبداد صعوبة تذكر في البحث عن حلفاء له فيها ومن خارجها. وسيجد في ثقافة الموت، بما تعنيه من استسهال للعنف من جهة واستبطان لقيم الإذعان والمسايرة والاستذلال والخوف وغياب لأسس الحياة الأخلاقية والقانونية من جهة ثانية، أسبابا كافية للاستمرار والإزدهار.

lundi, janvier 02, 2006

وحش الاستبداد

ملحق النهار 2 كانون الثاني 06

في سياق الرد الحماسي على العنف المنفلت والإبقاء على روح التفاؤل الإنساني، يعتقد البعض أن من الضروري التأكيد دائما على أن استخدام العنف لا مبرر له وانه خطأ يعكس جهل صاحبه. ذلك أن العنف لا يحل أي نزاع، وأن الطريق الوحيدة لإزالة الخلافات السياسية، أو لتحقيق المصالح الإقتصادية، إذا كانت هناك خلافات أو مصالح، هي طريق الحوار. ويقول آخرون إن عمليات القتل تعكس خواء جعبة فاعليها أو الموصين عليها، وانفلات الواقع من سيطرتهم، وسعيهم اليائس إلى الحفاظ على حد أدنى من الصدقية. ويقول طرف ثالث لا يعبر العنف المنفلت إلا عن الانهيار المعنوي لأنصاره وافتقارهم إلى جميع المعايير الأخلاقية والسياسية والقيم الإنسانية. بيد أن القاتل يستهزيء بهؤلاء جميعا، ويرد عليهم بضحكة مدوية ترتطم بكل الجدران، ليعم صداها أركان الدولة وقاعات مجلس الأمن ولجان التحقيق الدولية بأكملها. صرخة تقول: الحقوا بي إذا شئتم. ستتعبون كثيرا قبل أن تمسكوا بي. وما أن تغلقوا النافذة التي يدخل منها الموت، حتى تنفتح أمام أعينكم أبواب لا تحصى. ولعلكم تعترفون في النهاية بعجزكم، وتسلموا بأنه لا توجد إلا طريقا واحدة لوقف العنف هي القبول بالعنف نفسه والتعايش معه. القانون؟ إلعوبها مع غيري.
والقاتل على حق. ليس صحيحا أن القتل لا يفيد في شيء، أو أنه تعبير عن الجهل أو فقدان المنطق والعقل. ولو كان كذلك لما شعر بخطره أحد، ولا أدانه أصحاب القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الدينية. والعنف يغير مصائر شعوب وحضارات بأكملها. والقتل سلاح فتاك ليس بالنسبة للأفراد فحسب، ولكن بالنسبة للجماعات والمجتمعات أيضا. فهو وسيلة لردع الخصم أو الآخر ولي ذراعه، وإن أمكن لإخراجه كليا من ساحة المواجهة والمنافسة الفكرية أو السياسية. ومن الممكن إلغاء فكر بإلغاء شخص، ومن الممكن ترويع شعب بقتل قياداته بحيث يسهل بعد ذلك فرض القيادات المطلوبة عليه، ومن الممكن "تطهير" أرض بإبادة شعب وأخذ مكانه. هذا ما قامت به السلطات الاستعمارية في العديد من الحالات. وهو ما تقوم به الديكتاتوريات التي نجحت بالقتل وتعميم العنف في أن تحافظ على نفسها لعقود طويلة، في بقاع مختلفة من الأرض، وأن تستمر، طالما بقي قادتها على قيد الحياة، أو نجحوا في تجنب الاغتيال.
وفي العالم العربي، هذا ما فعلته ولا تزال تفعله إسرائيل منذ قيامها وحصولها على الدعم الاستثنائي من المجتمع الدولي، أي من الدول الكبرى التي تشكل الأركان الحقيقية لهذا المجتمع، وتقوم بدور الوصاية عليه. وبالقتل وحده نجحت القيادات الصهيونية الطامحة إلى إقامة وطن قومي صاف لليهود في فلسطين على أنقاض شعبها وبالرغم منه، في الانتصار على الفلسطينيين، وفرط عقد اجتماعهم، وتشريد أكثرهم وفرض الإذعان والخضوع على من بقي منهم تحت السيطرة الاسرائيلية. وليس المقصود بهذا الدعم ما حصلت عليه المنظمات المقاتلة اليهودية من عدة وعتاد، ولكن المقصود أكثر من ذلك بكثير، أي التغطية الأدبية، والتهريب من المسؤولية، وتجنيب القيادات الصهيونية المساءلة والمحاسبة ودفع الثمن عن الجرائم المكررة التي ارتكبتها ضد الفلسطينيين، وفي أحيان كثيرة تحويل الضحايا أنفسهم إلى جلادين مسؤولين عن موتهم هم أنفسهم وتبرئة الجلادين من دم الضحية.
لكن في ما وراء إسرائيل وما حصلت عليه من تغطية وتبرئة من المسؤولية وتجنب العقاب، بسبب التعاطف الواسع الذي حظيت به الجماعات اليهودية التي تعرضت للمذابح النازية، تغطي عملية التهريب من المسؤولية والعقاب قائمة طويلة من الأشخاص والأحداث والأعمال التي شكلت قانون الحياة في المنطقة الشرق أوسطية خلال عقود طويلة ماضية. فالمجتمع الدولي نفسه الذي قدم لاسرائيل دعما لا مشروطا في مواجهتها مقاومة الشعب الفلسطيني ومطالبته بحقوقه، قدم دعما لامشروطا مماثلا للنخب العربية الحاكمة التي سايرت سياساته الإقليمية تجاه شعوبها وحركاتها المطالبة باحترام حقوقها ومصالحها الرئيسية. وقد شكل هذا الدعم المزدوج وغير المشروط قاعدة موضوعية متينة للتفاهم العملي والتعاون الفعلي بين اسرئيل والنخب العربية، وخلق وضعا استثنائيا في المنطقة خارج القانون أو معاد للقانون وللقيم الإنسانية. فأصبح العنف، بما يعنيه من تطهير عرقي وتمثيل واغتيال وإرهاب، من الأمور الطبيعية والعادية. ولم يعد هناك ما يردع أي طرف من الأطراف القادرة على ممارسة العنف، وفي مقدمها النخب الحاكمة التي تحولت إلى شبكات مصالح مافيوية، عن استخدام القتل والإرهاب كأداة لممارسة الحكم وإلغاء السياسة لضمان استمرارها بصورة تلقائية.
ومن هذا الدعم اللامشروط للنخب الديكتاتورية، وغض النظر المستمر عن العنف بأشكاله المختلفة، واستثناء المنطقة بأكملها من حكم القانون، في سبيل التشريع لاغتصاب الحقوق الفلسطينية، سيولد ويترعرع ويكبر وحش الاستبداد الرهيب الذي يخيم بظله اليوم على الشرق الأوسط بأكمله ويحوله إلى منطقة امتهان كرامة لإنسان بامتياز وانتهاك حقه في الحياة كما لم يحصل في أي وقت ولا يحصل في أي مكان.
لكن في ما وراء المثال الاسرائيلي، والدعم اللامشروط الذي قدمه الغرب الامبريالي للنظم المعادية لشعوبها والمفروضة عليها لخدمة المصالح الأجنبية، ما كان من الممكن لوحش الاستبداد أن ينمو ويصل إلى ما وصل إليه من قوة ونفوذ ومقدرة على التخريب والدمار من دون ما سيطر على المجتمعات والأفراد في البلاد العربية، الخارجة لتوها من تحت السيطرة الاستعمارية، بعد قرون طويلة من التعقيم الاستبدادي العثماني، من ثقافة الموت والأنانية والاستقالة الأخلاقية والسياسية، والاستهتار بالمباديء والقيم الكونية، والتعلق الدنيء بالمصالح الشخصية والعائلية، وغياب الرؤية الجماعية والتاريخية. فهو ابن الثقافة العربية الجديدة والضعيفة الفاقدة لمنابعها الروحية والمفتقرة في الوقت نفسه للمصادر العقلية النقدية، بمثل ما هو ابن نظام السيطرة شبه الاستعمارية، وربيب التفاهم مع المشاريع الصهيونية والتسهيل لقيام الدولة الاسرائيلية على أرض غريبة وبوسائل الترغيب والترهيب أيضا. فكلاهما، وحش الاستبداد ووحش الاستيطان والاستعمار يقتاتان من الحشيشة نفسها ويستخدمان الوسائل ذاتها: العنف المنفلت في حالة من غياب القانون والاستقالة الأدبية الداخلية والعالمية.
لم ينهزم الاستبداد بعد، ولم يطح به في أي موقع من المواقع العربية، لأن إسرائيل ومشروعها الاستيطاني الذي يشكل الضرع المغذي للاستبداد والمشتري الرئيسي له معا، لم يضعفا ولا فقدا المبادرة أيضا. ولا تزال الشعوب العربية أسرى نظامي العنف الموصوف هذين. وسيمر وقت طويل قبل أن يدرك الرأي العام العربي بأن الاستبداد ليس إلا الامتداد الحتمي والطبيعي للعنف الأصلي الاسرائيلي وأذرعه الضاربة أيضا. وأن تكسير هذه الأذرع هو المدخل الوحيد لتحجيم المشروع التوسعي الاستيطاني، قبل فرض العودة إلى مباديء الحق والقانون على المجتمع الاسرائيلي والمجتمع الدولي أيضا في منطقة الشرق الأوسط.
لا يزال العنف الممارس ضد الشعوب العربية وضد الأفراد مستمرا في العالم العربي لأنه لا يزال له مردود/ أو لا يزال من الممكن صرفه، بالرغم من كل الإدعاءات وتظاهرات البراءة والتخلي عن السياسات السابقة، في عواصم العالم الرئيسية. والذين يعتمدونه لغة للمخاطبة والحوار لا يفعلون ذلك إلا لأنهم على يقين من أنه لا يزال تجارة رابحة، ولا يزال هناك طلب كبير عليه، لأسباب متعددة، وبأشكاله المختلفة أيضا، من قبل أصحاب القوة والجبروت الذين كانوا لفترة طويلة المدربين والراعين المباشرين للقتلة. ولعل أهم هذه الطلبات يأتي اليوم من حاجة إسرائيل للأمن والسلام الذي لا تؤمنه لها سوى أنظمة استبدادية ليس لأصحابها هم سوى شل إرادة الشعوب التي يسيطرون عليها وليس لهذه الشعوب نفسها خيار سوى الصراع المستمر للتخلص من أنظمتها. هكذا يشكل الاستبداد والعنف المرافق له، بل المكون لجوهره، الوسيلة الرئيسية لتحييد المجتمعات العربية وإخضاعها لحاجات السيطرة الداخلية والخارجية. ولن يتوقف العنف والاستبداد الذي ينتجه إلا بقبول أولئك الذين زرعوا العنف ورعوه ولا يزالون يراهنون عليه بوضع حد لنظام السطو على مصالح الشعوب وحقوقها المشروعة، في المنطقة العربية وفي العالم أجمع.