mercredi, janvier 11, 2006

في جذور الأزمة الوطنية العربية

الوطن 10 كانون الثاني 06

ذكرت في مقال سابق أن الفكرة الوطنية، والحركة التي ارتبطت بها، قد نشأت في العالم العربي، وفي سورية بشكل أكبر، في سياق الكفاح من أجل الاستقلال ضد القوى الاستعمارية. وتطابق مفهومها أيضا مع الحفاظ على هذا الاستقلال وتحقيق الأجندة المرتبطة به. ولا تختلف هذه النشأة عما حدث مع جميع القوميات والدول الوطنية العديدة التي ولدت في الكفاح ضد عدو خارجي، وليس بالضرورة ضد سلطة قهرية استبدادية داخلية. لكن، بعكس ما حصل في معظم البلاد الأخرى، لم تمثل الحقبة الوطنية المرتبطة بالاتحاد ضد عدو خارجي، إلا فترة بسيطة شكلت مدخلا نحو حقبة التأسيس الوطني الداخلية، أي حقبة بناء العلاقة الوطنية الجديدة التي تعيد إخضاع الدولة للمجتمع والجماعة لقانون المساواة والندية، والتي تكون سمة المجتمعات الوطنية. أما في المنطقة العربية فلم تنته معركة الصراع ضد النفوذ أو السيطرة الأجنبية مع نيل الاستقلال ولكنها استمرت بعده بصورة أقسى، وكرست حقبة ما بعد الاستقلال مفهوم وطنية المواجهة أكثر مما ساعدت على فتح آفاق جديدة للانتقال نحو مفهوم ايجابي يؤسس للحريات الفردية ولدولة المؤسسات القانونية. ويرجع ذلك لسببين رئيسيين: تفتت العالم العربي وضعف دوله من جهة وقوة المصالح الاستراتيجية، النفطية والجيوسياسية والسياسية للدول الكبرى بها. كما كان لقيام إسرائيل، والحرب المستمرة التي فجرتها حركتها الاستيطانية، دورا كبيرا ومتواصلا أيضا في ترسيخ المضمون الخارجي الذي تبلور في حقبة الصراع ضد الاحتلال للوطنية.
ومن أنقاض الوطنيات المحلية التي انهارت تحت الضغوط الخارجية القوية وأخفقت في الحفاظ على استقلال الدول الفتية، أو في إعطاء هذا الاستقلال مضمونا أكثر من شكلي، ولدت القومية العربية التي عبرت عن نشوء وطنية جامعة، لا تختلف في الهدف والمضمون عن سابقتها، ولكنها ترمي إلى تحسين شروط الشعوب العربية جميعا في مواجهة التدخلات الاجنبية والرد عليها. وقد عكست "الوطنية" القومية الجديدة التي استعادت، لكن بصورة أكثر اتساقا وقوة، فكرة الوحدة الوطنية في مواجهة المخاطر الخارجية، حاجة المجتمعات العربية التي سئمت من الوصاية أو شبه الوصاية الأجنبية، إلى توسيع إطار المقاومة والعمل، عبر حدود الدول العربية ومن ورائها، في سبيل تعزيز قدراتها وزيادة فرص نجاحها في الحصول إلى استقلالها الناجز والفعلي. ومن هنا أصبحت الوحدة العربية الشعار المركزي للحركة القومية العربية، بقدر ما ظهرت هذه الوحدة على أنها الأداة الرئيسية والضرورية لتطبيق الأجندة السياسية المتمحورة حول القضاء على الاستعمار والصهيونية، والوقوف في وجه الأحلاف العسكرية المفروضة ومواجهة الضغوط، الاقتصادية والسياسية والثقافية للدول الغربية.
والواقع أن الفكرة القومية لم تغير في الغاية الرئيسية للحركات الوطنية الماضية ولا حادت عنه، ولكنها جاءت باستراتيجية ووسائل عمل وإمكانيات أكثر نجاعة وشمولا. ولذلك نجحت بسهولة في جب ما قبلها من الوطنيات لصالح تأسيس وطنية عربية جامعة كان لها صدى شعبيا لا مثيل له لدى جماهير البلدان العربية. وبقدر ما حظيت الحركة القومية بزعامة كارزمية واستفادت من انتشارها الواسع في كل الأقطار العربية، شكلت بالفعل خطرا كبيرا على مراكز النفوذ الغربية المتغلغلة في المنطقة، وهددت العديد من مواقعها التاريخية. وبعد أن حررت الجمهور العربي من مشاعر الضعة والمذلة والخنوع والاستسلام للتفوق الغربي، استحدثت ثقافة قومية كان لها دور كبير في ايقاظ مشاعر السيادة والكرامة الكامنة وتفجيرها عند ملايين العرب. وهكذا نجحت هذه الحركة في فتح جبهة واسعة للتحرر من النفوذ الأجنبي شملت المنطقة العربية برمتها وخلال عقود طويلة.
في هذا السياق حصل التطابق بين اهداف هذه الحركة القومية والأجندة الوطنية الخاصة بكل قطر من الأقطار العربية، فصار التكتل من حول الزعامة الناصرية والمشاركة في أجندة الصراع لتحقيق السيادة العربية وضرب مواقع النفوذ الغربي هو معيار الوطنية عند الشعوب على المستوى القطري والقومي معا. ووسمت النظم التي رفضت تكييف سياساتها مع هذه الأهداف، أو التي لم تتعامل بايجابية مع أجندة الصراع ضد قوى السيطرة الأجنبية، من قبل هذه الشعوب نفسها، باللاوطنية إن لم تتهم بالخيانة. وصارت تصفية القواعد العسكرية وتأميم الشركات الأجنبية وإقامة مؤسسات وسياسات تعزيز الاستقلال والسيادة العربية، على مستوى المنطقة ككل وداخل كل دولة عربية، مقياس الولاء للوطنية، بينما أصبح ينظر لأي شكل من أشكال التحالف، بل التعاون مع القوى الغربية، بمثابة خروج على الإجماع العربي الوطني.
وفي سياق هذه الوطنية العربية الصاعدة تطورت أيضا أجندة وطنية داخلية اكتست طابعا شعبويا قويا، وجمعت بين إدماج النخب الاجتماعية، وبشكل خاص المنبثقة من أصول ريفية، في الحياة الوطنية والسياسية، وتطبيق برنامج إصلاحات داخلية، اقتصادية واجتماعية، اتسمت بسمة الاشتراكية وعملت على إعادة توزيع الثروة بصورة أكثر عدالة.
بيد أن هذه الوطنية العربية الجديدة الجامعة، التي سيطرت عليها الصفة الشعبوية التي تقوم على تعبئة الجمهور العريض وراء قيادة تاريخية كارزمية، على حساب بناء مؤسسات الدولة السياسية والقانونية، لم تنجح في تحقيق هدفها في الوحدة العربية التي تشكل الرافعة الرئيسية للتخلص من الهيمنة الأجنبية. وبدل أن تنجح في القضاء على نظام السيطرة الخارجية سقطت هي نفسها تحت ضربات النفوذ الاستعماري الغربي المعشعش في المنطقة، وأخذت بالانحسار منذ حرب حزيران يونيو 19967، لتخلف وراءها حركة شعبية ضائعة وقيادات حائرة لم تلبث حتى تفككت وتفسخت أمام إغراءات السلطة المطلقة الموروثة والضغوط الخارجية. وبانهيار التحالف الاجتماعي الذي كان يقف وراء تحقيقها، فقدت الأجندة الوطنية القومية حاملها التاريخي وبدأت هي نفسها بالذوبان والانحلال. وكان من علائم ذلك الطلاق المتنامي بين الأجندة القطرية والأجندة القومية الوطنية، والانفصال المتزايد بين برنامج المواجهة الخارجية وبرنامج الاصلاحات الاجتماعية الداخلية. وشيئا فشيئا حلت الاستراتيجيات القطرية محل الاستراتيجية العربية القومية، كما تخلت النخب الحاكمة عن السياسات الشعبوية، بالرغم من استمرارها في تزيين سياساتها القطرية بأوشحة قومية وشعارات شعبية فارغة من أي مضمون.

وبموازاة انهيار الحركة القومية وتراجع الحركة الشعبية، ستبرز بقوة بيرقراطية الدولة لتصبح القوة الاجتماعية والسياسية الرئيسية التي يستند إليها النظام، وتستولي بسرعة على مقاليد السلطة وعلى مؤسسات الدولة ومواردها. وفي هذا السياق لتفكك الحركة القومية الشعبية، وصعود بيرقراطية الدولة، وانحسار الفكرة الوطنية وتشتت برنامجها، ستولد آلية الانفصال المتزايد بين الدولة والمجتمع، واستقلال كل واحد منهما بنفسه. وهو ما أسس لبداية أزمة الوطنية العربية بنموذجها القطري القديم ونموذجها القومي السابق معا. فلم يعد لدى الدولة البيرقراطية الجديدة أي برنامج لتوحيد الجماعة الوطنية أو المساهمة في توحيدها وتجاوز تناقضاتها، باستثناء برنامج الحفاظ على الوضع القائم وإعادة إنتاج المصالح الحاكمة والسائدة كما رست عليه الحال في الحقبة السابقة. وسيطرة هذا البرنامج الجديد للحفاظ على الوضع القائم هو الذي يفسر كيف تحول محور نشاط النظم الحاكمة نحو بناء الأجهزة الأمنية والتثمير فيها وتوسيع صلاحياتها حتى قضت على الحركة الشعبية كليا، وحلت محلها كقاعدة للحكم، ولم تلبث حتى أكلت الدولة نفسها ومؤسساتها.

Aucun commentaire: