lundi, mai 19, 2003

عودة المثقفين


تدفع الأزمة المفتوحة التي أدخلت فيها السياسات الأمريكية الجديدة المحافظة أنظمة الحكم في الشرق الأوسط إلى ارتفاع أسهم المثقفين من مفكرين ومحللين سياسين وصحفيين في سوق العمل العمومي. واحتل هؤلاء بعكس ما كان يجري في السابق الصفحات الأولى من الجرائد المقروءة كما غزا بالمعنى الحرفي للكلمة نشرات الأخبار وبرامج الفضائيات العربية وأبعدوا النخب العسكرية والبيرقراطية العقائدية القديمة إلى مؤخرة المسرح. لكن هذا النجاح المتزايد الذي يعرفه المثقفون، بعد فترة تهميش كادت تكون لا نهائية، يعيد من جديد طرح التساؤلات الكثيرة والتقليدية حول وظيفتهم الاجتماعية وحدود تأثيرهم بالإضافة إلى الأسئلة الجديدة التي يطرحها الوضع العربي الخاص وفي هذه المرحلة الاستثنائية أيضا.
ومن هذه الأسئلة التي يطرحها الرأي العام العربي على نفسه وربما على المثقفين أيضا : أي دور يمكن للمثقفين العرب أن يلعبوا في معركة التغيير المفتوحة وهم الذين حيدوا طويلا وعزلوا عن الساحة السياسية بل غيبوا إلى درجة الموت والنسيان ولا يزال محرم عليهم التواصل مع جمهورهم العريض وايصال وجهة نظرهم إليه ؟
والواقع أن تداعيات الموقف العربي والدولي وتهاوي الوضع الإقليمي عموما قد غير وسوف يغير بشكل متسارع من فرص العمل والمبادرة لدى المثقفين ولدى غيرهم من قطاعات النخبة العربية الناشطة هنا وهناك. وليس هناك شك في أن التفكك الذي يعرفه النظام العربي الراهن وما يبدو من إفلاس في قيادته الفكرية والسياسية قد خلقا منذ الآن شروطا ملائمة لإعادة الاتصال بين المثقف وجمهوره. فعلى عكس السنوات الماضية التي كان الرأي العام ميالا فيها الى الابتعاد عن كل ما هو سياسي وكل ما هو جديد، لما كان ينطوي عليه ذلك من تهديدات لأمنه وسلامته، يميل الجمهور العربي اليوم، بسبب انعدام امنه وسلامته هذا بالضبط وخوفه من المستقبل وما يتضمنه من اخطار لا حدود لها، الى البحث عن كل الاقتراحات والتصورات والرؤى والافكار الجديدة التي تساعده على تهدئة قلقه أو الإطمئنان على مصيره.
ومن ناحية ثانية رفع انهيار أو انحلال انظمة الحزب الواحد الرسمي أو المقنع في العديد من الاقطار العربية كابوس الارهاب الفكري الذي كان سائدا في السنوات الماضية والذي كان يمنع المثقفين على اختلاف اتجاهاتهم من الافصاح عن آرائهم باستثناء افراد قلة يتمتعون الى حد ما بحصانات استثنائية بسبب مواقعهم الخارجية او الداخلية. فلم يبق هناك شك في ان المثقفين اصبحوا يشعرون بحرية اكبر في الحركة وبحق اكبر في الكلام، في الوقت نفسه الذي حصل فيه، بالمفردات الاقتصادية، تطور كبير في الطلب على النقد والتأمل السياسي والفكري.
ومن ناحية ثالثة اعتقد ان ما حصل من تطور كبير في وسائل الاعلام والاتصال العربية في السنوات الماضية كسر احتكار السلطات المحلية لوسائل الاعلام. وهذا ما يسمح اليوم للافكار الجديدة في العالم العربي بأن تنتقل عبر الحدود رغما عن ارادة اجهزة الامن التي نجحت في العقود الاخيرة في عزل الرأي العام على نحو شبه كامل في كل قطر عربي عن التطورات الفكرية والسياسية الاقليمية والعالمية. هذه التحولات التي عرفناها في السنوات القليلة الماضية بسبب تدهور الاوضاع بشكل رئيسي خلقت شروطا أفضل لنمو حركة المحاسبة الوطنية في العالم العربي وهي التي يصعب تصورها من دون التلاقي لهذه العوامل الثلاثة أعني المثقفين والرأي العام ووسائل الاتصال والاعلام.
لا يهدف التركيز على المثقفين هنا تمييزهم عن عناصر النخبة الأخرى أو التقليل من دور هذه العناصر في المرحلة القادمة. فلا يسد المثقف مسد رجل السياسة ولا رجل الإدارة والتسيير ولا رجل الاعمال في بناء الحركة التغييرية المطلوبة. ولا يعوض بناء الرؤية النظرية مهما كانت درجة اتساقها وجدتها عن بناء حقل السياسة الذي يشكل مهمة السياسيين بالدرجة الأولى. فالذي يميز موقف رجل السياسة عن موقف رجل الثقافة الذي يتعامل أساسا مع الوعي العام هو أنه يتعامل من منطلق ميزان القوة وفي سبيل تكوين القوة المنظمة التي تستطيع وحدها القيام بفعل وتحقيق برنامج سياسي.
بيد أن الذي يعطي للمثقفين دور الريادة اليوم في عملية التغيير الديمقراطي وبالتالي يلقي عليهم مسؤولية أساسية واستثنائية في دفع عجلة التغيير والإصلاح هو الحاجة الماسة لدى الجمهور إلى مهماز يغذي الوعي وينهضه ويحييه. وهذه هي وظيفة الثقافة الرئيسية. ومن دون هذه النهضة الفكرية والفكرية السياسية التي تقوم على تجديد الأسئلة أكثر مما تقوم على وضع الإجابات الجاهزة والناجزة لن يكون من الممكن تصور تغيير في معنى السياسة ولا في أساليب ممارستها، وهو هدف التغيير وما نصبو إلى تحقيقه في المستقبل. ثم إن المثقفين ليسوا فقط مثقفين بل هم مواطنون كذلك. وفي هذا المعنى ليس هناك ما يمنعهم، وهذا ما هو حاصل اليوم بالتأكيد، من ان يكونوا عناصر فعالة في اعادة احياء العمل السياسي نفسه من خلال مساهمتهم في بناء القوة الاجتماعية والسياسية التي لا بديل عنها لاحداث اي تغيير. ونعرف من تاريخ السياسة الحديثة في العالم العربي ان المثقفين لعبوا دورا كبيرا منذ عصر النهضة وخلال حقبة الكفاح ضد الاستعمار في تكوين الاحزاب السياسية في مختلف اتجاهاتها الليبرالية والاشتراكية والقومية، وخلال معركة التحرر والاستقلال.
لكن مهما كان الحال، اعتقد اننا نعيش بداية حقبة جديدة يتوقف مصيرها على التعاون الجدي بين المثقفين واصحاب الرأي من جهة، وبين السياسيين ورجال الاعمال والاقتصاديين وسواهم من اعضاء النخبة الاجتماعية الواسعة من جهة ثانية. لذلك فانني بقدر ما اؤكد على اهمية عمل المثقفين وخصوصية دورهم في صوغ افكار التغيير او مفهوم التغيير اؤكد بالقدر نفسه على اهمية التعاون بين فئات النخبة الاجتماعية المختلفة. وبالعكس إن ما تسعى اليه السلطات الداعية إلى الحفاظ على الوضع القائم هو عمل كل ما تستطيع لمنع التواصل بين فئات النخبة الاجتماعية المتعددة وعزل الواحدة عن الاخرى وربما وضع كل منها في مواجهة الفئة الاخرى. وليس هناك بديل من هذا العمل المشترك بين أطراف النخبة الاجتماعية المتعددة لبناء القوة الاجتماعية المنظمة التي ستصنع التغيير واعادة بناء النظام العربي داخليا واقليميا على اسس جديدة مختلفة عما شاهدناه الى الآن فحسب وإنما أكثر من ذلك لاستعادة صدقيتها وثقة المجتمع بها بعد فترة طويلة من العزلة والانعزال.
وما نقوله في مسألة تعاون أطراف النخبة الاجتماعية المتعددة المهارات والصلاحيات ينبغي أن نقوله أيضا في مسألة تعاون النخب الاجتماعية ذات الأصول الجهوية والثقافية المختلفة أيضا. فليس هناك شك في أن رهان قوى السيطرة الاجنبية سوف يقوم بشكل رئيسي على تعبئة الحساسيات الطائفية والأقوامية كما يقوم على استخدام كل التناقضات والنقائص والتوترات الموجودة في مجتمعاتنا والعمل عليها لتفجير هذه المجتمعات وفسح المجال أمام القوى الخاريجية لتعزيز سطوتها وتوسيع قاعدة نفوذها.

jeudi, mai 08, 2003

عن دور المثقف العربي في المرحلـــة العــربيـــة الــراهنة


إعادة بناء رؤية موضوعية جديدة للنظام العربي في جانبيه المجتمعي والإقليمي

لأنني من جيل يمثل الفئة الاكبر في الوطن العربي، ويشعر بأنه عاجز عن الفعل والتحرك لكنه ولد معزولاً عن مواقع المشاركة في حقوقه الوطنية والسياسية، فان التشاؤم والاحباط والاحساس بالعجز يثقل كاهل ارواحنا، فنحن تربينا على شعارات لم تجد ترجمة لها على ارض الواقع، وعندما يتم احتكاك هذا الجيل بالجيل الذي سبقه والذي كان يؤمن بكل الشعارات التي اطلقها اذ كانت نتيجة حقيقية لسلوكيات وافعال وطنية قام بها، تعلو ملامح الامل وجوهنا والرغبة في الدفاع عن هذا الوطن والاحساس به. وهو ما يفسر تدافع الجماهير العربية الشابة الى الشوارع تعبيرا عن حقها في الدفاع عن وطنها. فالاحساس الوطني فطري يخلق مع الانسان ويؤكده المكان وذاكرته التاريخية. وهذا ما يفسر ايضا تدافع الشباب الى التطوع دفاعا عن الوطن ضد الغزو الاجنبي. لكن السقوط السريع والظالم لبغداد احدث صدمة لنا فشعرنا بعدم التوازن وتزعزع ذاك الايمان الفطري بالوطن. ورغم ذلك، فان نبرة التفاؤل والثقة بقدرات الشعوب العربية والايمان بأن الانظمة العربية تستطيع ان تتدارك وتتراجع عن الطلاق الحاصل بينها وبين شعوبها، هي النبرة المسيطرة على لغة المثقف العربي الذي لم يفقد ايمانه بقضيته مهما حيّد او استبعد عن مواقع القرار.
انه ما يؤكده صاحب "بيان من اجل الديموقراطية" و"اغتيال العقل" و"المحنة العربية: الدولة ضد الامة" و"مجتمع النخبة" وسواها من المؤلفات، الدكتور برهان غليون الذي حادثته عن دور المثقف العربي في ما يحصل، وعن الامكانات التي تؤهله للعب دوره الحقيقي في الدفاع عن وطنه.
* اي دور للمثقف العربي وهو مثقل اليوم بانكسارات مضاعفة، وخاصة بعد سقوط بغداد. كيف ترى الى هذا الوضع وكيف يستطيع القيام بدوره؟ وما هي الهوامش المتاحة له؟
- اعتقد ان سقوط بغداد على ايدي القوات الاميركية انهى حقبة كاملة مما سميناه نظام ما بعد الاستقلال، او النظام الاستقلالي في العالم العربي. وهذا السقوط استكمال لأحداث خطيرة اخرى اظـهرت افلاس النظام العربي في شكله الوطني والاقليمي معا وعجزه عن تلبية حاجات الشعوب العربية والرد على التحديات الجديدة. هذا يعني اننا نعيش اليوم حالة تفكك وانحلال لجميع الاطر والمؤسسات الاجتماعية في المنطقة والقواعد التي حكمت العلاقات داخل البلدان نفسها وفي ما بينها، مما يعني ان التحديات الراهنة اليوم تتلخص في الاجابة عن السؤال الآتي: كيف نعيد بناء النظام العربي من حيث هو نموذج الحكم والادارة والانتاج داخل كل قطر عربي ومن حيث هو منظومة تعاون وتكتل وتضامن بين المجتمعات العربية نفسها. ولا اعتقد اننا نستطيع ان نتجاوز وضع الانحلال وما سينجم عنه من تفتت للقوى وتنازع وصراعات وفوضى ما لم ننجح كمجتمعات في اعادة بناء رؤية موضوعية جديدة وخلاقة لهذا النظام العربي الذي نتحدث عنه في جانبيه المجتمعي والاقليمي. واعتقد ان الدور الاساسي للمثقفين يدخل تحديدا في المساهمة الجدية في صوغ هذه الرؤية الجديدة وفي العمل على نشرها وتطبيقها في الواقع، وهذا يتطلب في نظري حسا نقديا عميقا وجرأة على التخلص من النماذج والكليشيهات القديمة الفكرية والسياسية، وقدرة على التواصل مع قطاعات الرأي العام المختلفة، وارتفاعا على المصالح الآنية. واعتقد ان المثقفين هم اصحاب الدور الاول في صوغ مثل هذه الرؤية التي لا يمكن من دونها قيام اي عمل سياسي منظم جديد ولا اطلاق المبادرة السياسية للمجتمع، كما لا يمكن من دونها التفكير في اعادة بناء المؤسسات المختلفة الاقتصادية والادارية والقضائية والقانونية وسواها. ذاك ما يدفعني الى القول انه تقع على المثقفين العرب مهمة جوهرية، وإن قدرتهم على ادائها هو الذي سيحدد دورهم ومكانتهم في نظام المجتمع العربي المقبل. مثل هذا الجهد يستلزم الابتعاد عن موقفين، الموقف الغوغائي والموقف التيئيسي، وهما الموقفان اللذان تطورا كثيرا اليوم عبر وسائل الاعلام. واقصد بالموقف الديماغوجي ذاك الذي يرفض ان يأخذ في الاعتبار التغيرات الجذرية في الموقف الدولي والموقفين العربي والاقليمي ويريد الاستمرار في الدفاع عن الشعارات نفسها والمواقف والنماذج القديمة من خلال التركيز على العداء للخارج والتغطية على المسؤوليات الداخلية، واعني المسؤوليات العربية.
* ماذا تقصد بالموقف التيئيسي؟
- انه الموقف الذي لا يكف عن تصوير ما حصل من انهيار داخلي وخارجي في النظام العربي كأنه نهاية التاريخ، ويستنتج منه خواء العرب وعجزهم وعدم قدرتهم على الارتقاء الى مستوى ردود الافعال العقلانية والايجابية. اعني ذاك الموقف ايضا الذي لا يرى سبب السقوط في طبيعة المؤسسات السياسية والعلمية والايديولوجية التي تحكمت في نشاطات العرب وجهودهم في العقود الماضية، بل يراه في ماهية العربي نفسه او بنية عقله او تفكيره او ثقافته او تراثه او دينه.
* كيف يمكن المثقف ان يخرج من القوقعة التي وضع فيها، ومن الصالات المغلقة التي كان يتحدث فيها، او يعبر عن وجهة نظره وهو الذي حيّد طويلا وعزل عن الساحة السياسية او غيب الى درجة العدم؟
- اعتقد انه لو اراد المثقف ان يلعب دورا فلا يمكن هذا الدور ان يتحقق في حرية سواء كان الامر في سوريا او في اي بلد آخر، الا من خلال التواصل مع الرأي العام. فحياة المثقف وعمله مرتبطان اساسا بالرأي العام لناحيتي البناء والتواصل، وهو الذي يميز المثقف عن رجل السياسة الذي يتعامل من منطلق ميزان القوة وتكوين القوة المنظمة التي تستطيع وحدها القيام بفعل وتحقيق برنامج سياسي او تربوي. المثقف لا يعمل من خلال ميزان القوى او من خلال تنظيم قوى اجتماعية لتغيير هذا الميزان. في اعتقادي ان تفكك النظام العربي الراهن وافلاسه خلقا شروطا ملائمة جدا بين المثقف وجمهوره، فالرأي العام العربي اليوم ليس محبطا فحسب ولكنه قلق جدا على حاضره ومستقبله ومتفتح على كل الاقتراحات والافكار الجديدة، على عكس السنوات الماضية التي كان الرأي العام ميالا فيها الى الابتعاد عن كل ما هو سياسي وكل ما هو جديد، اذ كان ذلك ينطوي على تهديدات لأمنه وسلامته، يميل الجمهور العربي اليوم بسبب انعدام امنه وسلامته وخوفه من المستقبل وما يتضمنه من اخطار لا حدود لها الى البحث عن المفكرين والمثقفين وما يقدمونه من تحليلات وآراء جديدة، مثلما يفعل في اي حقبة اخرى. ومن ناحية ثانية رفع اهتزاز انظمة الطغيان في العديد من الاقطار العربية كابوس الارهاب الفكري الذي كان سائدا في السنوات الماضية والذي كان يمنع المثقفين على اختلاف اتجاهاتهم من الافصاح عن آرائهم باستثناء افراد قلة يتمتعون الى حد ما بحصانات استثنائية بسبب مواقعهم الخارجية او الداخلية. لم يبق هناك شك في ان المثقفين اصبحوا يشعرون بحرية اكبر في الكلام وبحق اكبر في الكلام، لذا هناك تطور في الطلب على النقد وتطور في العرض لو استعملنا المفردات الاقتصادية. ومن ناحية ثالثة اعتقد ان ما حصل من تطور كبير في وسائل الاعلام والاتصال العربية في السنوات الماضية كسر احتكر السلطات المحلية لوسائل الاعلام، وهذا يسمح اليوم للافكار الجديدة في العالم العربي بأن تنتقل عبر الحدود رغما عن ارادة اجهزة الامن التي نجحت في العقود الاخيرة في عزل الرأي العام على نحو شبه كامل في كل قطر عربي عن التطورات الفكرية والسياسية والاقليمية والعالمية.
* هل تعتقد اننا نعيش في شروط جديدة تجعلنا نتوقع نموا اكبر في حركة المحاسبة الوطنية في العالم العربي ولاسيما اننا لا نستطيع تصورها من دون هذا التلاقي للعناصر الثلاثة التي ذكرتها اي: المثقفون والرأي العام ووسائل الاتصال والاعلام؟
- بلى، اعتقد ذلك. هذا في ما يتعلق باحتمالات التطور على مستوى دور المثقفين، لكن المثقفين ليسوا فقط مثقفين بل هم مواطنون كذلك، وفي هذا المعنى يسعهم ايضا، وهذا ما سيحصل بالتأكيد ان يكونوا عناصر فعالة في اعادة احياء العمل السياسي نفسه من خلال مساهمتهم في بناء القوة الاجتماعية والسياسية التي لا بديل منها لاحداث اي تغيير. ونعرف من تاريخ السياسة الحديثة في العالم العربي ان المثقفين لعبوا دورا كبيرا منذ عصر النهضة وخلال حقبة الكفاح ضد الاستعمار لتكوين الاحزاب السياسية في مختلف اتجاهاتها الليبرالية والاشتراكية والقومية، وخلال معركة التحرر والاستقلال. واعتقد اننا في بداية حقبة جديدة يتوقف مصيرها على التعاون الجدي بين المثقفين واصحاب الرأي من جهة، وبين السياسيين ورجال الاعمال والاقتصاديين وسواهم من اعضاء النخبة الاجتماعية الواسعة من جهة ثانية. لذلك فانني بقدر ما اؤكد على اهمية عمل المثقفين وخصوصية دورهم في صوغ افكار التغيير او مفهوم التغيير اؤكد بالقدر نفسه على اهمية التعاون بين فئات النخبة الاجتماعية المختلفة وما ستسعى اليه السلطات القائمة او الانظمة المنهارة في سبيل الحفاظ على الوضع القائم، اي منع التواصل بين فئات النخبة الاجتماعية المتعددة وعزل الواحدة عن الاخرى وربما وضع كل منها في مواجهة الفئة الاخرى، وهذا ما ينبغي ان ننجح في تجاوزه. انه العمل المشترك الذي سيسمح ببناء القوة الاجتماعية المنظمة التي ستصنع التغيير اي اعادة بناء النظام العربي داخليا واقليميا على اسس جديدة مختلفة عما شاهدناه الى الآن.
* هل تعتقد ان الغزو الاميركي للمنطقة سوف يعتمد على اثارة النعرات الطائفية ومشكلة الاقليات كما حصل في بغداد؟ وهل ترى ان الاميركيين او سواهم من الطامحين الى اقتطاع مناطق نفوذ في بلادنا او منطقتنا سوف يستخدمون كل التناقضات والنقائص والتوترات الموجودة في مجتمعاتنا لترسيخ سيطرتهم وتعميق نفوذهم؟
- بالتأكيد، انه ما سيحصل، لكني اعتقد - وقد بينت الاوضاع العراقية ذلك - ان الرأي العام العربي ميال رغم كل شيء الى تجنب الوقوع في فخ الطائفية او العشائرية، وان مفهوم المواطنية الذي كاد يمحى امام سياسات القمع والاضطهاد اضحت له جذور حقيقية في وعينا المدني تجعله قابلا للبروز والاشتعال والتعبئة في سرعة عندما تسمح الظروف بذلك.
* كيف يمكننا تحصين مجتمعاتنا ضد هذه السياسات الاستعمارية الجديدة؟
- لا بد لنا، منذ الآن، من التخلي عن جميع الممارسات واشكال التمييز بين المواطنين، سواء ما كان منها طائفيا او حزبيا او دينيا او مذهبيا وعشائريا وعائليا، والعودة في شكل فعلي من دون تلاعب او خداع الى قواعد الممارسة الوطنية القائمة على المساواة بين جميع الافراد امام القانون وتكافؤ الفرص والاحتكام الى القضاء النزيه والغاء الفساد والعبث بمصالح المواطنين والغاء كل الامتيازات التي تتمتع بها فئات معينة اليوم على حساب المواطنين جميعا وعلى حساب الوطن بأكمله. اعتقد ان معيار الوطنية ينبغي ان يكون اليوم العودة الى منطق المساواة والعدالة والحرية وحكم القانون وليس التكرار الممل لشعارات العداء للامبريالية والاستعمار الفارغة المضمون.
* ترى اذن ان معيار الوطنية اليوم هو الاعتراف بالمواطنية والعمل على بنائها، وهذا وحده سيحصن مجتمعاتنا امام سقوط عواصم اخرى تحت اقدام الجيوش الغازية. الا ترى معي ان الانظمة العربية لم تتكون بين يوم وليلة بل احتاجت الى سنين طويلة لتفتيت الشخصية العربية وتدميرها داخليا وافراغها من قضاياها المصيرية وجعلها منكفئة على ذاتها ومنغلقة على اوجاعها؟ فكيف يمكن ان يحصل بين يوم وآخر انقلاب في هذا الوضع. اعني بذلك عامل الوقت. التغيير يحتاج الى زمن!
- لا ريب في ان النظم العربية تتحمل مسؤولية كبيرة في ايصال الاوضاع الى ما هي عليه اليوم، وفي جعل المجتمعات تقريبا من دون دفاعات امام الهجوم الاستعماري الجديد. وليس من المؤكد اننا نستطيع بالفعل ان نواجه الموجة الاستعمارية الجديدة من دون ضحايا كثر، او تضحيات كبيرة. لكن بقدر ما نعود سريعا الى الصواب، اي الى تطبيق قواعد العمل الوطني السليم، يسعنا ان نلجم قوى الاستعمار الجديد ونحد من قدرته على الاستمرار ونخلق شروط الانعتاق من قيوده. حتى لو خضعنا غدا فلن يعني ذلك نهاية التاريخ. وبقدر ما نطور قوانا الوطنية نتمكن من طرد الاستعمار.
* اتمنى ان تكون الشعوب العربية حقيقة تملك هذا التفاؤل بامكاناتها الانسانية والوطنية كما تراها انت.
- ينبغي ان نعرف ان ما حصل في العقود الماضية على ايدي النظم القمعية في البلاد العربية لم يقضِ، ولا يمكن ان يقضي على الايمان بالحرية وبالقيم الانسانية وبالهوية ولا على الامل في بناء مجتمعات عربية كريمة وحرة وعادلة، ولا على قوى الخير في هذه المجتمعات. كل ذلك لا يزال موجودا عندنا، لكن ما حصل ان هذه الانظمة القمعية سيّدت الفئات الفاسدة والانتهازية واللاوطنية على حساب الفئات الاخرى التي وجدت نفسها مهمشة ومستعبدة تماما من القيادة والسلطة والنفوذ. لكن هذه القوى موجودة بالفعل وقادرة على العمل والتدخل منذ الآن متى اختل ميزان القوى التي يخضعها ويسمح للقوى الفاسدة باحتكار القيادة السياسية والاقتصادية والفكرية، لذا لست متشائما، ولا اعتقد ان مجتمعاتنا فقدت كل بذرة حية. على العكس تماما ان مشكلة هذه المجتمعات وبسبب الانظمة التي تحكمها لا تجد عناصر الخير فيها، وهي الاغلبية، مكانا لنفسها فيها.
* ماذا لو عجزت الانظمة الراهنة على تلقن الدرس الصحيح ولم تعمل ما ينبغي كي تقطع الطريق على العدوان الخارجي؟
- اعتقد انها ستجد نفسها في الشروط نفسها التي وجد نفسه فيها النظام العراقي، اعني سوف تتزايد مطامع الدول الاجنبية في احتلالها والسيطرة على مواردها. في اختصار، ان الخيار المتاح لنا اليوم هو بين التغيير القائم على اختيار عقلاني وارادي ومنظم يسمح لنا بعبور العاصفة بأقل ما يمكن من خسائر، او تغيير مفروض من الخارج ولمصلحة القوى الاجنبية. ولا ينبغي ان يكون لدينا اي وهم حول ان التغيير المختار يستدعي تنازلات حقيقية من الفئات المسيطرة سواء كانت تنازلات مادية او سياسية. لا يمكن الدفاع عــن المجتمعــات العربيــة في اطــار التوزيـع الــراهــن للسلطة والثروة وانعدام كل اشكال التعبير الفكري الحر.
* هل يمكن ان يكون المخرج من طريق التفاهم بين النظم الحاكمة والقوى الاستعمارية الجديدة كما هي الحال في دول الخليج وبلدان اخرى؟
- لا يمكن اولا مقارنة البلدان العربية ذات الكثافة السكانية الكبيرة ولا المشاكل والتحديات التي تواجهها بالبلدان الخليجية وما تواجهه ايضا من تحديات، ففي امكان معظم بلدان الخليج ان تغطي سياسة التبعية بالرشوة وتوزيع المنافع الكبرى الناجمة عن وجود ثروة نفطية هائلة بالمقارنة مع عدد السكان، وبالتالي فان معظم المشاكل الاجتماعية لمجتمعات الخليج الصغيرة غير مطروحة وتكاد لا تذكر بالمقارنة مع حجم المشاكل الاجتماعية في البلدان العربية الاخرى التي تئن تحت ضغط البطالة المتفاقمة والفقر والتفاوت الصارخ في توزيع الدخل وانحسار الطبقة الوسطى والفساد وانعدام الآفاق والفراغ الفكري والاخلاقي، ولذلك اعتقد ان هذه البلدان الثانية لن تستطيع ان تغطي ازمتها او افلاسها الاجتماعي والسياسي لذا فهي تستخدم شعارات الوطنية لتغطية هذا الافلاس.
* ماذا لو تخلت عن هذه الشعارات وظهر تعاونها الواضح مع القوى الاجنبية كما هو في معظم بلاد الخليج؟
- ستسقط ورقة التوت في المعنى الحرفي للكلمة وسوف تظهر عورتها، بل ستظهر كأنها مجرد عورة فحسب. كذلك اعتقد ان هذه النظم ليس لها خيار، فاما ان تغير نفسها وتتراجع عن الاحتكار القائم للثروة والسلطة وحق الكلام، او ان تتعرض لتغيير القوى الخارجية او ان تسقط تحت اقدام القوى الاجتماعية الناقمة اكثر فأكثر لو نجحت في التوصل الى تسوية مع القوى الخارجية على حـساب المصالح الوطنية.
النهار 8 آيار 2003 حديث إيمان الجابر