jeudi, novembre 30, 2006

في جذور الأزمة الشرق أوسطية

الوطن 30 نوفمبر 06

حكم التعارض التاريخي والمستمر في المشرق العربي بين أجندة القوى الغربية، ومن ورائها المنظومة الدولية التي تقودها، وأهدافها الاستراتيجية، وأجندة بناء دولة وطنية بالمعنى الحقيقي للكملة على منطقة المشرق العربي بالعيش في مناخ ازمة دائمة، إقليمية ووطنية لم تفتر خلال أكثر من نصف قرن.. لكن الأسلوب الفج الذي اتسمت به في السنوات القليلة الماضية سياسة التدخل الغربي، والأمريكي منه بشكل خاص، وما تبعها من تطرف مقابل في ردود الفعل العربية على هذه السياسة، ومن تنامي الحركات الارهابية التي تستهدف المصالح الغربية، قد دفع إلى تفجير هذه الأزمة وفتحها على مصراعيها، واضعا مصير المشرق العربي بأكمله، دولا وشعوبا، في مهب الريح. ونحن نواجه اليوم في الوقت نفسه عواقب انهيار الدولة المشرقية بما تمثله من إطار لبلورة إرادة سياسية جامعة وسياسات تهدف إلى تأمين مصالح المجتمع وتجذب ولاءه وتحظى بقبوله وثقته، ونتائج تقويض النظام شبه الاستعماري الذي أقامه الغرب في المشرق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والذي أخفقت الحركة القومية العربية بعد صراع طويل في أن تزيله أو تعدل في آليات عمله.
فبقدر ما أدى التعارض المتزايد بين أجندة إقامة نظام أمني للشرق الأوسط، يلبي حاجات الهيمنة الغربية بالدرجة الأولى، وأجندة بناء دولة تعبر عن إرادة مواطنيها وتلبي حاجاتهم المادية والمعنوية، من هوية واستقلال وخدمات اجتماعية، إلى تسويد حالة من النزاع الدائم، السياسي والثقافي، ولكن أيضا العسكري (حرب كل عشر سنوات تقريبا) سد الطريق على إمكانية بناء الدولة، كما قطع الطريق على إمكانية التواصل بصورة ايجابية مع المنظومة الغربية، ومن ورائها مع المنظومة العالمية التي يسيطر عليها الغرب.
وكما أن مشروع بناء الدولة الحديثة الذي ارتهن للاستراتيجيات الغربية فقد القدرة على التقدم والتحول إلى مشروع دولة وطنية، تطورت المقاومة القومية التي حملت القيم الوطنية الحديثة وكرستها خلال أكثر من نصف قرن نحو مقاومة إسلامية معادية للغرب وقيم الحداثة معا، بقدر ما أخفقت في مواجهة السيطرة الغربية والانتصار عليها. وكما وصلت الدولة التي عجزت، بسبب ارتهانها لإرادة أخرى غير إرادة مجتمعاتها، عن إنجاب التقدم الحضاري والحريات والحقوق والمشاركة السياسية التي تشكل جوهر عملها، فوصلت إلى طريق مسدود، وصلت المقاومة الاسلامية التي تخلت عن القيم المواطنية الوطنية، وراهنت على تعبئة العصبيات الدينية والمذهبية والطائفية والإتنية، بسبب غياب أفق بناء دولة بديلة، إلى طريق مسدود مماثل، فعممت الانقسام والتفكك الاجتماعي والسياسي، وفتحت الباب نحو عصر من الفوضى والخراب الذي عرفته من قبل أفغان طالبان ولم تخرج منه بعد.
يشترك العرب والغربيون سوية في ايصال الوضع في المنطقة إلى الكارثة التي يعيشها الآن. ولا يعادل فشل العرب في تغيير واقع التبعية المطلقة التي فرضت عليهم سوى إخفاق الغرب أيضا في تكييف مصالحه مع الحد الأدنى من مصالح الشعوب العربية. وهكذا كانت النتيجة صدام مستمر تحول اليوم إلى أزمة عامة، ترتقي كما عبر عن ذلك البعض إلى مستوى الحرب الحضارية، وفي بعض التصريحات إلى الحرب الصليبية. ونحن اليوم على أبواب حروب صليبية جديدة من دون ريب.
فبقدر ما بقيت مشروعا أجنبيا ووكالة للسيطرة الخارجية وقناة للنفوذ وتنفيذ الخطط والسياسات الدولية، تحولت الدولة إلى أداة غريبة سالبة للمجتمع وخارجة عليه. ولأنها أصبحت كذلك افتقدت ديناميات تطورها ونموها المعنوي والقانوني والمادي معا. صارت قزما سياسيا بكل المعاني، غير قادرة على إلهام الناس ولا إثارة حماسهم ولا إرضاء حاجتهم للقيادة والسلطة الشرعية، ولا على ملء الفراغ الذي يحدثه انحسار البنى والهياكل الايديولوجية والسياسية التقليدية، وتسارع وتيرة تحديث المجتمعات وتفتت البنى الجماعوية. وهو ما يثير ضدها نقمة مستمرة ويظهرها في نظر شعوبها كما لو كانت عملة مزورة، أو دولة كاذبة وفارغة أكثر منها إطارا شرعيا يقدم لهم شروط تعظيم فرص تحررهم وتفتح ذواتهم وتهذيبهم وتحسين شروط حياتهم ومعالجة مشاكلهم الداخلية والخارجية. فهي صنم سياسي تطلب له العبادة والتقديس لكنه لا ينطق ولا يتحاور ولا يتواصل معهم، فيتحول إلى منبع للاحباط الدائم.
من هنا نحن نعيش حالة قومية مأزومة وشديدة الحساسية، بل ملتهبة في عدائها للآخر، الخصم، وفي الوقت نفسه غير قادرة على الانجاز والتوجه نحو عمل ايجابي بناء يخرجها من المأزق ويعزز قدرتها على حل مشكلاتها. بهذا المعنى أصبحت قوميتنا قومية مقاومة سلبية، وتحد، واعتراض، ورفض، وتحطيم، وانحسرت عنها قيم العقلانية لصالح التعبئة الشعبوية والثورة الساخطة والولع بالحرق والتدمير، بقدر ما فقدت الأمل في تحقيق ذاتها واستكمال نضوجها، أي بناء دولة تعبر عن إرادتها وتعكس في مؤسساتها مصالحها وغاياتها. وقانونها العميق يقول: طالما لا يسمح لنا ببناء مؤسسات من اختيارنا فلن نسمح لاختيار الآخرين المسيطرين علينا أن يمر. نحن هنا في حالة تعطيل للبناء الذي يتم بإشراف الغير وحسب مصالحه، لا في حالة بناء ذاتي ومراكمة لعناصر التقدم من أي نوع كانت، مادية أو معنوية. وهو ما يعني حالة حرب وخراب مستوطنة. فسلبية القومية الراهنة، بما في ذلك تلك الملتحفة برداء الدين، والمتمسحة بالعروبة، ليست في واقع الأمر إلا ردا على سلبية السياسات الاستعمارية أو شبه الاستعمارية الغربية التي لا تزال تصر على إغلاق المنطقة وفرض النظم التي تنسجم مع مصالحها عليها. ومن هذا المنطلق ليست أيضا قوة تجاوز النظام والخروج منه ولكن بالعكس طرف أساسي في تأسيسه وضمان استمراره، من حيث أن السيطرة لا تستقيم من دون ممانعة تؤسس لها وتضفي الشرعية على آليات عملها، كما تبرهن على ذلك الرؤية السائدة في حقل العلاقات الدولية والمتمحورة حول فكرة الحرب ضد الارهاب والحرب الحضارية أيضا.
كما انه من غير الممكن تصور إنقاذ مشروع الدولة من دون تغيير جذري في سياسات القوى الغربية تجاه المنطقة، وتحكمها بالقرار الفعلي فيها، كذلك لن يكون هناك أمل في الانتصار على فوضى المقاومات التي تعبر عن النزاعات الأهلية والانقسامات الداخلية، من دون إعادة النظر في مفهوم المقاومة والعودة إلى قيم الوطنية ومعاييرها. وهو ما يستدعي في الوقت نفسه انقلاب في استراتيجية السيطرة الغربية يمكن الغرب من تكييف مصالحه، أو ما يعتقد أنه مصالح استراتيجية، مع مصالح شعوب المنطقة، بعد أن بقي ينظر إليها حتى الآن كنقيض لها، ومن دون اعتراف العرب أيضا، والمقاومات الاسلامية المسيطرة عليهم اليوم، بتداخل المصالح الدولية، والقبول بفتح مفاوضات جدية حول تبادل المصالح، بما يعني إعادة تعريف واضح للمصالح العربية وضمان الاعتراف بها. فإما ان يحصل تفاهم بين العرب والغرب يقود إلى تعاون يضمن مصالح الجميع ويفتح امام المنطقة أبواب التنمية والبناء والاستقرار أو أن تتحول المنطقة إلى ساحة حرب واسعة وتقبل بأن يكون مصيرها الدمار والخراب الشامل، مع ضياع مصالح الجميع، العرب والغربيين على حد سواء.

mercredi, novembre 29, 2006

في أصل خراب الشرق الأوسط وعذاب قاطنيه

الجزيرة نت 29 نوفمبر 06

ما ميز ولا يزال يميز الشرق الأوسط في نظام العلاقات الدولية مجموعة من السمات الخاصة حكمت عليه بالتحول إلى بؤرة توتر مستمرة وحرمته من عوامل أساسية للتقدم على طريق التنمية الانسانية الاقتصادية والاجتماعية وأدانت شعوبه بالبقاء في أسر النظم المافيوزية ولا تزال تدفع ببلدانه نحو العزلة والهامشية والانحلال.
الأولى التدويل الناجم عن ارتفاع حجم الرهانات الدولية التي تنطوي عليها، سواء ما تعلق بموقعها الجيوستراتيجي كعقدة مواصلات بين القارات والتكتلات الكبرى الدولية، أو كأكبر مصدر للطاقة النفطية وأعظم خزان لها، أو بوصفها البقعة التي وقع عليها الاختيار لتكون مسرحا لحل دراما المسألة اليهودية، التي ارتبطت في أوربة والمجتمعات الغربية عموما بالعداء للسامية على مدى قرون عديدة متتالية، ووجدت أقصى تعبيراتها في كارثة المحرقة والمذابح الجماعية لليهود الغربيين الذين قضوا بالملايين في القرن العشرين على يد قوى النازية والفاشية الاوروبية. ولم تنفرج هذه الأزمة إلا بإعلان فلسطين دولة إسرائيلية وصب الأوروبيين دعمهم المطلق لهذه الدولة ومساعدتها على تحقيق سياساتها بصرف النظر عن نتائج ذلك على سكان البلاد الأصليين ومصيرهم.
أعطت هذه العوامل وعوامل أخرى غيرها أقل أهمية، لمنطقة الشرق الأوسط، والمشرق العربي الذي يشكل قلبها بشكل خاص، اهمية استراتيجية استثنائية ومستمرة منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم. فالمسألة الشرقية التي شغلت دبلوماسية القرن التاسع عشر الاوروبية تعود اليوم من جديد على شكل مسألة إسلامية وعربية. وهي المسألة التي تكاد تحتل الجزء الأكبر من اهتمام الدبلوماسية الدولية وتشكل مصدر التوتر الأول في نظام العلاقات الدولية للحقبة الراهنة.
والسمة الثانية هي تباين المصالح و المواقف الدولية تجاه هذه الرهانات، ونزاعها الطويل والمستمر فيما بينها على تأمين مواقعها او تطبيق ما تعتبره حلولا تنسجم مع مصالح كل منها تجاه المشاكل التي يطرحها الأمن والاستقرار والسلام في الشرق الأوسط. وهو ما جعل من المنطقة مسرحا للصراع والتنافس بين الدول الكبرى وحولها إلى حد كبير إلى مناطق نفوذ تتقاسمها هذه الدول حسب قوتها ومبادرتها. وقد عمل ذلك كله على تدويل عملي للمنطقة، وعلى وضعها بشكل ضمني تحت الوصاية الغربية التي لم تكف في سبيل الدفاع عنها عن وضع الخطط والاستراتيجيات الدفاعية التي تضمن إغلاقها في وجه المنافسين والخصوم. وكما عمل هذا السياق الدولي على تقليص سيادة الدول الشرق أوسطية، وفرض عليها نوعا من نظام التبعية البنيوي الذي يستحيل التحرر منه، جعل من الحرب ضد القوى المحلية التي تنزع إلى السيادة والاستقلال سياسة رسمية دائمة للكتلة الغربية التي تمثل الطرف الدولي الرئيسي المسيطرة على المنطقة منذ قرنين على الأقل. وما كان لهذا الوضع إلا أن يضعف صدقية الدول المحلية، ويسيء إلى شرعية النخب الوطنية، ويضيق من هامش مبادرتها على صعيد السياسة الدولية، وتجاه الرأي العام المحلي نفسه الذي أصبح ينظر إليها على أنها أدوات في يد السيطرة الأجنبية.
وهكذا، لم يعد من الممكن الفصل بين الصراع الدولي على المنطقة والصراع السياسي داخل المنطقة وكل بلد فيها على السلطة والاختيارات الايديولوجية وما تمثله من نظم وأنماط حكم وإدارة. فأكثر مما هو الحال في أي منطقة أخرى، تتحكم العوامل الخارجية هنا في رسم حدود مسرح السياسة الداخلية وعواملها وفرصها وآفاقها التاريخية. والقانون السائد بشكل عام هو أنه لا توجد ضمانة للوصول إلى السلطة أو للنجاح في الحكم لأي قوة داخلية لا تكون مدعومة بشكل فعال وناجع من قبل الكتلة الغربية أو بعض دولها المؤثرة. لا يعني ذلك بالطبع أنه من غير الممكن لقوى غير ممالئة للغرب أن تصل إلى السلطة، ولكنه يعنى أن وصولها إلى السلطة لا يجلب الاستقرار وإنما يفتح عليها في الوقت نفسه معارك داخلية وخارجية لا تستطيع مواجهتها إلا بتطوير استراتيجيات كبرى ذات طابع دولي أيضا. كما حصل مع التجربة الناصرية التي احتمت بحركة عدم الانحياز وكانت وراء تكوينها، كما حاولت الدفاع عن نفسها واستقلال قرارها بتطوير استراتيجية هجومية في المنطقة العربية تحت إسم القومية العربية التي سعت من خلالها إلى تعبئة الرأي العام العربي ضد مواقع النفوذ والسيطرة الغربية، وجعلت من تصفية الاستعمار وذيوله نواة سياستها الوطنية والاجتماعية. ومع ذلك لم تنجح في وضع حد لنظام الوصاية الغربية واستنزفت قواها في الحروب والمواجهات الإقليمية، قبل أن تقوض أسسها الهزيمة الكبرى أمام إسرائيل في يونيو 1967.
وكما عمل وجود موضوعات رهان كبرى ذات أبعاد عالمية على تدعيم التدخلات الأجنبية في المنطقة وجذبها، أدى الخلاف بين المصالح والتوجهات الخاصة بالدول الكبرى المتدخلة وصاحبة النفوذ إلى تعريض المنطقة بشكل مديد إلى منطق الحرب الباردة الدائمة. تلك التي قسمت المنطقة لعقود طويلة بين الغرب والاتحاد السوفييتي، خلال الحرب الباردة الكلاسيكية المعروفه، وتلك التي عبرت عن التنافس الاوروبي الأمريكي بعد زوال الحرب الباردة، ثم تلك التي تتجلى اليوم في الصراع على السيطرة على الشرق الأوسط بين الكتلة الغربية والآسيوية، التي لا تزال تعمل من وراء ايران وتعزيز المحور الايراني السوري اللبناني. هكذا لم تخرج المنطقة عن منطق الحرب الباردة بالرغم من انتهاء هذه الحرب ولا يزال أمامها فرص كبيرة للغرق المديد فيها. وهو ما يعلق مصير المنطقة ودولها وشعوبها وسياساتها على النزاعات الدولية، ويحد من قدرة الشعوب على تقرير مصيرها، كما يقدم للقوى الحاكمة فرص اللعب على النزاعات الدولية للهرب من التزاماتها تجاه شعوبها، وتوفير وسائل حماية وجودها والوقوف في وجه أي معارضة تقف في طريق استمرارها. وكما أنه لا ديمقراطية ممكنة من دون إرادة شعبية حرة، لا توجد إرادة شعبية حرة من دون سيادة وطنية.
والسمة الثالثة انتشار القوميات المحبطة ونزاعاتها الدورية والمستمرة. هكذا تتمير منطقة الشرق الأوسط، اكثر من أي منطقة أخرى في العالم، بسبب التركيب الاستعماري لخريطة توزيع الدول فيها، وحرمان البعض منها وإعطاء أكثر من دولة لشعب آخر، وهو أحد نتائج وضعها الدولي المذكور نفسه، بأنها منطقة القوميات او الحركات القومية المحبطة، والوطنيات غير القادرة على تحقيق ذاتها وإنجاز أهدافها واكتمال هويتها. وبالتالي فهي منطقة القوميات والوطنيات الناقمة أيضا بسبب ما تعانيه من إخفاق وحصار وانعدام آفاق. ومن هذه القوميات واهمها القومية العربية، لكن أيضا الكردية والفارسية وغيرهما من القوميات الصغرى المهمشة أو المغدورة او المقموعة. وتشكل هذه القوميات المحبطة براكين مشتعلة، على استعداد دائم للتنازع فيما بينها، والنزاع مع الكتلة الغربية المسؤولة عن إحباطها، ومع النظام الدولي الذي يعكس إخفاقها ويكرسه. في هذا السياق يظل الدفاع عن الهوية والنزاع من اجل تأكيدها محور أجندة الحركات السياسية الشعبية، في الوقت الذي يؤدي فيه فشل المشاريع القومية وإخفاقها إلى تنامي روح العصبية الطائفية والقبلية والمذهبية داخل صفوف الكتلة الشعبية، فاتحا بذلك مسرحا إضافيا للنزاعات الإتنية داخل المجتمعات المنتمية للقومية ذاتها.
وبقدر ما تفترض الديمقراطية الاستقرار والتحول نحو أجندة تنمية سياسية وإجتماعية، تصب عنايتها أساسا على الفرد المواطن وتعزز موقعه ومكانته في المجتمع والدولة، يدفع منطق النزاع السائد بمختلف أنماطه إلى التضحية بالفرد وبفرض التنمية وتحسين شروط الحياة والمعيشة العامة للسكان، لصالح تاكيد الهوية والاستقلال والسيادة المهددة أو المقيدة أو المفرغة من مضمونها. وهو ما يعني أن فرص نمو قوى ديمقراطية قوية تظل ضيئلة جدا في مثل هذا الوضع. وهو ما تشير إليه الوقائع بالفعل في كل بلدان المنطقة. ويقدم النزاع العربي الاسرائيلي والحروب المستمرة التي فجرها، وهو النزاع الذي لا يزال مستمرا منذ قرن من دون انقطاع، النموذج الساطع عن تأثير مناخ الصراع القومي والأقوامي على مصير القوى الديمقراطية، وعلى الديمقراطية بشكل عام في المنطقة الشرق أوسطية. وأكثر فأكثر يجر النزاع العربي الاسرائيلي إلى تعبئة المشاعر والعصبيات الدينية والقومية، ويدفع إلى تحويل المقاومة الخارجية والتركيز على العدوان الأجنبي إلى الأجندة الوحيدة السائدة في السياسة العربية، ويهمش جميع القوى التي تعمل على توجيه الرأي العام نحو مطالب تتعلق بتحسين شروط ممارسة السلطة وشروط الحياة والعيش داخل المجتمعات. وليس هذا من الأمور المستغربة او الغريبة. فعندما تتعرض المجتمعات إلى عدوان خارجي دائم، يتقدم الدفاع عن المصير العام على أي دفاع آخر عن مصالح الأفراد والجماعات. وتستطيع النظم الاستبدادية التي تتحكم بوسائل الدعاية والإعلام أن تعمق من هذا الاتجاه، وأن تستفيد منه لحرف الأنظار عن ممارساتها الشائنة. وهو ما يفسر إلى حد كبير نجاحها في عزل القوى الديمقراطية بالفعل في السنوات الماضية باسم الدفاع عن المصالح القومية ومقاومة الاستعمار والصهيونية وحماية تراث الاسلام وصون كرامته امام الاعتداءات والاستفزازات الغربية.
والسمة الرابعة مركزية الدولة وضمور المجتمع المدني في تنظيم الشؤون العمومية. وترجع قوة الدولة والمكانة المركزية التي تحتلها في المجتمعات الشرق اوسطية، وقدرتها على ضبط المجتمعات واحتواء حركتها واستيعابها، إلى عاملين رئيسيين. قوة التحالفات التي تجمع النخب الحاكمة عموما مع المنظومة الدولية الغربية والمصالح التي تربط بينهما، في جميع المجالات الاستراتيجية والمالية معا. أما السبب الثاني فهو حيازتها على عوائد ريعية استثنائية بكل معنى الكملة واستخدامها لهذه العوائد، مستفيدة من تفاهمها مع الغرب، لبناء نظم مستقلة كليا عن المجتمعات، وقادرة على البقاء من دونها، وفي مواجتها معا. وهذه الاستقلالية التي نجحت هذه النظم في بنائها هي التي قوت من رصيدها في نظر الدول الغربية وزادتها مراهنة عليها كوكيلة لمصالحها وشريكة محلية لها في حفظ الامن والنظام الإقليميين. فبفضلها ضمنت هذه الدول نظما محلية تستطيع أن تستوعب حركة شعوب ومجتمعات ينظر إليها على أنها مصدرا للنزاعات القومية والدينية المتطرفة، وبالتالي لحركات مناوئة للغرب ومعادية لمصالحه. وجاءت ولادة حركات الارهاب الاسلامية في العقدين الأخيرين، واختيار بعضها الساحة الدولية، والغربية خاصة، مسرحا لعملياتها الانتقامية، لتعزز من خوف التحالف الصناعي الغربي وتزيد تعلقه بنظم برهنت على قدرتها على إخضاع الكتلة الشعبية بصرف النظر عن المعايير التي تستخدمها في إخماد حركات النقد والمعارضة والاحتجاج الداخلية، وغياب أي شكل من الحياة السياسية واحيانا القانونية فيها.
وكانت النتيجة الطبيعية والمباشرة لهذا التفاهم بين النخب الحاكمة المحلية والتحالف الغربي في الشرق الأوسط التحييد السياسي الكامل للشعوب، وشل إرادتها بالفعل، وتفتيت قواها السياسية والمدنية، وإقامة نظم متكلسة ومنغلقة على نفسها، ليس لها أي تواصل مع شعوبها، ولا تعرف طريقة أخرى لكسب تأييد هذه الشعوب ولا التعامل معها سوى استخدام وسائل القمع والقهر السافر والمقصود لذاته من أجل إعطاء العبرة والمثال. ولذلك ارتبطت صورة هذه النظم كما لم يحصل في أي نظم أخرى بتعدد قوى الأمن وتنوع أجهزته، واتساع دائرة ممارساته اللاقانونية، وشمول صلاحياته كل الشؤون العمومية. فصار الأمن هو البديل الحقيقي للسياسة. وأصبح العمل السياسي المعارض عملا فدائيا بالمعنى الحقيقي للكملة يعرض فيه صاحبه نفسه لكل المخاطر، من الصرف من الوظيفة إلى الاعتقال التعسفي إلى التعذيب إلى السجن المديد إلى القتل. وطالما شعرت النخب الحاكمة أنها تحظى برضى الغرب وتأييده، وأنها تتمتع بالموارد المادية والمالية الضرورية لتسيير اجهزتها، لم يعد هناك ما يدفعها للنظر في قضايا الشعوب، ولا التساؤل عن مصيرها، ومن باب أولى التوقف عند حقوقها ومصالحها. وهكذا حولت هذه النخب الدولة إلى مزرعة، وجعلت من قوى الجيش والأمن ميليشيات خاصة تستخدمها لفرض الإذعان على مجتمع من الأقنان، واستعملت الإرهاب لردع قوى المقاومة الضيئلة التي لا تزال تتجرأ على الوقوف في وجه الاستبداد وتوجيه النقد إلى سياساته.
من المستحيل في ظل هذا النظام الذي يلغي السياسة من الأصل، ولا يعترف بحقوق ولا واجبات، ويكرس "ألوهية" الحاكم وعصمته، كما يكرس توارث مناصب المسؤولية في كل المؤسسات، أن تقوم مجتمعات مدنية، أي أيضا سياسة، بالمعنى الحقيقي للكملة. وكل ما نعرفه من المنظمات والهياكل المدنية يتوزع بين مجموعتين، فئة المنظمات السياسية والحقوقية القائمة على جهود نخب المثقفين النشيطين المناضلين والمغامرين بمصالحهم وأحيانا أرواحهم أيضا، والمستندة في وجودها وتمويلها على المجتمع المدني العالمي، وفئة الجمعيات الخيرية التي تعمل تحت السقف المنخفض جدا للامن والسياسة الرسميين، ولا تستطيع أن تستمر وتعيش إلا بقدر ما تخضع لقاعدة الالتزام بمصالح جزئية، وتجنب الحديث او العمل في كل ما له علاقة، من قريب أو بعيد، بالشأن العام وبالقضايا المتعلقة ببناء المجتمعات المدنية. الدول تحولت إلى أجهزة ضبط وحصار وقمع، أي إلى أدوات للسيطرة المادية المباشرة والفورية، ولم تعد تتمتع بأي قيمة او بعد أو محتوى سياسي او أخلاقي او اجتماعي.

mercredi, novembre 22, 2006

الدولة والجماعة الوطنية في المشرق العربي

الاتحاد 22 نوفمبر 06
ا
لم تنجح الدولة التي نشأت في المشرق العربي، على اثر تسويات مجحفة بين النخب المحلية والقوى الأجنبية، في التطور والتحول إلى دولة مواطنيها، أي إلى مرجعية لسلطة شرعية ومقبولة من قبل المجتمع، تستطيع أن تقوده وتلهمه، وتملأ الفراغ الذي تركه انحلال الدولة السلطانية القديمة وانحسار دور السلطة الدينية التقليدية. كما أن المقاومة الوطنية الشعبية الواسعة لمشروع هذه الدولة، المستلبة الإرادة والمفتقرة للهوية والمعنى، لم تنجح أيضا في فرض التغيير، أو في بناء مجتمع سياسي فاعل، قادر على تغيير بنية هذه الدولة أو على بناء دولته الخاصة الجديدة المرتبطة به والمنتمية إليه، سواء أكانت دولة المواطنة التي تقيم العلاقات المجتمعية على اسس سياسة عقلانية وقانونية طوعية، أو دولة الأمة العربية أو الاسلامية المتماهية ثقافيا وقيميا مع الجماعة والمعبرة عنها. ولا يزال الوضع كما كان منذ عقود، بل ربما زاد التعارض اليوم بين منطق الدولة ومنطق المجتمع والسياسة، بين منطق التشرذم الذي يسم المجتمعات المدنية ويدفعها إلى التنافر، ومنطق الوحدة الذي يؤسس لأمة ويقوم على تكوين إرادة جامعة. وكما زاد عدم الاستقرار من اندفاع النخب الحاكمة وراء طلب الحماية الأجنبية، دفع الإخفاق المستمر للمقاومات الأهلية إلى تزايد الرهان على تعبئة العصبيات ما قبل السياسية المذهبية والطائفية والأقوامية معا. وهو ما يقود أكثر فأكثر إلى التجويف السياسي للدولة، وإلى تحويل المقاومات الأهلية إلى تمرد عصبيات وجماعات وطوائف، لا علاقة لمشاريعها بأي رؤية وطنية واضحة ولا بقيمها وأهدافها.
والحال، لا يبني الدولة تعميق التبعية للخارج ومطابقة السياسات الوطنية مع الاستراتيجيات الأجنبية. وهي السياسة التي اتبعتها ولا تزال الغالبية العظمى من النخب العربية التي فهمت قانون اللعبة أو البقاء في الحكم في المنطقة، وقبلت بالعمل تحت مظلة القوى الغربية الفاعلة وعلى أجندتها. وهي تدفع اليوم فاتورة خوفها وقصر نظرها واستهتارها بمعايير السيادة والأمن والاستقلال، واستسهالها الحكم بالقوة، وتهميش المجتمعات وإخضاعها. فهي تجد نفسها محاصرة ومعطلة، لا قدرة لها على وقف الهجوم الشامل الذي تتعرض له من قبل قوى التمرد على النظام، المحلية منها والإقليمية والدولية معا.
لكن، بالمقابل، لا يكفي لبناء الوحدة الوطنية والارادة الجماعية، بما تتطلبه من سيادة واستقلال، الممانعة أو المقاومة السلبية التي تقوم على السعي إلى إفشال الخطط الغربية، ونقل المعركة إلى كل مكان في العالم، بهدف زعزعة الاستقرار الإقليمي والدولي، أو تهديد سيادة الدول الأجنبية المسيطرة، في الوقت الذي يستمر فيه حرمان الشعوب، باسم القومية أو الدين أو التنمية أو الاستقرار، من الحريات والحقوق الأساسية التي لا وجود لها كشعوب، وليس كمجرد بضائع بشرية، من دونها. فإذا كانت الدولة تطلب السيادة، بعكس ما هو حاصل عند المدافعين عنها في البلاد العربية اليوم، فإن الوطنية التي تشكل روح الدولة ومبرر وجودها تطلب الوحدة والتفاهم بين أبناء الوطن الواحد، وهو ما لا يمكن أن يقوم اليوم على أسس أخرى غير أسس العدالة والحرية والمساواة، والاعتراف المتبادل، والتضامن، والتكافل، بين الأفراد الذين يكونونها، أي عكس ما تعمل عليه الممانعات الراهنة الخصوصية. وكما أنه لا يمكن تذويب المهام السياسية الخاصة ببناء الإجماع الداخلي في المهام الاستراتيجية المرتبطة بتأمين السيادة تجاه الخارج، لا يمكن أيضا تذويب مهام الحفاظ على السيادة الخارجية في المسائل السياسية الداخلية أو ردها إليها. فأساس الدولة الأمة، أو دولة المواطنة الحديثة، ركنان: سيادة الدولة التي لا يمكن قيام حقل سياسة داخلي وممارسة سياسية فعلية من دونها، وسيادة الشعب التي لا يمكن نشوء الحريات الفردية من دونها.
فالدولة مؤسسة والوطنية سياسة. وليس هناك قيمة للدولة إذا كانت لا تؤسس للسياسة، ولا قيمة للسياسة إذا كانت طائفية أو مذهبية أو فئوية أو محققة لأجندة التبعية الخارجية، ولم يكن هدفها وفي قدرتها أيضا إنشاء الحريات الأساسية الفردية والجمعية التي لا قيمة للدولة من دونها. وكما أن الدولة المفرغة من السيادة لا يمكن أن تكون مؤسسة صالحة لبناء حقل سياسة مستقل بما فيه الكفاية حتى يعكس مصالح مجتمعه، ويعبر عن إرادته العامة، كذلك لا تقود المقاومة إلا إلى الخراب والفوضى إذا اقتصرت على الصدام مع النظام المحلي والدولي القائم، ولم تنجح في بناء مفهوم بديل للدولة، أي في بلورة معالم سلطة شرعية ومؤسسات قانونية راسخة تخدم المجتمعات وتاخذ بيدها في عملية التنمية الشاملة والاندراج في الحضارة الانسانية.
لكن، في هذه الحالة، لا تتعلق الأمور بسلوك طرف واحد، خارجي أو داخلي، فحسب، ولكن بهما معا. فكي ما تكون هناك دولة مقنعة لسكانها، ينبغي أن يكون هناك نظام دولي أيضا يتيح تكوينها من حيث هي كذلك، أي يمكنها من تطوير الملكات، وفي مقدمها السيادة والاستقلال، التي لا سيادة شعبية داخل حدود الدولة من دونهما، وتوفير القدرات المادية والسياسية التي تجعل منها دولة المجتمعات والشعوب، ووسيلتهم في تحقيق أهدافهم وآمالهم حقا لا وهما، لا أن تبقى وكالة مصالح أجنبية او محلية ضيقة. وبالمثل، كي ما تكون هناك قومية بناءة، قادرة على توحيد الإرادة الجماعية والتأسيس لحياة مدنية وسياسية ناجعة وفعالة، ينبغي أن يتجاوز مفهومها رفض مشاريع الآخر وسياساته، مهما كانت عدوانية، ويؤسس لمشاريع وطنية جامعة، ملهمة ومعبئة، قادرة على توحيد المجتمعات وتفجير طاقاتها. وهو ما لا يمكن تحقيقه بالانكفاء على مفاهيم الممانعة والدفاع عن الهوية الخاصة، عربية كانت أم إسلامية أم مذهبية، ومن باب أولى على مجرد مشاعر العداء للغرب والصدام معه وتهديد مصالحه وأهدافه.
فكما أن الدولة ليست إفرازا تلقائيا، ولا تركيبا خصوصيا لهوية اجتماعية، ولكنها تركيبة عالمية تستمد معاييرها وقواعد عملها وشكلها وشرعيتها من النظام العالمي للدول الذي تأسست في إطاره، واعترف بها باعتبارها دولة مستقلة وعضوا في المنظومة الدولة، تشكل الوطنية تعبيرا عن وعي الجماعة لذاتها ونزوعها إلى التكون كفاعل تاريخي مستقل، في ساحة النشاط الحضاري العالمية. فالدولة بعكس الشعب، ذات هوية عالمية، وبوصفها كذلك فهي تشكل وسيلة للتواصل بين الشعوب وتجاوز خصوصياتها لبناء مجتمع دولي قائم على مباديء ثابتة وواحدة. ومن هنا، كما يستحيل بناء الدولة، أو التقدم في بنائها، من خلال مواجهة المجموعة الدولية أو بالخروج عليها ورفض التفاهم معها، يستحيل، بالمثل، ضمان صدقيتها واحترامها من قبل الجماعات التي تنضوي تحت رايتها إذا بقيت دولة ناقصة السيادة، وأظهرت الاستسلام للإرادة الخارجية والتبعية للجماعات الأخرى الخاصة. وفي المشرق العربي الذي خضع فيه بناء الدولة وممارستها لنفوذها، منذ تكوينها، لحاجات السيطرة الغربية، وارتبط تطور دورها ووسائل عملها، وعلاقتها بمجتمعاتها نفسها، بتطور مصالح الكتلة الغربية وتحالفاتها مع أطراف أو نخب محلية خاصة، ما كان من الممكن لفكرتها أن تستقر في الأذهان، ولا لآليات عملها ومؤسساتها أن تستقيم. فبقدر ما بدت هذه المصالح متعارضة مع المصالح الشعبية العربية أو منافية لها، أصبحت الدولة تظهر في الوعي العام وتتجلى كاداة للسيطرة الأجنبية، الخارجية أو الداخلية المتمردة على الجماعة الوطنية، أكثر منها وسيلة للتعبير عن إرادة هذه الجماعة وحاجاتها، وصار من غير الممكن لها أن تكون إطارا لنشوء وطنية فعالة وحية.

mercredi, novembre 08, 2006

تحدي القوة الايراني والرد العربي عليه

الاتحاد 8 نوفمبر 2006
على إصرار طهران على الاستمرار في عملية اكتساب التقنية النووية وتطوير عملية تخصيب الأورانيوم على أراضيها، بعكس ما اقترحت عليها الدول الغربية المعنية بحظر انتشار الأسلحة الذرية، ردت الدول العربية الرئيسية بأسلوبين. الأول جاء مبكرا على لسان الأمين العام للجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في مصر، السيد جمال مبارك، والثاني أتى من العربية السعودية وانتشر في بعض الدول العربية المجاورة، عكسته تصريحات بعض فقهاء أو علماء المملكة. قال مبارك الابن في خطبته في مؤتمر الحزب (19 سبتمبر ايلول 2006) أن مصر جاهزة للعودة إلى إطلاق برنامجها الذري الذي كانت قد أوقفته بعد كارثة شارنوبيل عام 1986. ولم تمض أيام حتى أكد الرئيس مبارك نفسه هذا الخيار مشيرا إلى حاجة مصر إلى موارد طاقة جديدة، ورغبتها في تامينها عن طريق استغلال التقنية النووية لأهداف سلمية. في المقابل نزع عدد من علماء السعودية إلى التركيز منذ بعض الوقت على الصراع المذهبي، كرد فعل على الاختراق الذي أخذ يحققه ما سمي بالمحور الشيعي أو الايراني، كما ذكر الشيخ الحوالي، في مناطق بلاد الشام، أي في سورية ولبنان، وربما في العراق أيضا، ملمحا إلى أن مثل هذا الاختراق لن يبقى من دون رد.
وبالرغم من أن العلاقات العربية الايرانية لم تكن على درجة خاصة من التوتر في السنوات القليلة الماضية، بل نزعت إلى التطبيع خلال رئاسة خاتمي، إلا أن عددا من الأحداث المهمة التي جرت في الفترة الأخيرة دفعت البلدان العربية إلى الشعور بتفاقم الخطر الايراني، لم يكن تصميم إيران على امتلاك التقنية النووية إلا أحد العوامل فيها. ومما لا شك فيه أن تدهور الاوضاع العراقية بعد التدخل العسكري الامريكي عام 2003، قد زاد من مخاوف الدول الخليجية من تحول العراق إلى منطلق لتمدد نفوذ الثورة الايرانية الاسلامية، بعد أن راهنت عليه لعقود طويلة كدرع قوي يقف في وجهها ويدرء الخطر الايراني عنها. وجاء انتخاب أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية الايرانية، وهو المعروف بتشدده وبسياسته القومية الايرانية، ليعزز من هذه المخاوف. لكن درجة الشعور بالتهديد سوف تتفاقم بشكل أكبر بعد أن نجح الرئيس الايراني الجديد في تشكيل محور قوي يجمع بين طهران ودمشق وبيروت ممثلة بحزب الله، ثم بعد الإنجاز العسكري الكبير الذي حققه هذا الحزب على إسرائيل في ايلول الماضي، وانسحاب دمشق من محور التنسيق السعودي المصري التقليدي واتهامها لشركائها السابقين بالتخاذل والتهجم عليهم. وما كان من الممكن لمشروع التقنية النووية الايرانية في مثل هذه الظروف أن يمر من دون أن يزيد من إحباط الدول العربية ومخاوفها. خاصة وأن ايران لم تقم بالجهد اللازم لتطمين هذه الدول، والخليجية منها بشل خاص، مسبقا. ولا يكفي ترداد بعض المسؤولين والمعلقين الصحفيين الايرانيين فكرة أن القوة النووية الايرانية لن تكون موجهة ضد جيرانها. كما لا يحل المشلكة تعاطف قطاعات واسعة من الرأي العام العربي الشعبي مع المشروع النووي الايراني واعتقادها بأن حصول ايران على السلاح النووي ربما يشكل عنصرا ايجابيا في توازنات الشرق الأوسط تضعف من قوة التفوق والردع الاسرائيلية وتساهم في تقليص نفوذ التحالف الغربي في المنطقة.
لكن في ما وراء كل هذه الاعتبارات، لا شك أيضا في أن مشروع ايران النووي يشكل تحديا متعدد الأبعاد للنظم العربية. فهو يهدد أولا، بقدر ما يساهم في الكشف عن ضعف الاختيارات الأمنية العربية وفراغ القوة القائم الذي نجم عن تهافت هذه الخبارات، بتعميق القطيعة بين النخب الحاكمة والشعوب، ويدفع إلى المزيد من انحسار الولاء لها. وهذا ما يعكسه منذ الآن التعاطف العربي الشعبي الواسع مع مشروع ايران النووي، ويحوله إلى مصدر تهديد سياسي يتعلق بصدقية الأنظمة نفسها وشرعيتها. وهو يفاقم من مخاطر تفكك المنظومة العربية وتعميق الشرخ الذي أصابها منذ اتفاقية كمب ديفيد ثم حروب الخليج المتتالية. وهو ما يعبر عنه منذ الآن نجاح ايران في اختراق المجال الجيوستراتيجي العربي وتكوين حلف خاضع لها يمكن أن يعمل كذراع قوية قادرة على استخدامها داخل هذا المجال لخدمة أغراضها القومية. وفي ظروف الانقسام العربي الراهن وغياب المشاريع الفيدرالية والتعاون الأمني والسياسي، يمكن لطهران النووية إذا نجحت في فرض خيارها النووي أن تتحول إلى المحاور الوحيد للغرب حول شؤون المنطقة الشرق أوسطية، من فوق رأس العرب، وأن تستعيد إلى حد كبير، في إطار سلطة إسلامية، الدور الذي كان يقوم به نظام الشاه في المنطقة في إطار عقيدة قومية امبرطورية قديمة. وفي هذه الحالة سيكون بوسع ايران التي تملك علاقات قوية وثابتة مع روسيا والصين، أن تتفاوض مع الدول الغربية على تقاسم مناطق النفوذ والمصالح في المنطقة الشرق أوسطية، على حساب البلدان العربية وربما أيضا ضدها. وليس هناك ما يمنع أن يكون ثمن هذا التفاهم، كما حصل مع العديد من الدول العربية ذات الايديولوجية القومية نفسها، غض النظر عما يحصل في فلسطين والتساهل وصرف النظر عن دعم القضية الفلسطينية بصورة عملية.
ما يستحق المناقشة إذن ليس حق الدول العربية في التخوف من امتلاك طهران للتقنية النووية، وإنما اسلوب الرد على المخاوف، وتأمين شروط الرد على التحديات والتهديدات المحتملة التي تكمن وراءها. وهنا أود أن أشير إلى خطر انجرار العرب إلى استراتيجية أمريكية تضر بمصالح العرب كما تضر بالمصالح الايرانية، بالرعم مما يبدو عليها من انحياز لصالح ضمان الأمن والاستقرار في منطقة الخليج، في مواجهة نزوع القوة والسيطرة الايرانية. فلا تخفي إدارة بوش الأمريكية، التي تتصرف على أنها طرف رئيسي، إن لم تكن الطرف الرئيسي المعني في المنطقة، عزمها على مقاومة المشروع الايراني بالقوة إذا اضطر الأمر، ورغبتها في دفع العرب إلى ضم جهودهم إلى جهودها لمواجهة الخطر الايراني. ويعني هذا الضم في الواقع تكوين جبهة عربية في مواجهة ايران ومعادية لها، تقدم للرئيس الأمريكي الغطاء السياسي الذي يمكنه من الاستمرار في سياساته التدخلية العسكرية المباشرة في الشرق الاوسط ومواجهة معارضته الداخلية والدولية. ومما يشجع بعض العرب على المراهنة على الخيار الأمريكي شعورهم بفراغ القوة الإقليمية بعد إجهاض مشاريع الأمن العربي المشترك جميعا، وغياب أي سياسات أمنية مستقلة، مما يجعل من الالتصاق بالولايات المتحدة الأمريكية والاعتماد الكامل عليها في نظر الكثيرين الخيار الوحيد القائم للدفاع عن المصالح الوطنية وضمان الأمن القومي.
بالرغم من كل ما يقال في هذا الخصوص، في الخليج بشكل خاص، لا أعتقد أن الالتصاق بالولايات المتحدة لتحقيق الأمن القومي والوطني قدر لا مهرب منه. بل أعتقد أكثر من ذلك أن الاصطفاف وراء الاستراتيجية الغربية، وخوض الحرب ضد ايران مع الدول الأطلسية، إذا حصلت، وفي سياق ذلك كله، العمل على تعبئة المشاعر المذهبية، السنية والشيعية، لخلق مناخ هذه الحرب وجر الجمهور البسيط إلى الانخراط فيها، لا يشكل خيارا أمنيا رابحا للعرب، لا على مستوى الأنظمة ولا الدول ولا الشعوب. ولعل العديد من الأطراف العربية الرسمية تدرك ذلك، وتعرف أن من الممكن لهذا الخيار أن يقود إلى نتائج معاكسة تماما للمطلوب، كما حصل مع التدخل العسكري في العراق، بيد أنها ترى ربما أنه رغم سوئه فهو الخيار الوحيد المتاح. وهذا غير صحيح.، فبالرغم من صدق المخاوف التي تحدثنا عنها، لن يكون نتيجة مثل هذا الخيار سوى تحويل العرب إلى ضحية للمواجهة الغربية الايرانية، سواء ربحت ايران الرهان مع انقسام مجلس الأمن يشأن الطريق الأسلم لحل الأزمة النووية الايرانية، وحققت حلمها في امتلاك سلاحها النووي في مدى قريب أو متوسط، أو ربحت الولايات المتحدة رهانها في عزل ايران وإعداد ظروف التدخل العسكري لتدمير البنية التحتية النووية التي تعمل على تطويرها.
من هنا يبدو لي أن السؤال الحقيقي الذي يستحق الطرح لا يتعلق بتأكيد خطر الالتحاق بواشنطن والعمل على أجندتها القومية والانخراط الأعمى في استراتيجيتها الدولية، وإنما بمعرفة فيما إذا كان من الممكن للدول العربية اتباع سياسة مستقلة عن السياسة الامريكية والاطلسية عموما، تجاه ايران وتقنيتها النووية، أم أنها مضطرة، مهما كانت تقديراتها لحجم المخاطر التي ينطوي عليها، إلى السير في الطريق التي ترسمها الولايات المتحدة التي تسيطر، شئنا أم أبينا، على الأوضاع الاستراتيجية الشرق أوسطية، والذي يستحيل من دونها الحفاظ على أمن أي دولة خليجية.
لا أعتقد أولا أنه ليس هناك بديل عن الانخراط في الاستراتيجية الامريكية لضمان الأمن الوطني والقومي العربي والخليجي. بل العكس هو الصحيح. إن هذا الانخراط هو اليوم المصدر الرئيسي للمخاطر التي يمكن أن تهدد المنطقة باكملها. وثانيا ليس من الصحيح أنه من المستحيل بناء استراتيجية أمنية عربية مستقلة عن الاستراتيجية الامريكية حتى لو لم تكن معادية لها، كما يعتقد معظم القادة العرب اليوم. ولا ينبع الايمان بإمكانية بلورة استراتيجية أمنية بديلة ذات درجة من الاستقلال الاعتقاد بزوال السيطرة الأمريكية، ولا بضرورة مواجهة واشنطن والتمرد الطفولي عليها. إنه ينبع من واقع انحسار قوة الردع الأمريكية نفسها ونشوء فراغ لا تستطيع واشنطن نفسها ان تملأه او تدعي ملأه. وهي نفسها بحاجة إلى قوى اخرى حليفة أو غير معادية على الأقل تساعدها في الحفاظ على تراجعها والتغطية على المصاعب التي تواجهها. وواشنطن تدرك أن ذلك قد حصل بسبب الأخطاء التي ارتكبتها ومحدودية الرؤية الاستراتيجية التي وجهتها وضيق أفقها. وهي نفسها تمر اليوم في مرحلة مراجعة لهذه الاستراتيجية ليس من المؤكد ان ينجم عنها شيء كثير طالما أنها مرتبطة بأجندة السياسة الأمريكية الداخلية نفسها.
باختصار إن ما كان مستحيلا البارحة أصبح ممكنا اليوم، إلى حد كبير، نظرا لما أصاب المواقع الأمريكية الاستراتيجية من تدهور في السنوات الثلاث الماضية والتناقضات التي ميزت خططها وتشوش أهدافها وتخبط تكتيكاتها، وهزائمها العسكرية المتتالية من أفغانستان إلى العراق إلى لبنان وفي النتيجة، إخفاقها في إقناع المجموعة الدولية بصحة اختياراتها. وهذا الانحسار المتفاقم في قوة الردع الأمريكية، وانعدام الثقة باختياراتها هو الذي يفسر رفض نظام مهلهل مثل نظام البشير في السودان التهديدات الأمريكية، بل حتى استقبال مبعوث الأمم المتحدة والنقاش في مسألة استقبال قوات دولية، وكما يفسر دعوة العديد من المحللين والسياسيين الأمريكيين والغربيين واشنطن إلى العودة إلى أسلوب الحوار، بما في ذلك مع طهران، لتجنب كارثة قومية أمريكية في العراق، كما حصل في الماضي في فيتنام.
بل إن هذا الفراغ الأمني الذي ولده تهافت الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة هو الذي يفسر تنامي طموحات دولة مثل ايران واندفاعها لسده من خلال تطوير قدرتها العسكرية والتقنية وتغلغلها الواضح في المنطقة العربية، سياسيا وثقافيا ومذهبيا أيضا.
من هنا، بدل الاصطفاف وراء الولايات المتحدة لدعم خياراتها الخاسرة، وتعزيز موقفها تجاه طهران، ينبغي على الدول العربية، بالعكس تماما، الاستفادة من انحسار النفوذ والقوة الأمريكيتين من أجل توسيع هامش اختياراتهم المستقلة، أي العمل على تطوير سياسة أمنية عربية مستقلة، قد يكون التفاهم العربي أولا وفتح مفاوضات مع ايران ثانيا ركيزتيها الرئيسيتين في إطار رؤية إقليمية جديدة لتعزيز استقلال المنطقة، وتوسيع هامش مبادرة دولها جميعا تجاه الأحلاف والتكتلات الدولية الخارجية. في نظري هذا هو الخيار الوحيد الناجع لاستيعاب مخاطر تنامي القوة الايرانية من جهة، وتقليل فرص الصدام والتنافس بين طهران والعواصم العربية الرئيسية من جهة ثانية، وإخراج المنطقة بأكملها من خطر التحول غلى مسرح للتنافس الدولي وللحروب الساخنة والباردة التي تنجم عنه. إن خلق منظمة إقليمية للأمن والسلام في المنطقة، بالتعاون بين الدول العربية وايران وتركيا قد يكون الخيار الوحيد القادر على سد الفراغ الاسترتيجي الذي ولده انحسار القوة الردعية الأمريكية الاسرائيلية، وعلى تجنيب المنطقة مخاطر الدخول في منافسات ونزاعات متعددة الأطراف لا نهاية لها، لا يمكن أن تكون نتيجتها سوى توسيع دائرة الخراب والفوضى في عموم الشرق الأوسط، من دون الوصول إلى أي نتيجة نهائية يستطيع أن يستفيد منها أصحاب المنطقة، بل الدول الغربية والصناعية الكبرى المتنازعة نفسها.

mardi, novembre 07, 2006

دمشق (7 تشرين ثاني/ نوفمبر) وكالة (آكي) الإيطالية للأنباء

برهان غليون لـ (آكي):
"أي حوار بين سورية والولايات المتحدة جزء من مناورة سياسية"
نص التصريح الذي نشرته وكالة آكي الايطالية
دمشق (7 تشرين ثاني/ نوفمبر) وكالة (آكي) الإيطالية للأنباء:
باسل العودات
ـ أين ترى الموقف الفرنسي من كل هذا، وهل يمكن تهميش فرنسا أو (إرضائها) بجزء (ما) من الكعكة.
ج1
من المؤكد أن أحدا لا يثق بعد ما حصل بالآخر. النظام السوري لا يمكن أن يثق بالغرب، والغرب الأوروبي الأمريكي لا يثق بالنظام السوري، ولا يعتبره نظاما قابلا للاصلاح أو يمكن التعاون معه. لكن الجميع يجد نفسه في ورطة. الإدارة الأمريكية الجمهورية الحالية تعاني من ورطة التغريز في العراق، وتخضع لضغوط قوية من قبل الرأي العام والمعارضة الديمقراطية، وعليها أن تقدم حلولا محتملة لأزمتها في العراق، حتى لا تخسر الرأي العام في الانتخابات النصفية هذا الأسبوع ثم في الانتخابات الرئاسية القادمة بعد سنتين. وليس لديها أي حل آخر سوى الاستمرار في خوض الحرب في العراق. وفي انتظار نتائج محتملة التلويح بإمكانية التوصل إلى تفاهم من خلال الحوار مع ايران وسورية وغيرها. لكن الهدف لن يتغير في نظري. ولن يكون هناك حوار جدي أو تغيير في الاستراتيجية. أما الحوار، حتى لو فتح له باب صغير، فهو للتغطية على تعزيز الجهود العسكرية وتنويم الخصوم.
وما يقال عن الإدارة الامريكية يقال عن إسرائيل التي تعيش نتائج هزيمتها العسكرية في جنوب لبنان، وتواجه بالمثل ضغوطا قوية داخل اسرائيل وخارجها للتعديل في سياستها العسكرية التدخلية. وهنا أيضا لن يكون هناك تغيير وإنما تلويح بمفاوضات مع سورية وغيرها في سبيل كسب الوقت وتمرير الظروف السياسية الحرجة.
ولا يختلف الأمر بالنسبة لأوروبة وفرنسا المنخرطة بشكل خاص في لبنان. فهي أيضا تحملت مخاطر كبيرة بإرسالها قواتها إلى هناك، ولا تريد أن تجد نفسها في موقف صعب، لكنها لا تستطيع أن تخرج من دون تحقيق مهماتها التي كلفتها بها القرارات الدولية.
وهو ما يسري على ايران وحليفتها الاستراتيجية اليوم سورية وحزب الله في لبنان أيضا. فهم جميعا لا مصلحة لهم في الدخول في مفاوضات أو التوصل إلى تسويات. ولا يعتقد أي منهم، وهو على حق، في ذلك أن هناك إمكانية للوصول إلى أهدافهم من خلالها.
باختصار كل ما يقال عن الحوار والمفاوضات هو جزء من المناورة السياسية الهدف منه عند جميع الأطراف التغطية على ضعف الموقف السياسي أو العسكري وكسب الوقت على طريق الإعداد لجولات أخرى من المواجهة أو لمواجهات حاسمة قادمة.

ـ هل تعتقد أن سورية (الآن) قادرة على تقديم مثل هذه الأثمان للولايات المتحدة (ضبط الوضع العراق، والسيطرة على الصراع الفلسطيني الداخلي).
ج2
لا تكمن المشلكة في أن سورية لا تستطيع أن تقدم ضمانات للولايات المتحدة أو لأوروبة في العراق ولبنان، فهي قادرة بالتأكيد على التخفيف من الضغوط على الأقل في ما يتعلق بالقوى المحلية التي تخضع لسيطرتها أو تتحالف معها. لكنها تكمن في أن سورية لن تفعل شيئا مثل هذا لأنه لم يعد لديها ما يمكن أن تراهن عليه في أوروبا وأمريكا، بعد قطع جسورها كاملة معهما ومع الدول العربية القريبة منها، مصر والسعودية بشكل خاص. وليس من مصلحة النظام العودة عن تحالفه مع ايران والاستقلال بمصيره عنه. فهذه هي اليوم ورقة الخلاص الوحيدة له، لأنها ورقة الضغط الحقيقية. وحتى لو قدم لها التحالف الغربي تنازلات هنا وهناك، سوف لن تترك سياستها الراهنة. وبدل أن ينفصل عن ايران من مصلحته، بالعكس، العمل على توتير العلاقات الايرانية الغربية والتصعيد في لبنان والعراق والمنطقة عموما حتى لا يبقى وحيدا في الساحة وتبقى الفوضى قائمة. فبقدر ما تزداد الفوضى في المنطقة يتعزز الاستقرار للنظام وتتضاءل مصلحة الغرب في تحويله إلى هدف مباشر أو رئيسي.

ـ هل ترى مثل تلك الصفقات أمر ممكن بعد أن خطت لجنة التحقيق خطوات متقدمة في عملها.

ج3

لا توجد لفرنسا اليوم سياسة مستقلة عن أوروبة والتحالف الأمريكي الاوروبي عموما. قد يختلف الأسلوب وطريقة التخريج، لكن لا يمكن أن تختلف الاهداف ولا الاستراتيجية. ولو كان هناك ما يمكن أن يشبه ذلك لنجحت أوروبة في بلورة استراتيجية وسياسة مختلفة في الشرق الأوسط يعد إخفاق الاستراتيجية الأمريكية.
بهذا المعنى غير مطروح اليوم من قبل احد تهميش فرنسا ولا فصلها عن أمريكا وأوروبة، وبالتالي إرضائها بجزء من الكعكة. فرنسا شريكة اليوم في جنوب لبنان في الاستراتيجية الغربية نفسها، ومورطة فيها وانسحابها منها يعني خسارة فادحة لها. إذ لا يمكن لدولة تحترم نفسها أن تغير تحالفاتها الاستراتيجية كل ما واجهت المجموعة المتحالفة مصاعب أو تحديات استثنائية. مثل هذا العمل يفقدها الصدقية ويضع اختياراتها الاستراتيجية كلها موضع ا لشك وانعدام الثقة. هذا يحصل عندنا لأنه لا يوجد هناك لا صدقية للنظم ولا مساءلة ولا رأي عام. بحيث يستطيع الحاكم أن يقفز من حبل إلى آخر من دون أن يضطر إلى تفسير حركته او تبريرها ومن دون نتائج تذكر على صدقيته، ذلك أنه في الأساس ليس هناك لا استراتيجية ولا سياسة ولكن مناورات فارغة هدفها الحفاظ على النظام وليس تكريس مصالح وطنية. بل إنه لا يوجد هناك تعريف لهذه المصالح أصلا، فهي ملحقة كليا بمصالح حماية النظام. الوضع مختلف تماما عن ذلك في الدول الكبرى. هناك مصالح وطنية عليا وبالتالي استراتيجيات ثابتة وطويلة المدى، مرتبطة بحسابات دولية وإقليمية ووطنية، تتجاوز كثيرا حسابات النظام أو مصالح الحفاظ على سلطة الحزب الحاكم أو استمرار حكومته.

mercredi, novembre 01, 2006

وسائل تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط

مؤتمر المنظمات العربية غير الحكومية
الدوحة 29 اكتوبر 1 نوفمبر 2006

كان من المفروض أن تكون هذه الكلمة مدخلا افتتاحيا للمناقشة الخاصة بجلسة تعزيز الديمقراطية في المنطقة العربية المنعقدة في إطار المؤتمر العربي للمنظمات غير الحكومية الموازي لمؤتمر الديمقراطيات الجديدة الذي افتتح اعماله بحضور عدد كبير من الوزراء والمسؤولين في المنطقة في مدينة الدوحة في التاسع والعشرين من اكتوبر 2006 تحت رعاية الامم المتحدة. لكن المناورات السياسية التي رافقت هذا المؤتمر مع إعلان وزيرة خارجية إسرائيل عن نيتها لحضوره مع وفد اسرائيلي كبير دفعتني إلى الاعتذار عن المشاركة. فمن غير المعقول أن تدعى الحكومة الاسرائيلية إلى المشاركة في نقاش مسألة تعزيز الديمقراطية في المنطقة العربية في الوقت الذي شكلت فيه سياساتها العدوانية والعنصرية تجاه فلسطين ولبنان وبقية البلاد العربية العامل الرئيسي في تقويض أسس التحول السياسي السلمي نفسه، ودفعت كما لم يحصل في أي منطقة أخرى في العالم، إلى تأجيج لهيب النزاعات القومية والدينية والطائفية والاتنية، على حساب السلام والأمن والاستقرار والتنمية معا.

منذ سنوات عدة ونحن نتحدث عن وسائل تعزيز الديمقراطية ونضع التوصيات التي نأمل أن يأخذ بها أو ببعضها أصحاب القرار، في سبيل فتح طريق التحول السلمي نحو الديمقراطية وتجنب الانفجارات التي يسببها الجمود، والفوضى التي يمكن أن تنجم عنها. لكننا لم نتقدم كثيرا في الشرق الأوسط في هذا المجال. ولعل من المناسب اليوم تجاوز الحديث قليلا في التفاصيل من أجل بلورة الإطار النظري العام الذي يساعدنا على فهم مشكلة تعزيز الديمقراطية والصعوبات التي تعترضها في المنطقة الشرق أوسطية.
من البداية يوحي الحديث غير النقدي عن وسائل تعزيز الديمقراطية بأن موضوع الخيار الديمقراطي قد تم حسمه، وأن المسألة تتعلق اليوم بتوسيع دائرة تطبيق هذا الخيار وتعميقه. وهو ما يمكن أن ينمي أوهاما كبيرة مضرة، عند الجمهور والباحثين الاجتماعيين في الوقت نفسه. والحال أن الواقع مختلف كثيرا عن ذلك في البلدان العربية. فبالرغم من حصول تغيرات جزئية هنا وهناك، وسعي بعض النظم التي تواجه تحديات تاريخية، وتتعرض لتهديدات جدية، للتغطية عليها من خلال إبراز بعض ملامح التغيير في السياسات السائدة، ليس التحول نحو الديمقراطية هو السمة الأبرز في تطور الأوضاع السياسة في المنطقة العربية، ولا احتمال ولادة ربيع ديمقراطي عربي، كما أشيع بعد تنظيم بعض الانتخابات التشريعية التعددية، هنا وهناك، في السنين الثلاث الماضية، وإنما العكس تماما. إن الطابع الأبرز للحقبة التي نعيشها الآن هو بالأحرى إجهاض عملية الحمل الديمقراطي وإجهاض الدفع الذي حصل في سبيل الديمقراطية منذ بداية هذه الألفية الثالثة، ونجاح النظم التسلطية في المنطقة في امتصاص الضغوط الداخلية والخارجية التي هيأت لهذا الدفع الديمقراطي الوليد وغذته.
إن الآمال التي صعدت منذ سنوات قليلة، بسبب التقاء إرادة إصلاح خارجية مع ارتفاع مطالب فئات حية من المثقفين والطبقة الوسطى العربية، قد انهارت اليوم، بعد أن أدى إخفاق السياسات الأمريكية المغامرة في العراق، وانهيار محادثات السلام العربية الاسرائيلية، وتخبط السياسات الغربية عموما تجاه مشاكل الشرق الأوسط وفيه، إلى تصاعد الإرهاب وتزايد مخاطر انتشار الفوضى وتعميم الخراب. وهو ما دفع إلى تراجع الكتلة الغربية عن وعودها التي أطلقتها، بعد الحادي عشر من ايلول، في إصلاح الأوضاع العربية. وحصل كما لو أن النظم العربية التي لم تهضم، لحظة واحدة، ضغوط الكتلة الغربية عليها في سبيل إجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية، لا تتماشى تماما مع مصالحها واحتكارها الكامل للسلطة والثروة، قد انتقمت لنفسها، واستعادت أو هي في طريقها لأن تستعيد، في نظر الغرب والمنظومة الدولية، جزءا كبيرا من شرعيتها التي كان انتشار الارهاب الدولي انطلاقا من حدودها، والفساد المريع الذي تميز به سلوكها، قد قضى تماما على صدقيتها، وتركها عارية أمام الانتقادات الدولية والمحلية.
ليس من الممكن اليوم الحديث عن تعزيز الديمقراطية، كحركة او كنظم محتملة التطبيق في البلدان العربية، في مستقبل منظور، كما لو أن شيئا لم يحصل، ومن دون النظر إلى الانتكاسة التي تعرضت لها آمال الديمقراطية العربية، ومراجعة سياسات الدول الغربية الكبرى، وتراجعها عن مطالبها الاصلاحية، ومعها سياسات الحركات الديمقراطية العربية الوليدة أيضا، التي تتعرض من جديد إلى ظروف قاسية تشمل المنع والملاحقة والحد من الحريات وتقييدها وإرهاب ناشطي حقوق الانسان والمنظمات المدنية عموما. ولا يشكل التأمل في هذه الانتكاسة والكشف عن أسبابها الطريق الاجباري لوقف التدهور الحاصل في الموقف فحسب، ولكنه يشكل أكثر من ذلك شرط تجنب إنكسارات ونكسات أخرى، ومنطلقا لا غنى عنه لإنقاذ مشروع الديمقراطية نفسه والعمل على إعادة بنائه على أسس تساعد على تقدمه وتحقيق أهدافه في المدى المنظور.
فالمراجعة المطلوبة لتجربة السنوات القليلة الماضية مهمة من زاويتين، زاوية فهم سلوك النظم الاتوقراطية القائمة فيها ونجاحها في مقاومة الضغوطات الخارجية والداخلية وتجنب الاصلاح والانفتاح. وزاوية إخفاق التكتل الغربي، ومن ورائه المنظومة الدولية التي دعمته في مشاريعه، في إحداث أي حركة تغيير ذات وزن أو مغزى في اتجاه تعزيز فرص تقدم خطى الديمقراطية المنشودة.

1- إخفاق مبادرة الاصلاح والديمقراطية وأسبابه
لا يرجع إجهاض موجة الديمقراطية الجديدة التي ارتفعت في السنوات القليلة الماضية في العالم العربي إلى عامل واحد فحسب ولكن إلى عوامل متعددة: عالمية ترتبط بطبيعة السياق الدولي العام وأثره على المنطقة. وإقليمية تتعلق بالمناخ السائد في الشرق الأوسط نفسه وبأوضاعه الجيوسياسية. وبعوامل وطنية داخلية تتعلق بعلاقة المجتمع المدني بالدولة ومكانة هذه الدولة، والسلطة المركزية بشكل عام، وموقعها في التنظيم المجتمعي القائم، ومعادلات القوة وتوزيع السلطة داخل المجتمعات.
فالواقع أن التدويل العميق للمنطقة، وحالة النزاع والحرب المزمنة فيها، وتسلط أجهزة الأمن كممثلة للسلطة السياسية عليها، كل ذلك يشكل أوجها لمنظومة سيطرة واحد، هي المنظومة التي أقيمت في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال تحكمه وتتحكم بعلاقاته الدولية وتوازناته الإقليمية وأنماط حكمه المحلية وهياكل مؤسساته وسلطاته في الوقت نفسه، وذلك بالرغم من كل ما تعرضت له المنطقة من هزات ومقاومات. وهي في نظري منظومة متكاملة ومتضامنة ومتساندة، تتداخل مستوياتها الدولية والإقليمية والوطنية، وتتفاعل بقوة، وترتبط نجاعة وسائلها على المستوى الدولي بنجاعة وسائلها على المستوى السياسي الداخلي، كما ترتبط هذه وتلك بمناخ الحرب المزمنة، واستمرار الاحباطات القومية عند جميع الدول والشعوب. وليس من الممكن التفكير بأي تغيير جدي في أي مستوى من مستويات عمل هذه المنظومة الثلاثية الأبعاد من دون أن يلحقه تغيير مواز في المستويات الأخرى. مما يعني أن أي تغيير سياسي في اتجاه دمقرطة النظم القائمة يحمل مخاطر فعلية لنظام الوصاية والسيطرة الخارجية الذي فرض على المنطقة بسبب وجود رهانات ذات أبعاد دولية فيها، سواء ما تعلق منها بتركز احتياطي كبير من الطاقة النفطية التي يحتاج إليها العالم الصناعي، أو بسبب ارتباط مصيرها أو ربطه بمصير إسرائيل وتوطينها وضمان أمنها، أو بسبب ما تمثله من عقدة مواصلات استراتيجية دولية. وبالمثل، يشكل أي تغيير في اتجاه بناء نظم ديمقراطية شعبية وتتمتع بقسط كبير من الشرعية تهديدا للتوازنات الاقليمية، وبالتالي لمصالح تلك القوى التي تكيفت مع الوضع القائم، ولا تزال تسعى إلى استثماره بكل ما تملك من قوة، وفي مقدمها إسرائيل التي تحاول، في إطار مشروع التوسع الإقليمي الذي تسعى إليه، هضم الأراضي العربية المحتلة وابتلاعها. وكما عزز الارهاب، والحرب الدولية التي أطلقتها الولايات المتحدة ضده، من الضغوط الدولية على الشرق الأوسط، وزاد من أهميه ضبطه والسيطره على مقدراته في الاستراتيجية العالمية، عمل النزاع الإقليمي المستمر وإفشال مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية على تفاقم العنف، ودفع النظم التسلطية السائدة إلى مزيد من التشدد والضغط على مجتمعاتها خوفا من أن تجد نفسها تحت ضغوط متقاطعة ومتعارضة معا، من الخارج والداخل. من هنا لا يزال هناك شعور قوي لدى جميع الأطراف المستفيدة من النظام القائم في الشرق الأوسط بأنه لا مصلحة واضحة لها في التغيير، حتى لو كانت مقتنعة بأن الاصلاح لم يعد يحتمل التأجيل.
هذا ما يفسر تردد الدول الغربية في سحب دعمها عن الأنظمة التعسفية اللاقانونية، ثم تراجعها السريع بعد إعلانها في السنوات الأخيرة الماضية عزمها على الإصلاح. كما يفسر لماذا كان من غير الممكن بناء قوى داخلية قادرة على تحقيق التحولات الديمقراطية، ولا حتى على مواجهة الخراب المدني والسياسي الذي تحدثه النظم التسلطية، ويدفع إلى سيطرة العقلية الفردية الأنانية وتعميم الفساد. ولماذا لا يزال من غير الممكن الفصل بين غياب فرص التنمية السياسية الداخلية، أي داخل حدود البلدان، واستمرار الحروب والنزاعات القومية والوطنية المزمنة، والتي أخذت في الفترة الأخيرة تتحول بصورة واضحة إلى حروب دمار وانتقام، فاقدة هي نفسها أي أمل في تحقيق أي انتصار غير ما تكبده من خسائر وآلام للخصم. وهو ما يفسر أخيرا العلاقة الوثيقة التي تربط بين استمرار الحروب والنزاعات الإقليمية وتخليد نظم السيطرة الأمنية لأكثر من نصف قرن من جهة، وتغول القوى الكبرى على المنطقة ونزاعها المستمر فيما بينها على السيطرة السافرة عليها، بكل ما يستدعيه ذلك من تبرير الحروب والتدخلات العسكرية والسياسية الدائمة، وإضفاء الشرعية على سياسات الاحتواء والتلاعب والاستيعاب ضمن الاستراتجيات الدولية المتنافسة للقوى السياسية والأحزاب والنخب والطوائف والإتنيات المتنازعة في ما بينها أيضا، من جهة ثانية. وهو ما يجعل حياة مجتمعات الشرق الأوسط فوضى عارمة، ويفقدها كل أمل في الثبات والاستقرار والقيام على أسس ومباديء موضوعية وعقلانية وشرعية. فالتلاعب والغش والخداع والمراوغة هي مفردات السياسة المتبعة من قبل جميع الأطراف، الداخلية والخارجية، ولغتها المشتركة.
لكن مشكلة الديمقراطية في الشرق الأوسط لا تنبع من تداخل هذه العوامل أو بالأحرى الأزمات الدولية والإقليمية والوطنية، مع تباين تأثيراتها وتحييد بعضها للآخر، فحسب، ولكن أكثر من ذلك من عدم قدرة أي طرف من الأطراف المعنية، الخارجية والإقليمية والداخلية، على حسم النزاعات القائمة لصالحه وفرض أجندته على المنطقة. وهكذا لم يتمكن أي طرف من الاطراف الدولية والإقليمية والوطنية المنخرطة في الصراعات متعددة المستويات أن ينجح في تحقيق الهدف الذي يسعى إليه في مواجهة الأطراف الأخرى وضد إرادتها. وهذا يصح على مسائل السياسة الدولية، كما يصح على مسائل النزاعات الإقليمية والصراعات السياسية الداخلية. ولا شك أن تدهور وضع المنطقة في النظام الدولي، ومناخ الحرب والعنف الذي يميز علاقات أطرافها الإقليمية، وحالة الضعف والتشتت التي وصلت إليها المجتمعات المدنية، كل هذه العوامل تقلل أكثر من احتمال أن ينجح أحد هذه الأطراف في أن يكون عاملا حاسما لوحده في أي تغيير منشود، دوليا كان أو إقليميا أو وطنيا.
من هنا يبدو لي أن مصير الديمقراطية، مثله مثل مصير المسائل الأخرى العالقة، كالتسوية الشرق أوسطية وتحرر المنطقة ككل من ضغط النزاعات الدولية عليها، مرتبط بحصول توافق بين العوامل الداخلية والخارجية، يعوض عن ضعف العوامل جميعا وعدم قدرتها، كل لوحده، على التحول إلى عوامل حاسمة. وهو ما يرهن عليه فشل الضغوط الغربية التي مورست على النظم في السنوات الماضية في اتجاه فرض إصلاحات ديمقراطية، كما يبرهن عليه يوميا إخفاق قوى المجتمع المدني في فرض احترامها على النظام، بل انتزاع اعتراف السلطة والجمهور الواسع بوجودها وشرعيتها. فمن الصعب في الظروف الدولية والإقليمية السائدة أن تنجح هذه القوى في النمو بما فيه الكفاية حتى تشكل عامل ضغط فعال، وتجبر الأنظمة على تقديم تنازلات، وعلى الانفتاح على الطبقة الوسطى وقبولها شريكا في الحياة السياسية. وبغياب توافق واسع بين الأطراف الفاعلة الثلاثة : الدولية والإقليمية والمدنية، ليس هناك أي أمل في حصول تغيير ديمقراطي حقيقي إلا من خلال ثورة أهلية تقلب الوضع القائم وتقيم على أنقاضه وضعا جديدا. وهو ما لا يظهر بعد كاحتمال وارد الحدوث في الأفق القريب.
لكن المهم أن نعرف أن غياب هذا التوافق بين الأجندات الدولية والإقليمية والوطنية كان السبب الرئيسي لإخفاق موجة الديمقراطية التي أطلقت الكثير من الآمال في مطلع هذه الألفية الثالثة. فهو الذي جعل جهود الأطراف المختلفة المعنية، إلى حد أو آخر، بتغيير الأوضاع الفاسدة التعسفية، تدخل في منافسات ضارة، وتحيد في النهاية بعضها البعض. وكما أن وحدة الشعارات لا تخفي حقيقة أن القوى الداعية إلى التغيير، في الداخل والخارج، لم تكن تعمل على موجة واحدة، ما حصل هناك أيضا أي إجماع أو تفاهم على أجندة واحدة أو منسجمة.
فلم تتفق حتى دول التحالف الغربي على محتوى الاصلاحات الديمقراطية المطلوبة ومضمونها ووتيرة تحقيقها. وكان الخلاف واضحا بين الأمريكيين والأوروبيين حول تقدير ما ينبغي عمله وبناء اجندة عملية للاصلاحات المنشودة. وهو ما سمح للنظم التسلطية بالمناورة وكسب الوقت حتى تتغير الأوضاع الإقليمية وتتطور أزمة الاحتلال الأمريكي في العراق. وبالمثل، ولد إخفاق سياسات الدول الكبرى في حل النزاعات الإقليمية، ولو بصورة تدريجية وبطيئة، كما وعدت، وضعا سياسيا ونفسيا انفجاريا معاديا للخيار الديمقراطي، ودافعا إلى المقاومة ورد الفعل. وليس من المبالغة القول إن مشاريع الاصلاح الديمقراطي التي قاتلت من أجلها قوى عربية فتية ببسالة، ودفعت تضحيات كبيرة لتاكيد فكرتها، في وجه نظم أمنية قاسية، كانت ضحية السياسات الخرقاء التي اتبعت في السنوات الخمس الاخيرة، سواء اكان ذلك على مستوى العلاقات الدولية، مع توسيع دائرة الحرب على الارهاب، ومن ورائه على الاسلام والعروبة، أو على مستوى العلاقات الإقليمية، مع ترك الحكومات القومية الاسرائيلية المتطرفة تقضي على حلم الفلسطينيين، وتدمر شروط حياتهم، وتجعل من الاغتيال اليومي لقادتهم سياسة رسمية. والأمر نفسه ينطبق على دفع العراق نحو الحرب الأهلية، وإطلاق يد الجيش الاسرائيلي في لبنان للرد على عملية عكسرية محدودة أسفرت عن أسر جنديين إسرائيليين. ثم أخيرا، على مستوى كل بلد شرق أوسطي، مع تعاون الدول الصناعية مع نظم ضد نظم أخرى، واتباع سياسات انتقائية في تطبيق الاصلاحات وتقديمها. لقد قطعت هذه السياسات الطريق على أي تفاهم بين الأطراف، وجعلت من حروب التدمير الشامل، الخارجية والإقليمية والأهلية، في فلسطين والعراق ولبنان، البديل الوحيد للحلول السياسية المتفاوض عليها والتي تقدم مخرجا مقنعا إلى حد او آخر لجميع الأطراف.
ما كان من الممكن في هذه الظروف الدولية والإقليمية المتوترة، والمشجعة على المواجهات والصدامات وحروب الحضارات، أن يكون لضغوط قوى المجتمع المدني في البلاد العربية أي نتائج تذكر. وأمكن للسلطات التي اعتادت خرق القانون احتواء هذه الضغوط وامتصاصها بسهولة، قبل أن ترتد إلى هذه القوى نفسها لتحاول تحطيمها وتفتيتها. وهكذا، بدل أن تساعد الضغوط الداخلية والخارجية على دفع النظم نحو الانفتاح، زادت من نزوعها إلى الانكماش على نفسها، وحرضتها على التنكيل بالقوى الديمقراطية ومحاولة تصفيتها. وها هي النظم تفسها تعود، كما كانت في السابق، إلى الاستخدام الموسع للعنف، والمراهنة على قوة القمع وتحويل اجهزة الامن الواسعة الانتشار إلى أداة وحيدة للحكم والتحكم بالقرار، في مواجهة مجتمعات مفككة ومذررة، مفتقرة للموارد الخاصة وللقيادات أيضا.
ومع ذلك، لم يكن من الصعب تصور أجندة واحدة ومتفق عليها بين الأطراف لحلحلة أزمة الشرق الاوسط وإخراج شعوبه من محنتها. بل لقد ظهرت ملامح مثل هذه الأجندة بالفعل مع مؤتمر مدريد للسلام وبعده، وقامت على الجمع بين تفاهم دولي تمثله اللجنة الرباعية، وخطة لتهدئة الأوضاع الإقليمية وفتح باب التسوية السياسية، تمثلها خريطة الطريق التي تبنتها الرباعية والدول العربية، والتي تنص على خلق دولة فلسطينية إلى جانب الدولة الاسرائيلية القائمة في أفق 2005، وتعاون دولي مع القوى الداخلية، الرسمية والأهلية، للمساعدة على فتح النظم وتوسيع دائرة المشاركة السياسية.
لكن الإدارة الأمريكية رمت بهذه الأجندة عرض الحائط، بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، وأحلت محلها أجندة خاصة بها لمواجهة متطلبات التغيير، وحسم النزاعات الدولية والإقليمية والداخلية الوطنية لصالحها وحدها، وبطريقتها الخاصة. ولم ينجم فشلها عن التردد في حل النزاعات والمشاكل العالقة، ولكنه نجم من أنها أرادت أن تحل مسألة الصراع الدولي على المنطقة، الذي يشكل عبئا لم يعد يحتمل عليها، ومهربا للنظم المختلفة من مواجهة الاستحقاقات الداخلية، بفرض سيطرتها المنفردة على المنطقة بأكملها، وإخراج اللاعبين الآخرين، بما فيهم أقرب حلفائها من الأورييين، من حلبة المنافسة، بدل العمل على بلورة إجماع دولي حول تحييد المنقطة عن النزاعات الدولية. وأنها أرادت أن تحل مشكلة النزاع الإقليمي المستمر، والذي يزداد شراسة وتعفنا وعنفا بسبب تفاقم الاحباط عند الجميع، عن طريق الزج بكل ثقلها مع حكومة اليمين القومي الاستعماري المتطرف في اسرائيل، ومحاباة القومية الاسرائيلية على حساب جميع القوميات الأخرى. وأرادت أن تحل مشكلة انفصال النخب الحاكمة، سياسيا بفضل دعم الغرب لها، واقتصاديا بسبب توفر العوائد النفطية والريعية الكثيرة، عن شعوبها وتجاهلها حقوقها وتغولها عليها، بالعمل على استتباع هذه النخب بشكل أكبر، وفرض نظام الإذعان عليها لتدخل في استراتيجيتها وتعمل بأمرها، بدل تطوير هامش مبادرة المجتمعات وتوفير وسائل حمايتها وتعزيز استقلالها تجاه النظم التسلطية المغلقة. لقد أرادت تحالفا أقوى مع الحاكمين لدفعهم نحو الديمقراطية، بدل تقليم أظافرهم وإجبارهم على احترام إلتزاماتهم، والتراجع عن سياساتهم التعسفية، كأي نظم سياسية تحكم باسم شعب وتمثل مصالحه الوطنية.
هكذا ما كان لموجة الديمقراطية التي ارتفعت في المنطقة في السنوات الماضية أن تصل إلى غير طريق مسدود. مسدود على الصعيد العالمي، بعد أن فتتت السياسة الامريكية الاجماع الدولي الذي كان قائما من حولها، بما في ذلك داخل التحالف الغربي المتحكم بمصير المنطقة. ومسدود على المستوى الإقليمي بسبب انهيار آمال السلام بعد تجميد خارطة الطريق والعودة إلى الحل العسكري، وما يجره ذلك من إشعال نيران العنف وتفاقم مشاعر الاحباط والرغبة في الانتقام وتحقيق انتصارات وهمية، وتراجع التفكير العقلاني والانساني في الخروج من الأزمة الإقليمية. ومسدود على المستوى المحلي بسبب نجاح النظم القائمة، التي خرجت منتصرة من معركة الضغوط الأجنبية، وأكثر ثقة بنفسها، في تكوين نظم أمنية مستقلة كليا بمواردها المادية والسياسية عن الشعب، وقائمة في فلك خاص بها، وفي قلعة معزولة تماما عما حولها. وهي الاجهزة التي ساهمت الدول الكبرى، ومناخات الحروب الإقليمية المستمرة، منذ عقود، في تكوينها وتطويرها.
2 – دروس التجربة الماضية
لست متأكدا أبدا من أن الديمقراطية، حتى في أشكالها الدنيا، أي التعددية البسيطة، مع توسيع قاعدة المشاركة السياسية قليلا لاستيعاب فئات من الطبقة الوسطى في النظم القائمة، ذات أولوية اليوم في أي أجندة دولية أو إقليمية أو محلية. ومع يقيني بأن من الصعب على قوى المجتمع المدني لوحدها حسم المعركة لصالح التحول نحو الديمقراطية والحد من تغول النظم التسلطية واللاقانونية، يظل من المفيد فهم دروس التجربة السابقة، لتوجيه خطى أولئك الذين لا يزالون مؤمنين، في داخل المنطقة وخارجها، بأن الديمقراطية لا تزال تشكل هدفا أخلاقيا في حد ذاتها تستحق التعزيز، كما أن تحقيقها يشكل أحد المفاتيح الرئيسية أيضا لإخراج المنطقة من أزمتها التاريخية الطاحنة وبلورة التسويات والحلول السياسية الضرورية لإقامة شروط صالحة للحياة والعمل والانتاج والابداع الانساني في هذه المنطقة من العالم. وليس هناك في نظري ما يمنع من التفاؤل باحتمال العودة إلى مناخات نهاية التسعينات التي ولدت أملا كبيرا في تطور مبادرات تخرج الشرق الأوسط من محنته، ويكون لها تأثير كبير على تطوره الأمني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي أيضا. ومما يشجع على هذا التفاؤل تفاقم المأزق الذي تتخبط فيه السياسات الأمريكية والاسرائيلية الشرق أوسطية التي حكمت موقف الغرب والعالم كله وحكومات المنطقة أيضا تجاه المشاكل المطروحة. فبقدر ما بينت تجربة السنوات الماضية بأن تجديد حياة النظم التعسفية والتسلطية لا ينفصل عن الاستراتيجيات الدولية السائدة ولا عن التوازنات الإقليمية القائمة، يتطلب تعزيز ا لديمقراطية، تغييرا مماثلا على هذه المستويات الثلاث. وهو ما يستدعي :
- التوصل إلى تفاهم بين الأطراف المعنية حول أجندة تتجاوز مسألة الديمقراطية نفسها وتشمل في الوقت نفسه موضوعات تتعلق بالوضع الدولي والإقليمي والوطني معا. فليس من الممكن فصل مسألة الديمقراطية عن مسألة انتزاع المنطقة من الارتهان للنزاعات الدولية وضمان حد أدنى من الأمن والاستقلال لها وتقرير المصير لشعوبها. وليس من الممكن كذلك التفاهم حول أجندة ديمقراطية تقنع جميع الأطراف المعنية بالتعاون لتحقيقها من دون التوصل إلى تسويات سياسية للنزاعات والحروب الإقليمية العديدة العالقة، وفي مقدمها النزاع العربي الاسرائيلي، لكن ليس وحده. وليس من الممكن كذلك وضع هذه الأجندة الديمقراطية موضع التطبيق العملي من دون مرافقتها ببرنامج دعم شامل للمجتمع المدني، يتضمن دعم الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية الرائدة، ودعم المؤسسات والمنظمات الاجتماعية، ودعم الهيئات المدنية والسياسية العاملة على توفير الأطر القانونية والسياسية لتوسيع دائرة مشاركة الأفراد في الحياة العمومية. فالديمقراطية ليست في الشرق الأوسط، اجندة سياسية داخلية، ولكنها جزء من أجندة إقليمية ودولية معا، بقدر ما يمس تغيير العلاقة بين النظم التسلطية والشعوب مصالح إقليمية، ويؤثر أيضا على مصالح دولية استراتيجية. ولذلك قد يستدعي التفاهم على أجندة ديمقراطية في هذه البلدان تفاهما موازيا على أجندة تسوية إقليمية، وربما إعادة نظر في شروط السيطرة الغربية على المنطقة وأسلوب تعاملها مع شعوبها. هذه هي النتيجة الطبيعية لما يسم الوضع في الشرق الاوسط من تدويل فعلي، يجعل ان تغيرات السياسة الداخلية لا تؤثر فقط على مصالح القوى المحلية والداخلية فحسب، ولا تخضع لقواها الذاتية، ولكنها تؤثر على مصالح إقليمية ودولية كبيرة وتخضع لتأثيراتها أيضا.
- وهذا يعني ضرورة وجود رؤية شاملة لقضايا المنطقة لا تجزئتها. لا يمكن فصل قضية دمقرطة الحياة السياسية في هذا البلد او ذاك في الشرق الأوسط عن بقية القضايا الأخرى الكبيرة التي تشغل الرأي العام بأكمله وأحيانا تشكل بؤر اهتمام أقوى وأشد فيه. والاعتقاد بأن الديمقراطية يمكن أن تكون دواءا يشفي من الإحباطات الوطنية والقومية، او تعويضا عنها، يقود لا محالة إلى تقويض أسسها بقدر ما يظهرها وكأنها وسيلة للالتفاف على الإرادة الشعبية بوسائل أخرى. الديمقراطية لا يمكن أن تكون تعويضا عن انتهاك السيادة الوطنية أو عن التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية. بالعكس، أظهرت تجربة السنوات القليلة الماضية أن انتهاك السيادة، الوطنية للبلدان العربية أو بعضها، واستمرار انتهاك الحقوق الفلسطينية يفرغ مشروع الديمقراطية من محتواه، ويفقده الصدقية ويسمح للقوى المعادية له بتعبئة الرأي العام ضده بوصفه خطة أو جزءا من خطة، أو غطاءا لخطة إستعمارية.
- رفض الديمقراطية الانتقائية أو تأكيد وحدة القضية الديمقراطية في المنطقة. لا يمكن فصل قضية الديمقراطية في أي بلد عن قضية الديمقراطية في أي بلد آخر في المنطقة أيضا. فإما ان تكون الديمقراطية هدفا مشتركا وواحدا تجاه دول المنطقة جميعا، بما فيها بالتاكيد إسرائيل، أو أنها ستتعرض إلى تشكيك بصدقيتها، وتظهر وكانها تكريس جديد لقاعدة الكيل بمكيالين، واستخدام الديمقراطية وسيلة للضغط على الدول، لا كمشروع وغاية في ذاتها. لا يمكن للديمقراطية أن تتقدم في البلدان العربية إذا كانت انتقائية، مطلوبة للعراق وليست مطلوبة لسورية، مطلوبة للبنان ومستبعدة من مصر أو تونس أو العربية السعودية. وهذا يعني إما أن تكون هناك خطة جدية لدمقرطة النظم السياسية في عموم المنطقة العربية أو أن الديمقراطية ستظل شعارا تستخدمه القوى الدولية في نزاعها على المصالح والنفوذ في الشرق الأوسط، مع ما يعنيه ذلك من نزع الصدقية عن القضية الديمقراطية وتحويلها إلى أداة من أدوات الصراع القومي والوطني.
- تغيير الرؤية الغربية السائدة منذ عقود في ما يتعلق بضمان الأمن والمصالح الاستراتيجية في الشرق الاوسط. لا يمكن في الشرق الأوسط التوفيق، كما حصل في بلدان أوروبة الشرقية، بين أجندة الديمقراطية وأجندة السيطرة الغربية. فالديمقراطية تهدد لا محالة بزوال سياسات التبعية والإلحاق بقدر ما تعيد السيادة والقرار للشعوب والرأي العام، بينما يحتاج استمرار السيطرة والاشراف على المصالح الاستراتيجية والحيوية الغربية والحفاظ عليها إلى تقييد هذه السيادة والاحتفاظ بها دائما تحت السيطرة بوسائل مختلفة، كان أبرزها حتى الآن تعزيز الوصاية السياسية للنخب الحاكمة عليها. وكما لم تشجع صيغة الديمقراطية المقيدة والفاقدة للسيادة الطبقات الوسطى على التحمس لمشاريع الاصلاح الغربية، لم تثر مشاريع الديمقراطية الوطنية التي تبنتها شرائح واسعة من الطبقة الوسطى والمثقفة العربية اهتمام الدول الغربية، ولا نالت ثقتها. وفي ما وراء الصراع بين مشاريع الدمقرطة والاستبداد، كان النزاع قويا أيضا بين مشاريع الهيمنة الغربية المقنعة بنموذج شكلي لديمقراطية مفروضة، ومشاريع الصراع لا نتزاع السيادة والحرية وحق المشاركة داخل البلدان العربية من قبل النخب والطبقات الوسطى والمثقفة.
- احترام المعايير الدولية الواحدة في التعامل مع الشرق الأوسط وعدم إخضاعه لمعايير مزدوجة، وهو شرط كسب الثقة واستعادة الصدقية. لا ينسجم تحقيق الديمقراطية وتعزيزها مع سياسات الحرب والتهديد والمراوغة والاستفزاز والاقصاء. فالطريقة التي واجهت بها الكتلة الغربية نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية بسبب فوز قائمة حماس قد قوض صدقية الدعوة الغربية للديمقراطية، وأظهر أن ما هو مقصود منها ليس تمكين الشعب من التعبير عن إرادته بحرية، وإنما ايصال القوى المؤيدة للغرب أو القادرة أكثر على الانسجام مع سياساته واستراتيجيته إلى السلطة، في البلاد العربية بدل القوى القائمة الفاشلة. وهذا يعني أن تعزيز الديمقراطية يحتاج إلى تبني أساليب ووسائل عمل ديمقراطية هي أيضا، وفي مقدمها الحوار والتفاهم والتواصل. وهو ما يستدعي مسبقا الاعتراف بالشعوب العربية كطرف أصيل، وبحقوقها الكاملة، وليس اعتبارها تابعا للنظم أو أدوات نفوذ أو صراع على النفوذ، حتى لو كان لا يزال لديها، بسبب ظروف الحكم والثقافة السائدين، استعدادات كبيرة للتبعية والالتحاق والاستزلام.
والنتيجة لن يسطيع أي طرف أن يحقق أهدافه أو يضمن مصالحه بدون التفاهم عليها مع الأطراف الأخرى. كما أن أحدا لن يسطيع الوصول إلى حل لمشكلته بتجاهل مشاكل الأطراف الأخرى. فليس هناك في الشرق الأوسط مهرب اليوم من فتح مفاوضات جوهرية وشاملة تطرح جميع الملفات العالقة للبحث مرة واحدة وتضم جميع القوى المعنية، الدولية والإقليمية والوطنية، لمناقشة مستقبل الشرق الأوسط المهدد ومصيره. ومن دون ذلك لن تكون هناك إمكانية لا للحفاظ على المصالح الغربية الاستراتيجية والنفطية، ولا للسلام والاستقرار الاقليميين، ولا للديمقراطية والتنمية الانسانية، ولكن للفوضى الشاملة والخراب الذي سيقضي على مصالح الجميع.
من هنا أعتقد أن المطلوب اليوم، في إطار مواجهة شاملة لمشاكل المنطقة، مؤتمرا عالميا لمعالجة أزمة الشرق الأوسط في أبعادها المختلفة، بما فيها بعدها السياسي المتعلق بغياب الديمقراطية، الذي لا يمكن فصله عن هذه الأزمة، تشارك فيه جميع القوى المعنية، العربية والدولية، الرسمية والمدنية، من حكومات ومنظمات المجتمع المدني والمجتمعات السياسية والمثقفين والخبراء. ومن الضروري تحول هذا المؤتمر إلى منتدى دائم يعقد دوريا تحت إشراف الأمم المتحدة لمواجهة مشاكل الأمن والسلام والتنمية الإقليمية. ربما لن يستطيع مثل هذا المؤتمر ايجاد الحلول السريعة للمشاكل المطروحة، وليست هناك حلول جاهزة لهذه المشاكل. لكنه سيكون أفضل وسيلة لتغيير مناخ العلاقات الدولية والإقليمية المتعلقة بالمنطقة ولخلق جو من التواصل والحوار يعيد بناء بعض الثقة بين الأطراف، ويساهم في وضعهم جميعا أمام مسؤولياتهم، ودفع الرأي العام العالمي للضغط عليهم، في سبيل التوصل إلى تسويات تدعم سياسات السلام والأمن والديمقراطية والازدهار للجميع. فلا تنفع كثيرا في نظري وسائل الضغط والحصار، وأسوأ منها وسائل التدخل العسكري والسياسي. ولا توجد للأسف وسائل أخرى غير الرهان على تعبئة الرأي العام، المحلي والعالمي، وعلى ما يمكن أن ينتجه الحوار والنقاش والتفاوض من ثقة متبادلة بين الأطراف تدفع بهم إلى تقديم التنازلات الضرورية للوصول إلى التسويات المطلوبة للنزاعات الملتهبة والمزمنة التي لا تحول دون قيام حياة ديمقراطية سليمة في عموم المنطقة فحسب ولكنها تقوض أسس الحياة المدنية فيها.