mercredi, avril 26, 2006

محنة العلم والعلماء العرب في الداخل والخارج

الإتحاد الإماراتية 26/4/2006
عُقد في الرابع والعشرين من الشهر الجاري في الدوحة المؤتمر الأول للعلماء العرب المغتربين الذي يهدف، حسب إعلان منظميه إلى جمع النخبة من العلماء العرب في العالم للمساهمة في منتدى لتبادل الأفكار وتطوير الخطط التي تساعد على ربط العلماء العرب وأبحاثهم باحتياجات المجتمعات العربية وبالمصادر المتاحة في المنطقة وتنمية وسائل البحث العلمي في إطار تعزيز عملية التنمية الإقليمية. وينطوي مشروع المنتدى المقترح على فكرة صحيحة وصائبة مفادها أن تطوير البحث العلمي في العالم العربي لا ينفصل عن معالجة مسألة اغتراب العلماء ونزيف العقول المستمر منذ عقود, وأن عودة هؤلاء العلماء أو الاستفادة من أبحاثهم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، تشكل مهمة رئيسية من مهام أي برنامج تنمية عربية جدي. لكن مشكلة اغتراب هؤلاء العلماء ليست في الواقع إلا الوجه الآخر لاغتراب العلماء العرب في بلدانهم نفسها. وسيكون من الصعب الاستفادة من المغتربين منهم ما دامت الظروف التي دفعتهم إلى الهجرة أو البقاء في المغتربات والعمل فيها لم تتغير في بلدانهم الأصلية. فمن الصعب أن تتحول البيئة الطاردة للعلم والعلماء إلى بيئة جاذبة لهما بمجرد بناء شبكة بحثية أو حتى مدينة علماء. ولتكوين هذه البيئة أسباب مختلفة وليس سبباً واحداً. فالواقع أن العالم العربي يعيش، على مستوى الإدارة الاجتماعية والسياسية ونظم الحكم والإنتاج والمعرفة العلمية معاً، أزمة عميقة لا تزال مستمرة منذ عقود طويلة. وتنعكس نتائج هذه الأزمة بشكل كبير على حقل التعليم والبحث العلمي وإنتاج المعرفة ومصير العلماء، كما تنعكس على النشاطات والأطر الاجتماعية الأخرى. لكن ليس هناك شك في أن العلماء هم، من بين العديد من الأطر العسكرية والإدارية والسياسية والاقتصادية، الضحية الرئيسية لها. والسبب أن اهتمام الدول انصب في السنين الماضية على قضايا ضمان أمن النظم السياسية واستمرار مراكمة الثروة والسلطة، مما قلَّل من فرص التفكير في بناء بيئة علمية حقيقية وتوفير شروط البحث والإنتاج العلميين. كما قلَّل من حجم الاستثمارات التي تعد الأضعف في العالم أجمع في هذا المجال بحيث لا تتجاوز 2 في الألف من الناتج القومي أي خمس أضعاف أقل من المتوسط العالمي. وبالإضافة إلى ذلك لا يشجع الاقتصاد العربي على الاستثمار في العلم والتقنية. فبنية الاقتصادات المحلية المشوهة والتقليدية تجعل الطلب على المعرفة العلمية والاختصاص محدوداً إلى درجة كبيرة. كما يدفع الطابع الريعي الذي يميزها إلى الاستمرار في سياسات استيراد الخبرة من الخارج مع بقية السلع المادية. وهو ما يضيِّق من فرص نشوء منظومة للبحث والإنتاج العلميين، ويكره العلماء والمختصين على هجر اختصاصاتهم والتخلي عن طموحاتهم العلمية إذا أرادوا البقاء في أوطانهم، أو النزوح إلى الخارج للعمل في مؤسسات أجنبية. لكن غياب الاهتمام بالبحث والإنتاج العلميين، وبالتالي بالعلماء، وقلة الطلب الاقتصادي عليهما، ليسا السببين الوحيدين لمحنة البحث العلمي وأصحابه. فلا ينبغي نسيان أسلوب التعامل الذي تطور في البلدان العربية في العقود الماضية مع العلماء الذين أصبحوا مستهدفين من قبل القوى السياسية والدولية المتنازعة على السلطة، إما من أجل توظيفهم من قبل البعض للحصول على شرعية فرعية، لما يتمتعون به من صدقية عند الرأي العام، أو بسبب الضغط عليهم وربما الانتقام منهم عندما يظهرون موقفاً مستقلاً، وبشكل أكبر عندما يعبرون عن آراء سياسية لا تتفق مع آراء النظم، أو قطاعات الرأي العام. ولعل المثال الأكبر على هذا ما يتعرض له علماء العراق اليوم من عمليات تصفية وقتل على يد فرق الموت المجهولة الهوية التي ربما كانت تعمل لصالح قوى أجنبية معادية للعراق وللعرب أيضاً. ومنذ أقل من شهر وجهت اللجنة العراقية لحماية أساتذة الجامعات العراقية نداءً من باريس إلى المنظمات الإنسانية والهيئات والجامعات العربية لتنظيم حملة عربية ودولية للحفاظ على حياة العلميين والأكاديميين العراقيين الذين يتعرضون منذ قرابة ثلاث سنوات لتصفيات جسدية منظمة. وربما تجاوز عدد العلماء الذين لقوا حتفهم حتى الآن المائتين من العلميين وأساتذة الجامعات. لكن لا ينبغي أن يقلل هذا المثال من دور العوامل السياسية الأخرى، في تشجيع العلماء العرب على النزوح إلى الخارج. ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى ما يعاني منه العديد من الأكاديميين، كما بيَّن ذلك مؤتمر الحريات الأكاديمية في عمان 2004، من الحرمان من الحريات وأحياناً من الاعتقال الطويل، كما هو حال عميد كلية الاقتصاد السابق عارف دليلة المحكوم بعشر سنوات سجن، أو الباحث علي العبد الله، الذي اختفى هو وولدان له فجأة في دمشق، بسبب التعبير عن آرائهم وتبني مواقف سياسية لا تتفق واختيارات السلطة القائمة. باختصار، يضطر الكثير من العلماء العرب، بسبب غياب شروط البحث والإنتاج العلميين، أو لأسباب سياسية، إلى الرحيل إلى الخارج والاستقرار في البلاد الصناعية. وربما تجاوزت نسبة العلماء العرب المضطرين لسبب أو آخر لهجر أوطانهم نصف العدد الإجمالي. وكان تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية للمنطقة العربية قد ذكر أن 25 في المئة من المبعوثين للدراسة في الخارج لا يعودون إلى بلادهم أصلاً. مما يشكل نزيفاً حقيقياً للمنظومة العلمية العربية يجعلها في نظر المختصين غير قابلة للوجود أصلاً. فعلى سبيل المثال هجر الجزائر عشرات آلاف الخبراء والأساتذة والعلماء بعد الحرب الأهلية التي أعقبت أول انتخابات تشريعية في أوائل العقد التاسع من القرن العشرين. وتعتقد بعض أوساط اليونسكو أن أكثر من 2500 أستاذ وعالم عراقي قد هاجر إلى الخارج بعد الاحتلال الأميركي الراهن للعراق. من هنا الأهمية الاستثنائية لرعاية مؤتمرات تعنى بالمغتربين من علماء وصناعيين ومواطنين عاديين أيضاً. فهي، لا تساهم في التذكير بأهمية هذه المجموعة العربية المهاجرة فحسب ولكنها تشجع هؤلاء الذين اضطروا، لسبب أو آخر، إلى الهجرة من أوطانهم والاستقرار في الخارج، على التفكير في بلدانهم الأصلية والبحث عن الوسائل والسبل التي تتيح لهذه البلدان أن تستفيد من نجاحاتهم في الخارج. لكن البقاء على هذا المستوى ليس كافياً لإنجاح العملية. إذ لن يمكن استعادة الطاقات العربية الكبيرة المهاجرة من دون عمل جدي على إصلاح الأوضاع العربية وتغيير البيئة التي لا تزال تدفع بمئات آلاف العرب، بما في ذلك من خيرة العلماء والباحثين والخبرات الشابة الجديدة، إلى الخروج من أوطانهم. وهو ما يتطلب تحويل الإصلاح إلى برنامج حقيقي أو إلى محور سياسات عربية جدية، لا تركه شعاراً للاستهلاك السياسي، كما لا يزال الحال حتى الآن. وربما كان شرط النجاح في مؤتمر العلماء العرب المغتربين هو الاستفادة منهم في سبيل اكتشاف الطرق التي تمكنهم من المشاركة في إطلاق مسيرة الإصلاح الموعود وبلورة دورهم المحتمل والضروري في دفعه وتعزيزه.

dimanche, avril 16, 2006

في أصل الشلل العربي

الجزيرة نت 16 أبريل 2006

بعد أن فقدت السيطرة على مصيرها، تعيش المنطقة العربية، وأخص منها المشرق العربي، حربا حقيقية تهدف إلى إخضاعها وتطويعها لقبول أجندة السيطرة الأمريكية الاسرائيلة. كما تتحول إلى مسرح رئيسي لحروب إقليمية وعالمية جديدة، يقدم النزاع الايراني الأطلسي والحرب ضد الارهاب، كجزء من استراتيجية مقاومة الصعود التاريخي للكتلة الآسيوية، أمثلة راهنة عنها. وهي تعيش في موازاة هذه الحرب حربها او حروبها الخاصة المرتبطة بإعادة بناء موازين السلطة والثروة في مجتمعات تعرضت خلال أكثر من نصف قرن إلى اجتثاث عميق لجذور وعيها الوطني والإنساني، على يد أنظمة قهر ظلامية متوحشة فاقدة لأي شعور بالمسؤولية الوطنية أو الانسانية. وفي مناخ الحرب المتعددة الأشكال هذه يتنافس بديلان فكريان وسياسيان معا على اكتساب ولاء الجمهور العريض الضائع وتعبئته وتنظيمه. البديل السياسي الذي تمثله أحزاب المعارضة الديمقراطية الصغيرة، أو تلك التي تحولت وتتحول بالضرورة نحو الديمقراطية، بوصفها القاعدة الفكرية والقانونية التي لا غنى عنها لإعادة بناء السياسة ذاتها وممارستها معا. والبديل التعبوي الاسلاموي القوموي أو الاثنين معا، الذي تعبر عنه مجموعة واسعة من الحركات والتيارات والمواقف والتشكيلات الدينية والقومية أو ، اليوم، الدينية القومية أو شبه الدينية التي تعكس فقدان الامل بإعادة بناء الدولة السياسية الحديثة وتراهن على إحياء الروابط التقليدية القائمة على تعبئة العصبية الجمعية، الدينية أو الثقافية أو كليهما.
ويعتمد كل متنافس منهما على ترسانة من المفاهيم والشعارات والقيم والمطالب التي يأمل أن تمكنه من الفوز بعقول الناس وقلوبهم لتطبيق أجندة يعتقد انها هي القادرة على تحقيق أهداف المجتمعات العربية أو الاسلامية أو العربية الاسلامية. لكن بينما يجعل الطرف الأول من إطلاق عملية التنمية، واستكمال تحديث المجتمعات العربية وإدراجها في العصر، البند الأول في المسيرة الطويلة التي ينبغي أن تمر حتما اليوم بتحقيق الديمقراطية وتحرير المجتمعات العربية من نير الاستبداد العقيم والمجمد والمضيع للجهد الوطني، تركز القوى الإسلاموية والقوموية على مسائل الهوية الخاصة والخصوصية كما تتمسك بشكل قوي بقيم الاستقلال والسيادة الكاملتين كما ولدتا في الكفاح ضد السيطرة الاستعمارية.
وإذا كانت هذه القيم المختلفة التي يعبر عنها كلا التيارين محط إجماع لدى الرأي العام العربي، سواء ما تعلق منها بالقضاء على الاستبداد، وما قاد إليه من تعسف وفساد وانحطاط، أو ما ارتبط منها برفض الاستلاب والتمسك بالهوية الوطنية والدينية والقومية، إلا أن الخلاف يبرز عندما يتعلق الأمر بالممارسة العملية. فما يبدو محط إجماع على مستوى الوعي الثقافي العام يصبح في الممارسة مجال انقسام بقدر ما تطرح الممارسة مسألة الأولويات ويضطر كل طرف من المتنافسين إلى تقديم قيمة على قيمة أخرى. ومن الواضح أن قطاعات الرأي العام ليست متفقة على المكانة التي تحتلها كل واحدة من هذه القيم ولا على الأهمية التي تعطيها لهذه القيمة أو تلك. فالتيارات الحداثية التي ترى في الديمقراطية اليوم مدخلا لا محيد عنه للارتقاء بالمجتمعات العربية إلى مستوى التحديات التاريخية وتأمين شروط الالتحاق بالثورة العلمية والتقنية، أي للبقاء في التاريخ المعاصر، تظهر حساسية أقل تجاه مسائل تتعلق بالهوية والخصوصية والسيادة والاستقلال، أو ربما نظرت بطريقة أخرى إلى مضمون هذه المسائل الأخيرة وكيفية تلبيتها تأخذ بالاعتبار تحول حقل العلاقات الدولية وتطور وسائل التفاعل والتواصل بين الجماعات البشرية عبر الدول ومن وراء حدودها السياسية. وبالعكس تنظر الأطراف الاسلامية والقومية، بصرف النظر عن مضمون أفكارها والقومية التي تتعلق بها، عربية أو محلية، إلى مسألة الحفاظ على الاستقلال والسيادة، حتى عندما يتعلق الأمر بالمظاهر، نظرة خاصة وتطابق بينها وبين الدفاع عن الهوية، بقدر ما تنظر إلى الهوية من منظور الخصوصية وتجعل منها أساسا لتمييز الذات عن الآخر، لا التميز في دائرة حضارة واحدة. وتبدو قيم الاستقلال والسيادة هنا مرتبطة ارتباطا عضويا بالحفاظ على علامات التمايز الثقافية والدينية والابتعاد عن كل ما يمكن أن يشوش على هذا التمايز والتباين أو يضعف إرادة المقاومة الداخلية.
بهذا المعنى يشكل الحفاظ على الهوية والأصالة عند هؤلاء القيمة الأساسية والمعيار الذي ينبغي أن تخضع له قيم الديمقراطية والاندراج في الحضارة العصرية. فإذا كان الدفاع عن الهوية يستدعي الحد من الحريات أو تأجيل التفاهم مع الدول الصناعية أو الوقوف في وجهها، فلا مانع من الاستبداد ولا من القطيعة مع العالم الخارجي. وهذا ما يفسر الالتقاء المتزايد بين بقايا القوى ا لقومية العربية الكلاسيكية والقوى الاسلامية الجديدة، بعد أن دفع إخفاق الحركة القومية العربية في بناء وطن عربي قوي وحديث منظري هذه ا لقومية إلى الإنكفاء على عنصر الهوية والاستقلال كمرجع وحيد او رئيسي لها.
في هذا التنافس المستمر منذ عقود على إعادة بناء الوضع العربي والترتيبات الداخلية بين الأجندة الديمقراطية والأجندة القومية الاسلامية، أي بين أجندة سياسية الطابع وبالتالي علمانية وبين أجندة ايديولوجية ثقافوية، تظل القوى صاحبة الخيار السياسي هي الأضعف حتى الآن من دون نقاش. فإلى جانب أن الأجندة السياسية تواجه تحديات كبيرة ومصاعب لا تحصى بسبب التاريخ الطويل للاستبداد وما نجم عنه من تدهور وعي المواطنين السياسي وما يرافقه من استقالة سياسية وأخلاقية ومن ترسخ التفاهم بين الفئات الحاكمة وقوى الهيمنة الدولية، تغذي الحرب والضغوط المستمرة التي تمارسها الدول الكبرى اليوم على المجتمعات العربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة الامريكية، في فلسطين والعراق وبقية بلدان المشرق العربي، مشاعر العداء للغرب وسياساته الاستعمارية. وهو ما يعزز قيم المقاومة ويضاعف من فرص قوى القومية الاسلامية، التي تراهن على تعبئة مشاعر المقاومة، لتعزيز مواقعها.
هذا ما يفسر الصعوبة التي تواجهها قوى الأجندة الديمقراطية في التقدم على الأرض بالرغم من تنامي الإجماع ضد الاستبداد والايمان المتزايد بالنماذج الديمقراطية حتى في أوساط الحركات الاسلامية والقومية. ومع استمرار السياسات الكارثية للتحالف الأطلسي في المنطقة، أي مع استمرار الحرب الكامنة أو المعلنة التي يشنها مباشرة أو بالوكالة على الشعوب العربية المشرقية، وتضاؤل الآمال بالمستقبل يزيد ميل الرأي العام إلى التكور على النفس والانكفاء والانغلاق، وربما أيضا التعايش مع نموذج الحكم الاستبدادي نفسه الذي ينشر نوعا من الأمان الكاذب، بما يخفيه من التناقضات الداخلية وما يقدمه من صورة الوحدة الجامعة التي توحي بالأمان والاطمئنان في وجه العدوان. فلا يوفر الاستبداد على كل فرد مواجهة مسؤولياتها الخاصة في الوصول إلى المأزق الراهن وفي تغييره فحسب بإلقائها على القيادة التي تحتكر كل المسؤوليات ولكنه يوفر للفرد إمكانية التماهي الآلي مع المجموع وبالتالي الهرب من القلق والمخاوف التي يثيرها التهديد الخارجي والعدوان. وكما يشكل الاستبداد مظهرا من مظاهر انسداد الآفاق وغياب الفرص التاريخية عند المجتمعات، تشكل الديمقراطية مظهرا من مظاهر تصاعد الآمال وفرص التقدم التاريخي والازدهار. بل هي تعبير عن الجانب السياسي والفكري والنفسي من هذا الازدهار والتقدم الشامل. ففي كل مرة تغيب فيها الفرص وتتضاءل الآمال تميل الجماعات، في كل مكان وزمان، إلى أن تدفن رأسها في رمال الاستقالة التاريخية والارتهان للطبيعة، وتنمو العصبيات القبلية والطائفية والاستبداد. وإذا لم تتغير السياسات الغربية المتعلقة بالمنطقة، ولم تنجح النخب العربية في بناء قوى فكرية وسياسية قادرة على تثبيت أقدام المجتمعات وإخراجها من الطريق المسدود الذي تعيش فيه منذ سنوات طويلة، فلن يكون هناك مخرج من الازمة، وسوف تغرق المنطقة لعقود قادمة في حروب داخلية وخارجية، طائفية واستراتيجية، من الصعب ضبطها أو التحكم بها أو إنهاؤها.

من هنا تقع مسؤوليات كبيرة في اعتقادي على المثقفين والنخب العربية في سبيل توضيح المفاهيم ورسم طريق الخروج من الأزمة الطاحنة التي تعيشها المجتمعات. تلك النخب المتمسكة بأجندة الحرب القومية الاستقلالية الاسلامية أو العروبية، والأخرى المنادية بالديمقراطية والدخول في عصر الحضارة العلمية والتقنية. ومن دون الوصول إلى تفاهم حول أجندة العمل للسنوات القادمة سوف تستمر الحرب السياسية الفكرية العربية داخل كل مجتمع وعلى مستوى المجتمعات العربية كافة، موازية للحرب الخارجية العربية الغربية، وبديلا عنها أحيانا، او مكملة لها. ولن نصل إلى أي نتيجة سوى استكمال دمار المجتمعات واستنزافها ماديا ومعنويا.
هل هناك بالفعل مقاومة أو ممانعة تشكل أساس ثورة قومية إسلامية ممكنة، تحفظ الهوية وتصون السيادة والاستقلال، بصرف النظر عن مسائل الديمقراطية والتحديث أو بالانفصال عنهما؟ وهل هناك إمكانية لبناء ديمقراطية ومشروع تحديث عربي وطني أو قومي، مع انعدام حد أدنى من هامش المبادرة والاستقلال والسيادة الإقليمية؟ باختصار كيف يمكن الجميع والتوفيق بين أجندة التحولات الديمقراطية وما تستدعيه من تفاهم مع القوى الدولية الكبرى التي تسيطر على مصادر العلم والتقنية والرأسمال والقوة الاستراتيجية في العالم، وأجندة الحفاظ على الهوية والسيادة والاستقلال مع استمرار التمزق والتشرذم والاقتتال الداخلي وغياب أي فاعلية ذاتية. في الاجابة على هذين السؤالين يكمن الحل والخروج من المأزق الجماعي التاريخي الذي نحن فيه.

mercredi, avril 12, 2006

عندما يتحول الإصلاح إلى ثورة اجتماعية

الإتحاد الإماراتية 12/4/2006
الإصلاح هو مبدأ السياسة الحديثة وقوامها. ولا يستمد حكم سياسي شرعيته إلا بقدر ما يظهر قدرته على بلورة برنامج للإصلاح والتحسين. فهو البديل الوحيد للثورة في حفظ التوازن والاستقرار، أي في تحقيق التغيير المنشود، لكن بالوسائل السلمية وبالطرق القانونية، وفي إطار الدستور والشرعية القائمين. فكل النظم التي لا تريد تعريض البلاد إلى الهزات والانفجارات مشدودة للإصلاح. وليست للسياسة وللسياسيين وظيفة فيها سوى العناية بالمجتمعات وتحسين عمل هياكلها ومؤسساتها ورفع مستوى كفاءتها وفعاليتها. لكن الإصلاح لا يحصل في الفراغ. والاختيارات ليست عشوائية أو ذاتية محضة. فالتغيير الذي يقصده الإصلاح لا يأخذ اسم الإصلاح، أو ينعكس بشكل إيجابي على عمل النظام المجتمعي، إلا بقدر ما يحقق الغايات الكبرى التي يحددها الاجتماع المدني لنفسه وتقوم عليها شرعيته، وبقدر ما يتفق مع القيم التي اتخذتها الجماعة المدنية كقاعدة لتنظيم سلوك أفرادها في الحياة اليومية. فالتغيير يصبح إصلاحاً إذا سار في اتجاه تحقيق النموذج المثالي (المفترض أو المتخيل للمجتمع الحديث أو الصالح أو الديمقراطي أو الوطني)، وإذا لم يتعارض أسلوب الوصول إليه أو إنجازه مع القيم المرتبطة بهذا النموذج نفسه. إن الإصلاح لا يوجد من دون ثقافة اجتماعية ومجتمعية تصبو إلى التحسين والارتقاء. ويعني الإصلاح اليوم عند جميع الشعوب المنخرطة في تاريخية واحدة هي تاريخية الحداثة، الوصول إلى نظم اجتماعية تعكس إرادة الشعب وتعتمد عليه وتوسع مشاركته في الشؤون العمومية وتحمله مسؤولياته الوطنية والخاصة، كما يعني الارتقاء بطريقة عمل النظم السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية بما يمكن من تحقيق هذا الهدف، وزيادة قدرة الفرد على الاختيار، وبالتالي زيادة قدرته على المشاركة في تنظيم الحياة العمومية. وبالعكس، كل ما يعيق تحقيق هذا الهدف الذي يشكل غاية الاجتماع المدني ومبرر وجوده في العصر الحديث، أي جوهر السياسة أيضا، يمثل تراجعاً عن المكتسبات، وتدهوراً في نوعية الاجتماع المدني القائم، وتقهقراً نحو النظم التقليدية "البدائية" التي تحد من مشاركة الفرد في حياة مجتمعه العمومية، وتفصل بين المجتمع والسياسة، وتكرس سيطرة نخبة أرستقراطية مغلقة تفرض سلطتها بالقوة العارية أو بالاحتيال. من هنا لا تختلف أولويات الإصلاح من مجتمع لآخر. إن للإصلاح أجندة واحدة لكن ما يختلف من مجتمع لآخر هو برنامج الإصلاح، أي الطريق التي يسلكها كل مجتمع والوسائل التي يستخدمها في سبيل الوصول إلى الغاية الواحدة. وتختلف هذه الطريق وتلك الوسائل باختلاف الموارد البشرية والمادية واللامادية أيضا. ثم إن برنامج الإصلاح لا يصاغ في الفراغ وإنما في سياق نظام اجتماعي، بما يعنيه ذلك من اعتبار لتوازن القوى ونوعية النخب السائدة وموقعها ومكانها في عملية التنظيم الاجتماعي نفسها، وكفاءاتها المهنية. فليس الإصلاح نشاطا بسيطا أحادي الجانب. ولا يرتبط توسيع دائرة اختيار الفرد ومشاركته في الحياة العمومية بالشؤون السياسية فقط. إنه يستدعي أيضا، وكشرط له، التنمية الاقتصادية وما تشمله من زيادة فرص العمل والتأهيل المهني للأفراد، كما يستدعي تطوير وسائل التنمية الثقافية والعلمية، بما يمكن الأفراد من الاختيار ومن المشاركة العملية في الحياة العمومية. لكن مصطلح الإصلاح في سياق الثقافة السياسية العربية الراهنة اتخذ محتوى آخر. ولذلك عندما نتحدث في بلادنا عن إصلاح فنحن لا نقصد الارتقاء بأداء الرجال والأجهزة والمؤسسات القائمة، وبالتالي التفنن في إبداع مناهج وأساليب إدارة وتنظيم جديدة فحسب، وإنما عن أمر يشبه التطهير أو معالجة ما تخرب، بصورة متعمدة أو بسبب جهل النخب الحاكمة وانعدام شعورها بالمسؤولية، في المجتمعات. فالإصلاح عندنا هو نقيض الفساد ودواؤه. ويتغير مضمونه وسعته بحسب درجة الفساد القائم وحجمه والوسائل المطلوبة لمعالجته. فهو مرتبط ارتباطا عضويا به ولا يمكن أن يستقل عنه. ومن هنا، بقدر ما يشكل مفهوم الإصلاح نقيضا لمفهوم الثورة والانقلاب ويثير من حوله إجماع كافة تيارات الرأي في البلاد الديمقراطية، يظهر في أعين السلطات والرأي العام في البلاد العربية رديفا للتغيير الجذري، والانقلاب يشمل استبدال أنماط الحكم والممارسات السياسية والقانونية والعلاقات العدائية القائمة بين المجتمع والسلطة. لذلك تميل الحكومات العربية إلى التهرب من استخدامه وتفضل عليه، كما حصل في مشروع الإصلاح الذي تبنته الجامعة العربية عام 2004 ولم يرَ النور، مفهوما آخر، لا يوحي بفعل التغيير، ولا يشير إلى الفساد الدافع إليه، هو التطوير والتحديث، وهو من اختراع نظام عربي وضعه في التداول كي ينفي عن النظام القائم صفة الفساد أو الهرم والقدم، مؤكدا على صلاحيته على العموم، مع القبول بإجراء تعديلات معينة على بعض وظائفه وأداء رجاله. وما يبرر هذا الخوف من استخدام مصطلح الإصلاح واستبداله بمفهوم التطوير والتحديث هو أن الرأي العام الذي فقد إيمانه بالثورات، من دون أن تفقد هذه الثورات نفسها مبرر وجودها، قد وضع فيه ما يشبه الآمال الثورية ونظر إليه كوسيلة لقلب الأوضاع، ولو بطريقة سلمية، بقدر ما أصبح يرى في هذه الأوضاع تجسيداً لفساد شامل، لا يضرب جانباً من جوانب الحياة العامة بقدر ما يشكل نظاما اجتماعيا أو الروح المحركة لهذا النظام. فيبدو الإصلاح في العالم العربي عملية استئصال نظام هو الفساد نفسه لإحلال نظام آخر محله. ولعله لا يوجد اليوم في العالم رأي عام يطابق بين الإصلاح والانقلاب على المناهج وأساليب العمل السائدة، بقدر ما هو الحال في العالم العربي. ومن هنا يتساوى في الوعي العربي الراهن الإصلاح والثورة الشاملة. فهو ثورة اقتصادية تهدف إلى الانتقال من نظام توزيع الغنائم عبر تقسيم العوائد والريوع، إلى نظام اقتصادي قائم على مكافأة العمل المنتج والمبدع. وثورة سياسية ترمي إلى إخضاع سلطة الحكم الشخصية المطلقة والمزاجية أحياناً، وبالتالي غير الخاضعة لقانون أو محاسبة أو مساءلة، إلى سلطة مستندة إلى قواعد قانونية وسياسية مرعية، تضمن مشاركة الرأي العام في اتخاذ القرارات الوطنية. وثورة ثقافية وتعليمية تعمل على تغيير القيم والتوجهات والاستعدادات التي طبعت الفرد بالسلبية، وعززت لديه انعدام الثقة والعدوانية والانطواء على الذات، والتعلق الأحادي الجانب بالمصالح الخاصة، والاستهتار بالآخر وبالمصالح الجماعية، واستبدالها بقيم واستعدادات إيجابية قائمة على التفاهم والتعاون والتضامن، كما تعمل على إحلال مناهج التكوين والتأهيل والبحث العلمي التي انحسرت محل مناهج الاقتداء والحفظ الاجترارية. وهو ثورة إدارية تسعى إلى إعادة إخضاع البيروقراطية، التي تكونت كطبقة طفيلية، أو كعلقة على جسم الإدارة المدنية والعسكرية، لهدف خدمة المجتمعات، وإلزامها بتحقيق أغراض عمومية، وردعها عن استخدام مواقعها الاستثنائية، والسلطات والصلاحيات المخولة لها في سبيل خدمة مصالحها الذاتية فحسب. وهو ثورة قضائية تهدف إلى ضمان حد كبير من النزاهة في تطبيق القانون وتحرير العدالة من تبعيتها واستلابها للرشوة المادية والمعنوية. وهو أخيرا ثورة دستورية وقانونية ترمي إلى إعادة النظر بنماذج توزيع الصلاحيات والسلطات وممارستها على جميع المستويات، كما ترمي إلى إعادة إخضاع الدولة وأجهزتها لإرادة المجتمع وترتقي بالممارسة السياسية والمدنية إلى مستوى المعايير الدولية.