mercredi, décembre 31, 2008

تبا لأوربة وتبا لشراكتها المتوسطية

الاتحاد 31 ديسمبر كانون أول 08

اعتادت إسرائيل في السنوات الماضية أن تفكك بعض الحواجز ونقاط التفتيش التي تزرع الأراضي الفلسطينية المحتلة طولا وعرضا، ويزيد عددها على الخمسمئة وخمسين، لتقيم بعضها الآخر في مواقع قريبة أو جديدة. وقد غاب عنا سر هذه السياسة فترة طويلة حتى جاءت إتفاقية تعميق الشراكة الاسرائيلية الأوروبية التي وقعت بين الطرفين في 16 من ديسمبر الجاري لتجعل من إسرائيل عضو الاتحاد الجديد المدلل بامتياز. فلم تجد الإدارة الأوروبية المسؤولة شيئا أخرسوى هذا التفكيك الشكلي والجزئي للحواجز تستند إليه لتبرير هذا التمييز الاستثنائي لاسرائيل، ولتجاوز بنود اتفاقية الشراكة الاسرائيلية الأوروبية التي تنص على ربط تعميق الشراكة بتحقيق نتائج ملموسة على طريق تكييف المباديء الاسرائيلية مع القيم الأوروبية المتعلقة بالسلام واحترام حقوق الانسان في فلسطين.
والحق أنه لا ينبغي لمثل هذا العمل أن يفاجئنا بعد أن أعلن وزير خارجية فرنسا، الذي قادت بلاده عملية رفع درجة الشراكة مع إسرائيل، وأكرهت بقية الأعضاء الأوروبيين المترددين على وضعها على أجندة النقاش قبل الموعد المقرر لها أصلا، للاستفادة من الموقع الذي يحتله الرئيس الفرنسي حتى نهاية ديسمبر كرئيس للاتحاد الاوروبي، أقول بعد أن أعلن السيد كوشنر أن هناك تناقضا لايمكن تجاوزه بين السياسة ومباديء حقوق الإنسان. لكننا هنا أيضا كنا قد أخطأنا التفسير معتقدين أن ما قصده الوزير الفرنسي يتعلق بسياسة بلاده مع بعض البلدان التي تحتل موقعا استراتيجيا ولا يمكن تجاهلها بالرغم مما تمارسه من انتهاكات صارخة لحقوق الانسان، على مبدأ للضرورة أحكام. بيد أن الأمر كان على ما يبدو أعمق من ذلك، وعنى، كما لم يكن يخطر ببال، الإعلان عن التخلي الكامل عن مبدأ ربط السياسة الخارجية الاوروبية بمعايير حقوق الانسان بعد أن استنفدت هذه العلاقة أغراضها.
لكن بالرغم من ذلك، لا تزال مفاجأة الإسراع بتوقيع اتفاقية الشراكة المعمقة الاسرائيلية الأوروبية كبيرة، ليس لأنها تنافي مباديء حقوق الإنسان هذه المرة، فهذا ما لم يكن سرا سوى لصانعي السياسة الغربية، الذين كانوا وربما لا يزالون يعتقدون أن خصومهم يجهلون حقيقة أن مثل هذه المباديء لم تؤخذ ولو مرة واحدة في الاعتبار السياسي في أي وقت مضى، وإنما بسبب الوقت الذي اختارته رئاسة الاتحاد. فإذا استثنينا التصريحات المفاجئة بالفعل، والدعائية بالتأكيد، لرئيس الوزراء الإسرائيلي المنتهية صلاحيته، في الأشهر الأخيرة حول نواياه السلمية، لم تكن إسرائيل أبعد في سياساتها العملية عن السلام وأكثر عدوانية في تعاملها مع الشعب الفلسطيني، وأشد تجسيدا لسياسات الاستعمار التقليدي ومناهج حكمه مما هي عليه منذ أن دفنت ورقة الطريق الشهيرة، وعلقت المفاوضات مع الفلسطينيين، وصار مؤتمر أنابوليس في حكم النسيان. ولم تحقق الحكومة الاسرائيلية أي تقدم طالب به الاتحاد الأوروبي كشرط لتعميق التعاون في موضوع تفكيك المستوطنات، الشرعية وغير الشرعية، حسب الاصطلاحات الاسرائيلية، ولا حتى في وقف المشاريع الاستيطانية المدعومة من الحكومة. بل إن ما حصل هو العكس تماما. فلا تزال حركة الاستيطان مستمرة تحت غطاء الاستعداد للتفاوض على السلام مع دمشق.
لكن الأمر الأدهى من ذلك والذي يجعل من التوقيع على الاتفاقية الجديدة عملية إذلال مقصود للعرب واستفزاز للفلسطينيين وتحد لأي ضمير إنساني حي، حتى في أوروبة نفسها، هو غض نظر بروكسيل عن السياسات الاسرائيلية المتعلقة بالحصار الكامل المفروض على غزة، والذي لا يطال المواد الاستراتيجية أو التي يمكن أن تخدم أغراضا عسكرية وتعزز عمل المقاومة الفلسطينية، ولكن كل ما يحتاج إليه الانسان للبقاء والحفاظ على الحياة. فهو يشمل الماء والكهرباء والمواد الطبية والغذائية والطاقة ومواد البناء ألخ، ويهدف كما هو واضح إلى خنق شعب كامل وتجويعه وإفقاره وتشريده على أرضه. وهذا ما يحصل على الأرض بالفعل. فقد أدى الحصار حتى الآن إلى إغلاق أبواب أكثر من ثلاثة أرباع المؤسسات والمصانع والمحلات التجارية، وتوقف الحياة الاقتصادية تماما، مع ما يعنيه ذلك من انتشار البطالة والفقر واليأس والمرض. ولم يمنع الكارثة حتى الآن سوى ما يصل من بضائع قليلة من مصر عن طريق التهريب من خلال أنفاق حفرت بوسائل بدائية، قابلة دائما للانهيار على أصحابها.
كيف أمكن لقادة الاتحاد أن يتجاهلوا هذا الواقع، وأن يعملوا كما لو لم يكن قائما، وكما لو أن العرب غير موجودين أيضا، لا كرأي عام ولا كحكومات تدعي جميعها الصداقة لأوروبة، بل تراهن على أوروبة لتكون سندا لها في مواجهة التصلب الاسرائيلي والغطرسة الأمريكية؟ وما هو المغزى من توقيع هذه الاتفاقية قبل أوانها، والموعد المقرر لها؟
اعتاد الأوربيون في كل مرة يحاولون فيها تبرير تجاوزهم لمباديء حقوق الانسان، بل تغطيتهم على الانتهاكات الخطيرة لها هنا وهناك على الإدعاء بأن المقصود هو تمتين العلاقات مع الطرف الآخر في سبيل احتلال موقع يسمح بالضغط عليه أو الأخذ بيده في الطريق الأسلم ومنعه من تبني سياسات سلبية أكثر. ولا نريد أن نتهم الأوربيين بالسذاجة، لكننا لا يمكن أن يعاملوننا أيضا كساذجين.
لا يعني ما قام به الاتحاد الأوروبي في إطار تطوير علاقات الشراكة الأورومتوسطية مع إسرائيل هذا الشهر شيئا أخر سوى إطلاق يد إسرائيل في فلسطين، وبداية تمهيد السبيل لعملية الاجتياح التي كانت الحكومة الاسرائيلية تعد بتنفيذها في غزة، والتي تهدف من خلالها إلى تغيير الوقائع على الأرض وإزاحة حركة حماس من السلطة هناك مهما كلف ذلك من مآسي وكوارث للشعب ا لفلسطيني، مادية وسياسية. وقد جاء تنفيذ العملية يوم 27 ديسمبر بعد أقل من أسبوعين من توقيع اتفاقية الشراكة المعززة ليؤكد هذا الاستنتاج، ويقدم غطاءا سياسيا مسبقا لاسرائيل ضد أي انتقاد أو اعتراض في أوروبة على سياسة الاحتلال والعنف والمجازر الجماعية التي ترتكبها في الأرض الفلسطينية وتجاه الشعب الفلسطيني..
فالاتفاقية الجديدة تجعل من إسرائيل عضوا حقيقيا في الاتحاد الاوروبي يشارك في حواراته واجتماعاته السياسية، من خلال اجتماعات دورية، كما يشارك في برامج أوروبية عديدة خاصة في ميادين تطوير المنافسة والتجديد التقني والبحث العلمي والتنموي، كما يشمل التعاون في إطار الاتفاق الجديد ميادين الطاقة والنقل والقضاء والشؤون الاجتماعية والتربية والتعليم، وأخير قضايا حقوق الانسان والكفاح ضد الإرهاب. ويعني هذا أن لاسرائيل منذ الآن كلمتها في تحديد السياسات الأوروبية في الشرق الأوسط والعالم أجمع. وبإمكانها كأي عضو آخر أن تعترض على هذه السياسة أو تلك وأن تطالب باحترام مصالحها كأي عضو آخر. وهذا هو في الواقع الهدف الرئيسي من توقيع اتفاقية الشراكة المعززة.
والواقع أن إسرائيل حصلت بهذه الاتفاقية على موقع يتجاوز الاندماج في الاتحاد. وهو ما كان قد حصل منذ اتفاقية عام 1995 التي أسست منطقة التجارة الحرة الأوروبية الاسرائيلية، وبنت أسس التعاون الثنائي في إطار برنامج لبحث العلمي والتنمية (2007-2013)، والذي أمن لها معونة بلغت مليار دولار من أجل دعم التعاون بين الشركات الأوروبية والإسرائيلية. وقد أتاح هذا البرنامج الذي تشارك فيه أكثر من 2000 شركة إسرائيلية لتل أبيب بتوسيع مقدراتها الصناعية والتعاون مع مراكز البحث العلمي الرائدة وأهم الجامعات الاوروبية. أما الاتفاق الجديد فسوف يقدم لإسرائيل مشاركة لا محدودة في برامج البحث العلمي الأوروبية، الأكاديمية والتقنية. وبعكس الأعضاء ال 27 الرسميين، تتمتع إسرائيل بجميع الحقوق التي يتمتع بها هؤلاء من دون أن يترتب عليها أي واجبات. فهي البلد الوحيد الذي يحق له أن يكون بلدا استعماريا ويتحدى مباديء الديمقراطية وحقوق الانسان التي تنص عليها الوثيقة التأسيسية للاتحاد ويحظى أكثر من ذلك بمعاملة تفضيلية.
هذا من دون شك أكبر انجاز سياسي حققته إسرائيل منذ سنوات طويلة. ولا يرجع الفضل فيه للرئيس سركوزي والوزير كوشنر فحسب، وإنما لغياب العمل الوطني العربي الكامل عن الساحة العالمية بل والإقليمية، إن لم نقل لضياع أي رؤية عربية وطنية، وهو ما يستحق من إسرائيل أعظم الشكر والتقدير.

mardi, décembre 30, 2008

غزة والمسؤوليات العربية والفلسطينية

الجزيرة نت

1- تعيش غزة اليوم وشعبها محنة حقيقية تجمع بين الحرب الغاشمة والحصار الطويل تذكر بأيام النكبة الأليمة عام 1948 وتجددها. وتدفع غزة وشعبها في وقت واحد ثمن الاستمرار في مقاومة المخططات الاسرائيلية والغربية، واحتداد التنافس بين الزعامات الاسرائيلية قبل الانتخابات التشريعية القريبة، وانهيار التضامن العربي، وانسحاب العرب من ساحة المواجهة، وتلاعب الدول العربية والاسلامية بالقضية الفلسطينية واستخدامها مصدرا للتعويض عن فقدان أنظمتها الشرعية السياسية، وأزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، وتجاهل قادة حماس قوانين السياسة الإقليمية والدولية، وضياع الرأي العام العربي وتشتت فكره، وبحثه عما ينفس عن كربه أكثر من مطالبته بخطة منظمة ورؤية واضحة للعمل الوطني، تمكنه من الحكم على سلوك القوى السياسة على أساس مقدرتها على تحقيقها أو السير بها خطوات ولو صغيرة إلى الأمام.
باختصار غزة تدفع ثمن الآزمة المأساوية الايديولوجية و السياسية والوطنية التي تعيشها الامة العربية بأكملها، وفي مقدمها الحركة الوطنية الفلسطينية. وهي بضعفها السياسي والاستراتيجي والاقتصادي تجذب جميع الاطراف للعب على ساحتها، وتنفيس تناقضاتها فيها وخوض معاركها السياسية والرمزية على أرضها، بما في ذلك أطراف عربية وأجنبية، كما كان لبنان في فترة سابقة.

2- أما هدف الحرب الاسرائيلية الراهنة فهو توجيه ضربة قوية تزعزع سلطة حماس في غزة وتدفعها إلى الترنح والسقوط، إذا أمكن، وذلك من خلال قصف مواقع السلطة ومؤسساتها، واستهداف المدنيين ليثوروا على هذه السلطة. والغاية من ذلك هي بالتأكيد وضع حد لمقاومة الاحتلال، وفرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني، في غزة والضفة على حد سواء. لكن في سياق ذلك، تمتحن إسرائيل في هذه الضربة إرادة الدول العربية، وأين وصلت حدود تراجع تضامنها مع القضية الفلسطينية، وتستبق استلام الرئيس الأمريكي السلطة في واشنطن بوضع قواعد للعبة في المنطقة تظهر فيها على أنها اللاعب الوحيد والقادر، وأنه لا يوجد للعرب وزن وليس هناك أي ضرورة لأخذهم بالاعتبار في تحديد سياسات واشنطن المقبلة في الشرق الأوسط. وهي تمتحن أيضا قوة اتفاق الشراكة المعززة الذي وقعته في 16 من الشهر الجاري(ديسمبر 08) مع أوروبة وتحولت بموجبه إلى ما يشبه العضو الكامل في الاتحاد الاوروبي، وهو ينص على التعاون والحوار والتفاهم في مسائل عديدة ومنها المسائل الأمنية.
3- لن تستطيع الحملة العسكرية الاسرائيلية أن تقضي على حماس وسلطتها في غزة، وربما عززتها. إنما ليس هناك شك في أنها ستدمي شعب غزة وتساهم بشكل أكبر في تفكيك العالم العربي وتعميق الشرخ بين أعضائه ومحاوره، وتزيد الشك واليأس والإحباط عند الشعوب العربية، وتدفع إلى تفريغ العالم العربي ككل، حكومات وشعوبا، بصورة أكبر من ثقله النوعي، حتى يبدو عالما ضعيفا مفككا مشتتا تحكمه النزاعات والمشاحنات والمشاعر السلبية واليأس، لا يستحق الاعتبار ولا يؤخذ لأقواله وأفعاله حساب. وهذا ما يساهم أكثر في تدهور الموقف العربي، فوق تدهوره، ويفاقم من الأزمة السياسية والفكرية والوطنية التي يعيشها منذ عقود.
4- للأسف في كل مناسبة من هذا النوع، أي أمام ضربات إسرائيل المتعاقبة على مناطق أو قوى أو شعوب عربية، تعود الشكوى من ضعف الموقف العربي كلازمة لا بد منها. كما لو أننا لا نزال غير مقتنعين بأن روح التضامن العربي القديمة قد زالت تماما، على الأقل في أوساط النخب والسلطات الحاكمة، وأننا لا نزال غير مدركين أنه لا تضامن سياسيا ممكنا من دون تفاهم مسبق أو رؤية مشتركة تجمع بين المتضامنين. والقصد من هذا الكلام أن التضامن بالمعنى السياسي، وما بالك العسكري، ليس مزروعا في الدم والمشاعر وإنما يبنى بالعمل السياسي والدبلوماسي بين القوى المختلفة، حتى عندما تكون من أسرة واحدة، ولا يقوم إلا على أسس واضحة تجعل المتضامن يشعر بمصلحته في دعم شريكه، وتعمق إدراكه بأن تخاذله عن دعم حليفه لا يسيء إلى هذا الأخير فحسب وإنما يرتب خسائر سياسية واستراتيجية عليه هو أيضا.
والحال إن ضرب هذا التضامن السياسي العربي وإزالة فكرته من الوجود هو اليوم أحد محاور سياسة الهيمنة الغربية في الشرق الأوسط. وبالتالي فإن الأنظمة التي تمتنع عن إظهار هذا التضامن أو تعطله لا تخسر وإنما تربح دعما إضافيا أو على الأقل تضمن استمرار الدعم الغربي لها.
بالتأكيد يثير هذا الموقف الرأي العام العربي. بيد أن الأنظمة الحاكمة لا تعبأ اليوم بالرأي العام العربي، لأنها ببساطة لا تدين له بوجودها في الحكم واستمرارها في السلطة، وإنما تدين في ذلك لدعم المعسكر الغربي، الأوروبي الأمريكي، وتأييده وتغطيته السياسية والاستراتيجية. وهو الذي تأخذه في الاعتبار وليس رأي الجمهور العربي الذي اعتادت أن تواجهه بالعنف أو بالتلاعب أو بالتنفيس العاطفي.
5- لا تختلف مصر في هذا عن باقي الدول العربية. وبالرغم من أن لمصر مسؤوليات إضافية بوصفها الدولة العربية الاكبر والمتاخمة لغزة التي ترتبط بها بروابط جغرافية وبشرية قوية، إلا أنها ليست الوحيدة المسؤولة عن تقويض أسس التضامن العربي، الذي يشكل وحده ورقة يمكن الرهان عليها لإجبار إسرائيل على أخذ المطالب الفلسطينية بالاعتبار. وليس هناك من بين الحكومات العربية حكومة واحدة أظهرت في العقدين الاخيرين انشغالها بتطوير التضامن العربي أو حتى الحفاظ عليه، وٌقامت بالحد الادنى من التضحيات المطلوبة لاستيعاب تناقضات العالم العربي ومصالحه المتعددة والمتضاربة وسعت إلى تذليلها وتجاوزها. بالعكس، لقد تنافست الأنظمة على التحلل من ارتباطاتها والتزاماتها العربية الجماعية، وقام كل نظام بتحميل المسؤولية على النظام الآخر ليبرر موقفه ويعززه أمام رأيه العام. وهكذا عمل الجميع، كل بطريقته واسلوبه وخطابه الخاص على تعميق الشرخ داخل أقطار العالم العربي، بما في ذلك داخل الصف الفلسطيني نفسه. من هنا ينبغي في نظري أن نحمل جميع النظم العربية المسؤولية الجماعية عن تحطيم التضامن السياسي العربي، وإفراغ الفكرة العربية نفسها من مضمونها، والانكفاء نحو استراتيجيات قطرية عن سابق إدراك وتصميم. جميع الأنظمة، بوسائلها وحسب رزنامتها الخاصة، تستثمر تحطيم التضامن العربي وقتله لتحسين علاقتها بالكتلة الغربية. وكلها في نظري شريك في الجريمة.
والقصد من ذلك أنه لا ينبغي أن نراهن منذ الآن على أي موقف عربي ايجابي، أي مجاني. ولا جدوى ولا فائدة من الندب المستمر ومن مناشدات لا تقوم إلا بتعميق إحباط الجمهور العربي ويأسه وقنوطه. وبالمثل، ليس هناك أي أمل في أن يتخذ المجتمع الدولي ممثلا بالأمم المتحدة ومجلس الأمن أي قرار يردع الاحتلال ويحد من إرادة العداون أو تشتم منه حتى رائحة الإدانة الحقيقية لاسرائيل.

6- نستنتج من هذا أن القضية ترجع إلينا نحن، أي لمقدرتنا على التعامل داخل محيط إقليمي متخاذل أو مشلول الإرادة، وبيئة دولية ضالعة مع الاحتلال أو غير مكترثة بنا. وعلينا نحن أن نفكر كيف ننقذ رهاناتنا الوطنية ونعمل من أجل الخروج من الحصار المادي، لكن أيضا السياسي والاستراتيجي، المفروض علينا، وهو الأهم. ويبدو لي أن الوقت قد حان للاعتراف بأن جوهر المأساة التي نعيشها قائم في أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية الذي يتجلى عبر انقسامها السياسي الخطير، وترهل القسم الأكبر من إطاراتها السياسية والقيادية القديمة، وتراجع فاعلية مؤسساتها وتنظيماتها المختلفة، وتشوش تفكيرها. وريما كان التعبير الأوضح عن هذه الأزمة انفراد حماس بالسلطة في غزة، وانكفاء فتح على الضفة الغربية، ودخول الطرفين في محاور إقليمية ودولية متنازعة للدفاع عن أنفسهما والحفاظ على سلطتيهما، أي على الانقسام الفلسطيني الفلسطيني.
وكان من المتوقع، كما حصل بالفعل، أن تستقطب غزة في السنتين الماضيتين نقمة القوى الإقليمية والدولية المعادية للمحور الذي تنتمي إليه حماس، وان يصبح الصراع على السيطرة عليها جزءا من الصراع على الهيمنة الإقليمية. وكان هذا هو أحد المحاذير الرئيسية، التي أشرت إليها في وقتها، من استفراد حماس، بالسلطة فيها، حتى لو استند ذلك إلى الشرعية الانتخابية والقانونية الفلسطينية. وقد أظهرت السنوات القليلة الماضية المردود العكسي لاستفراد القوى الاسلامية بالسلطة ونتائجه السلبية. فالحركات الاسلامية، عموما، منتجة في المقاومة، ربما أكثر من الحركات القومية أو الوطنية أو العلمانية. فهي تحظى برصيد من العطف الشعبي يقوم على قاعدة قوية من الأفكار والاعتقادات والرموز التي بقيت وحدها حية بعد الزلزال الذي أصاب الايديولوجيات الكلاسيكية اليسارية والليبرالية في مجتمعاتنا. لكنها غير منتجة، بل ذات نتائج معاكسة، في الحكم، لأنها تحرم الشعب الذي تحكمه من أي هامش مناورة أو مبادرة سياسية على الساحة الإقليمية والدولية معا.
فالعالم كله، بحكوماته ورأيه العام معبأ ضد الحركات الاسلامية التي يطابق بينها والعنف والإرهاب والتعصب والردة للماضي والظلامية. وليس هناك أي فائدة في أن تحمل القضية الوطنية لأي شعب عبء هذه الصورة المروعة، التي نجمت عن وقائع جزئية فعلية، مثل ممارسات بعض فرق السلفية الجهادية، لكن بشكل أكبر عن عملية غسل الدماغ المتواصل والواسع النطاق التي مارستها أجهزة الإعلام وبعض المثقفين الغربيين أيضا على الرأي العام العالمي. ولذلك عندما تستلم حركة إسلامية الحكم لا تدفع إلى عزل الشعب الذي تريد أن تقوده، حتى لو كان مجمعا عليها، عن العالم فحسب، وهذا ما حصل لغزة، حتى على المستوى العربي، وهو ما يحصل لايران وما حصل لأفغانستان وللسودان من قبل، وإنما تجعل من مهاجمته ومعاقبته هدفا للنظام الدولي بأكمله. وهذا ما يفسر ضلوع هذا النظام الدولي الفعلي مع القنابل الإسرائيلية التي تسقط على شعب غزة، إلى درجة سوى بيان الامم المتحدة فيها بين العنف الاسرائيلي وعنف حماس، وبرر بصورة غير مباشرة العدوان الاسرائيلي باعتباره نوعا من رد الفعل. أقصى ما يمكن أن ننتظره للأسف من الرأي العام العالمي اليوم هو أن يقول إن العنف الاسرائيلي لا يتناسب مع العنف الفلسطيني. لكن من وراء كل ذلك ضاعت القضية الرئيسية التي تتجاوز العنف من أي طرف جاء، وأعني قضية الاحتلال.
والحال إن ما ينبغي علينا أن نفعله هو تجنب كل ما من شأنه أن يغطي على القضية المركزية في النزاع العربي الاسرائيلي، وهي قضية الاحتلال، والاستعمار المرتبط به، ولا نقدم لاسرائيل وأبواقها الدولية القوية مايساعدها على التشويش على الرأي العام الدولي.
وبالمثل، لا بد لنا من مراجعة استراتيجية المقاومة اليومية. فلا ينبغي استخدام العنف الشرعي والمشروع الذي يخوله لنا حق الدفاع عن النفس وطرد الاحتلال لتنفيس عن الغضب وإلهاب المشاعر والتغطية على الشعور بالعجز واليأس والإحباط، وإنما أن نوفره للاستخدام الناجع ضمن رؤية استراتيجية وخطة مقاومة منظمة وطويلة النفس تهدف إلى فضح الاحتلال وتعريته واقتلاعه. فليس المطلوب مقاومة تعبر عن الوجود وإنما تغير الواقع الموجود، وتبديل الأوضاع السلبية القائمة.
وهذا يحتاج إلى تغليب النظرة العملية، أي المحققة لنتائج على الأرض، لا المنفسة عن مشاعر الغضب، كما يحتاج إلى بلورة خطة عمل للمقاومة تتجاوز رد الفعل على الاعتداءات الاسرائيلية، تؤلف بين أوسع قطاعات الرأي العام الفلسطيني، كما يحتاج إلى ضمان الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتوسيع هامش مبادرة الشعب الفلسطيني السياسية في المنطقة وعلى الساحة الدولية. ولا يمكن لقيادة مطبوعة بالصبغة الدينية، مهما كان إخلاصها للقضية وحماسها لها، أن تحقق هذه الشروط في الظروف الراهنة. لكن بإمكان مثل هذه الحركة أن تلعب بامتياز دورا مركزيا في المقاومة، وتترك لقوى أخرى، وطنية جامعة، مسألة قيادة سلطة لا تزال، مهما كابرنا على أنفسنا، تستمد شرعيتها من الاحتلال وتتبع له عمليا في كل شيء.
7- لم تعد هناك أختيارات كثيرة اليوم. فقد قطع العدوان الاسرائيلي الراهن، الذي جاء تتويجا لإخفاق محادثات رأب الصدع الفلسطيني، واستفاد منه إلى حد كبير، الطريق امام أي تفاهم بين حماس وفتح. فكما أصبح من الصعب على حماس أن تقبل بما كانت ترفضه من قبل من دون أن تعطي ثمنا للعدوان، أصبح من الصعب على السلطة الفلسطينية، التي أخفقت هي أيضا في الحفاظ على وحدة الصف الفلسطيني بسبب سياساتها العصبوية، وفساد جزء كبير من كادرها واستقالتها السياسية، في أن تقبل بما سيترجم من قبل إسرائيل على أنه إعادة الاعتبار لحماس وسلطتها في غزة.
أفضل ما يمكن أن تفعله حماس هو أن تعمل على إعادة بناء السلطة في غزة على أسس جديدة تضمن التعددية السياسية ومشاركة كبيرة لقوى وطنية مستقلة، على طريق التمهيد لمفاوضات جديدة مع السلطة في الضفة، لا من أجل تقاسم المناصب مناصفة، وإنما من أجل توسيع مفهوم حكومة الوحدة الوطنية التعددية، وتعميمها على جميع المناطق الفلسطينية. ولن يتحقق ذلك إلا على حساب فتح وحماس واستفرادهما بالقضية معا، وبقبولهما الطوعي بتقليص وزنهما في الحكومة الموحدة القادمة، ودفع ثمن النكسة الخطيرة التي أصابت القضية الفلسطينية في السنتين الماضيتين. ولا أزال أعتقد أن من مصلحة حماس والقضية الفلسطينية ان تعف عن الانفراد بالسلطة، وأن تفاوض على نجاحها الانتخابي مقابل تأليف مثل هذه الحكومة الوطنية الواسعة التي لا تبقي السلطة احتكارا لفتح أو لفريق محمود عباس، ولا تقسمها بين فريقين متنابذين، وتقسم فلسطين المحتلة معها.
هذا هو طريق التفاهم الوطني مع ضمان الغاية الرئيسية منه، وهي امران مترابطان ومتكاملان: توسيع قاعدة الحركة الوطنية والوحدة الفلسطينية من جهة والحفاظ على خط المقاومة للاحتلال من جهة ثانية. وكل ما عدا ذلك ينبغي أن يخضع لهذه الغاية ويصب فيها.
هذا يعني أن الحل قائم عند الفلسطينيين أنفسهم، وليس في أي مكان آخر. ولا تجدي المراهنة على الأطراف الخارجية مهما كانت، عربية أو دولية. فإذا رفض الفلسطينيون أن يقوموا بواجبهم تجاه قضيتهم، فلن يقوم بهذا الواجب أي طرف آخر عوضا عنهم. وإذا لم يقتنع الفلسطينيون بضرورة العمل جبهة واحدة للاحتفاظ بمقدرتهم على مقاومة الاحتلال، فلن تفيدهم وساطة أحد ولا ضغوطه ولا تأييده. فلا يتدخل أي طرف من الاطراف العربية والإقليمية إلا لخدمة مصالحه السياسية والاستراتيجية، ولن يكون حافزه سوى استغلال النزاع الفلسطيني الفلسطيني من أجل تحقيق أهدافه الخاصة. ولا يعني توسيط هذا الطرف الخارجي أو ذاك، سواء اكان الطلب من قيادة فتح او حماس، سوى التهرب من استحقاقات الاتفاق الجدي، والتمسك بالسلطة، حتى لو كانت على حساب القضية الوطنية وعلى أنقاضها.

mercredi, décembre 17, 2008

في ما بعد الجماعة الدينية والأمة السياسية

الاتحاد 17 ديسمبر 08
حررت السياسة، بما أبدعته من ادوات، في مقدمها الدولة الحديثة القانونية والديمقراطية، الفرد من الوصاية الدينية والقبلية والعائلية، وأنتجت نظما اجتماعية استثنائية في ما طورته من قيم التسامح والتضامن والشفافية والعدالة والحرية والمساواة، وما قدمته من فرص الازدهار المادي والاجتماعي، لم تعرفها البشرية من قبل. وهكذا حصلت إعادة بناء العالم بسرعة مذهلة في القرن الماضي على أساس نموذج الدولة الأمة التي تحول جميع الأفراد إلى مواطنين، أي شركاء سياسيين.
بيد أن نظام الدولة والسياسة هذا الذي راهنت جميع الشعوب عليه لتخليصها من ذل القرون الوسطى وجوعها وخوفها وإحباطها المادي والروحي، لم يلبث، في موازاة التوسع في تطبيقه، أن ولد نظاما عالميا، جامعا لدول لا تتمتع جميعا بالفرص نفسها ولا بالموارد والخبرات ذاتها. فأصبح هذا النظام هو نفسه المولد لنظام دولي تراتبي، يقسم العالم بين دول مسيطرة ومسيطر عليها، دول حرة تملك أدوات التحكم بالسياسة ونظامها الدولي، وتوجهه لخدمة مصالحها الوطنية، فتصح دول شعوبها، ودول تابعة، مسلتبة الإرادة لا قدرة لها على التعبير عن نفسها، ولا تملك فرص توليد جماعة سياسية حقيقية، أي في الواقع بين دول سيدة مؤسسة لأمة واخرى مفتقرة لأي سيادة، وغير قادرة على تأسيس أي جماعة وطنية.
ولأن إخضاع الدول الضعيفة لصالح الدول القوية يشكل في هذا النظام شرطا أساسا لتحقيق السيادة وضمان الوحدة الداخلية وتوسيع دائرة التنمية الاقتصادية في المركز، قادت إعادة تنظيم العالم على حسب نموذج نظام الدولة الأمة منذ ولادته في اتفاقية وستفاليا في القرن السادس عشر، إلى تعميم نوع جديد من الحروب والنزاعات، تختلف عن حروب الفتح والغزو التقليدية، وهي ما نسميه بحروب الاستعمار والامبريالية. وأصبح التنافس بين الدول الحديثة على عناصر السيادة والاستقلال والتنمية البشرية أكبر مصدر للاقتتال والتدمير المتبادل لبني الانسان. وبعد أن كان نظام السياسة نظام انعتاق للأفراد من أسر الولاءات الدينية، واتحادهم في بوتقة القيم والقوانين والمؤسسات القانونية الجامعة والزمنية، أصبح النظام الدولي الذي نشأ عن تعميم نموذج الدولة الوطنية الحديثة نفسه يقوم على استعباد القسم الأكبر من المجتمعات الانسانية، وإقصائها وتكريس تخلفها وانحطاطها.
وهكذا ما كان من الممكن لنظام الدولة الوطنية المعمم إلا أن يولد، بموازاة عملية انتشاره، في مواقع وعبر سياقات مختلفة ومتباينة، وكنقيض له، كيانات شبيهة بالدولة ولكنها ليست في الواقع إلا مقلوبها، أي "نيغاتيف" الدولة. وصارت هذه الدولة المضادة أو مسخ الدولة أقوى أداة لاستعباد الشعوب وتكبيلها ونزع هويتها الجمعية نفسها على مستوى العالم. فبدل أن تكون مؤسسة لأمة وجماعة وطنية تتحول هذه الدولة المسخ هي نفسها إلى مولدة لعصبية خاصة موازية للعصبية الجمعية ومسيطرة عليها. وعلى المجتمع الخضوع لمنطق دولة العصبية واحتياجاتها الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية وليس العكس.
في هذه الحالة المجتمع هو الذي يضع نفسه في خدمة الدولة، أي في خدمة العصبة التي تسيطر عليها وتنتظم من خلالها في عصبية خاصة، وليست الدولة هي التي تضع نفسها، عبر السياسة، في خدمة المجتمع الذي تسيره وتستمد منه القوة والشرعية. بالمقابل لا يمكن للدولة المضادة أن تقوم إلا بقدر ما تنجح في السيطرة على مجتمعها من الخارج وضد إرادته المستقلة وعلى أنقاض استقلالية عناصره. ويستدعي قيامها بالضرورة حيازة مصادر للقوة من خارج مجتمعاتها، سواء عنينا بالتخارج الالتحاق بعصبية "طبيعية" لا سياسية، أو التعلق بمصادر قوة أجنبية ناجمة عن الالتحاق باستراتيجيات الدول الكبرى المهيمنة. وتكمن في هذه الخارجية أهم موارد الدولة المضادة ورصيدها وشرعيتها. وغالبا ما يتحد العاملان، العصبية الطبيعية والتبعية الخارجية، فتتحول الدولة المذكورة إلى وكالة خاصة تستخدمها الدول السيدة الحقيقية في سبيل ضبط المجتمعات وجماعات اللادولة، أو التي أخفقت في بناء دولة أمة بالمعني الفعلي للكلمة، أو التي لا تسمح لها مواردها وشروط وجودها بالوصول إلى مستوى الجماعة الدولة. فهي كيانات تتأسس على التقاء قانون الغزو القديم (في الداخل) وقانون الخضوع للقوة على صعيد النظام الدولي الذي يحدد وظيفتها ودورها ورسالتها.
من هنا أصبحت الدولة الحديثة، في الجزء الأكبر من المعمورة، أكبر مصدر للقهر والاستلاب وانعدام الأمل والأفق معا. وهي السجن الأكبر لغالبية سكان الأرض، ومصدر. الآلام والمعاناة والقهر الدائم لمليارات البشر. وبعد أن كانت حلما عند كل الشعوب، باعتبارها منبع الحرية والسيادة والتنمية والتقدم، كما عبرت عن ذلك حركات التحرر الوطني التي غطت أكثر من قرن من التاريخ، أصبحت كابوسا لمعظم الشعوب. فهي مصدر العنف الرئيسي الذي تستخدمه الدول الكبرى في محيطها لفرض وجودها ومواجهة الدول الأخرى، كما تستخدمه الدولة المسخ في مواجهة شعوبها التي خاب أملها فيها، ولم تعد تنتظر منها توفير أي حقوق وحريات أو تحقيق مكتسبات لا مقدرة لها عليها في ظروفها القائمة.
من هنا تولد الحاجة إلى ثورة ما بعد سياسية، تتجاوز السياسة القومية ومنطقها التنافسي، لتؤسس لسياسة عالمية تتفق وتنامي ترابط المصالح بين الشعوب وتعاظم التداخل في المصائر البشرية. ولا يعني تجاوز السياسة ونظامها الدولوي تدميرها، تماما كما لم يعن تجاوز نظام الجماعة الدينية نحو الدولة القانونية القضاء على الدين، وإنما عنى فتح سجل جديد للتواصل والتعارف والتعاون والتضامن بين البشر، بموازاتها وعبر حدودها، مع الإبقاء عليها كآطر إسناد وتدعيم لسياسة شمولية تقوم على تطبيق برامج ذات مضامين ودائرة تنفيذ ومعايير عقلانية أكثر شمولا وأوسع أفقا، تضع في مجال العمل المشترك والتعاون شعوبا أو أجزاءا وأطرافا من شعوب متعددة، وتدفع إلى بناء مصالح مشتركة عابرة للحدود لا يمكن نشوؤها بالبقاء في حدود منطق الدولة (التي لم يعد لها علاقة فعلية بالأمة) ومعاييرها وتحديداتها القانونية والدستورية.
فليس هدف السياسة العالمية إلغاء الحريات والحقوق الإنسانية التي ولدتها الثورة السياسية، وإنما بالعكس، التحقيق الواسع لقيم السياسة، من حريات وحقوق وعدالة ومساواة وتعاون وسلام، أي زيادة فرص الاختيار عند الناس جميعا، لم يكن من الممكن تعميمها في إطار نظام الدولة القومية. فلا يشكل بناء النظام الجديد بالضرورة قطيعة مع الدولة القانونية الديمقراطية، ولا يتناقض معها. بالعكس إنه يستخدمها ويحتاج إلى تعزيزها بشكل أكبر، باعتبارها أداته الرئيسية في بناء مصالح ومؤسسات ومسؤوليات عالمية مشتركة تجمع بين أفراد ينتمون إلى شعوب متعددة وتوحدهم عبر العالم.

هذا ما يستدعي اكتشاف صيغ لتنظيم الجهد الانساني من وراء حدود الدول، ويناء شبكة علاقات عابرة للدول ومولدة لوعي إنساني وآليات تعاون وتضامن مختلفة عن الآليات القومية المعروفة. ومن الواضح أن الاتجاه العفوي الذي اتخذه الرد على أزمة الرأسمالية العالمية الجديدة كان تطوير التفكير على مستوى عالمي، والنزوع إلى إشراك جميع الدول في ايجاد الحلول. وربما بشر مثل هذا الرد بولادة مجتمع عالمي بدأت ملامحه بالتبلور منذ بضعة عقود، عبر نشاط الجماعات المدنية التي تلتقي عبر الحدود وتدافع عن قضايا وقيم ومباديء وغايات واحدة، بصرف النظر عن أصول أعضائها القومية وولاءاتهم السياسية والدينية. لكن المطلوب اليوم هو استكمال النشاط المدني العالمي الذي نما في الماضي عبر الحدود بنشاط سياسي عالمي، منظم ومنسق، لا يستبعد أن يقود في المستقبل إلى إقامة نوع من الحكومة العالمية التي تطبق سياسات متجاوزة للوطنية، أي لا تقتصر في اعتباراتها وحساباتها على خدمة مصالح الجماعات التابعة للدول، كما في الدول الصناعية الكبيرة، ولا من باب أولى على خدمة مصالح النخب المسيطرة عليها، كما هو حال أشباه الدول، ولكن توجهها اعتبارات وحسابات إنسانية كوكبية. وربما لم تكن النزعة الامبرطورية الامريكي التي قادت، بمساعدة سياسات الرئيس بوش الابن، إلى الأزمة العالمية الأخطر التي عرفها الاقتصاد الدولي منذ نشوئه، والتي فجرتها عوامل التنافس والنزاع لتأكيد أسبقية الولايات المتحدة وقيادتها العالمية وتفوقها في جميع الحقول على منافسيها وخصومها، إلا برهانا على وجود هذه الحاجة إلى سياسة عالمية بديلة ومصادرة لها في الوقت نفسه.

mercredi, décembre 03, 2008

في موت السياسة وغياب القانون

الاتحاد 3 ديسمبر 08

ما الذي يفسر ما تعرفه المجتمعات العربية من استهتار بالحياة القانونية على مستوى الدولة والمجتمع معا، وارتدادها نحو العصبية والتضامنات البدائية والاستسلام لغريزة الاقتتال والعنف؟ سؤال فاجأني به أحد مسؤولي منظمات حقوق الإنسان الدولية. في زيارته الأخيرة لباريس. وبالفعل لا يمكن للمراقب المحايد أن ينكر أن أكثر ما يسم وضع المجتمعات العربية الراهنة هو غياب احترام القانون وضعف الحوافز الأخلاقية، إلى درجة يبدو فيها وكأن القوة وحدها هي التي تقوم فيها بترتيب العلاقات وأشكال الانتظام الفكرية والسياسية والاجتماعية، التي تمتد من العائلة إلى الدولة. ولا يكاد سلوك أو جهد يقوم على أصول أو قواعد مرعية واضحة، وكل ما نقوم به، من التربية الفردية إلى الحرب، يجري تقريبا خارج أي مثال أو أطر واضحة فقهية وعلمية وسياسية، كما لو أن التقاليد التي درجت النظم عليها، بما تمثله من خبرة مختزنة وثابتة مستمدة من التجربة الانسانية الطويلة، قد ضاعت تماما، ولم يعد هناك أي مرجعية واضحة يستند إليها الفرد أو الجماعة أو الدولة في أفعالهم أو ترتيب شؤونهم وحقول ممارستهم. لا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يثير تساؤلات عديدة، خاصة عندما يتذكر المرء ما حفلت به الحضارة العربية من تراث فقهي وتعلق بالتقاليد واحترام شديد للشرعية والأصول المرعية.
هناك في نظري أربع تجارب أو بالأحرى محن تفسر ربما هذا الانهيار في معنى القانون في المجتمعات العربية. الأولى هي المحنة الاستعمارية. فبالرغم من تحديثها للدولة وإدارتها ومؤسساتها القانونية والقضائية، إلا أنها قوضت معنى القانون باستخدامها لتطبيقه في حقل العلاقات المدنية كغطاء لممارسة عامة غير شرعية وغير قانونية، وبقدر ما أدخلت من مفاهيم ومعايير وقيم مرتبطة بالحرية والعدالة والمساواة لتبرير تدخلها في الشؤون العربية، شكل حكمها نفسه نفيا عمليا يوميا للعنصر الرئيسي الذي تصدر عنه هذه القيم والمعايير القانونية، وهو الإرادة الوطنية والسيادة السياسية. وبينما تذرعت بتعليم شعوبنا القانون، لم يقم وجودها إلا على أساس القوة والقهر والإكراه. فالسلطة الاستعمارية هي التي أعطت المثال الأول والأهم على اغتصاب إرادة المجتمعات والجماعات والأفراد وحكمهم خارج القانون وضد إرادتهم أو بالرغم منهم. هل هناك مثال لتلاعب الاحتلال والاستعمار بمفهوم القانون والشرعية أفضل من مثال احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق عام 2003؟ فكيف يمكن، بعد تجربة معسكرات عوانتانامو، وممارسة أقسى أنواع الإذلال والإهانة النفسية والجسدية التي فضحتها الصحافة الدولية، وهي ليست إلا التتويج الأخير للممارسة والسياسة الاستعماريتين في البلاد الضعيفة، والعربية منها بشكل خاص، بعث الثقة بالقانون أو الايمان بشرعة دولية أو بقيم تضامن إنسانية ما فوق قومية؟
التجربة الثانية التي ساهمت في تدمير تقاليد الشرعية والأصول القانونية، وعلمت الناس الايمان بتفوق مبدأ القوة على الحق، ونجاعة خرق القانون وسهولته، جاء على يد الاستيطان اليهودي في فلسطين. فقد اتبع هذا الاستيطان التقليد الاستعماري ذاته، لكن مع تحويله إلى كاريكاتير لدرجة أصبحت الهوة لا تعبر بين الخطاب القانوني والإنساني المعلن والممارسة العملية، القائمة على التوسع من دون حدود في استخدام القوة، والرهان الوحيد عليها لضمان وجود الطعم الاستيطاني اليهودي في فلسطين واستمراره. باستخدامها خرق القانون والاعتداء على الحريات الفردية وانتزاع الملكية والاحتيال على القوانين الدولية والابتزاز بصورة الضحية لتحقيق مصالح استعمارية آنية وبعيدة المدى معا، وبإهدارها حقوق الناس ومصالحهم، شكل قيام الدولة اليهودية الاستيطانية ضربة قاصمة لمفهوم الحق والقانون والعدالة والانسانية، وأحدث شرخا عميقا في الصمير الانساني والوعي القانوني عند أي عربي عاش التجربة الاستيطانية أو قرأ عنها. فهل يمكن لحرب التطهير العرقي التي حصلت في فلسطين الحديثة أن تبقي أي احترام لقيم انسانية مشتركة أو تترك معنى لفكرة حكم القانون وأسبقيته على القوة، مهما كان محدودا. وكيف لا يلتف الناس حول ميليشياتهم الذاتية ولا تراهنون على القوة وينتجونها خارج القانون وضده، عندما يتعرضون خلال عقود طويلة للقصف العشوائي والقاتل دون أن يحميهم أي قانون أو ترد عنهم الأذى أي دولة أو منظمة دولية؟
أما التجربة الثالثة التي تعلم منها العرب فراغ القانون من أي معنى ومضمون فهو حكم النظم العربية التسلطية الذي يقوم منذ عقود على غير قانون، أي على الشهوة كما يقول فقهاء السياسة القدماء، وإرادة التسلط والاستبداد بالرأي والعسف اليومي. فليس هناك مثال لحكم القوة والحكم بالقوة ضد القانون، واغتصاب إرادة الشعب، واعتقاداته العميقة، أفصح من نموذج النظم السياسية العربية. فهي إلا ما ندر تنفي الحقوق الطبيعية، وتتصرف بوصفها وصية أبدية على شعوبها، وتجعل من الأفراد أدوات مسيرة من قبل السلطة، لا فائدة لها في استخدام العقل ولا في التفكير في مستقبل المجتمع. فالقانون الوحيد السائد هنا هو خرق القانون، والتجريد العملي والرسمي من الحقوق المدنية والسياسية، والإذعان لإرادة السلطة وأحكامها. القانون هو إرادة الفرد الإله الحاكم، وما يصدر عنه من قول أو عمل أو سلوك، فهو أب الأمة ومربيها ومعلمها وملهمها وسيدها المطلق. وهو صانع القانون ومصدر التشريعات ومبدع السنن والتقاليد، لا شيء قبله ولا شيء بعده. وجميع الأفراد يعيشون من فضله وكرمه وتحت رعايته الشاملة.
أما التجربة الرابعة التي قضت على ما يمكن أن يكون قد تبقى من معنى الحق والقانون بكل المعاني الممكنة، فهو الأصولية الدينية التي تلغي الدولة من الذهن وتتصرف وتربي الأفراد على العيش في نموذج من العلاقات الاجتماعية ماقبل دولوي، يضع الجماعة وتقاليدها وهويتها وعصبيتها قبل المؤسسات القانونية وخارجها. وهذا هو في الواقع المعنى الوحيد لقانون الشريعة الدينية الذي يسعى الاصوليون إلى نشر فكرته وتطبيقه إذا أمكن بدل القانون السياسي في إطار الدولة. مما يعني الانتقال من مناهضة الدولة القانونية كمفهوم وكفكرة ناظمة للحقيقة الاجتماعية، إلى إلغاء الدولة من الوجود وإحلال منطق العصبية والجماعة الدينية محلها.

في غياب القانون، وانعدام الايمان به، والشك بجدواه، أو غياب أي رغبة للحديث فيه، لا يبقى حاكما في المجتمعات إلا القوة. وبالقوة وحدها يمكن لمن يسيطر على مقاليد الأمر من النخب السائدة أن يحتفظ بسيطرته، داخل الجماعة وداخل الدولة الجماعة معا. وبالعنف المرتبط بالقوة يستطيع أن يحل خلافاته مع من يخالفه في الرأي أو الموقع أو السلطة. فقانون القوة هو العنف والقهر والإكراه. وليس للعرب اليوم حياة جمعية سوى حياة العنف والإكراه. ولذلك ليس بمقدروهم أيضا أن يتصوروا حياة مدنية قائمة على تبادل الاحترام والثقة والمصالح والمعاني والرموز، أو على التفاهم والتواصل عبر قوانين وأصول إجرائية منظمة وثابتة. وهذا هو أحد أركان الهمجية التي تعرفها مجتمعاتنا، وتتجلى عبر الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي واستسهال سفك الدماء والقتل والسجن والاعتقال، والسكوت على انتهاك الحقوق والمحرمات، وعبادة القوة والتسليم للأقوى. فلا حياة مدنية هناك، ولا حضارة. فالمدنية تعني قبل أي شيء آخر تطور الحياة الأخلاقية والقانونية التي تؤسس لتنظيم العلاقات بين الأفراد على مباديء أخلاقية ثابتة ومعروفة، وتسمح بحل النزاعات والخلافات في النظر والمصالح معا بوسائل سلمية، أي عن طريق الحوار والتفاهم والتسويات القائمة على تنازلات، أو بالأحرى مساهمات، مقبولة من جميع الأطراف.