mercredi, février 24, 2010

محنة العراق بين الطائفية والضحالة السياسية

وغالبا ما تكون الضحية الرئيسية لتقليص الإنفاق الحكومي في الميادين الأخرى لصالح تنمية وسائل الأمن هي ميادين النشاطات التي لا تعطي فائدة ومردودا مباشرين وسريعين. فلا شك أن رشوة الزبائن والمقربين تبدو ذات نجاعة أكبر في منظور هذا الوضع السياسي القائم على مبدأ التنازع على البقاء لا على مبدأ تنمية المنافع المتبادلة لجميع السكان، من أي استثمارات علمية أو ثقافية.

ومن الطبيعي أن تكون قطاعات الثقافة والمعرفة والبحث العلمي هي القطاعات التي تتعرض قبل غيرها إلى الإهمال سواء من حيث الاهتمام السياسي أو من حيث تخصيص الاستثمارات المادية. وهذا ما يفسر، أكثر من العوامل الاقتصادية نفسها، ضعف الاستثمار في البحث وتخبط السياسات التعليمية وضآلة الاستثمارات الثقافية وأحيانا انعدامها. ويكفي لإدراك نتائج هذا الوضع مقارنة حصة المخصصات للبحث العلمي في البلاد العربية مع مثيلاتها في العالم الصناعي - بل حتى في البلدان النامية نفسها من الناتج المحلي. إذ لا يتجاوز نصيب البحث العلمي والتقني في البلاد العربية سوى 2 بالألف من الناتج المحلي مقابل ما يزيد عن 2 بالمئة بالنسبة لمعظم الدول الصناعية ( تتراوح النسبة بين 2.5%- 5.00%). وبالإضافة إلى ذلك، يأتي 89% من الإنفاق على البحث والتطوير في البلدان العربية من مصادر حكومية، ولا تخصص القطاعات الإنتاجية والخدمية سوى 3% فقط من هذه المصادر، بينما تزيد هذه النسبة في الدول المتقدمة عن 50%. التقرير الثاني للأمم المتحدة عن التنمية الانسانية في المنطقة العربية 2002

فلا يحرم الفقر الغالبية العظمى من الجمهور من القدرة على النفاذ إلى المعرفة والثقافة فحسب ولكن التدهور المستمر في قيمة مرتبات وأجور العاملين في حقول المعرفة من تعليم وعلم وبحث وتجديد يدفع قسما كبيرا من المعلمين والأساتذة إلى التخلي عن مسؤولياتهم وعدم الوفاء بالتزاماتهم مفضلين استخدام المؤسسات العلمية والتعليمية في سبيل تكوين زبائن لهم وإجبار طلبة العلم على دفع دروس خصوصية كشرط لنجاحهم في الامتحان. مما يشكل بداية فوضوية لعملية تخصيص التعليم والدراسة. بل إن ضعف المرتبات قد جعل بعض المدرسين في بعض الجامعات العربية يقايضون نجاح الطلبة في مادتهم الخاصة بمبالغ معلومة من المال. كما أدى ضعف المرتبات التي يتقاضاها رجال العلم والتعليم إلى تنمية استعدادات عميقة لدى الأطر المكونة العلمية والتقنية إلى الهجرة والبحث في بلاد أخرى عن وسيلة للعيش الكريم. ويكاد العالم العربي يشكل اليوم الخزان الأكبر لأصحاب الكفاءات والمهارات المرشحين للهجرة الدولية بالمقارنة مع جميع المجتمعات الاخرى الكبيرة.

ولا ينجم عن ذلك فقر في الأطر العلمية والتقنية مستمر بالرغم من النفقات المتزايدة في التعليم فحسب، ولا قصور في إنتاج المعارف الضرورية للتسيير الاقتصادي والإداري ولكن، أكثر من ذلك، تراجع إن لم نقل انعدام الطلب الاجتماعي نفسه على المعرفة. فالمعلمون والأساتذة والمدرسون والباحثون والمبدعون على اختلاف أنواعهم لا يملكون بمرتباتهم الضئيلة القدرة على اقتناء منتجات المعرفة ووسائل اكتسابها أو الاستقاء منها، سواء أكان ذلك على شكل شراء السلع المعرفية كالكتب والموسوعات والمؤلفات العلمية، أو على شكل مشاركة في الندوات والمؤتمرات العلمية، أو على شكل اشتراكات في دوريات علمية ومعرفية مختلفة. بل إن معظم العاملين في الحقول المعرفية يضطرون في البلاد العربية إلى القيام بأعمال لا تتعلق باختصاصاتهم الأصلية في سبيل تأمين الحد الأدنى من متطلبات حياتهم اليومية.

وتعمل الإدارة البيرقراطية المرتبطة بالحكم المطلق وانعدام المساءلة والمحاسبة السياسيين والتي سيطرت على الإدارة الاقتصادية العربية لعقود طويلة ولا تزال، في البلدان التي كانت تتبع اقتصاد التخطيط وتلك التي كانت تنتمي للاقتصاد الحر، على إضعاف الطلب الاقتصادي على المعرفة والتجديد العلمي والتقني بقدر ما تدعم اقتصاد المضاربة الذي يستفيد من الصلات الخاصة التي تقوم بين الإدارة ورجال الأعمال لفرض منطق الاحتكار. وحتى عندما توجد قوانين تسمح ببعض المنافسة، كما هو الحال اليوم بعد تطبيق مشاريع التعديل الهيكلي والاصلاح الاقتصادي والانفتاح، فإن فساد النظم المجتمعية والسياسية الذي يتجلى في التفاهم العميق بين النخب السياسية ونخب رجال المال والأعمال يقود إلى تكوين شبكات مصالح قوية تتقاسم المنافع والمصالح في ما بينها على الطريقة المافيوزية. وفي غياب المنافسة النزيهة بين الشركات المنتجة لا يبقى هناك سبب لتنمية الطلب على الخبرة والتقانة، إذ تبقى العلاقات العامة والزبائنية بين رجال الأعمال ورجال السلطة أكثر فائدة من تحقيق أي تقدم في الانتاجية أو في الإدارة الاقتصادية.

ومما يضاعف من أثر هذه الإدارة البيرقراطية على التنمية المعرفية وفرة الموارد الريعية وارتفاع نصيبها في الناتج القومي وفي تغذية ميزانيات الدول معا نتيجة الاعتماد المتزايد على تصدير المواد الأولية واستغلال الثروات الطبيعية. فهي تشجع على استسهال استيراد الخبرة والتقنيات الجاهزة بدل العمل على إنتاجها. كما تشجع على تفضيل الخبرة والتقنيات الأجنبية الجاهزة على التقنيات المحلية التي تحتاج إلى الرعاية والاستثمار الأولى.
هذا هو الثمن الكبير الذي تدفعه المجتمعات العربية نتيجة التمسك بنظم إكراهية وبيرقراطية معا. وإلى هذه النظم يرجع نشوء ما يسميه التقرير بالفجوة المعرفية المتوسعة التي يعرفها العالم العربي بالمقارنة مع التقدم العلمي والتقني في العالم أجمع. وهي فجوة تتجلى في نقص الانتاج العلمي والتقني وتخلف بنيات الانتاج الصناعي والاقتصادي عموما وتدهور إنتاجية العمل وتراجع العائد العام من الاستثمارات. وإليها يرجع أيضا غياب البحث العلمي الناجع وفساد نظم التكوين والتأهيل العلمي والتقني، وفي موازاة ذلك ضياع مفهوم الاتقان نفسه والعمل حسب أصول واضحة أو تغييبه داخل المؤسسات والدوائر الاقتصادية والإدارية، والقبول بمفهوم غير مهني وغير احترافي قائم على مبدأ: مشيها اليوم وغدا نرى، في تسيير الأمور والحفاظ على الأوضاع القائمة. ولا يعني ذلك كله في الواقع سوى قتل روح المبادرة والتجديد والإبداع والتحسيين عند جميع العاملين وداخل المجتمع بأسره.

ويبين نصيب الصادرات عالية التقنية من مجمل الصادرات العربية الموقع الأدنى الذي تحتله منطقة " الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، بين مناطق العالم، بما في ذلك مجمل البلدان منخفضة الدخل، في كلا نسبة الصادرات المصنعة (مؤشر على مدى غلبة المواد الأولية في الناتج الاقتصادي) ونسبة صادرات التقانة العالية (مؤشر على مدى كثافة المعرفة في الناتج الاقتصادي).

كما تؤكد المؤشرات الخاصة بعدد براءات الاختراع المسجلة من قبل البلدان العربية ونسبة إنتاج الكتب في العالم العربي درجة التخلف العلمي والتقني للعالم العربي بالمقارنة مع بقية بلاد العالم وموقعه الهامشي في الثورة العلمية والتقنية الراهنة سواء من حيث الانتاج والمشاركة في السوق الواسعة التي تخلقها والتي تشكل أهم سوق متطورة ونشيطة اليوم في الاقتصاد العالمي أو من حيث المشاركة العلمية والفكرية والابداعية. فلا تزيد البراءات المسجلة في أهم وأكبر دولة عربية، مصر، عن 77 براءة خلال الفترة 1980 – 2000 في حين تبلغ في كورية 16328للفترة ذاتها. ولا يتجاوز إنتاج الكتب في البلاد العربية 1,1 من الانتاج العالمي في حين يعد العالم العربي 5 بالمئة من سكان العالم. مع العلم أن نسبة كبيرة من هذا الانتاج مكرسة للكتب الدينية والتراثية.

بيد أن الأثر السلبي الأكبر لفجوة المعرفة لا يظهر للأسف في ضعف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فحسب وإنما يظهر بشكل أكبر وأخطر في عحز البلاد العربية عن إنتاج وسائل دفاعاتها وحمايتها في وجه الاعتداءات والضغوط الخارجية ويحول دون إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة في أخطر مواجهة يتقرر فيها مصير المنطقة، أعني المواجهة العربية الاسرائيلية

mardi, février 16, 2010

غليون من نقد الحداثة إلى نقد الإسلاموية

mercredi, février 10, 2010

ساعة الحقيقة وإرادة الحرب

الاتحاد 10 شباط فبراير 10

يوم الأحد، في الثاني من فبراير 2010، وفي الوقت الذي كان الجيش الاسرائيلي يقوم بمناورات في النقب، قيل أنها تحاكي هجوما على الأراضي السورية، حذر وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك من خطر نشوب "حرب شاملة" بين اسرائيل وسوريا اذا لم يتوصل البلدان الى تسوية سياسية بينهما.

وفي 4 من الشهر نفسه، أي بعد ثلاثة أيام، أعلن وزير الخارجية الاسرائيلي ليبرمان، ردا على تصريحات مسؤولين سوريين، أن على سورية أن تقبل سلاما مع إسرائيل من دون المطالبة بالجولان، مهددا بأن أي حرب جديدة لن تعني هزيمة سورية وإنما أكثر من ذلك إطاحة نظام حكمها. وقال إنه لا يمكن التسامح مع أقوال وزير الخارجية السورية الذي رد ردا سلبيا على دعوة وزير الدفاع الاسرائيلي باراك لتوقيع اتفاقية سلام مع سورية. وختم حديثه بالقول إن تساهل سورية مع الارهاب يجعلها عضوا في محور الشر. ولم ينس ليبرمان في المناسبة أن يؤكد للفلسطينيين، "فياض" و"أبو مازن"، أن رفضهم الدخول مباشرة في المفاوضات لن يحرمهم من الحصول على دولة في غضون سنتين وإنما سوف يجعلهم يخسرون السيطرة على "يهودا والسامرة" كما حصل لهم مع غزة.

لا يعتقد أحد أن مثل هذه المناورات العسكرية والسياسية والخطابية تحمل خطر تفجير نزاع أو اندلاع حرب. والسبب أن إسرائيل التي تواصل تهويد الضفة الغربية والقدس بصورة منهجية، وفي مأمن من أي نقد أو اعتراض، بعد أن أحبطت مبادرة الرئيس الأمريكي لإعادة إطلاق مفاوضات التسوية السياسية من جديد، ليس لها أي مصلحة في قلب الطاولة الآن. أما العرب فهم في عالم آخر تماما، وفي حالة من التفكك والترهل والانقسام تمنعهم حتى من التفكير في ما يحصل في منطقتهم أو على مستواها العام، وأي خروج من الهجوع القطبي المسمى استراتيجية سلام يحتاج إلى سنوات من العمل المضني للم شتات العرب والتوفيق بينهم وبث الحياة فيهم وإقناعهم بوجودهم كطرف سياسي أو عسكري قادر على التفكير والتقرير والمبادرة الجماعية. بينما ليس من الوارد ولا الممكن ولا المحتمل أن يفكر أي طرف منهم على حدة باستراتيجية مواجهة منفردة مع إسرائيل، وليس لأي منهم مصلحة في ذلك. أما الكتلة الغربية، الأمريكية الأوروبية، التي لا تزال تحتكر القرار الدولي في ما يسمى بالشرق الأوسط وتصوغ أجندة المنطقة السياسية، فهي أبعد الأطراف عن الرغبة في التورط في الحرب. وربما لم يكن هناك هدف آخر للانتشار العكسري الواسع الذي قامت به واشنطن في الشهر الماضي في المنطقة سوى قطع الطريق على احتمال نشوء أي توتر أو نزاع أو حرب. وقد فسره العديد من المحللين الاستراتيجيين عن حق بأنه تعبير عن تسليم الولايات المتحدة بالأمر الواقع الذري الايراني، وأن ما تفعله لا يعدو أن يكون تطمينا لحلفائها وسعيا إلى بناء حد أدنى من التوازن الاستراتيجي مع ايران.

إذن ليس هناك بالتأكيد حرب قريبة عربية اسرائيلية. لكن كل ما تقوم به إسرائيل منذ استلام نتنياهو السلطة في تل أبيب هو في المقابل تاكيد لإرادة الحرب.

وبالرغم من محاولة رئيس الوزراء الاسرائيلي الأخيرة طمأنة سورية بعد تصريحات وزير خارجيته النارية، ودعواته المتكررة للاسد من أجل استئناف المفاوضات، وعدم الكلل من تأكيد سعي اسرائيل للسلام والمفاوضات مع دمشق من دون شروط، لم يقم وزير الخارجية الاسرائيلية إلا بالتعبير بصوت عال عما يفكر فيه القادة الاسرائيليون الحاليون، وربما أغلبية النخبة الاسرائيلية، بصوت منخفض حتى لا يسمعهم أحد. فجوهر السياسة الاسرائيلية كان ولا يزال، هضم الأراضي المحتلة في فلسطين وسورية معا، أما الحديث عن السلام والمفاوضات فهي وسيلة لكسب الوقت وتخدير الرأي العام العالمي.

وليست تصريحات ليبرمان هي التي فضحت ذلك وإنما أفعال القادة الاسرائيليين جميعا من كاديميين وليكوديين. يكفي من أجل إدراك ذلك التدقيق في مسار التفاوض العربي الاسرائيلي المستمر من دون ثمرة منذ عقدين. فكلما وصلت المفاوضات إلى نقطة حاسمة وأعتقد الجميع أن الهدف أصبح في متناول اليد، لا يعدم الاسرائيليون وسيلة لإجهاضها أو دفعها إلى الانهيار. أما هذه المرة التي بدا فيها رئيس الدولة الكبرى الحامية لاسرائيل والمنافحة عنها حاسما في بحثه عن الخروج بنتيجة من المفاوضات، عمل الاسرائيليون المستحيل من أجل تقويض انمبادرة من الأساس. ففي الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي ضرورة وقف الاستيطان نشرت الحكومة الاسرائيلية خططا جديدة لتوسيع الاسيتطان في القدس والضفة الغربية. وكلما حاول الامريكيون والاوروبيون رتق الخرق عاد الاسرائيليون لتوسيعه بمبادرات مناقضة. وفي الوقت الذي لا يكف فيه الأوروبيون والأمريكيون عن العمل لإطلاق مفاوضات سورية إسرائيلية جديدة بهدف تشجيع دمشق على الابتعاد عن طهران، لم يجد الاسرائيليون أفضل من تنظيم مناورات عسكرية تمثل هجوما على سورية ثم التهجم على الرئيس السوري نفسه وتهديده لقطع الطريق على أي أمل في بعث مفاوضات السلام.

في اعتقادي أن مبادرة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وهذه هي حسنتها الرئيسية، أوصلت المفاوضات العربية الاسرائيلية إلى نهاية المطاف عندما أعلن أكبر مسؤول أمريكي أنه يريد لهذه المفاوضات أن تحرز نتيجة ملموسة وتنتهي بولادة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. وقد وجدت إسرائيل نفسها أمام تحد حقيقي هو الاختيار أخيرا، وبعد مماطلة وتهرب داما عقودا، بين الالتزام بخوض مفاوضات سياسية جدية أو تمديد الوضع القائم، فاختارت من دون تردد وبغطرسة أساءت لأعظم حلفائها، الحل الأخير. ومعنى هذا الخيار، كما عبر عن ذلك ليبرمان عن حق، أن تل أبيب لن تقبل بتسوية تعيد بموجبها الأراضي العربية المحتلة لأصحابها، لا الجولان ولا الأراضي الفلسطينية.

في هذه الحالة لم تبق تل أبيب للعرب خيارا إلا القبول بالاستسلام أو الاستعداد للحرب. فبقاؤهم مكتوفي اليدين بينما تواصل اسرائيل تهويد الاراضي والقضاء على أمل استعادتها بالطرق السياسية، يعني بوضوح تسليمهم بالأمر الواقع، أي بإملاء إسرائيل إرادتها على المنطقة والتحكم بعد ذلك بكل ما يجري فيها، بما في ذلك تعيين الأنظمة وتغييرها، كما عبر عن ذلك من دون تورية ليبرمان. وثمن القبول بمثل هذا الإملاء سيكون أكبر بكثير، ليس بالنسبة للسلطات والنظم التي تحتل إسرائيل أراضيها فحسب، ولكن للدول العربية بأكملها، بل ولدول المنطقة الأخرى غير العربية، من أي حرب. ولأن إسرائيل تعرف أنها توجه اليوم تحديا للعرب لا يمكن السكوت عنه، فهي معنية، لردعهم عن التفكير بأي تراجع عن خياراتهم السابقة كرد فعل، بأن تسمعهم قعقعة السلاح وجاهزيتها العليا للقتال في أي وقت.

وأخشى أن لا يكون قد بقي للدول العربية، بعد تقويض إسرائيل أسس أي محادثات سلمية، خيار آخر، إذا أرادوا الحفاظ على صدقيتهم وهيبة سلطاتهم، أمام أنفسهم وشعوبهم والرأي العام العالمي، ولم يقبلوا التسليم لاسرائيل باحتكار قرار المنطقة وتحديد اجندتها، سوى العودة الأليمة للحرب. وأنا أعرف أن مثل هذا الخيار لا يقل، في حالتهم اليوم، مرارة عن تجرع كأس السم.

jeudi, février 04, 2010

أفكار لمؤتمر الثقافة العربية

مؤسسة الفكر العربي

في نظري ليست أزمة الثقافة العربية الراهنة إلا جزءا من أزمة الحداثة أو، بشكل أدق، التعبير عن إخفاق مشروع إدخال العالم العربي ومجتمعاته في دائرة الحداثة الفاعلة والمنتجة وتركه، بسبب ذلك، في ما يشبه الفراغ المعياري والايديولوجي والاستراتيجي أيضا، عرضة لكل الهزات والصدمات والمفاجآت.

من هنا، لا تستطيع الثقافة الراهنة، ولن تستطيع، في العالم العربي كما هو الحال في بقية بلاد العالم، أن تقدم من تلقاء نفسها الردود الايجابية والخلاقة المنتظرة على التحديات التي تواجهها اليوم جميع ثقافات العالم، وبشكل خاص الثقافات الضعيفة التي لم تشارك كثيرا في بناء الحداثة الفكرية والمادية معا: تحدي اكتساب المعرفة الابداعية العلمية والتقنية والأدبية والفنية والدينية، وتحدي التأسيس الفكري والأخلاقي للمواطنة الديمقراطية، وتحدي تجاوز الخصوصية للمشاركة الفعالة في بناء الكونية أو العالمية الانسانية الجديدة. إن مثل هذه الردود تتوقف على قدرة المجتمعات والنخب التي توجهها وتقودها على الاستثمار المتجدد في الثقافة وتدعيم وظيفتها وتعزيز مكانتها الاجتماعية.

وأرى أن هناك ثلاث محاور رئيسية لا بد من العمل عليها لإنقاذ مشروع الحداثة العربية المجهض، وهو في جوهره مشروع ثقافي بامتياز:

الأول محور اللغة واللسانيات. فلا تزال الدول العربية تفتقر حتى اليوم إلى سياسة جدية للتعامل مع اللسان العربي، من حيث العمل على تحديثه وتبسيطه ليواكب العصر ويقارع في مجال اللغات العلمية والتقنية الألسن المنافسة، ويستجيب لحركة الابداع العلمي المستمر، ومن حيث تسهيل استيعابه من قبل الناطقين به بالسرعة والكفاءة الكافيتين حتى يصبح أداة تواصل عامة قوية ولغة معرفة وثقافة عليا متسقة معا. وبالرغم من العمليات الواسعة التي تمت لتعريب التعليم في جميع المستويات، بما فيها المستوى الجامعي، في معظم البلاد العربية، لا يزال اللسان العربي يفتقر إلى مرصد للمصطلحات العلمية، وآلية للتدقيق فيها والتحقق منها وتعميم استخدامها من قبل المستعملين لها. كما لا يزال العالم العربي يفتقر لأي بنية أكاديمية موحدة لرعاية الشؤون اللغوية التي هي بالضرورة مشتركة، مما يساهم في ضياع اللسان، وتشويش متزايد في لغة المصطلحات، وإعاقة ولادة لغات علمية منسجمة. ولا تزال أكثر الدول العربية تتردد بين التعريب الشامل والاستخدام المكثف للغات الأجنبية. وقد غيرت بعض الدول خياراتها أكثر من مرة منذ الاستقلال. ويزداد المشهد اللغوي اليوم تشوشا مع انتشار ظاهرة الجامعات الخاصة التي تستخدم اللسان الأجنبي، وبشكل أكبر مع تبني بعض الدول اللسان الانكليزي أو الفرنسي كلغة رسمية في الإدارة أو الشركات الخاصة. والحال لا ثقافة مستقلة ومبدعة من دون لغة مستقلة وواضحة.

والثاني محور التعليم والبحث العلمي المرتبطة به. فبالرغم من الجهود الاستثنائية التي بذلتها الدول العربية لتوسيع دائرة المستفيدين من هذه الخدمة الاجتماعية الكبرى إلا أن الاهتمام بتحسين نوعية التعليم وربطه بمسائل التكوين المهني والتعليم المستمر والتأهيل الاجتماعي بقي ضعيفا جدا إن لم نقل معدوما. وربما كان السبب الرئيسي لذلك كامن في غياب أهداف واضحة ومحددة للتربية والتعليم في جميع مراحلهما وانفصالهما عن عالم العمل والانتاج والاهتمام الاجتماعي. وهكذا لم تنجح الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها الدول العربية في هذا القطاع، من تجنيب الدول العربية التبعية شبه الكاملة في تأمين حاجاتها المعرفية للخارج. فهي لا تزال تستورد الخبرة الفنية والتقنية بكثافة، ولا تزال تعتمد، منذ أكثر من قرن، في تكوين الاطر العلمية والفنية والتقنية المتقدمة، على ايفاد البعثات إلى الدول الأجنبية، كما لا تزال تعتمد في إعداد البرامج التعليمية على المناهج المصاغة لمجتمعات أخرى.

ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يصعب نشوء تقاليد علمية راسخة، أو أن تثمر الجهود الكثيفة عن تكون قطب مستقل للتطور العلمي والتقني يملك ديناميات نموه الداخلية. فكما يظل العلماء والتقنيون منقطعين واحدهم عن الآخر وغير قادرين على التواصل والتعاون بسبب تباين مناهج تكوينهم واختلاف ألسنتهم ولغات اختصاصهم ومرجعياتهم وموارد بحوثهم، تظل ابداعاتهم مرتبطة باستمرار بتبعيتهم لمصادر تكوينهم وإلهامهم. وبقدر ما يمنع هذا التباين في مناهج تلقي العلم والتبعية المتواصلة والمباشرة لمناهله الأجنبية من التواصل والنمو العمودي للمعرفة، يمنع من نشوء بيئة علمية محلية مستقلة أو ذات حد أدنى من الاستقلالية، قادرة على صهر المعارف والخبرات المتباينة المستمدة من مصادر وثقافات أخرى، وتحويلها إلى معرفة محلية، وتكييفها مع حاجات المجتمع المحلي وأولوياته. فالأطر العلمية من فنيين علماء ومفكرين ومبدعين تبقى مشتتة ومتباعدة، تعيش كل فئة منها في مناخ المجتمع الذي استمدت منه معرفتها, ولا تنجح في ايجاد ما يجمع بينها. وهي تظل أيضا بسبب هذا الارتباط بالذات غريبة عن ديناميات مجتمعها وغير قادرة على التأقلم مع حاجاته والرد على طلباته. كما تبقى المعرفة التي تملكها مشتتة وغريبة في معظم الوقت عن المجتمع الذي تعيش فيه. وبقدر ما تفتقر لمرجعية واحدة محلية، تظل الأوساط العلمية مرتبطة بمرجعيات خارجية تجعلها غير قادرة على التفاعل مع بعضها البعض ومع بيئتها الجديدة بصورة إبداعية.

والثالث محور الثقافة بالمعنى الضيق للكلمة، أي من حيث هي نشاطات إبداعية، تتجسد في الفنون والآداب والعلوم الانسانية والاجتماعية وتعنى بتكوين نمط التفكير وحدود المعاني والدلالات التي تجمع بين أفراد المجتمع وتقرب بينهم رغم اختلاف مذاهبهم وعقائدهم. وبناء ثقافة الابداع والتجديد الروحي والفكري مهمة أصعب بكثير من مهام تحديث اللسان وتبسيطه، وتطوير البحث العلمي والتقني. وهي لا تنفصل عن عموم السياسات الاجتماعية والاقتصادية، أي عن نمط التنمية نفسه، في أبعاده السياسية والاقتصادية والروحية. فبقدر ما تكون التنمية ذات رؤية إنسانية أو متمحورة حول الانسان وطامحة إلى تعزيز مكانة الفرد وحرياته وقدراته الابداعية تكون الحاجة أكبر لزيادة الاستثمار في الثقافة وتحويل التنمية نفسها إلى تنمية ثقافية. وبالعكس، بقدر ما تتنكر التنمية للانسان وتركز هدفها على تحقيق الربح التجاري أو بناء القوة الأمنية والتفوق فيها تزول الأهمية النسبية للثقافة ويقل الاهتمام بها ومن ورائها بقيم العقل والحرية والقانون والسلام. وهذا يعني أن الثقافة ليست هي التي تفسر تراجع الوعي الانساني في العالم العربي ولكن إهمال هذه الثقافة وضعف الاستثمار فيها. فلا يمكن لأي ثقافة أن تساهم في التنمية الانسانية وتساهم في تطوير قيم والسلام والعدل والحرية ما لم تتمتع هي نفسها بفرص تنميتها الخاصة.

إن نظم القهر والاستبداد والتمييز بين الجماعات وإقصاء بعضها لصالح البعض الآخر، مثلها مثل نظم احتكار الموارد الوطنية من قبل فئات محدودة وحرمان الأغلبية الاجتماعية منها، وكذلك نظم الاقتصاد القائم على المضاربة والتوزيع المجحف للثروة، لا تستطيع أن تستمر من دون أن تفرض ثقافتها القائمة على نفي الانسان والاستهتار بمصيره وحرمانه من الحريات والحقوق الأساسية التي لا مكان لإبداع أو إنتاج علمي أو تطور أخلاقي من دونها.

وعلى العموم، يشكل غياب سياسات ثقافية وعلمية متسقة، وافتقار العملية التعليمية لأهداف واضحة، وركاكة ثقافة النخبة العليا، أي ثقافة السلطة والإدراة والقيادة، وتخبط السياسات اللغوية وعدم نجاعتها وسيطرة مناخ الاستهلاك الثقافي الرمزي والتعويضي على الانتاج الثقافي وعلى المشاركة الثقافية والعلمية في النشاطات والفعاليات العالمية، وبحث النخب الحاكمة عن المشروعية في نوع من التعبئة الايديولوجية الوطنية والقومية الرخيصة والشكلية تعويضا عن الافتقار للشرعية السياسية، كل ذلك يشكل عوامل رئيسية في إعاقة نمو وتراكم المعرفة العلمية والتقنية ويساهم في تعميم مشاعر الاضطهاد وثقافة الأنانية، ويغذي عند الجميع مشاعر الخوف والانكفاء على الذات والتشكيك بالعالم. فكل هذا يتعارض بالتأكيد مع بناء نظم ثقافية حية، مرضية، وناجعة. ولا يمكن لمثل هذه الثقافة، التي تستحق اسم ثقافة التخلف، أن تشجع على التعلم والتجدد، ولا أن تدفع إلى البحث والمعرفة ولا أن تعمق التفكير المبدع في القضايا الكثيرة المطروحة على أي مشروع يهدف إلى استعادة روح النهضة، سواء أكانت قضايا دينية أم علمية أم اجتماعية أم سياسية أم عالمية إنسانية. النهوض بالثقافة العربية، لغة وأدوات معرفة وفكرا وضميرا هو ما يشكل، كما يبدو لي، موضوع مؤتمر القمة الثقافية القادم ومحور نقاشاته.