mercredi, juillet 30, 2014

الدولة ضد الأمة : صعود الدولة العربية وسقوطها/العربي الجديد


في بداية التسعينات من القرن الماضي، كرست كتابا بعنوان : المحنة العربية، الدولة ضد الأمة، لأرد على الادبيات العالمية التي درجت، في علم الاجتماع والعلاقات الدولية والعلوم السياسية، على تفسير تأخر العالم العربي في الدخول في موجات الديمقراطية الأولى والثانية والثالثة بعوامل ثقافية أو انتربولوجية أي بسبب تراثه التاريخي الثقافي والديني والاجتماعي، الموسوم بالتقليد والمحافطة. وكان المقصود به الاشارة إلى الاسلام وما سمي في ذلك الوقت بالصحوة الاسلامية. وبينت في ذاك الكتاب أن سبب المحنة العربية، بالرغم من جميع العيوب التي تنخر في جسم المجتمعات العربية وثقافتها القديمة والراهنة، ومرجعياتها الفكرية، هي الدولة نفسها وليس المجتمع. وحاولت أن أبين في هذا الكتاب أن الخروج على الدولة والردة عليها، كما تجسده العديد من الحركات والتيارات الاسلاموية وغير الاسلاموية، ليس خروجا على دولة تمثلل إرادة الأمة وتعمل على تحقيق غاياتها وأهدافها، أي ليس ضد ما تمثله من قيم الحداثة، وإنما هي ثورات ضد دولة انقلبت على الأمة، فصارد دولة ضد الامة، وسلطنة لا تعيش ولا تستمر إلا بتفكيك المجتمع وإخضاعه ونزع الوعي الوطني والإرادة عنه، وحرمانه من أي فرصة للتكون كشعب متفاهم، ومن باب أولى كأمة حرة تستمد مشروعية وجودها ومبرره الأخلاقي من تحقيق الحرية والكرامة للفرد ومن وراء ذلك للجماعة الوطنية كلها.
جاءت ثورات الربيع العربي في منتصف عام ٢٠١١ لتقدم برهانا ساطعا على صحة هذه الأفكار وتزيد من دائرة انتشارها، مؤكدة أن الشعوب العربية موجودة، ولكنها في الأسر وتحت الحصار، وأن تطلعها إلى التحرر والانعتاق لا يقل عن تطلع غيرها من الشعوب. وقد تراجعت النظريات التي انتقدتها في كتاب المحنة العربية تراجعا كاملا، على الأقل خلال السنة الاولى لثورات الربيع العربي، وكتب العديد من العرب مقالات لدحض نظرية الاستثناء العربي، التي تستبطن روحا عنصرية لم يتخل عنها معظم الباحثين الغربيين في الشؤون العربية والاسلامية. فقد أظهرت هذه الثورات أن العرب مسكونين أيضا، مثل كل الشعوب الأخرى، بهم الحرية ومستبطنين لأخلاقياتها، وأنهم مستعدون لتقديم تضحيات لا حدود لها في سبيل نيلها وتأكيد كرامة الانسان العربي التي لا تنفصل عنها، وحقهم أخيرا في الدخول في عصرهم ومعانقة القيم الانسانية الكونية التي هم جزء منها.
لكن سرعان ما بدأت هذه الأفكار في الانحسار على ضوء النكسات التي بدأت تشهدها هذه الثورات . وام يمض وقت طويل حتى استعادت النظريات القدمية مكانها، وربما بشكل أقوى في موازاة موجات الانتقاد العميق لهذه الثورات ومساواتها بالفوضى والارهاب. ويكاد يكون هناك اتفاق كامل بين نخب النظم العربية الجديدة النازعة إلى استعادة زمام المبادرة وأغلب المثقفين "العلمانيين" على تحميل الاسلاميين عموما، بتنظيماتهم المختلفة، المسؤولية الرئيسية عن تخريب عمل الدولة ومحاولات السيطرة على ثورات الربيع العربي وحرفها عن أهدافها ومحتواها، ربما بما يمثلونه من ثقافة ارتجاعية تمنعهم من تمثل قيم الحداثة، وفي مقدمها الفكرة العلمانية التي تحدد حيز عمل الدين وحيز عمل السياسة، وتمنع من الخلط بين سلطة اصحاب السيادة في كليهما. يضاف إلى ذلك، ما تشهده المجتمعات العربية المتفجرة اليوم في مخاض حروب الثورة والثورة المضادة من ضغوط في اتجاه احياء العصبيات القبلية والطائفية والعائلية وتنامي النزعات اللامركزية والانفصالية.
لا يمكن لهذه النظريات في رأيي أن تفسر شيئا. فمن جهة لا يظهر التاريخ أي عداء لدخول الدولة الحديثة من قبل المجتمعات الأهلية، بل ربما كان العكس هو الصحيح، وهذا على عكس ما كانت تظهره هذه المجتمعات نفسها للدولة الامبرطورية والسلطنة في أحيان كثيرة. ثم إن الارتداد على الدولة والاحتجاج عليها، مما عبرت عنه ثورات الربيع العربي، لم ينبعا من العداء لفكرتها أو من رفض البرامج الوطنية التي ارتبطت باسمها من تطبيق حكم القانون وتحقيق أمنها الوطني والدفاع عن هويتها وتأمين فرص التقدم الاقتصادي وتوفير فرص العمل ومؤسسات التعليم والتدريب والصحة والمرافق العامة والتأهيل لأجيالها الجديدة، ولكن بالعكس تماما من عجز الدولة عن تحقيق فكرتها الوطنية، وانزلاقها مزالق طائفية او مافيوية وقصورها عن تطبيق البرامج التي وعدت بها واكتسبت بسببها التأييد والولاء والشرعية.

وليس هناك شك في أن تفكك الدولة/السلطنة العثمانية وحلول نموذج الدولة الحديثة في أعقابها قد شكلا انقلابا عميقا في بنية المجتمعات العربية وطريقة تفكير الأفراد وسلوكهم الاجتماعي والسياسي. ففي مكان الدولة التقليدية التي تقوم وظيفتها الرئيسية على تأمين السلام والأمان للجماعات المنضوية تحت لوائها، مقابل ما تتلقاه من ضرائب وخدمات عينية بما فيها أعمال السخرة، تاركة للمجتمع الأهلي، بملله وطوائفه ونقاباته، مواجهة تحديات ومهام الحياة الفردية والجمعية الاخرى، حلت دولة من نمط جديد تبني شرعيتها وصدقيتها على ما تقوم به لصالح المجتمع من أعمال وما تنفذه من مهام تصب في النهاية في عملية كبيرة واحدة هي إعادة تشكيل شروط حياة المجتمعات الاقتصادية والسياسية والتربوية والثقافية بشكل لا سابق له وعلى هدى قيم المواطنة والحياة القانونية والمشاركة السياسية والتضامن الوطني والاجتماعي، التي تشكل شرط الحرية. فأصبحت هذه الدولة محور حياة هذه المجتمعات. وبينما افتقدت التنظيمات الأهلية، القبيلة والعشيرة والطائفة، الموارد والامكانيات، برزت الدولة بوصفها الأداة الأمضى والأكثر فعالية وقدرة على إخراج المجتمعات من حالة التأخر الذي كانت تعيش فيه، بالمقارنة مع معايير العصر، وتأهيلها للدخول في عصر الثورة الصناعية والسياسية والعلمية. فصارت الدولة بسرعة المحرك الرئيسي إن لم يكن الوحيد لكل النوابض الاجتماعية : القوة الأولى لتحقيق السلام الاهلي والأمن، وخلق فرص العمل، وضمان العاطلين، وتعليم الاجيال وفتح المستشفيات وتوفير الكهرباء والماء والخدمات العامة التي أصبح وجودها مرتبطا بها. لم توجد في مجتمعاتنا أي قوة منظمة، عصبية قبلية أو روابط أهلية، قادرة على منافسة الدولة، أو الوقوف أمامها أو الحد من نفوذها أو حتى البقاء ضد إرادتها. أصبحت الدولة هي محور حياة المجتمعات ومعقد أمل الجماعات الأهلية والمدنية، من دون مثيل ولا شريك.
والواقع أن الولاء للدولة والتعلق بها جاء مواكبا لطموح المجتمعات إلى الاندماج في حضارة عصرها والتخلص مما أطلق عليه مفكروها عصور التأخر والظلام والانحطاط. ولهذا السبب ملكت الدولة الحديثة في البداية، ثم الدولة القومية في مرحلة ثانية واليوم الدولة الوطنية عقول العرب وقلوبهم مثلهم مثل جميع الشعوب التي قاتلت وضحت بالآلاف من أبنائها من أجل الوصول إلى دول مستقلة تعنى بأعضائها وتحميهم وتؤهلهم وتدربهم وتساعدهم على تحقيق آمالهم وتطلعاتهم للعيش في مدنية عصرهم والدخول في الحضارة والتاريخ. وآخر الأمثلة وأشدها نضال الشعب الفلسطيني العنيد والمرير والدامي لانتزاع ولو ٢٢ بالمئة من فلسطين ليبني عليها الدولة الوطنية التي يريد أن تحميه وتضمن حقوقه الأساسية التي يهدرها الاستعمار والاستيطان ويضيعها تقادم الزمن والنسيان.
بعكس ما حصل في أوروبة التي شهدت تبلور نموذج هذه الدولة الأول، لم تواجه الدولة الحديثة في العالم العربي والعديد من بلدان العالم، منافسا يذكر. كان يمكن للعشيرة أو الطائفة أن تكون مركز مقاومة لتمدد نفوذ الدولة واستحواذها على ولاءات الناس وانتمائهم، لكن حالة التردي الاقتصادي والانساني التي كانت قد وصلت إليها هذه المناطق خلال قرن من انحسار عهد السلطنة العثمانية وتفكك الإدارة وانتشار الفوضى والخراب، كانت قد هيأت الجماعات، بالعكس، للانفكاك عنها أو على الأقل، علمتهم عدم المراهنة عليها. وعلى جميع الاحول لم يكن لديها من الموارد المادية والمعنوية ما يمكن أن يجعل منها شريكا للدولة أو منافسا لها في تحقيق مشاريع الخدمة العامة وفتح الطرق ومد خطوط الكهرباء ومياه الشرب وبناء الجسور والسدود والاستثمار في الزراعة والصناعة والصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية. هكذا صارت الدولة، عند العرب وكل الشعوب الأخرى الخارجة من قواقعها الامبرطورية المفقرة، موضوع رهان شامل، وتقريبا وحيد، لا شريك ولا منافس لها، في تنفيذ برامج الاصلاح، وهي الأمل الوحيد أيضا لدى المجتمعات لتلبية نداء الانفتاح على العالم والاندماج في حضارة العصر.
من هذا الرهان المتزايد على الدولة وغياب المنافس بل الشريك المجتمعي القادر على موازنة القوة، سوف يولد نوعان من الاستلاب أديا إلى الانفصال الكامل للدولة عن المجتمع وسيطرتها الشاملة : الأول استلاب الفرد للدولة وتسليمه لها، بكل ما يتعلق بأمور الحياة، ومن ضمن هذا الاستلاب ينبغي أيضا تفسير الرغبة في أسلمتها، وتعظيم الرهان الشامل عليها وتوسيعه، والانجراف وراءها قلبا وقالبا، لتصبح في الوقت نفسه مالكة الدنيا والدين، والثاني النزوع المتزايد عند الدولة، وعند النخب المسيطرة عليها، الى التغول على المجتمع والاستهانة بارادته ووجوده، قبل الانقلاب عليه واستغلال تفتته وانعدام عصب تماسكه، لبناء نظام تسلطي يستخدم الدولة وسيلة للسيطرة، بأسلوب خجول في البداية، تحت راية الطلائعية والتقدم، التي ترفعها نخبة استبدادية عقائدية، ثم بأكثر الاساليب فجاجة، فيما بعد، باسم استقلال الدولة نفسها وسيادتها والدفاع عنها، وحفظ الامن، وفي حماية نخبة تحتكر لوحدها من دون رقيب ولا شريك سلطة المال والسياسة والسلاح والإدارة والاعلام، وتجعل من الدولة ملكيتها الخاصة ووسيلة عملها، ومن التحكم بالمجتمع، وتأمين إخضاعه وتجريده من أي قدرة على المقاومة أو المعارضة أو الاحتجاج، البرنامج السياسي الوحيد لها.
في هذا التسليم الكامل للدولة والانسحاق أمامها، بسبب ما مثلته من وعود وبرامج ومشاريع سلبت الوعي والارادة معا، ثم ما ملكته من قدرات للقهر والاستتباع، لم يختف المجتمع والفرد والانسان كليا ويغيب أي تفكير في المساءلة والمحاسبة فحسب، ولكن الدولة ستتحول، بموازاة تبلور الطبقة المتماهية معها، طبقة الدولة أو طائفتها، إلى أكبر آلة سلب واستلاب وعنف ونهب عرفتها المجتمعات العربية في تاريخها، وستتحول السياسة بموازاة ذلك الى عبادة للدولة والتسبيح بحمد القائمين عليها وتبجيلهم والركوع أمامهم واستجداء عطفهم ورضاهم. هكذا صارت الدولة الحديثة التي نشأت لتحرير المجتمع أداة استلابه الرئيسية، وصار رهينة لها بمقدار ما وضع رهاناته المصيرية فيها..
هذا هو السياق الذي ولدت فيه العبودية الجديدة في البلاد العربية، وصار فيه قتل الافراد بالمئات والآلاف بمثابة الاضاحي واكباش الفداء المطلوبة للدولة. ومن هنا ستولد في سورية التي تقدم المثال الأقصى لدولة العبودية هذه شعارات : طلبنا المدد فارسل لنا حافظ الاسد، والاسد الى الابد، ودولة الاسد، وسيد الوطن، وبالروح بالدم، وأخيرا : الأسد أو نحرق البلد، وكلها، وغيرها كثير، طقوس الدين الجديد، ووسائل التعبير عن العبودية للاله الجديد الذي هو الدولة ومن يمثلها، عبودية نصف مختارة ونصف مفروضة بالقوة والرهبة. لقد جرفت الدولة هوية الأفراد وفكرهم وضميرهم، بمقدار ما استعبدت أجسادهم، وطوعتها في أقبية مخابراتها وبسكاكين جلاديها وأدوات تعذيبهم، وصارت تمثل للفرد، القادم من تيه السلطنة المتهاوية ونهاية التاريخ، من دون تراث ولا ثقافة ولا هوية ولا تقاليد، مصدر الحياة والموت، الثراء والفقر، العطاء والقبض، الذل والكرامة. وصار المجتمع أمامها، بكل أفراده وجماعاته، لا شيء، مجرد مادة خام تشكلها اجهزة الدولة على حسب مشيئة أعوانها، لا ينتظر منه رد فعل ولا يحسب لردوده إذا حصلت أي حساب
على سؤال: من المسؤول عن إجهاض الدولة الوطنية، الجواب نحن جميعا، بتعظيمنا لها، وتوسيع دورها، واستسلامنا لسلطتها،  وازدرائنا بقوتنا، وافتقار مجتمعاتنا لأي تنظيم داخلي يحميها من تغول الدولة ويوازن سلطتها ويقطع الطريق على مصادرتها من قبل النخب الحاكمة وتحويلها إلى أداة للسيطرة الخاصة وبناء ملكيات جديدة وإقطاعيات وتحويل الأفراد إلى أقنان .
لكن يبقى السؤال : كيف نجحت هذه النخبة في اختطاف الدولة وتحويلها من دولة الحرية والمواطنة والشعب إلى دولة غول، تريد أن تبتلع الشعب وتمحوه من الوجود. هذا موضوع المقال القادم.


lundi, juillet 21, 2014

حقيقة الطائفية في الصراعات العربية والاقليمية


لم تكن قضية الطائفية حاضرة في السياسة والثقافة العربيتين في أي فترة كما هي اليوم. وما يثير التساؤل حول هذا الحضور هو أنه يأتي بعد ما يقارب القرن من تأكيد عهد الوطنية ورفض جميع أشكال الانتماءات الطائفية والقبلية، وتلاشي مظاهرها، المعلنة على الأقل، إلى حد كبير. الكثير من المثقفين والاعلاميين وصناع الرأي يبدون وكأنهم يكتشفون لأول مرة قوة هذه الانتماءات، ويدعون إلى مراجعة الطروحات القومية والوطنية التي ساعدت على تجاهلها او إنكارها، ويعتقدون أن الاعتراف بها وإعطائها "حقوقها" والكف عن إنكارها، هو الطريق الوحيدة لمعالجة آثارها، وانقاذ رهان الدولة والحداثة الوطنية، وهناك من يذهب إلى أكثر من ذلك ويعتبر أن الحروب والنزاعات الداخلية والاقليمية بينت أنه لا يوجد على الأرض إلا الطوائف، وأن الخاسر الأكبر في هذا الصراع هو الجماعات التي لم تعرف كيف تنظم نفسها وتقاتل على أجندة طائفية، مثلها مثل الآخرين، وكانت كالزوج المخدوع . وهذا يفسر أيضا جزءا من صعود الحركات الجهادية السنية التي تتبنى بصراحة خطابا وأجندة طائفيين. ويعتقد الجميع أن كل ذلك ينذر بحرب طائفية داخلية وإقليمية لن تبقي شيئا من أي ماضي وطني أو حداثة أو مشاريع ديمقراطية أو قضايا وحقوق إنسانية.
وعلى العموم يسود الاعتقاد اليوم ان الطائفة حقيقة قوية أخطأنا في تقدير حيويتها وتأثيرها، وأنه لن يكون من الممكن إعادة بناء الدولة في المشرق العربي إلا على أساس احترام هذه الحقائق والتكيف معها، مما يعني ربما التضحية بفكرة الدولة الوطنية الواحدة، التي تساوي بين جميع أفرادها بصرف النظر عن انتماءاتهم واصولهم، والقبول بصيغة من صيغ الفدرالية أو حتى الكونفدرالية التي تعطي لكل طائفة سلطة ذاتية كاملة في شؤونها، وربما دولة مستقلة.
ويشارك العديد من الباحثين والصحفيين الغربيين الذين لم يقتنعوا يوما بمقدرة المجتمعات العربية على ولوج نظم الحداثة والنجاح في بناء مؤسساتها في هذا التصور، ويشجعون عليه، مؤكدين صحة تحليلاتهم السابقة التي كانت تشكك في وجود نسيج أمة في البلاد العربية، وتركز أكثر على المكونات الاتنية والمذهبية والقبلية فيها. وفي هذا السياق زاد تداول الخرائط الجديدة التي تنشرها بعض الصحف الغربية لإعادة رسم حدود دول المنطقة بما يحقق التطابق أكثر بين الدولة والطائفة. ولا يبدو أن مثل هذه المشاريع تثير الكثير من الاستياء والاعتراض من أحد. وفي جحيم الحروب الدموية التي يعيش فيها المشرق، يمكن للناس القبول بكل الاقتراحات والأفكار التي تعطيهم بعض الامل بالخلاص.

أولا ، لا أعتقد أن العصبيات الطائفية والقبلية، القائمة على ولاءات ميكانيكية قوية وتلقائية، لا تزال موجودة في المجتمعات العربية، أو على الأقل على نطاق واسع ومؤثر. ولا أنها كانت تعيش تحت الأرض الوطنية واستيقظت على غفلة منا ودمرت انجازاتنا الحديثة. بالعكس أعتقد أن هذه الطوائف قد تفككت وانحلت كعصبيات، حتى لو بقيت منها بعض الروابط المحيلة إلى المخيلة أكثر منها إلى ترابط مصالح حقيقية. ولم تعد الطائفة، مهما بلغ تنظيمها الداخلي قادرة على تأمين مطالب الوجود والحياة الضرورية للفرد، وأولها المرجعية الفكرية والأخلاقية والمكانة السياسية والحماية والأمن والقانون والعمل والتعليم والتطبيب، وغيرها. بل إن كل ما بقي من مظاهر التضامن الداخلي بين أفرادها يعود إلى النجاح في تأسيس صندوق للمساعدات الانسانية، أو بسبب ارتباطها الخارجي الذي يضمن لها بعض الدعم، وفي حالات قصوى، كما هو الامر في لبنان، بسبب توظيفها بشكل سافر في استراتيجيات خارجية وتحويلها إلى أداة من أدوات الصراع على السيطرة داخل البلد الأصلي أو خارجه. لكن حتى في هذه الحالة لم يعد الأمر يتعلق بتضامن طائفي عفوي وموروث، أي بعصبية طبيعية، ولكن بعمل منظم تقوم به نخبة ليست حتى بالضرورة دينية أو ذات صفة زعامية، وبالتنسيق مع الدول الخارجية، لاحداث انقلاب داخل الطائفة على السلطات التقليدية، وانتزاع القيادة منها وفرض أجندة النخبة الانقلابية الجديدة عليها. أكبر مثال على ذلك حزب الله في لبنان، لكن ليس وحده. وهذا يعني في نظري أنه لم تعد الطائفة واحدة، وإنما أصبحت كل منها طوائف متعددة حتى حين لا تنقسم الزعامة لدينية.

وثانيا، لا أعتقد أن وجود هذه العصبيات الطائفية واستمرارها في العمل من تحت، حتى لو تم البرهان عليه، هو الذي يفسر ما تعيشه الدولة الوطنية العربية اليوم من أزمات وما تواجهه من مصاعب، وأن إرضاء مطالبها وتطمينها على وجودها واستقرارها يمكن أن يفيد في شيء ويخرجنا من الحرب الطاحنة الخفية والعلنية التي نوشك أن نستوطن فيها. كما لا أعتقد أن هناك تناقضا او تعارضا حتميا بين استمرار التضامنات الأهلية وقيام الدولة الوطنية. وأكبر دليل على ذلك هو أن هذه الجماعات الأهلية لم تقف ضد نشوء الدولة الوطنية الحديثة عندما بدأت النخب المتعلمة الحديثة تسعى إليها، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في المشرق العربي، ولكنها شجعتها. بالرغم من أنها كانت لا تزال تتمتع بقوة ونفوذ لايمكن التشكيك بهما. وفي سورية كان لوجهاء الطوائف والقوميات الدور الأكبر في تعويم مشروع الدولة الوطنية الواحدة، وحمايتها والدفاع عنها. والدليل الثاني الأهم هو اننا سنتعب كثيرا اليوم إذا فكرنا، كما كان يحصل منذ قرن، في جمع وجهاء الطوائف والعشائر ، من أجل ايجاد مخرج للحرب أو تسوية للنزاع. والسبب اننا لن نعرفهم ولن نجدهم، وإذا وجدنا بعض آثارهم، فسندرك بسرعة إنهم لا موقع ولا تأثير ولا نفوذ لهم وغير قادرين على الحل والربط في أي قرار. ويكفي أن ننظر إلى من يتحدث باسم الطوائف اليوم : الأسد والمالكي وأضرابهما وأعوانهما من الضباط ورجال المال والأعمال الفاسدين والأمنيين والمخبرين ، أؤلئك الذين عملوا من قبل، هم وآباؤهم وأنصارهم، على تقويض سلطة وجهاء الطوائف وتدميرها.
على العكس تماما، أعتقد ان ما نشهده من نزاعات وفوضى لا ينتج عن انبعاث العصبيات الطائفية ولا يبرهن على وجودها، ولكنه ثمرة انحلالها وتفجر نواتها وتحولها إلى ركام وأشلاء. ولأننا، في سياق الدولة الوطنية التي اقمناها، لم ننجح في لم هذه الاشلاء وإعادة تركيبها بما يحولها إلى عناصر في جسم وطني فاعل، ويمدها بذاكرة مغايرة وتاريخ جديد، أصبحنا، كما نحن الآن، ضحاياها. ما نعيشه اليوم هو ثمار الفوضى المزدوجة التي تسببنا فيها نحن، النخب الحديثة، اللاطائفية والمعادية للولاءات العصبية : الفوضى الناجمة عن تحلل الطائفة والقبيلة، وتلك النابعة من تقويض مشروع الدولة الوطنية وتفريغه من محتواه، وما تنتجه كل يوم من حروب ونزاعات تدفع إليها هذه الاشلاء المنفصلة عن حواملها والمتناثرة في كل الأرجاء، والتي لم يعد سلوكها يعتمد على أي مرشد او دليل، لا ذاك الموروث عن تقاليد وقيم القبيلة والطائفة، ولا المرشد المستمد من دليل المواطنة للحقوق والواجبات. هكذا صار كل شيء ممكن وكل شيء مباح. هذا هو أيضا موقع بشار الأسد وجماعته والمالكي وأزلامهما . هؤلاء يمكن أن يكونوا أي شيء ما عدا أن يكونوا زعماء عشائر وطوائف أو قادة وطنيين، أو رؤساء دول، يعرفون واجباتهم وحقوقهم ويلتزمون بها. إن من يراقب سلوكهم وأخلاقياتهم والأفكار والمشاريع التي تحركهم وتوجه أفعالهم يدرك تماما أنها لا تختلف عن تلك التي كانت توجه، في قرون سابقة بعيدة، الجماعات الشاردة المنفلتة من مجتمعاتها، من قراصنة وأفاقين وقطاع طرق ومغامرين وغزاة همجيين.

ولأنه لم يعد هناك طوائف وعصبيات فاعلة تحمي الفرد وتساعده على تنظيم شؤونه وحل مشكلاته في المجتمع، أي لم يعد هناك ايضا وجهاء طوائف نافذين ومتحكمين بطوائفهم، صار من الممكن بسهولة تجيير الطائفية وتجييشها في كل المعارك السياسية وغير السياسية من قبل كل من يملك المال والدعم، وأفضل من ذلك من يملك الحماية الخارجية. ولأن الطوائف تحللت كتشكيلات فاعلة ومستقلة او شبه مستقلة، وولدت جيوش من الفاقدين للانتماء، زاد بما لا يقاس الطلب على الدولة والصراع من أجل النفوذ إليها والارتباط بها. وصار من المممكن أكثر، في حال انعدام قدرة الدولة على تلبية طلبات الولاء والانتماء، أي الاعتراف بعضوية الافراد، ومواطنيتهم، أي نسبهم المواطني، صار من الممكن لكل صاحب غاية أو مشروع خاص أن يشترى الكثير من الولاءات، وبسهولة، أي صار من الممكن ظهور مافيات المال والسلاح واعادة بناء القلاع والقصورالاقطاعية، وإحياء منظومات أسياد الأرض، والاسياد عموما والأقنان. وبالمثل، لأنه لم يعد هناك قاعدة ولا منظومة قيم ولا مباديء تحكم عمل هذه الشظايا والأشلاء الشاردة في الفضاء الاجتماعي، صارت الحرب من دون مرجع ولا قانون. ولم يعد العطش للانتقام أو الرد على تحدي المعارضة والمقاومة الاهلية يكتفي بأقل من تحويل المجتمعات نفسها إلى أشلاء.
والنتيجة، ليست الطائفية المكبوتة أو المتجاهلة هي التي دفعت إلى الحرب الوحشية التي يعيشها المشرق اليوم، وإنما بالعكس تماما، الحرب والصراع على السلطة، وإرادة السيطرة للدول، هي التي بعثت الطائفية وأعادت تركيبها، لكن في شكل قوى ملحقة وحليفة، مقاتلة ومندمجة في مشاريع سياسية وإقليمية، ومشاركة فيها، لا يهمها لا مذهب الطائفة ولا حياة أبنائها ولا مصيرهم. والواقع أن تراث الطوائف كلها أصبح اليوم، بما في ذلك الاسم، مخطوفا من قبل نشطاء يعملون في إطار مشاريع سياسية خاصة. ولا تعدو الطائفية السائدة اليوم سوى شعارات وجمل تستخدم لتعزيز آلة الدعاية والحرب النفسية التي تخوضها الأطراف السياسية. ولو نظرنا في الظاهرة عن قرب لاكتشفنا أن ما يسمى بالمشاريع الطائفية ليس له أي مقوم داخلي، وكلها مشاريع مرتبطة بقوى أجنبية. وهذه الطائفية المخطوفة والمجيرة لحسابات سياسية واستراتيجية محض هي التي تهدد تراث الطائفية الاجتماعي، الذي يجسده التضامن الأخوي، والاعتزاز الفطري والطبيعي عند كل فرد بانتمائه الديني او المذهبي او القومي او العائلي. وهذا من معالم الكرامة الشخصية، ولا يربطه شيء بالطائفية التي تعمل كأداة للسيطرة الداخلية أو الخارجية، والتي تضع الانتماءات الجزئية في مواجهة قيم التضامن والتعاون والتكافل الانسانية التي لا تستطيع أن تعمل وتزدهر اليوم إلا في إطار دولة وطنية مدنية يحكمها القانون الذي يساوي أيضا بين جميع أعضائها، ويضمن لهم جميعا، من الحرية والكرامة والحماية وروح التكافل والتضامن، ما حرموا منه للأبد بزوال الحاضنة الاهلية "الطبيعية.

من المسؤول عن إجهاض الدولة الوطنية؟ هذا ما سنجيب عليه في المقال القادم 

samedi, juillet 19, 2014

في الدعوة المتجددة لعقد مؤتمرات وطنية وتجمعات جديدة سياسية



كثير من الاخوة الذين تواصلوا معي في الأسابيع الاخيرة لديهم شعور بان الثورة تمر في مرحلة حرجة، وأنها تفتقر لقيادة تثق بها وتتفاعل مع مشاكلها وترد على التحديات التي تواجهها. وترتفع الاصوات، بسبب ذلك، من جهات متعددة للدعوة إلى مؤتمر أو تجمع وطني يملأ الفراغ الذي تركه تخبط المعارضة وانقسامها وتنازع رجالاتها. وجوابي: 
قبل الاقدام على محاولات جديدة والانفاق على مؤتمرات وطنية أو تشكيل تجمعات وائتلافات سياسية، في الداخل أو في الخارج، ينبغي مراجعة تجربة المعارضة الماضية وتحليل أسباب قصورها وفشلها، حتى لا تقع التشكيلات القادمة في الحفرة نفسها التي وقعت فيها سابقتها وتقود إلى تكريس الفشل وتثبيته.
فليس من المؤكد أن العيوب ذاتها التي أدت إلى ايصال المعارضة إلى طريق مسدود لن تقود أي تجمعات جديدة إلى الطريق المسدود ذاتها. 
من دون الكشف عن تلك العيوب ومعالجتها، ليس من المؤكد أن التجمعات الجديدة ستعمل بشكل أفضل من سابقتها، وأخشى أن تكون أسوأ منها وأكثر إثارة للاحباط والسخط، كائنا من كان ملهمها أو منسقها أو زعيمها.
لن نخرج من الحلقة المفرغة المتمثلة في غياب القيادة، من دون الخروج من مرحلة الطفولة السياسية، التي لا ترى في السياسة سوى الأشخاص وتخلط بين الوظائف العمومية والمصالح الفردية. 
وليس من الممكن بلوغ سن الرشد السياسي من دون مراجعة جدية وعميقة وموضوعية تعيد بناء معنى السياسة ومضمون المصلحة العمومية، أي طبيعة عمل الدولة ووظيفتها، وبناء أخلاقيات المسؤولية في مواجهة ثقاقة الوصولية وخدمة الذات الأنانية.
ولن أشعر أن هناك حركة حقيقية في هذا الاتجاه ما لم تنتشر اللقاءات وحلقات النقاش السياسية بهدف المعرفة والفهم واستخراج النتائج والخلاصات ودروس التجربة المرة الماضية والعثور على المفاتيح التي تستطيع أن تجعل من أي تشكيل قادم إنطلاقة جديدة وتحولا نوعيا في الممارسة السياسية، لا تنازعا إضافيا على مواقع القيادة الخلبية.

jeudi, juillet 17, 2014

إرادة الحرية والكرامة تشعل مقاومة غزة/ مقالي في العربي الجديد


تستعد اسرائيل لشن حرب برية جديدة على غزة تدعي أنها من باب الدفاع على النفس بعد أن اختطف مجهولون ثلاث شبان اسرائيليين وتم العثور عليهم مقتولين في غزة.
لم يقنع تبرؤ حماس وإدانتها، ومعها السلطة الفلسطينية لعملية الاغتيال هذه، السلطات الاسرائيلية. ولإرضاء المستوطنين والمتطرفين الذين تفيض بهم حكومة نتنياهو نفسها، لم تجد اسرائيل وسيلة أفضل للرد سوى ما اعتادت عليه، من نطبيق سياسة العقاب الجماعي والانتقام، البدائية، والتي نجحت اسرائيل في جعلها سياسة رسمية وعلنية، وفرضتها على المجتمع الدولي المماليء لها والخائف من ابتزازها باللاسامية، كوسيلة مقبولة ومشروعة بالنسبة لاسرائيل، بالرغم مما تمثله من انتهاك لكل المباديء والقوانين والشرائع الانسانية واتفاقيات جنيف المتعلقة بالحرب. بل لقد استسهلت استخدامها وتعميم العمل بها حتى سقطت كل المحرمات في صراعات الشرق الأوسط، ولم يعد هناك أي قانون أو عرف يحد من استخدام العنف، وانفتح الباب أمام سياسات الإبادة الجماعيةو والتطهير الاتني، مما نشاهد أمثلة عنه في حرب النظام السوري والنظام العراقي ضد شعبيهما.
كان من الطبيعي أن يثير خبر العثور على جثث الشبان الاسرائيليين الثلاثة موجة عارمة من الغضبن في الشارع الاسرائيلي.لكن، بدل أن تطالب الحكومة الاسرائيلية، حسب ما يجري في العالم كله، بتحقيق موضوعي في عملية اغتيال الشبان، وتطبيق القانون بمعاقبة الجناة، توعدت الفلسطينيين وغزة وحماس بالانتقام، وعبأت الشارع ضد الفلسطينيين وهيجت المشاعر العنصرية، كما لم يحصل من قبل، وشارك في التهييج العنصري قادة سياسيون وأعضاء حكومة صرخوا مع تجمعات العنصريين "الموت للعرب"، و رددوا شعاراتهم التقليدية في الانتقام وإبادة الفلسطينيين. وفي مناخ الخطابات العنصرية وتظاهرات التنديد بالعرب والفلسطينيين والتهديد بحملة برية لترويع سكان غزة وتأديبها، بدأت حملة الاصطياد للاطفال العرب لقتلهم والتمثيل بهم. وفي هذا السياق تم خطف الفتى محمد أبو خضير وتعذيبه ثم إضرام النار في جسده الصغير بأكثر الطرق وحشية.
في اي حكومة تحترم نفسها والتزاماتها القانونية، تقوم الشرطة بالقاء القبض على الجناة ومعاقبتهم للحفاظ على حد أدنى من ماء الوجه ومظاهر سلطة القانون. في اسرائيل، التي أصبحت العنصرية المعادية للفلسطينيين والعرب عقيدتها الحقيقية، لم تتظاهر السلطات حتى بالاهتمام بذلك، ولكنها شجعت على الانتقام الجماعي البدائي واعتبرته سلاحا مشروعا للضغط على الفلسطينيين وإخضاعهم. أصبح كل فلسطيني مذنب بالولادة، ولم يعد قتل العربي يثير أي تحرك قانوني. بمثل هذا السلوك ساهمت الحكومة في دفع الجمهور المتعطش للدماء إلى المزيد من طلب الدماء، وأرادت أن تستغل جو الهيجان العنصري الذي رافق جريمة حرق الفتى أبو خضير من أجل كسب المزيد من الدعم الشعبي وتلبية مطالب اليمين العنصري بتوجيه ضربة لحماس ومعاقبتها على الدخول في تفاهم مع السلطة الوطنية وتصديع الوحدة الفلسطينية.

تعتقد حكومة نتنياهو أن أفضل طريقة للتغطية على الجريمة وانتهاك القانون هي ارتكاب جريمة أكبر. وهذه أيضا سياسة تلميذها بشار الأسد. والآن تهدد تل أبيب بحملة برية على غزة لمعاقبة الفلسطينيين وتركيعهم، والضغط على السلطة الفلسطينية للخلود للصمت والقبول بالأمر الواقع، أي بفشل المفاوضات وعدم التوصل إلى أي نتيجة في الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، والاستمرار في استكمال مشروع استيطان الضفة الغربية وقضمها، بعد تعطيلها المفاوضات على أساس الدولتين.
أي حرب جديدة على غزة تعني حمام دم للسكان المدنيين، بصرف النظر عن الخسائر التي تهدد قوات حماس بإنزالها بجيش الاحتلال. لذلك ينبغي أن يكون حرص الفلسطينيين على وقف إطلاق النار وتجنب مزيد من الضحايا أكبر من أي هم آخر. لكن من جهة أخرى لا تعني المطالب الاسرائيلية التي سربتها الصحافة عن اقتراح وقف إطلاق النار برعاية مصرية إلا استسلاما كاملا لحماس وللفلسطينيين أمام التهديد الاسرائيلي.
على المجتمع الدولي، والولايات المتحدة بشكل خاص، الذين سمحا لاسرائيل بالتوسع على حساب الفلسطينيين، وأغمضوا أعينهم عن استمرار الاستيطان، وتحويل غزة إلى سجن كبير، وتجويع سكانها وعزلهم عن العالم، أن يدرك أن مسايرة المطالب الاسرائيلية وشرعنة سياساتها العدوانية، باسم الدفاع عن النفس وحماية الاسرائيليين، لن تساهم في ايجاد أي حل للنزاع، ولكنها سوف تدفع إلى المزيد من التوتر والعنف والاقتتال. وفي الظرف الإقليمي الراهن، سوف تكون أفضل وقود لتنمية التطرف وتوسيع دائرة نفوذ المنظمات الاسلامية المتشددة وغير المتشددة، في عموم المنطقة المتفجرة.
لن يمكن التوصل إلى أي حل، ولا قيمة لأي تهدئة مرحلية، إن لم تنجح الدول، التي تدعي المساهمة في نزع فتيل الحرب الدموية، في إدراك عمق الاحباط والمعاناة عند الفلسطينيين، وتدفع، بدل إرضاء القوة الاسرائيلية ومسايرتها، إلى فتح باب الحل للقضيةالفلسطينية وتخفيف الضغط الانساني والسياسي والاقتصادي والعسكري على شعب لا يزال يكافح منذ قرن من أجل حقه في الحياة في أمن وسلام وحرية وكرامة. ولن يقبل الفلسطينيون الذين يعيشون في المناخ ذاته الذي فجر ثورات الحرية والكرامة العربية، بالتراجع عن أهدافهم والقبول بقانون الإذعان والقبول بالامر الواقع الذي تحاول أن تفرضه اسرائيل للمرة الألف على ضوء ما يعيشه العالم العربي من أوضاع مأساوية.
لايتعلق الأمر فقط بوضع حد لسياسة الغيتو أو المعزل الذي حبست فيه اسرائيل شعب غزة، وأرادته مستودعا لعزل الفلسطينيين وخنقهم البطيء، وإنما قبل ذلك بمصير القضية الفلسطين بأكملها، بعد أن أوصلتها الإرادة السيئة الاسرائيلية إلى طريق مسدود، وباستعادة حقوق شعبها التي لا تزال اسرائيل تدوسها بأقدام جيوشها وعنصرييها، أمام صمت الغرب ومباركته، هذا الغرب نفسه الذي لم يكف عن تقييد أيادي الفلسطينيين والعرب بوعود الحل التفاوضي على أساس الدولتين، في الوقت الذي لا يكف فيه عن تعزيز قدرات اسرائيل الحربية ومسايرة مشاريعها العدوانية .



هذيان القسم


هذيان الاسد اليوم لا يستحق التعليق. لو كان لديه أدنى درجة من الشرف لخجل من نفسه، وتردد كثيرا قبل أن يتحدث عن ولاية ثالثة وسلطة ونصر. 
عندما يذبح رئيس أبناء شعبه ويشرد أطفاله ونساءه ويدمر مدنه وبلداته من أجل ولاية ثالثة، يخرج من الانسانية ومن المجتمع والدولة ومن الكلام نفسه. يتحول إلى وحش.
وإذا كان موت مئات الآلاف وحصار المدن وتجويع ساكنيها واعتقال مئات الآلاف وتعذيبهم وهدر دمهم، وتهجير الملايين وتشريدهم ، وتركهم من دون مأوى ولا مورد ولا معيل، إذا كان كل ذلك انتصارا للشعب، فلا أدري ماهو معنى النكبة والهزيمة والكارثة
وإذا كان كل مافعله بالسوريين من مآسي وويلات ومصائب كان دفاعا عن خط المقاومة ضد اسرائيل فلا أدري ما ذا أبقى لإسرائيل أن تفعله إذا أرادت أن تظهر غضبها وعداوتها للسوريين،
إذا كان تحطيم سورية وتدمير حضارتها وتشريد شعبها والقضاء على مستقبل أبنائها انتصارا فهو بالتأكيد، وقبل أي شيء آخر، للجبن والخيانة والنذالة والشذوذ.
هؤلاء قتلة محترفون، لا معنى للكلام في أفواههم، ولا يعرفون إلا الكذب والرياء والتزوير.
وراء استخدام كلمة الشعب التي لا يكفون عن تكرارها ، للتغطية على حقيقة الفكر العنصري الذي يخفيه أي أفاق لئيم، تكمن روح الشر والشماتة وإرادة الانتقام والحقد والاستهزاء بالعقل واللغة والفكر والضمير، لا شرف ولا عقل ولا عقيدة ولا وجدان.

lundi, juillet 14, 2014

من المسألة الشرقية إلى مشكلة الطوائف والأقليات


ارتبط اسم المسألة الشرقية بعقيدة التدخل، باسم حماية الأقليات الدينية، من قبل الدول الاوروبية، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وروسية، والتي انخرطت فيها، في ما بعد، النمسا وايطاليا والمانية، في شؤون السلطنة العثمانية. وقد بدأت هذه السياسة باتفاقية كارلوفيتز لعام ١٦٩٩ التي تخلت بموجبها السلطنة عن مناطق واسعة في أوروبة الوسطى، ولم تنته إلا بعد إعلان الجمهورية التركية عام ١٩٢٣، مرورا باتفاقية كوتشوك كينارجي لعام ١٧٧٤ التي قبلت فيها استنبول بتقديم تنازلات او امتيازات سياسية واقتصادية كبيرة لروسية.
لكن حتى بعد ذلك الوقت، استمرت السياسات الأوروبية تنظر إلى الدول الجديدة الناشئة، بما في ذلك تركيا نفسها، من منظار التعدد الأقوامي والمذهبي، وترفض أن تتعامل معها كشعوب تجمع بينها، بالرغم من تمايزاتها الداخلية، الرابطة السياسية، أي رابطة الوطنية التي بدأت تتقدم عند جمهور النخب العثمانية بشكل كبير على العصبيات الطائفية والأقوامية، وكان أكبر مثال على ذلك حرب الاستقلال الوطنية التركية ضد التدخلات الأوربية الرامية إلى تقسيم تركيا نفسها.
وعندما استقلت الأقاليم العربية الآسيوية عن السلطنة العثمانية بدءا من ١٩١٩، لم تغير الدول الاوروبية من نظرتها إليها، واستمرت تتعامل معها بوصفها خليطا غير متجانس من الطوائف والعشائر والاقوام التي لا يجمع بينها شيء، وتبني علاقاتها مع كل طرف على انفراد، في الوقت الذي كانت النخب السورية والعربية الاستقلالية تركز فيه على الانتماء العربي والوطني الجامع، وتعتبر الطائفية والعشائرية والقبلية من مخلفات الماضي المتسم بالجهل، وتعلن حربها ضدها من منظور توحيد الصف الوطني وتأكيد وحدة الشعب والبلاد.
فبعد أن قسمت فرنسا سورية الفيصلية - التي كانت هي نفسها ثمرة تقسيم المشرق حسب اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة - إلى خمس دول على اعتبار المذهب والطائفة والمنطقة، اضطرت إلى التراجع عن مشروعها تحت ضغط النخبة الوطنية، التي حاربت فكرة التقسيم في عموم مناطق سورية وتمسكت، على مختلف طوائفها، بمشروع الدولة الوطنية الحديثة التي لا تفرق بين مواطنيها بسبب الطائفة والأصل، وتراهن على بناء وعي وطني وانتماء سوري وعربي يتجاوز أي انتماءات جزئية دينية أو مذهبية.
وفي هذا السياق تبنت النخبة السورية، كبقية النخب العربية في ذلك الوقت، الشعار التاريخي الذي كان في أساس تصور الدولة الوطنية أيضا في مصر : "الدين لله والوطن للجميع"، الذي يعني اسبقية الانتماء الوطني في السياسة، بما يتضمنه من الاعتراف بالمساواة التامة في جميع الحقوق والواجبات بين جميع الأفراد. وهكذا نشأ مفهوم المواطنة والانتماء للدولة، وتقدم مع الوقت على مفهوم الانتماء للطائفة أو الأصل، من دون أن يعني ذلك لأحد أن ذلك كان على حساب الايمان الديني والتمسك بالعقائد الدينية الاسلامية أو المسيحية كان هذا احد أركان مفهوم الدولة الوطنية الحديثة التي سترى النور في كل البلاد العربية في حقبة ما بين الحربين العالميتين.
ما ذكرني بهذه اللحظة التأسيسية في التاريخ السياسي العربي الحديث أمران :
الأول ما شهدته من التركيز المفرط للدول الغربية التي وقفت، إلى هذا الحد أو ذاك، إلى جانب الثورة السورية الراهنة، حتى لا أقول الهوسي والممل، على مشكلة الأقليات، وهي الاسم الجديد للمسألة الشرقية بعد زوال السلطنة العثمانية ونشوء الدول الوطنية في الفضاء العربي، وعودة هذه الدول السريعة إلى تبني مفهوم تجمع الطوائف والأقليات على حساب وجود الشعب كقوة سياسية، في الوقت الذي كانت الثورة فيه لا تكف عن تأكيد وحدة الشعب والدولة وهدفها في الاصلاح السياسي.
والثاني وهو الأخطر، ما برز بالفعل، في سياق ثورات الربيع العربي، من تبن متزايد من قبل قطاعات واسعة من الرأي العام ومن النخب السياسية والاجتماعية العربية لهذا التصور الطوائفي، والتخلي عن المفهوم الوطني المؤسس للدولة، لصالح ما يسمى اليوم بالفدرالية والفصل الطائفي، كوسيلة لمقاومة الاقصاء والتهميش والوصول إلى مزيد من العدالة وحل للنزاعات الأهلية المشتعلة في أكثر من دولة عربية حول مستقبل النظام السياسي. ومع مرور الوقت واستفحال الأزمة، وسقوط آلاف الشهداء والجرحى  من دون أمل بالخلاص القريب من جهة، وتماسك النظم الطائفية القائمة من جهة ثانية، يزداد خيار الفصل الطائفي شعبية داخل صفوف عموم الناس الملوعين بالعنف والقتل العشوائي والدمار، ويضغط بقوة متزايدة أيضا على خيارات النخب التي تجد نفسها أكثر فأكثر أمام انسداد باب المصالحة الوطنية مفتقرة لأي جواب يرد على استمرار الحرب والقتال.
اعتقد ان الوقت قد حان كي نطرح على أنفسنا، بعد عقود من التجربة اللبنانية التي قامت على أساس توزيع طائفي للوظائف السياسية والادارية، أي لمناصب الدولة العليا، الذي لم يصل إلى درجة توزيع المناطق الجغرافية، وأكثر من عقد على التجربة العراقية، التي حاولت فيها سلطة، اعتبرت أنه من الشرعية أن تفرض الأكثرية المذهبية نفسها وطابعها على الدولة، أسئلة رئيسية قد تساعد الاجابة عنها والتفاهم حولها على التوصل إلى حل، واستعادة المقدرة على اطلاق مبادرة وطنية توقف الحرب، تفتح الطريق أمام إعادة بناء الدولة ورسم الخطوط العريضة لمستقبل مختلف للشعب والبلاد فكيف اصبحت قاعدة التفريق الطائفي، التي كنا ننظر إليها بوصفها استراتيجية استعمارية، بديلا مقبولا للفكرة والسياسة القائمتين على أسس وطنية تساوي بين الجميع وترفض التمييز بين المواطنين؟ وما أسباب هذا التحول وأهدافه؟ وهل تنجح الدول أو الدول الطائفية في تحقيق ما عجزت عنه الدولة الوطنية من العدالة والمساواة والاستقرار والحرية والكرامة؟ وما هو حظ مثل هذه المشاريع الطائفية من التحقيق والبقاء؟ هذا ما سوف نسعى إلى تناوله في المقال القادم.


lundi, juillet 07, 2014

من حمزة الخطيب إلى محمد أبو خضير


الفيديو الذي نشرته وسائل الاعلام عن طريقة تعامل عناصر المستوطنين والجيش الاسرائيلي مع الناشطين الفلسطينيين، وتتويجه بقضية محمد أبو خضير، الذي أحرق حيا، من أجل بث الرعب في صفوف الفلسطينيين لمتابعة مشروع استكمال استيطان الضفة الغربية، لا يمكن إلا أن يستدعي إلى ذهن الانسان الكثير من الصور والحقائق المعروفة:
١- التطابق الملفت بين الطريقة التي عرضتها مئات الفديوهات التي تظهر العشرات من ميليشيات الأسد تركل بأبواطها هذا الفتى أو ذاك، لساعات طويلة وربما حتى الموت، مع تشويه الجثامين وحرقها، والطريقة التي عامل بها الجنود الاسرائيليون الفتى الفلسطيني، وفي الحالتين على سبيل الانتقام والردع وإعطاء المثل للآخرين وتأكيد قوة التصميم وانعدام أي مساومة أو حوار .
٢- لا ندري من تعلم من الآخر، جماعات الأسد وشبيحته أم جيش اسرائيل والمستوطنين. لكن ليس هناك شك أنهم تعلموا جميعا في مدرسة واحدة وينتمون إلى مذهب واحد: العنف والتنكيل والإذلال لانتزاع الخضوع والخنوع والإذعان.
٣- الشيء المشترك بين جميع هؤلاء هو أنهم ينظرون إلى السكان الذي يتحكمون بهم، على سبيل الحكم وتأبيد السلطة أو على سبيل الاحتلال، كأعداء نهائيين، لا يمكن كسبهم أو الدخول إلى قلوبهم أو عقولهم بأي وسيلة ولا التفاهم معهم بأي شكل، وليس هناك من وسيلة للعيش معهم إلا بالحكم عليهم بالاعدام السياسي، مع كل ما يستدعيه هذا الاعدام من استعداد للذهاب بعيدا في العنف والاستهانة بالحياة البشرية نفسها وليس فقط بالحقوق السياسية أو المدنية. ولا شيء يمنع، إذا اقتضى الأمر، الانتقال من الاعدام السياسي إلى الإعدام الجسدي والمادي والحكم على شعب كامل بالزوال والرحيل والتسفير.
٤- العنصرية التي تنزع صفة الانسانية عن الخصم أو ما يتحول بسبب وجوده وحده إلى عدو، وتحل بالتالي استباحة دمه، شرط لا غنى عنه لاستباحة حياة البشر بالجملة وعدم التردد في خوض حروب الابادة الجماعية والتطهير العرقي، ومن وراء ذلك ضمان مشاريع الاستيطان والاستعمار
٥- الفوضى والاستهتار بمعاني الحق والقانون الذين يكمنان وراء المحرقة التي يعيشها الانسان، في سورية والعراق وربما المشرق بأكمله، لهما حدث مؤسس أول: العنف الخالص الذي ولدت فيه ومنه دولة إسرائيل، من دون حوار ولا نقاش ولا تسويات ولا سؤال، والاستيطان الذي أصبح هدف الدولة الجديدة، ومبرر وجود اسرائيل ومصدر شرعيتها ومحور حياتها الجمعية وسياساتها، بما يعنيه من اقتلاع للناس وانتزاع الأرض، والذي ما كان له أن يستمر من دون التضحية بكل مفاهيم الحق والعدالة والكرامة البشرية، وفي مقدمها الحق في الحياة وبالسلامة البدنية والنفسية والاستهانة بالحقوق الخاصة والممتلكات.
٦- لكن ما كان لهذا الحدث أن يكون مؤسسا لنظم العنف الراهنة، السياسية والإقليمية،وأن يستمر تأثيرة إلى اليوم، وبالتالي جعل هدر الحقوق أمرا طبيعيا ومقبولا ومبررا، لو لم يصادق عليه الغرب، وهو المرجعية في قضايا حقوق الانسان في العصر الحديث، ويبرره ويرفض معالجة آثاره، مما عنى تخلي المجتمع الدولي في هذه المنطقة من العالم عن كل مبادئه وقيمه وشعاراته.
٧- لا يغير في معنى ما حصل إذا كان الدافع إلى هذه الاستقالة الأخلاقية والسياسية للغرب الشعور بتأنيب الضمير عن الفترة العنصرية واللاسامية أو تعويضا عن السياسات اللاسامية، أو بسبب العنصرية الجديدة النامية تجاه العرب وثقافتهم ودينهم. النتيجة واحدة: القضاء على أي أمل ببناء صرح للحق والقانون والعدالة والتفاهم، ومن باب أولى للديمقراطية والانسانية، في هذه المنطقة المنكوبة.
٨- لن تتوقف تداعيات خيانة معنى الحق والقانون على المشرق والهلال الخصيب الداخل في محرقة بسبب ارتباطه المباشر بمصير نظام العنف الأول. وما لم تعالج آثار هذا العنف الذي أصبح متعدد المصادر والفاعلين، ويصار إلى إعادة تأهيل سريعة لمفاهيم الحق والعدالة والقانون، وفرض احترام حق الحياة والكرامة، ستنتقل العدوى إلى مناطق أخرى من العالم وسيتطور الاستهتار بالحق والقانون بموازاة تدهور فكرة الدولة وصعود أو إحياء العصبيات القبلية والطائفية.
٨- عنف الااستيطان الذي قوض معنى الحق و اسس للانتهاك الشامل لحقوق الانسان، أو الذي عطل أي إمكانية لتوطين هذه الحقوق في الدول المشرقية الحديثة، لم يؤسس فقط لشرعنة الاغتصاب من كل الأنواع، ااغتصاب الارض والكرامة والانسان، من دون عقاب، وإنما سمح لجميع النظم السياسية المكروهة من شعوبها التمثل به والتكيف معه، قبل أن تتمثل قيمه وتتبنى وسائل عمله ومذاهبه المعروفة في استخدام العنف المجنون والحرب الوقائية والانتقام.
من حمزة الخطيب إلى محمد أبو خضير ، رسالة واحدة، مصير واحد، وعنف واحد

dimanche, juillet 06, 2014

إلى أعضاء الائتلاف الوطني السوري بمناسبة انتخابات ٦ تموز ١٤


يلتئم اليوم شمل الهيئة العامة للائتلاف الوطني السوري لانتخاب قيادات المعارضة الجدد بعد نهاية الولاية القانونية السابق.
كان من المنتظر في هذا الظرف الدقيق من تطور الثورة السورية أن يتغلب العقل على الغريزة وحب الذات، وأن تتوحد القوى والجهود جميعا في مواجهة التحديات الخطيرة التي تطلقها التطورات الاقليمية والدولية أمام الشعب والبلاد.
فلا يخفى على أحد ما يواجهه الجيش الحر من ضغوط قوية، من قبل قوات النظام من جهة، وتنظيم داعش من جهة ثانية، تقلص باضطراد من دائرة نفوذه. ولا ما تتعرض له المدن والبلدات المحاصرة من هجومات متصاعدة تهدد بفتح الباب أمام انهيارات جديدة، في حلب وغيرها. ولا ما تشهده مواقف الدول المساندة للثورة من فتور نتيجة الاستنزاف وبروز مخاطر جديدة في العراق وغيره. ولا ما يخطط له من حرف الثورة عن أهدافها الرئيسية وتوجيه قواها لخدمة أجندة أجنبية. ولا ما يلوح أخيرا في الأفق، وهو الأخطر، من ملامح الاعداد لصفقة أو لمساومة دولية وإقليمية واسعة وشاملة، ستكون بالتأكيد على حساب السوريين إن لم تحقق المعارضة حضورا قويا ومؤثرا في الساحتين الاقليمية والدولية.
كان الرد المطلوب على ذلك هو دخول المعارضة بشكل قوي، منظم وموحد، على ساحة المواجهة، يؤكد تفاهم أطرافها وتعاونهم وعملهم كفريق واحد، وحسب خطط جدية وتقاسم واضح للمهام والمسؤوليات يزيد من تمثيليتها وصدقيتها ويرتقي بأدائها.
فشل المساعي التي قمنا بها خلال الشهرين الماضيين لتجاوز الانقسامات وتوحيد الرؤية وبرنامج العمل، يعيدنا إلى المربع الأول، حيث تسود روح التنازع والاقتتال على المواقع والمناصب الفارغة، وتفتح المجال أمام كل أنواع المساومات والصفقات التي تحول السياسة إلى تبادل منافع شخصية وتقضي على أي امكانية للعمل على تحقيق رؤى وخطط سياسية عامة تتطلب التعبئة والتعاون وتعميق الثقة والتنسيق بين الجميع .

بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الثورة، وأمام اقتراب الاستحقاقات الخطيرة القادمة، لم يعد من المقبول التسامح مع مثل هذه الممارسات التي أفقدت الائتلاف، الذي يشكل الذراع الوحيد الرسمي للمعارضة، كل ما لديه من صدقية، وحولته إلى عالة على الثورة والشعب، بدل أن يكون سندا لهما. في الوقت الذي تحتاج فيه سورية، اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى خطة انقاذ وطني، يتوزع فيها الجميع المهام والمسؤوليات، ولا يمكن ضمان نجاحها من دون التفاهم والتعاون بينهم: قادة وأعضاءا على حد سواء، من داخل الائتلاف وخارجه. هذه هي الشروط للعمل كفريق وطني واحد، وعلى هدى خطة وبرنامج عمل واضحين ومتفق عليهما، ورص الصفوف للدخول من جديد إلى ساحة المواجهة السياسية والعسكرية، التي غيبت المعارضة نفسها عنها، بسبب خلافاتها الداخية، وهي خلافات على التصدر والوجاهة، أو التي غيبتها عنها إرادة بعض الدول التي لا مصلحة لها بانتصار الثورة وتحقيق مطالبها وبرنامجها.
في مناخ الصراع البدائي السائد والمتجدد على المواقع والمناصب والصلاحيات هذا، وفشل الاتفاق على خطة وبرنامج عمل متفق عليهما لمواجهة المهام الكبيرة للمرحلة القادمة، وما ظهر من انعدام روح التعاون والثقة ومعاني الالتزام، لم يعد هناك ما يبرر التفاؤل بإمكانية وضع حد لتدهور الأداء السياسي للائتلاف، أو لامكانية تحويله من إئتلاف المصالح الخاصة والإرادات الصغيرة المتنافسة على اقتسام رصيد الثورة وحسابها، إلى إطار وطني جامع يوحد قوى الثورة، ويستقطب المخلصين والأكفاء من أبناء سورية، ويعمل على تعبئة السوريين جميعا، وشحذ عزيمتهم، من خارج الدولة وداخلها، للخروج من الجحيم، وعبور الكارثة، وإحباط مخططات أعدائهم وقتلتهم، والانتقال نحو مرحلة استعادة السلام والامل واسترجاع البلاد من خاطفيها.
وأمام حقيقة دخوله في الطريق المسدود، الذي طالما حذرنا منه، لن يستطيع الائتلاف، مع سيطرة اسلوب المساومات والصفقات على قيادته على حساب التفكير والعمل السياسيين، تجاوز أزماته السابقة، ولا توحيد المعارضة وقوى الثورة وراءه، ولا تشكيل الرافعة المطلوبة لانقاذ رهانات الثورة والشعب، أو تحقيق أي هدف من أهدافهما. وبصرف النظر عن المرشحين وكفاءاتهم، لم يعد هناك، في هذه الظروف، اي معنى للمشاركة في مسرحية "انتخابات" غايتها الوحيدة هي شرعنة اختطاف الائتلاف داخليا وخارجيا، أو المصادقة على اختطافه، ولن تكون نتائجها العملية سوى تكرار التجربة الأليمة الماضية للتنازع والاقتتال على المواقع والصلاحيات، مع نتائج أكثر ضررا وأشد فتكا بالمعارضة والثورة والشعب السوري.

أدعو جميع أؤلئك الذين بقوا مخلصين للائتلاف حتى الآن، وتحملوا، بدافع الخوف من فراغ التمثيل، او الأمل باصلاحه وتطويره، كل ما خالط مسيرته وسياساته من نقص وخذلان للثورة السورية وتجاهل لآلام الشعب ومعاناته، أن يمتنعوا عن التصويت، ويتركوا المرشحين جميعا عراة أمام ضمائرهم، حتى يتم وضع حد لهذه المسرحية المأساوية، التي تمثل على جثمان الشعب وبدموع نسائه ودماء أبنائه.