mercredi, novembre 24, 2004

فـي وداع عرفـــــات

الاتحاد 24 نوفمبر 2005
التقيت الرئيس الراحل ياسر عرفات أول مرة في الأردن عام 1968 وكنت قد تخرجت للتو من الجامعة من ضمن لقاءات أخرى جمعتني خلال خمسة عشر يوماً مع العديد من قادة الحركة الفلسطينية. ولا أخفي أن الحافز الأساسي لهذه الزيارة واللقاءات التي نجمت عنها كان اتخاذ قراري بالانضمام إلى المقاومة الفلسطينية أو السفر إلى أوروبا لاستكمال الدراسة والعودة للمشاركة في ما كان يبدو لي المهمة التاريخية الرئيسية لجيلنا، وأعني مواجهة تبعات الهزيمة المدوية للسادس من يونيو عام 1967 والمساهمة في إعادة بناء المنطقة العربية على أسس جديدة تختلف عن تلك التي أدت إلى الهزيمة وضمنت استمرار التخلف والعطالة العربيين. وهو ما كان يضغط بقوة على وعي جيلنا الحالم وعلى ضميره المعذب معاً. وليس هدفي هنا التفكير في ما لم يخطر في بالي أن أفكر فيه قبل وفاة الرئيس الفلسطيني، أعني ما الذي دفعني إلى ترجيح الخيار الثاني ومنعني من الانضمام لإحدى حركات المقاومة بالرغم من بعض "العروض" الكريمة التي فدمت لي في ذلك الوقت. لكن من الواضح لي اليوم أن الحركات الفلسطينية اليسارية التي كانت تتفق بشكل أكبر مع رؤيتي النظرية لتلك الفترة لم تحدث عندي قناعة قوية في حين أن حركة فتح التي كنت قد شاركت مع زملاء لي في إصدار نشرتها العلنية "الثورة الفلسطينية" من دمشق منذ عام 1976 كانت تخضع في تلك الفترة لنزعة عسكرتارية أو نشاطوية قوية تجد في السياسة والتنظير السياسي خطراً على الوحدة الفلسطينية وتعلق جميع آمالها بالبندقية. وهكذا بينما كانت حركات المقاومة الفلسطينية اليسارية والقومية العربية تعاني من الإفراط في المناظرة الفكرية والتنظير كانت حركة المقاومة الفتحاوية تعاني بالعكس من الخوف المفرط من التفكير النظري إلى درجة أننا هوجمنا نحن العاملين في مجلة الثورة الفلسطينية وتم استبعادنا منها في الفترة ذاتها تقريبا التي كنا ننوي فيها الانضمام إلى صفوفها. وكانت التهمة أننا نشكل خطراً على الحركة بسبب إدخالنا المناضلين في متاهات التفكير والسياسة النظرية.ولعل ما بقي حاضراً في ذاكرتي حتى اليوم من هذا اللقاء الأول بعرفات هو هذه الديناميكية الجسدية التي كان يتمتع بها والتي جعلتني أفكر في تلك اللحظة أنها هي التي تشكل مصدر تفوقه على جميع زملائه. هذا هو على الأقل الانطباع الذي تركه عندي لقائي الأول مع ياسر عرفات الذي لم يفعل شيئاً آخر غير اصطحابي معه في جولاته الميدانية متبادلا معي من فترة لأخرى بعض الأفكار السريعة بينما قضيت ساعات عديدة أسمع تحليلات سياسية متباينة القيمة مع قادة آخرين. لقد بدا لي أن زعامة عرفات القيادية مستمدة مباشرة من ديناميكيته الجسدية الاستثنائية التي يسعى من خلالها إلى تحقيق ما يحاول الآخرون فرضه بقوة آرائهم الفكرية أو بتحليلاتهم النظرية. أما المرة الثانية التي جمعتني بياسر عرفات فقد كانت في تونس التي اضطر إلى الإقامة فيها مع حركة المقاومة الفلسطينية بأكملها بعد خروجه من لبنان تحت ضغط الاحتلال الإسرائيلي وبعد الصدام السوري الفلسطيني في طرابلس. لكن في هذه الفترة لم يعد عرفات هو نفسه الذي قابلته في الأردن عام 1968 كما لم أعد أنا نفسي ذاك المثقف الباحث عن مكانه في حركة السياسة المشرقية في بداية حياته. كانت معركة الصراع على الزعامة الفلسطينية التي كانت تسيطر على حياة المنظمات الفلسطينية وقادتها أثناء زيارتي الأولى لها في السبعينات في الأردن قد حسمت نهائياً وأصبح ياسر عرفات زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية من دون منازع. وهكذا أتيح لي هذه المرة أن أتعرف على رجل آخر تماماً. فلم يعد عرفات ذاك القائد العسكري الشاب الذي ينتقل بلمح البصر من موقع إلى موقع، يتحدث مع أكثر من شخص ويعمل في أكثر من مكان في وقت واحد. لقد صار الحاكم السياسي الحقيقي لشعب كامل حتى لو أنه لم يكن يعيش على الأرض ذاتها التي يعيش عليها الشعب الذي يحكمه ولا يمتلك الأدوات ذاتها التي يملكها الحكام عادة لتحقيق سياساتهم وتنفيذ قراراتهم. وصار مقره مركز سلطة عمومية يستقبل فيه السياسيين والصحفيين وكبار المسؤولين لا يغيره ولا يغادره تقريباً. في هذه المرة لم يصحبني عرفات في جولاته الميدانية ولكنه دعاني إلى أن أرافقه في مهامه السياسية التي كان يبدؤها في مكتبه في الثانية أو الثالثة صباحاً حتى الفجر. لقد تصرف كما لو كنا نعرف بعضنا بعضاً تماماً، دون تصنع ولا تكلف. لم يأخذ الحديث في الموضوع الذي كان غرض الزيارة والذي لم يرَ النور لأسباب أخرى سوى وقت محدود جداً. كان عرفات قد حسم قراره قبل لقائي معه ولم يكن يسأل كثيراً عن التفاصيل. قال للعاملين معه قدموا لنا العشاء، ودعاني إلى العشاء معه وكان بطيخاً أحمر وجبناً. بعد أن انتهينا شربنا الشاي ثم طلب مني أن أبقى لأستمع إلى مقابلة صحفية كان قد اتفق عليها مع أحد الصحفيين الأجانب، كما لو كان يريدني أن أكون شاهداً. كنا نتبادل الحديث بأشياء وأخرى وهو يعد نفسه للمقابلة ويدقق في وضع ثيابه وبشكل خاص في ترتيب وضع كوفيته وعقاله كما لو كان يعد نفسه لدور مسرحي. فاجأني بعد المقابلة بسؤاله عن رأيي في ما قاله، فلم أجد ما أقوله وقد كنت مأخوذاً بالموقف كله وبما أحاطني به من مودة وتبسط ورفع كلفة إلا عبارة واحدة: لينصركم الله. لم يجب ولكنه كان سعيداً بلقائه الصحفي وبدا لي شديد المرح والإعجاب بالنفس. لقد كان في سلوكه مزيج من الألفة ومشاعر الأخوة والبساطة والوله الذاتي معاً. وجمع في شخصيته بين روح طفولة مرحة لا مهتمة وإرادة كهل شديد الخبرة والمراس. لقد بدا لي في الوقت نفسه أحد أطفال الحجارة ورجل المصير الذي يقيس اختياراته بمقياس التاريخ والحوادث العظيمة. ومما لا شك فيه أن عرفات كان ينظر إلى خياراته وقراراته على أنها قرارات واختيارات مصيرية تحدد، في ما وراء السلطة التي يمثلها والمنظمة التي يرأسها، مستقبل الشعب الذي ينتمي إليه والذي أخذ على عاتقه مسؤولية قيادته إلى النصر، ذاك الذي لم يشك لحظة أنه في انتظاره. التقيت عرفات في لقاءات سريعة في ما بعد. لكن لم أره بعد عودته إلى فلسطين. وفي فلسطين تحول القائد الذي صار إليه عرفات منذ خروج المقاومة من بيروت إلى رمز بعد أن انتزع منه الاحتلال كل سلطة وصوت. وها هو الرمز يتحول في موته من جديد إلى رئيس من لحم ودم، رئيس دولة فلسطين والمؤسس الفعلي لوطنية بدت بعد وفاته أكثر توهجاً وحضوراً من أي وقت سابق.

mercredi, novembre 17, 2004

العالم العربي ومشروع الشرق الاوسط حوار مجلة نوافذ المغربية

في هذا الحوار يتحدث لنا برهان غليون استاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السربون.في باريزعن اوضاع العالم العربي بعد فشل مشروع الشرق الاوسط الامريكي وعن وضعية البلدان العربية حاليا بعد احتلال العراق.

التقاه في باريس يوسف لهلالي

نوافذ:
ـ الامريكيون رفعوا شعار الاصلاح في سياق سعيهم لبسط نفوذهم الشامل في المنطقة وتأكيد حضورهم فيها وقيادتهم لها.هذا هو مضمون اصلاح الشرق الاوسط الكبيير. لهذا سعى الاوربيون إلى تعطيل هذا المشروع أو الالتفاف عليه وانقاذ مشروعهم الخاص القائم على الشراكة الأورومتوسطية. وهم أميل إلى استقرار الأوضاع وعدم المفامرة بتغييرات أو بإعادة هيكلة للمنطقة تفتح الباب في نظرهم إلى الفوضى وعدم الاستقرار كما تريد الولايات المتحدة. ونحن لا نزال نعيش في هذه المنطقة في إطار نظام شبه استعماري قائم على تقاسم النفوذ بين الاوربيين والامريكيين.
ـ ان الانظمة الاستبدادية ما كان لها ان تستمر كل هذا الوقت بدون الدعم الغربي
ـ أغلب النظم العربية بنيت على اساس التعامل مع الخارج وليس بناءا على دعم داخلي أو قاعدة إجتماعية واسعة وعلى توسيع دائرة المصالح الوطنية. ومن هنا فهي لا تعتمد في استمرارها كثيرا على تأييد الشعب ولا تسعى إلى تعزيز موقعها في وسطه. إنها تعتمد على القوة في الداخل وتحالفاتها الدولية في الخارج ولا شيء آخر.

الاستاذ برهان غليون ما هو رأيك في المشروع الامريكي للشرق الاوسط الكبير؟


أعتقد ان مؤتمر الثمانية الاخير حول هذا المشروع الامريكي من مشروع مباشر الى مجرد اقتراحات وافكار بفعل الضغط الاوربي، والنقاش حول هذا المشروع تحول الى صراع اوربي امريكي حول الاستراتيجية الاصح للتعامل مع الشرق الاوسط.والاوربيون يرون ان أي تغيير سريع وشامل في المنطقة يمكن ان يؤدي الى وضع لايمكن التحكم فيه.فهم لايريدون تغييرا في النظم بل مجرد اصلاحات تدريجية. وقد اضطرت واشنطن إلى تعديل موقفها الأول والتراجع عن مشاريع إعادة الهيكلة الشرق أوسطية بعد أن أخفقت في العراق وأدركت الحاجة إلى التفاهم مع اوربا إذا أرادت أن تستمر في تطبيق مشاريعها الشرق أوسطية، أي في الواقع إلى تعديل وتيره تدخلاتها العكسرية والسياسية.
وحتى الآن/ يمكن القول ان المشروع الامريكي تحول الى تعبير عن النوايا البعيدة أكثر منه إلى مشروع تغيير فوري كما ادعى الأمريكيون نحو الديمقراطية واحترام حقوق الانسان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ومن الواضح أن فكرة التغيير في الشرق الأوسط لم تخطر على بال الامريكيين إلا بعد الحادي عشر من سبتمبر وبشكل خاص بعد احتلالهم العراق وإدراكهم لمدى الرفض الذي يظهره الرأي العام العربي والعالمي أيضا لخططهم واستراتيجياتهم التدخلية الانفرادية. وفي مواجهة الرأي العام الامريكي الذي أصبح أكثر تشككا في مشروعية الحرب على العراق بعد أن ظهرت نتائجها الكارثية بالنسبة للعراقيين والجنود الأمريكيين أيضا أطلق القادة الأمريكيون فكرة الاصلاح في الشرق الأوسط لإضفاء نوع من الشرعية الأخلاقية والانسانية على مبادرة عسكرية ليس لها ما يبررها خاصة بعد أن أقر خبراء عديدون أن العراق لم يمكن يمتلك أسلحة دمار شامل كما كان يتهمه القادة الامريكيون.
وفي جميع الأحوال لم يكن المشروع الامريكي يهدف الى تغيير النظم القائمة في المنطقة بقدر ما كان يهدف كما عبر عن ذلك العديد من المسؤولين الأمريكيين إلى الضغط على الانظمة السيا سية لإجبارها على تقديم تنازلات اضافية لصالح الامريكيين من جهة ولدفعها إلى القيام ببعض الإصلاحات التي تعطي للشعوب العربية الانطباع بأن الخلاص من الاستبداد ليس ممكنا من دون الأمريكيين أو هو جاء بفضل التدخلات الأمريكية. لكن سياسة الوعود الأمريكية لم تؤت ثمارها فلا الرأي العام العربي اقتنع بحسن نوايا الولايات المتحدة وغير موقفه المعادي لها، ولا الرأي العام الامريكي غير اعتقاده بعدم ضرورة الحرب الأمريكية على العراق. فكما أن الرأي العام العربي لم يكن لينخدع بالوعود الأمريكية الكبيرة في الوقت الذي يعاين فيه يوميا نتائج الدعم الأمريكي غير المشروط لاسرائيل في احتلالها لأراضي الدولة الفلسطينية، لم يقتنع الرأي العام الأمريكي بصدق القيادة الأمريكية وسعيها المنزه عن الهوى لنشر الاصلاح والديمقراطية عن طريق الاحتلال وقصف المدن وقتل المدنيين في المدن العراقية.
هل هذا يعني جهل الامريكيين بخصائص المنطقة مقابل معرفة اوربية كبيرة ودفاعها عن مصالح هذه الشعوب؟
هذا ما يقوله الاوربيون الذي يعرفون المنطقة اكثر وهذه حقيقة. لكنهم ليسوا أكثر انشغالا بالمصالح الوطنية للدول العربية. فهم لم يكفوا أيضا منذ عقود عن دعم النظم الاستبدادية. ولا يزالون يعتقدون بأن الدفاع عن النفوذ الأوروبي وحماية مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية بما في ذلك أمن إسرائيل وسلامتها تستدعي التحكم بالمنطقة عن قرب وعدم السماح للتيارات المعادية للغرب أو المدافعة عن درجة أكبر من الاستقلال والسيادة والسيطرة على الموارد المحلية لتوجيهها نحو التنمية بالوصول إلى السلطة بأي ثمن. وقد برهنوا على ذلك في موقفهم المعروف من حركة القومية العربية في أيام الحركة الناصرية ومن عبد الناصر كما برهنوا عليه من خلال تعزيزهم القدرات الاسرائيلية خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ثم أخيرا من خلال اختيارهم دعم نظم الأقلية الاستبدادية والديكتاتورية في المنطقة حتى اليوم. واعتقد ان الانظمة الاستبدادية ما كان لها ان تستمر كل هذا الوقت بدون الدعم الغربي بما فيها تلك الانظمة التي كانت حليفة للاتحاد السوفياتي والتي استمرت بعد انهيار هذا الاتحاد بفضل الدعم الغربي المالي والعسكري والسياسي والتغطية على انتهاكات حقوق الانسان. وهاهي الدول الغربية جميعا، والاوروبية على رأسها، تشاهد ما يقع في المنطقة من انتهاكات لحرية التعبير ومن محكمات استتنائية واعلان حالات الطوارئ ومن خروقات خطيرة لحقوق الانسان دون اية ردود فعل ديبلوماسية أو سياسية.
لقد رفع الامريكيون شعار الاصلاح في سياق سعيهم لبسط نفوذهم الشامل في المنطقة وتأكيد حضورهم فيها وقيادتهم لها.هذا هو مضمون اصلاح الشرق الاوسط الكبيير. لهذا سعى الاوربيون إلى تعطيل هذا المشروع أو الالتفاف عليه وانقاذ مشروعهم الخاص القائم على الشراكة الأورومتوسطية. وهم أميل إلى استقرار الأوضاع وعدم المفامرة بتغييرات أو بإعادة هيكلة للمنطقة تفتح الباب في نظرهم إلى الفوضى وعدم الاستقرار كما تريد الولايات المتحدة. ونحن لا نزال نعيش في هذه المنطقة في إطار نظام شبه استعماري قائم على تقاسم النفوذ بين الاوربيين والامريكيين.

لكن الموقف الاوربي لم يكن موحدا كما تحدثتم عنه ، بل هناك انقسام بين الاروبيين بين مؤيد ومعارض لهذه السياسة الامريكية؟

عندما اتحدث عن الموقف الاوربي اقصد فرنسا ،المانيا وبلجيكا التي كان لها موقف متميز. وحتى بريطانيا فيما يخص مشروع الاصلاح كانت اقرب الى هذا الموقف. ولم اقصد باقي الدول الاربية الصغيرة غير المؤثرة أو مجموع الدول الاوروبية. فمن الواضح أن أوروبة لم تصبح بعد قوة سياسية واحدة لكن هناك نواة صغيرة من الدول هي التي تحدد موقفا أوروبيا متميزا. والواقع أنه حتى هذه الدول ما كانت لتقف الموقف الذي وقفتها لو لم تر تخبط واشنطن في العراق أيضا. إن أوروبة لا تزال ضعيفة سياسيا بصورة ملفتة للتظر.

المقاومة العراقية ادن هي التي دعمت الموقف الاربي ؟

بالتاكيذ، لعبت دورا كبيرا لصالح الموقف الاوربي. والمؤكد ان المنطقة اصبحت ساحة للحرب الباردة بين الاوربيين والامريكيين وهذا الهامش تستفيد منه الانظمة القائمة وهو ليس لصالح شعوب المنطقة من اجل التغيير والضغط على الانظمة القائمة
.
لكن نلاحظ غياب الشعوب العربية والانظمة من هذا النقاش الدولي حول مصيرها؟

هذه حقيقة عكستها القمة العربية الاخيرة. بل كل القمم. فهذه الانظمة مختلفة لكنها تحاول ان تبين ان هناك اجماعا شكليا.لان الانظمة العربية ليس لها اجندة وطنية واستراتيجية بل لك منها جدول اعمال خاص بالفئات الحاكمة. دول الخليج ليس في ما بينها تعاون حقيقي وهي تعتمد جميعا بالجملة والمفرق على التحالف مع امريكا لحماية نفسها من باقي الدول العربية. اما بلدان المغرب العربي فقد اختارت التفاهم مع الغرب عموما والاندماج اقتصاديا مع اوربا والرهان على استتماراتها بالمنطقة.وكذلك على الانفتاح الواسع على امريكا. فهي تراهن على سياسة اقتصادية جديدة وقطع الحبال مع كل المفاهيم القديمة العربية، الوطنية والاستقلالية. والاجندة الاساسية هي جلب الاستتمارات وتحسين الوضع الاقتصادي. وبالعموم تسود في المنطقة سياسة تغليب المصلحة القطرية والاستفادة من الشراكة الاورمتوسطية وجلب الاستتمارات. من اجل تلبية حاجة الجمهور الى فرص عمل. بالنسبة لبلدان الشرق كمصر وسورية فهي تعيش أزمة عميقة جدا. واجندتها الاساسية هي احتواء اسرائيل وتوسعها المدمر ودرء المخاطر والتهديدات القوية الناجمة عن سياساتها العدوانية في المنطقة. وبعض هذه البلدان الذي لا يزال يعاني من احتلال قسم من أراضيه من قبل إسرائيل مثل سوريا،لبنان وفلسطين، يفتقر للتفاهم والتعاون بالرغم من اشتراكها في مسائل عديدة. لكن لكل منها اولويات مختلفة. ان جميع هذا البلدان محتاجة الى الاستتمارات وكلها مهتمة بقضية الاحتلال. لكن كل بلد يحاول اعطاء الاسبقية لقضاياه الخاصة ولو على حساب باقي البلدان العربية الاخرى. إن أكثر ما يميز البلدان العربية للأسف هو انعدام القدرة على التنسيق في ما بينها وبالتالي غياب أي اجندة عربية مشتركة والقبول بذلك من قبل الجميع والتسليم به كما لو كان ضربا من الحتمية التي لاراد لها. هكذا ياتي كل طرف عربي الى القمة ويعرف انه لن يصل الى نتيجة ولايريد الوصول الى نتيجة رغم الخطابات التي تداع حول التفاهم العربي المفترض. إن كل ما يأمل به من القمة هو أن يخرج من دون أن يدين الآخرون سياساته الانفرادية وتفريطه بالقضايا العربية العامة.

لهذه الاعتبارات يجب حل الجامعة العربية التي لم يعد لها أي دور باستتناء اصدار البيانات؟
هكذا يعتقد قطاع واسع من العرب ، بما فيهم جماعات غيورة على الجامعة العربية والفكرة العربية. فهم لم يعودوا يرون في الجامعة إلا وسيلة للتغطية على السياسات القطرية بل سياسات بعض النخب الحاكمة. ويعتقدون بالتالي أن من الافضل زوالها. لكن لست من أصحاب هذا الرأي بالرغم من صحة مايقولونه عنها. فزوال الجامعة العربية في الظروف الحالية التي يعيشها العالم العربي يستجيب لمخططات واشنطن وتل أبيب التي تريد أن تدفع البلدان العربية إلى قطيعة نهائية مع أفكار وقيم التحرر والاستقلال والتفاهم العربي وتزيل آخر رموز الوحدة بين الشعوب العربية. والواقع أن إلغاء الجامعة العربية كان ولا يزال مطلبا علنيا لأمريكا وإسرائيل التين تريان فيه تكريسا نهائيا للانقسام بين الدول العربية ولقطع كل قنوات التواصل والاتصال في ما بينها وبالتالي تفكيك العالم العربي حتى لا يشكل في المستقبل عامل تهديد لأمن إسرائيل.
بالتأكيد لم يعد من الممكن المراهنة على الجامعة العربية في سبيل خلق تكثل عربي. لكن لا ينبغي لبقاء الجامعة العربية أن يحول دون قيام تكتلات بين دول عربية مختلفة بل وغير عربية أيضا على مستوى ثنائي وتلاثي وعلى مستوى الجهات كما حصل في الثمانينات مع بلدان مجلس التعاون الخليجي،ومجلس التعاون العربي واتحاد بلدان المغرب العربي.

كيف تفسر هذا التناقض الذي يعرفه العالم العربي بين خطاب وحدوي قومي وعاطفي مع وجود ثقافة وثرات ولغة مشتركة وعجز شامل عن بناء سياسات مشتركة في حين توجد تجمعات بلدان اخرى مثل اوربا واسيا رغم اختلاف اللغة والثقافة والمصالح نجحت في ايجاد سياسة مشتركة خاصة في المجال الاقتصادي؟

السبب في تحقيق الاتحادات بين دول اسيا و امريكا واوربا رغم غياب الثقافة واللغة والتاريخ المشترك هو ان هذه البلدان لها انظمة وطنية أي أنظمة يسيرها منطق البحث عن توسيع دائرة المنافع والمصالح العامة لشعوبها وكسب مواقع جديدة في الاقتصاد الدولي. وهي تعرف ان التعاون يؤدي الى تعزيز مصالح الجميع بغض النظر عن قوميتهم.وبالمقابل إن المنطق الذي يسير نظمنا السياسية الاجتماعية ويشرط سلوكها الداخلي والخارجي هو التفكير بمصالح الحاكمين الخاصة سواء أكانوا طبقة ام عشيره أم أسرة أم شخصية حاكمة. وليس لديها أي حافز ما دامت تضمن استمرارها في السلطة بفضل الريع والدعم الخارجي للدفاع عن المصالح العامة أو للاهتمام والانشغال بمصالح عامة الناس.

هل هذا الوضع بهذه البلدان هو بسبب البترول؟

البترول هو أحد هذه العوامل القوية بالتأكيد. فهو مصدر كبير للريع. لكنه ليس وحده. المشكلة ـ أغلب النظم العربية بنيت على اساس التعامل مع الخارج وليس بناءا على دعم داخلي أو قاعدة إجتماعية واسعة وعلى توسيع دائرة المصالح الوطنية. ومن هنا فهي لا تعتمد في استمرارها كثيرا على تأييد الشعب ولا تسعى إلى تعزيز موقعها في وسطه. إنها تعتمد على القوة في الداخل وتحالفاتها الدولية في الخارج ولا شيء آخر. ومحور توفر القوة والتحالفات الخارجية هو وجود الريع سواء أكان ريع النفط أو ريع الموقف أو ريع الموقع. باختصار إن مشروعيتها خارجية. وما يهمها هي صورتها في الخارج.
ومن هنا فان العالم العربي يشهد اكبر تركيز للتروات بيد عائلات محدودة, واليوم تجاوز ودائع العرب الخارجية ألف مليار دولار وهي ودائع مهربة من العالم العربي نحو الخارج.وتخدم الخارج.

لكن هل العالم العربي يعيش اليوم على العقم في النخب وفي حركات المجتمع المدني وليس في استطاعته تجاوز الانظمة المستبدة والتابعة للخارج؟

الان يبدو لنا الامر كذلك في العشر سنوات الاخيرة. لكن في الواقع ان صمت الشعوب العربية يعود الى الهزائم التي تكبدتها في مواجهتها هذه الانظمة المدعومة من الخارج. منذ السبعينات والثمانينات تفجرت انتفاضات الخبز في عدة مناطق عربية، بعدها جاءت الحركات الاسلامية السياسية التي عبرت عن أزمة النظم والمجتمعات معا وحظيت بشعبية كبيرة على أمل أن تتحول إلى قوة تغيير. لكن فشلها ومحاصرتها من قبل النظم المحلية والدول الكبرى معا أدى إلى تجذر حركة الاحتجاج والاعتراض وتحول قسم منها تدريجا نحو وسائل العنف والجريمة. وهو ما نعيشه اليوم حيث يرتد خنجر المجتمعات إلى المجتمعات ذاتها. وقد ساهم هذا التحول في إعادة تجديد العقد الاستعماري إذ أوجد قاعدة جديدة لعودة التفاهم والتحالف بين النظم والنخب العربية الحاكمة المفلسة والدول الكبرى الباحثة عن طرف محلي يرشدها في معركتها الشاملة ضد ما أصبح يعرف بالارهاب الدولي.
لكن المشكلة الحقيقية التي تكمن وراء هذا التطور الخطير في الأوضاع العربية هو عجز النخب الحاكمة عن معالجة مشاكل المجتمعات واستهتارها بمصيرها ومصالحها وفشل المجتمعات نفسها في فرض التغيير والتداول السياسي بسبب تدخل الدول الكبرى وخوفها على مصالحها ومناطق نفوذها ودعمها بالتالي للنخب القائمة من دون شروط حتى الآن.
حاولت .الشعوب العربية تغيير الاوضاع من خلال الثورات الاجتماعية والتمردات الاسلامية لكنها هزمت وتعيش اليوم على وقع الهزيمة. وما نعيشه اليوم من عنف داخلي وخارجي هو ثمرة هذا الفشل المزدوج في الاصلاح والتغيير معا منذ بداية عقد الثمانينات. اليوم نحن تجاوزنا حقبة الاصلاح والتغيير ونعيش عصر الانفجار والعنف الناجمة عن هذا الفشل وانسداد الآفاق، عصر تناقض فضيع بين نخبة لا تفكر إلا في مصالحها ومجتمعات يتيمة أو ميتمة ليس لها أمل في قيادة ولا في تغيير. أما الدولة فقد تحولت بين يدي نخبة لاتخضع في سلوكها لا قاعدة ولا لقانون ومستعدة لإعلان الحرب في اية لحضة تهدد فيها أبسط مصالحها، إلى نوع من العصابة المنظمة تدافع عن مصالحها بأي وسيلة ومن دون أي اعتبار لأية قيم أو مباديء أو مصالح اخرى.

؟؟؟ كيف تفسر التحولات بالعراق اليوم مع تطور وسائل التعبير التي اصبح يعرفها المجتمع من تظاهرات ومقاومة حتى تحت الاحتلال؟

هذا صحيح، مما شك فيه ان ضرب نظام البعث السابق حرر الناس وأصبحت هناك احزاب وتيارات متعددة كسرت احتكار الكلام والنقاش. لقد تحرر المجتمع العراقي بالفعل لكن ليس في اطار من السيادة ولكن في إطار الاحتلال. فقد ضرب الامريكيون النظام السابق لكن من اجل بناء نظام يخدم مصالحهم. العراق بعد صدام يتخبط اليوم في الاحتلال. و اذا لم تتمكن القوى العراقية من الاتفاق على اجندة وطنية من اجل التخلص من الاحتلال، فان العراق يمكنه ان يتحول الى افغنستان جديدة بانتشار العنف المسلح والانقسام بين مختلف تياراته. و
وإذا كان وضع العراق بعد الحرب ييبن كيف يؤدي اختفاء نظام القهر الى عودة الحيوية الى المجتمع فهو يبين أيضا كيف أن القضاء على نظام القهر لا يعني بالضرورة نهاية المحنة ولا يفتح الطريق مباشرة نحو الديمقراطية والسلام الاهلي والإصلاح. هذا يحتاج إلى عمل دؤوب ومستمر ونشيط من قبل جميع القوى والاطراف الوطنية التي تريد الحفاظ على استقلال البلاد ووحدتها.
ولا ينبغي لهذه القوى أن تيأس. ذلك أنه في الوقت الذي يبدو فيه التفاهم والتعاون على أشده بين النظم الاستبدادية العربية والاحتلال، تحت راية الحرب الدولية ضد الارهاب وحولها، تتطور الأزمة بينهما كما لم يحصل في أي مرحلة سابقة. إن ما نعيشه ليس عصر التحالف ولا حتى تجديد التحالف بين الاستعمار والاستبداد وإنما بالعكس زعزعة التفاهم مابين الانظمة العربية والنظام الدولي. ليس ذلك بسبب اقتناع القوى الكبرى بفضائل النظم الديمقراطية والإصلاحية أبدا ولكن لأنها لم تعد مقتنعة بقدرة هذه الانظمة على الاستمرار وضبط الاوضاع. إنها تفكر في إعادة هيكلة المنطقة وفي تجديد الصيغة القديمة وتكليف فئات ونخب مختلفة قادرة على إدارة الأوضاع بشكل أقل همجية وبالتالي على التقليل من حجم التالف وعلى امتصاص غضب الشعوب وتناقضات المجتمع. وليس من المستبعد أن تكون التعددية وما تعنيه من توسيع هامش الحريات الفردية ولا أقول الديمقراطية هي السمة الأبرز للصيغة الجديدة.

لكن أي هامش من الديموقراطية هو لصالح الاحزاب الدينية بعد ان تراجعت القوى القومية او الاشتراكية او الليبرالية. ألا
تعتقدون انه في هذه الظروف لن يتم الضغط على هذه الانظمة لتوسيع قاعدة الحكم؟.

القوى الدينية اليوم هي الاكثر نشاطا ليس في العراق لوحده بل في كل البلدان العربية بدون استثناء. فايدولوجياتها هي الأكثر تعبئة لقوى المعارضة وقوى الاحتجاج والنقمة على النظام بقدر ما فقدت ايدولوجيات الحداثة التي كانت مصدر التعبئة لنظم ما بعد الاستقلال رصيدها وجاذبيتها. لكن لا يعني هذا حتمية انتصار قوى المحافظة الدينية بالضرورة. فأولا نحن لا نتحدث عن ديمقراطية مفتوحة وحرة بالفعل ولكنها ستكون حتما تحت الإشراف المباشر للأجهزة الداخلية والخارجية كما نشاهد ذلك في العديد من البلدان. وثانيا لأن انتصار العقائديات الدينية نابع هو نفسه وبشكل أساسي من تغييب الحياة السياسية والتضييق على المعارضة الديمقراطية. مما دفع نحو المعارضة المتشددة والناشئة خارج النظام. لكن حتى في حالة تبني المسلسل الديموقراطي فلن تكون حظوظ انتصار الاحزاب الدينية كبيرة لانها على خلاف ما يعتقد البعض ليست تيارا واحدا وإنما تيارات منقسمة على نفسها تتردد بين عدة اتجاهات ومشارب حتى داخل الحزب الواحد.وليس لها برنامج واضح، وهي حركات سلب اكثر منها حركات ايجاب. فهي تنجح في المقاومة والمعارضة لكنها تفشل حال حصولها على السلطة كما وقع في افغنستان والسودان. ثم إنه عندما يقرر بلد ما الدخول في الحياة الديموقراطية فان القوى الديموقراطية تسترجع حيويتها وقدرتها على العمل.ومشكل البلدان العربية بعد الاستقلال هي انها اختارت شكلين غير ديموقراطيين الاتجاه الماركسي والاتجاه القومي والدولتي. والتيار الديموقراطي اليوم ينمو بفعل فشل التيارات التي استحودت على الحكم في السابق. في الستقبل اعتقد التيار الديموقراطي الوليد هو الذي سيجمع حوله باقي القوى.

المشروع الامريكي حول الشرق الاوسط لم يعطي أي اعتبار للقضية الفلسطينية رغم اعتبارها قضية اساسية في المنطقة؟

اليوم زاد الوعي عبر العالم بان الصراع العربي الاسرائلي والفلسطيني الاسرائيلي يسمم العلاقات والحياة السياسية والاقتصادية بالمنطقة . وهناك تسليم من قبل الجميع اليوم بأن الخروج من العنف والتوثر واللاستقرار الذي تعرفه المنطقة يستدعي حل هذا الصراع. والجديد هو انه حتى لدى الاسرائليين و لدى شارون هناك اقتناع ان العنف لوحده لايمكنه ان يقدم حلولا رغم استمرار سياسة الاستعمار والايستيطان. والان تعرف المنطقة جولة اخرى من العنف. واليوم يطلب من الفلسطنيين المزيد من التنازلات مثل اقتسام الضفة الغربية وهو شيء لن يقبلوه بعد كل التضحيات التي قدموها.
نحن نعيش أزمة حقيقية على مستوى النزاع العربي الاسرائيلي ونقف أمام طريق مسدود. فسلاح الحسم بالقوة العسكرية الاسرائيلي لم ينفع كما أن انتفاضة الجسد واللحم الفلسطيني الحي ضد المدفع والدبابة لم يؤمن التحرر من الاحتلال. وفي اعتقادي ليس هناك مخرج، مع إخفاق العرب في وضع استراتيجية ناجحة لوضع حد للنزاع، من دون التدخل القوي للدول الكبرى لفرض حل على الاسرائيليين يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني التي كرستها قرارات الامم المتحدة.
إذا لم يحصل ذلك فنحن سائرون نحو حرب مستمرة من حول جدار الفصل العنصري الذي يشيده الاسرائيليون لفرض حياة الغيتو أو العزل على الفلسطنيين. وسوف تظل المنظقة برمتها وليس فلسطين فحسب في حالة أزمة مستفحلة ودائمة تتجه نحو إنتاج حالة كارثية.

كلمة اخيرة حول تقرير التنمية في العالم العربي الذي شاركت في اعداده؟

اهم شيء في هذا التقرير هو انه نجح في اثارة النقاش بالعالم العربي وهذه نقطة ايجابية واساسية. وهذا التقرير ليس نهائيا. هو وثيقة عامة للنقاش قدمها بعض المتخصصين العرب، ولا بد لك بلد من ان يقوم كل باعداد تقرير خاص به. لقد اتهم البعض هذا التقرير بانه ادات لخدمة اطروحات الادارة الامريكية. وهذا ليس صحيحا. لقد كان التقرير قميص عثمان. الواقع أن سبب تدخل الدول الكبرى في الشؤون العربية هو سوء السياسة العربية وإدارة الدول نفسها وليس شيئا آخر.

mercredi, novembre 10, 2004

احترام القيم الإنسانية شرط للحفاظ على الهوية

الاتحاد 10 نوفبمر 2005

ذكرت في مقال سابق أنه لم يعد من الممكن للمجتمعات العربية استرجاع صدقيتها الداخلية والخارجية إلا باستعادة نخبها الجديدة أو القادمة لمعاني المسؤولية بأبعادها الثلاثة الوطنية والإقليمية والدولية، وبإظهار هذه النخب بشكل واضح قدرتها على تحمل هذه المسؤولية في المستويات المتعددة لممارستها وعلى الحكم بمنطقها وبالتطابق معها. وإذا كان حمل المسؤولية الوطنية يعني اليوم في العالم العربي السعي الجدي إلى تغيير جذري في أساليب الحكم والإدارة وفي نوعية السياسات التي قادت إلى الأزمة الداخلية المتفجرة والعودة إلى طريق الإدارة السليمة القائمة على احترام معايير الكفاءة والنزاهة والقانون، بدل معايير الزبونية والمحسوبية وتبادل المصالح السائدة، وكان حمل المسؤولية الإقليمية يعني مساهمة كل دولة في خلق الشروط التي تسمح بضمان استقلال الإقليم وتطوير سبل التعاون والتبادل المثري بين شعوبه فإن حمل المسؤولية الدولية يعني، قبل أي شيء آخر، الارتفاع إلى مستوى التحديات العالمية والمشاركة في إنضاج وتحقيق القرارات التي تهم مستقبل البشرية. ولن يمكن لأية نخبة حاكمة أن تظهر بمظهر النخبة السياسية المسؤولة وبالتالي أن تحظى من جديد بالصدقية إلا بقدر ما تظهر من قدرة على تحقيق المهام المتعددة والمتنوعة المنوطة بها. ويعني الارتفاع إلى مستوى المسؤولية الدولية العمل الجماعي في سبيل تأمين درجة أكبر من التكافل الإنساني بما يتضمنه ذلك من المساعدة على خلق الشروط الملائمة لتقدم عملية التنمية وإزالة عوامل القهر والانسدادات العديدة والمتزايدة التي تواجهها المجتمعات على جميع مستويات نشاطاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والتي تؤدي إلى تفجر حركات الثورة الجامحة والعنف. وفي ما يتعلق بالعالم العربي، لن تستعيد المجتمعات موقعها لدى الرأي العام العالمي ولن تنجح في تحسين صورتها السلبية إلا بقدر ما تظهر قدرتها على بناء نظم قادرة على إطلاق ديناميات الحداثة المعوقة ودفع عجلة التقدم العلمي والتقني والأخلاقي. ويقتضي التقدم في هذا الطريق ويشترط حتماً تحرير الشعوب العربية من العطالة والهامشية والقيود السياسية والفكرية والأمنية التي تكبلها وتدفع بها إلى الاستقالة والانكفاء أو تفجر في وسطها حركات الإرهاب الانتقامية. لكن في ما وراء ما يقدمه هذا التحرير من فرص لا بديل عنها لتأكيد إدراج المجتمعات العربية في دائرة الحضارة الحديثة وتأمين التعاطف الدولي الذي لابد منه اليوم لاكتساب الوسائل التي تمكننا من التحول إلى قطب مستقل للتنمية الإنسانية وللمشاركة في السياسات الدولية، يشكل تحويل النظم العربية في اتجاه الديمقراطية شرطاً أساسياً لتغيير صورة العرب في عيون الشعوب العربية نفسها.وليس المقصود بالديمقراطية هنا وجود الواجهة التعددية الشكلية ولكن سيادة قيم احترام الإنسان ومبادئ الحق والقانون، أي إيجاد نظم سياسية تخضع لمبادئ المدنية، وتضمن قيمها من حرية وعدالة ومساواة وتضامن وتكافل جماعي معاً.وليس هناك شك في أن تعميم مبادئ وقيم احترام الحقوق الإنسانية ونشر معايير المساواة والعدالة والحرية والتكافل يشكلان اليوم الأرضية الضرورية للنجاح في إطلاق مبادرات إنسانية وبلورة سياسات تعاون دولي نشطة وبناءة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما يشكلان الإطار الوحيد الذي يسمح بتجاوز خيارات حرب الحضارات وصداماتها الكارثية نحو خيار المفاوضات الجماعية وجلوس جميع الأطراف المعنية، أوروبية كانت أو أميركية أو آسيوية أو أميركية لاتينية أو روسية أو أفريقية حول دائرة مستديرة للحوار الدولي الجدي. هذا هو الثمن الحقيقي لطموح أي إقليم إلى التحول إلى طرف في النقاش العالمي الراهن، بما في ذلك العالم العربي، ولظفره بدور أو بنصيب من التأثير في رسم وتقرير المصير البشري. فبصرف النظر عما يكتب على الورق وما يجود به بعض رجال السياسة الغربية، ليس لمثل هذا الحوار مكان ولا تبرير في الظروف الراهنة التي لا يمثل فيها العرب شيئاً لا من الناحية الاستراتيجية ولا الاقتصادية ولا التقنية ولا العلمية ولا الثقافية، ويشكلون بالأحرى عالة في كل ما يحيط بهم على الأسرة البشرية. فهم غير قادرين حتى على حل مشاكلهم الداخلية بأيديهم ولا يزالون محتاجين إلى تدخل الدول الكبرى لفرض الإصلاحات والإقرار بالحد الأدنى من الحريات والحقوق الأساسية. وليس من الممكن في مثل هذه الشروط الحلم بأي حوار جدي يعيد للعرب مكانتهم الدولية. لا عربياً أميركياً ولا عربياً أوروبياً ولا عربياً يابانياً ولا عربياً صينياً ولا عربياً هندياً ولا حتى عربياً أفريقياً. وليس من الممكن تحقيق مثل هذا الحوار، أي في الواقع تجنب الحرب الحضارية التي أصبحوا موضوعاً حقيقياً لها والتحول إلى شريك دولي مقبول ومسموع، قبل أن يستعيد العرب صدقيتهم ويصلحوا شؤونهم الداخلية. ومنذ الآن، ما دام العرب لم ينجحوا في أن يكونوا شيئاً في السياسة الدولية، فلن تكون لهم أيضاً سياسات وطنية داخلية متسقة وذات صدقية. باختصار بقدر ما نظهر التزامنا بالمبادئ الأخلاقية والمعايير الإنسانية ونبذل من جهد لاحترامها وتطبيقها في بلادنا وعلى مجتمعاتنا نستعيد ثقة الآخرين بنا ويصبح بمقدورنا أن نطالب من مركز قوة بموقف عادل ومتوازن في فلسطين والعراق وأن نزيل القواعد الأجنبية القابعة على أراضينا ونحسن من فرص وشروط التنمية الإنسانية الوطنية والإقليمية. وبقدر هذا الالتزام وذاك الاحترام ستكون فرصتنا في أن نتحول إلى شركاء، ونتمكن من ممارسة هذه الشراكة ونكون على مستواها. وفي هذه الحالة سيكون بإمكاننا أن نقنع العالم بأننا لسنا شعوباً همجية يأكل فيها القوي الضعيف وتنتهك فيها حريات الأفراد وتضيع حقوقهم باسم الوطنية الكاذبة أو الاعتقادات الدينية أو المصالح المادية الأنانية للقلة الحاكمة. وفيها سيدرك الرأي العام العالمي أيضاً أن البنلادنية ليست البضاعة الوحيدة التي تحسن مجتمعاتنا إنتاجها وتصديرها إلى بقية بقاع العالم. وسيعرف كذلك أن هذه المجتمعات تنطوي على قوى وقيم ومطالب ومتطلبات أخلاقية تتجاوز الانتقام والاستهلاك ومراكمة الثروة والقوة المادية. وفي هذه الحالة لن نحتاج كي نحمي أنفسنا من عدوان الآخرين المتواصل إلى أن نجعل رهاننا جميعاً على مقدراتنا التخريبية والسلبية التي نطورها كسبيل وحيد للبقاء في مواجهة التحديات، ولكن على ما تتفتق به عبقرية مبدعينا وقادتنا السياسيين والاقتصاديين من مبادرات ومساهمات إيجابية في معالجة الشؤون العالمية وحل المسائل الدولية التي تقع مشاكلنا في صلبها· مع الأسف ليس هذا مما تعد به بعد جلسات ومؤتمرات قمم الجامعة العربية ولا ما تسفر عنه خطط ومشاريع الإصلاح الوطنية الاجترارية. فنحن لا نزال نتشبث بتطوير قدراتنا السلبية والتخريبية ووسائل التهديد والابتزاز والسلب لرد العدوان المسلط علينا بدل المراهنة على تنمية قدرتنا على مباراة المجتمعات الأخرى والتفوق عليها في الإنتاج والإبداع والتنظيم والإدارة والتقدم العلمي والتقني والمشاركة الفعلية في بناء وتقدم الحضارة الإنسانية المشتركة. ولا تزال أوهام الحرب الحضارية التي تشبه العظمة المقدمة لكلب جائع تخدعنا وتسيل لعابنا· فنحن نعتقد أننا قادرون على إيذاء الغرب، وأن مجرد هذا الإيذاء يسعدنا لأنه يساعدنا على التوازن ونشعر أننا روينا غليلنا وشفينا من مرضنا. وهذا هو الطريق الخطأ والصعب معاً. لا يمكن للتخريب والإرهاب، حتى لو كان لخدمة أهداف نبيلة، أن يقيم دولة ولا وطناً ولا مجتمعاً ولا إنتاجاً ولا إبداعاً ولا حضارة. وإذا كانت مجتمعاتنا قد وصلت إلى ما وصلت إليه من تقهقر بل انهيار في جميع ميادين نشاطاتها الإنسانية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية فذلك بالضبط لأنها خضعت لمنطق العنف والإرهاب الداخلي وعوملت بأقسى ما تعامل به مجتمعات وشعوب، ونكل بها وخضعت لحالة لا تزال مستمرة من الحصار والتهميش والعزل والاغتيال الروحي والفكري، من قبل قوى داخلية وخارجية معا... وهي لا تزال مجتمعات مغتصبة الحقوق والنفوس والفكر وفاقدة لأية فكرة أخلاقية وأي شعور بالحرية والإنسانية. العنف الموجه من بعضنا تجاه البعض الآخر هو الذي دمر أوضاعنا الداخلية والعنف الذي نوجهه أو يوجهه بعضنا تجاه الغير باسمنا وبموافقتنا وتأييدنا سيدمر أوضاعنا الدولية والإقليمية ويهددنا بأن لا يختلف مصيرنا، إذا بقينا تحت قيادة نظم العنف والحرب والإمعان في القهر وتحقير الإنسان وتحويله إلى حشرة عن مصير أفغانستان، ولا أن نستحق حكومات أفضل من طالبان ولا بنظام اجتماعي غير الحرب المستمرة والانتحار.