dimanche, mai 27, 2007

في الجذور العميقة لسياسات التجديد والتمديد والتوريث

الجزيرة نت 31 مايو 07

يعبر الاختزال المتزايد للسلطة العمومية، أي سلطة الدولة، في شخص الرئيس، بل في شخص رئيس، وجعل تقديس هذا الرئيس والتمديد المتواتر له ولأحفاده من بعده، عن أمرين أساسيين. الأول غياب المؤسسات أو ضعف البنية المؤسسية للسلطة، مما يعني تحويل الدولة إلى أداة في يد السلطة المشخصنة نفسها، بدل ان تكون مصدر النظم الضابطة لسلوك صاحب السلطة أو الصلاحية، في أي مستوى كان من مستويات التنظيم الاجتماعي، والثاني افتقار هذه السلطة أو السلطات للشرعية القانونية الناجمة من احترام الشروط أو الأصول الدستورية المعتمدة والتقيد بنصوصها في عمليات استلامها وممارستها وتداولها معا.
فبقدر ما تعكس شخصنة السلطة غياب المؤسسات أو افتقارها الشديد للفاعلية، يعكس تقديس الشخص الحاجة إلى بناء شرعية يستحيل أن تستمد من الممارسة المؤسسية، ولا يمكن تأمينها إلا من خلال وضع الشخص الرئيس نفسه في مقام استثنائي فوق الدولة وفوق القانون، وإضفاء صفات من البطولة والقداسة والفخامة عليه تجعل منه مصدر شرعية استثنائية، لا تناقش بمعايير العقل، أي رسولية إذا صح التعبير، تبدو أمامها الشرعية القانونية، أي السياسية، باهتة وغير ذات معنى. بل يبدو التذكير بها وبمعاييرها افتئات على السلطة الاستثنائية التي يجسدها الرسول، وإنكارا لرسالته بوصفه مؤسس كل شرعية وحياة مدنية معا. فليس الحاكم هنا رئيس دولة إلا في المظهر، أما في الواقع فهو زعيم وقائد ملهم، بل هو مخلص ومنقذ، أرسله القدر، وبه تبدأ مسيرة الجماعة. وهي بالضرورة، مثل مؤسسها، جماعة استثنائية، أو ذات خصوصية استثنائية، لا يمكن أن تكون كالجماعات الأخرى، ولا تستطيع أن تبني سلوكها وحياتها العمومية على القواعد ذاتها التي تصدق على غيرها. فلا جماعة من دونه ولا سياسة ولا وطنية ولا سيادة ولا شرعية خارج إرادته ورأيه. إنه يختصر في ذاته كيان الأمة والدولة معا وجميع المؤسسات الرسمية أو العمومية. وهو العموم وكل ما عداه خصوص وفردية ومصالح شخصية. وأي تقليل من شأن سياساته أو التعرض لأقواله وأفعاله بالنقد أو التصويب يهدد وحدة الأمة ويزعزع استقرار الدولة واستمرارها ويشكل إهانة للكرامية القومية والسيادة الوطنية. فبالشخصنة تحل مشكلة غياب البنية المؤسسية للسلطة، وبالتقديس ووضع الشخص/الدولة موضع الزعامة والقيادة والرسالة، تحل مشكلة غياب الشرعية، ومن ورائها زوال الفكرة القانونية أو انمحاؤها. وبالتمديد الدوري تحل مشكلة استمرارية السلطة ووحدتها. فكما تتعرف الأمة في القائد الملهم والرسول على هويتها، تجد في تقديسه منبع سموها ومصدر أخلاقها وغايتها ونجاعة أعمالها الدنيوية، وتضمن بالتمديد الدائم له ولأحفاده استمرارها ووحدتها وسيادتها. فالزعيم الملهم لا يعوض بسلطته شبه الإلهية عن ضعف الدولة فحسب ولكنه يحل محلها ويستوعبها. فهو الدولة، ومن دونه لا يمكن أن يكون سوى الفراغ والدمار والفوضى.
بالتأكيد لم يأت هذا الوضع من فراغ ولكنه التعبير عن نظام سياسي جديد نجح في أن يحتوي الدولة ويحولها إلى أداة من أدوات سيطرته، بدل أن تكون الإطار الذي يرسم حدود أي سلطة أو نظام سياسي، ويخضعه لقواعد ثابتة، ويفرض عليه التقيد بمعايير يشكل احترامها شرط تقديم المصلحة العمومية على المصالح الخصوصية، وهو أصل الدولة ومنطقها. ووضع النظام فوق الدولة وإخضاعه لها، في مؤسساتها المختلفة، التنفيذية والقضائية والتشريعية والإدارية والتربوية، لم يحصل من تلقاء نفسه، ولكنه ثمرة سياسات عملية طبقتها نخب حاكمة على مدى عقود. ونجحت في تطويع الدولة بقدر ما أفسدت النظم والقواعد الاجرائية والأصول الثابتة التي كانت تقوم عليها المؤسسات السياسية والاقتصادية والقانونية والقضائية والإعلامية والثقافية والنقابية، وغيرها، وفي مقدمتها العبث بالدستور أو التلاعب به حسب المصالح والأهواء الشخصية أو الفئوية. فالنخب العربية الحديثة التي انتزعت السلطة في لحظة استثنائية وفي ظروف استثنائية، في سياق حركات الاجماع الآلي ضد الاستعمار أو عبر الانقلابات العسكرية، كانت تدرك مدى صعوبة الاحتفاظ بالسلطة، وتحويل سيطرتها من سيطرة عرضية إلى سيطرة دائمة، من دون تقويض هذه الأسس والقواعد والأصول التي كانت في اساس الإجماع القومي، وتبديلها بأصول وقواعد أخرى تضمن تأبيد اللحظة الاستثنائية والعرضية.
وبشكل عام، يشتد النزوع إلى إضعاف المؤسسات العمومية وتقويضها أو ينقص حسب ما إذا كان بإمكان النخبة الجديدة أن تفرض نفسها وتضمن استمرارها بوسائل أكثر أو أقل استثنائية وتعسفا. فحاجة النخبة الانقلابية المفصولة عن الشعب، والتي تفتقر إلى أي أمل بتكوين قوة أو قاعدة سياسية واجتماعية عريضة تسمح لها بالتداول الطبيعي والسلمي على السلطة، والاستمرار فيها، تميل بشكل أكبر إلى تفريغ المؤسسات من مضمونها، وإلى اكتساحها لفرض سلطتها من خارج المؤسسات، وعلى حسابها، أي من خلال شبكات المصالح والتحالفات العلنية والضمنية العديدة التي تقيمها من ورائها.

الهدف أن شخصنة السلطة هي عنصر رئيسي في استراتيجية التمديد والتأبيد للحكم القائم. وهي ليست تعبيرا عن نزعة شخصية أو إرادة ذاتية عند الفرد المدفوع إلى موقع الزعامة والقدسية. بالعكس، إن شخصنة السلطة هي اختيار نظام بأكمله، من حيث أن النظام يعني هنا مجموعة المصالح الرئيسية القائمة والمتحكمة بالوضع والمستفيدة منه. فليس هناك فرد يستطيع أن يقدس نفسه أو ينجح في وضع نفسه في موقع المنقذ الملهم. إن الطبقة التي يعتمد عليها، هي التي تدفع به إلى موقع القداسة بقدر ما تشعر أن ضمان مصالحها يكمن في وجود سلطة شخصية تتفاعل معها وتتعامل من وراء القانون وتقلبات السياسة وحساباتها. وبقدر ما تدرك هذه الطبقة أن استمرارها وإعادة إنتاج نفسها لا يمكن أن يتحقق باحترام القانون، حتى لو كان مجحفا، ولكن بتعليق القانون كليا أو بتعليقه على إرادة فرد، فهي تميل إلى اختراع الشخصية الانقاذية، البطولية والرسولية، وتسعى إلى بناء صورتها لبنة لبنة، كبديل عن المؤسسات التي لا تقوم من دون نظم إجرائية قانونية ثابتة ومعروفة، وكتعويض عنها معا.
لكن هذا لا يعني أن فئات الشعب الأخرى لا تشارك أيضا شبكات المصالح الاستثنائية واللاقانونية في إعادة إنتاج نظام السلطة الكاريزمية بشكل أو آخر، ولا تتحمل جزءا من المسؤولية. ففي ظروف انسداد أي أفق لنشوء سلطة إنسانية، مدنية، سياسية، يزداد التطلع إلى سلطة إلهية، أي قادمة من خارج المجتمع والسياسة وغير خاضعة لهما، ويصبح التعلق بالإرادة الفردية الملهمة، الرسولية، تعبيرا عن التعلق بالقانون بقدر ما تتحول السلطة الابوية نفسها إلى قانون، بما يعنيه القانون من ضمان وحدة الجماعة واستمرار النظام العام وبقائه. تبدو السلطة الأبوية الزعامية في هذا الوضع بالنسبة للجمهور العام وكأنها السدادة التي تمنع المارد من الانفلات، والمقصود بالمارد هنا الفوضى الناجمة عن استبداد المصالح الكبرى وسيطرتها اللامحدودة من جهة، وعن الفراغ القانوني والسياسي من جهة ثانية. ففي ظروف مجتمع فقد كفالة الدولة المؤسسية ولم تعد توجد فيه، وراء سلطة الأب القائد ولا الزعيم الخالد، أي سلطة شرعية ذات صدقية، يصبح أي مساس بالسلطة الشخصية، بل أي تغيير للوضع القائم، مرادفا للتضحية بالاستقرار والاستمرار والوحدة "الوطنية". وهي الشعارات التي لا تكف النظم العربية عن التذكير بها في كل مرة تواجه فيها ضغوطا خارجية أو تحديات داخلية تهدد بزعزعة النظام أو تشعر أن من الممكن أن تضعف استقراره. وإذا لزم الأمر، ليس هناك ما يمنع هذه النظم من إعطاء أمثلة حية على مثل هذه المخاطر والتهديدات التي تريد من الرأي العام أن يأخذها بالاعتبار قبل أي تفكير بمصالحه وأوضاعه ومصيره السياسي.
يقود بناء النظام العام القائم بأكمله من حول زعيم فرد، في كل زمان ومكان، إلى الجمود العميق والتحجر في كل مظاهر الحياة المدنية والسياسية والمؤسسية. ذلك أن الزعامة الملهمة ذاتها التي تنشؤها المصالح الخاصة، المافيوية والبيرقراطية والزبائنية، غير الشرعية وغير المبررة، كما كان عليه الحال في النظم الشيوعية مثلا، لا تشكل الضمانة الرئيسية لاستمرار نظام يخرق القانون ويتجاوز المباديء التي ينادي بها فحسب، ولكنها تشكل أيضا، بالنسبة للجمهور العريض المفتقر لأي رؤية جماعية وروح سياسية ومدنية، الكافل الوحيد لما يشبه النظام والاستقرار. وأي مساس بشخص الزعيم أو بموقعه يهدد بانهيار البناء كله. وهذا يفسر ما تعاني منه حركات التغيير الديمقراطي وغير الديمقراطي من مصاعب في استقطاب الجمهور أو حتى اختراقه وتحسيسه بمسؤولياته السياسية.
لكن هذه الصلابة والقساوة التي تشكل مصدر قوة النظم الفردية واللاقانونية، أي المفتقرة لمؤسسات دستورية فعالة، هي نفسها السبب في ما يسم هذه النظم من هشاشة وقابلية للانكسار. فالجمهور المفتقر لأي وعي سياسي أو إرادة سياسية أو شعور بالمسؤولية الجماعية، أي المسلم للزعيم الملهم والمستسلم له، سرعان ما ينقلب عليه وعلى النظام عند أول شعور بفقدانه السيطرة على الوضع، وتزايد شدة العواصف والضغوط الداخلية والخارجية. هكذا ما إن انهارت النظم الشمولية الشيوعية في التسعينات من القرن الماضي حتى ضاع أثرها وذكرها، كما لو أن الشعوب لم تحفظ من تراثها شيئا. وتحولت الأحزاب الشيوعية التي كانت تعد بالملايين إلى أحزاب صغيرة لا تكاد تجمع المئات.
والنتيجة، لا ينبغي للتقنيات البدائية التي تستخدمها النظم العربية لضمان استمرار السلطة وتأبيدها في يد حزب واحد أو رئيس واحد أو أسرة حاكمة واحدة، أن تلهينا بغرابتها ونشازها عن تحليل المعنى الحقيقي لما تعرفه العديد من البلدان العربية من عجز متزايد عن تأسيس قواعد مدنية ثابتة لتداول السلطة وانتقالها وممارستها. ولا أن تحجب عنا المسألة الأساسية المتعلقة بفساد مفهوم السياسة وممارستها في المجتمعات العربية. فاستمرار هذه الظاهرة وتكرار حدوثها في أكثر من بلد عربي يظهر أن الأمر يتجاوز مسألة الرغبة الشخصية أو شهوة السلطة الفردية ويرتبط بطبيعة النظم السياسية القائمة نفسها، بل بآليات عملها الموضوعية التي تفرض نفسها على الأشخاص وتتحكم بهم أكثر مما يتحكمون بها. وهي التي تحولهم من أفراد عاديين، أعني من بشر آدميين، إلى ميكانيك مدفوع بقوة لا يعيها ولا يتحكم بها، تعيد تكوين رغباتهم وإرادتهم وأخلاقهم معا، وتفرض عليهم ممارسات ومواقف خارجة عن طاقة الفرد واختياراته الأخلاقية والفكرية. وهذا هو مصدر الخيبات المتكررة التي يعيشها الجمهور تجاه أفراد يراهن على نزاهتهم لتغيير مجرى الأمور ويفاجأ بأدائهم وتوجهاتهم في ما بعد. وهو ما يفسر أيضا استسلام الجمهور عموما، بل ومشاركته أحيانا في طقوس تبدو لقسم كبير من النخبة السياسية والاجتماعية ممارسات بالية لا تتماشى مع معايير العصر ومتطلباته، لكنها تستجيب في الواقع لمنطق نظام يتعرض اليوم، في جميع البلدان العربية، وبالرغم من المظاهر الخادعة لأقسى وربما آخر امتحان.

مصير التسوية السياسية العربية الاسرائيلية

مجلة الدراسات الفلسطينية ربيع 2007

مقدمة

يثير الاستعداد الذي يظهره النظام السوري للدخول في مفاوضات تسوية سياسية مع إسرائيل من دون شروط مسبقة، بعد إصراره الطويل على البدء من النقطة التي انتهت إليها المفاوضات السابقة، بالإضافة إلى التصريحات التي أطلقتها العديد من الشخصيات الاسرائيلية ولا تزال تطلقها، ومن بينها مسؤولين في حكومة أولمرت، رئيس الوزراء الاسرائيلي نفسه، حول ضرورة امتحان إرادة سورية في التسوية السياسية والدخول معها في مفاوضات، مخاوف العديد من الاطراف العربية. منها من يخشى أن يشكل ذلك تشجيعا لدمشق على الاستمرار في سياستها الانفرادية وتحالفاتها الايرانية. ومنها من يخاف أن يكون فتح مسار التفاوض السوري الاسرائيلي اليوم وسيلة للتغطية على التعطيل الطويل الذي يعاني منه المسار الفلسطيني الاسرائيلي، وإضعاف فرص إطلاق هذا المسار في المستقبل القريب إن لم يهدد أمل التوصل إلى تسوية معهم. ومن من يعتقد أن المبادرة السورية الخاصة ربما كانت تهدف إلى قطع الطريق على المبادرة العربية التي تعطي الأولوية لملف المسألة الفلسطينية. وتأتي زيارة ابراهيم سليمان، رجل الأعمال السوري الأمريكي، إلى تل أبيب، ولقاؤه العديد من الشخصيات السياسية الاسرائيلية، بعد أن نشرت الصحافة العبرية والدولية نص اتفاق المباديء الذي كان قد توصل إليه مع زميله الاسرائيلي الون ليئال، المدير العام السابق لوزارة الخارجية، لتضفي بعض المشروعية على هذه المخاوف مؤكدة في الوقت نفسه الأهمية الكبيرة التي تعطيها دمشق لقضية استئناف مفاوضات التسوية السياسية مع إسرائيل لأسباب تتعلق بعضها باستراتيجيتها الدولية، وبعضها بوضع النظام الإقليمي وتحديد مستقبله داخل سورية نفسها[1]. ومما يعزز هذا الاعتقاد التحسن الملحوظ في العلاقات الأمريكية السورية الذي ظهر في مؤتمر شرم الشيخ حول العراق في السادس من مايو الجاري 2007، والذي أثار أيضا مخاوف الايرانيين، بالرغم من تأكيد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية محمد علي حسيني أن اللقاء الذي جمع وزير الخارجية وليد المعلم مع نظيرته الأمريكية كونداليزا رايس في 10 مايو في شرم الشيخ لن يكون له انعكاس على العلاقات بين سورية وإيران.
والسؤال هل هناك فرص حقيقية لتحقيق مثل هذا الاختراق في عملية السلام العربية الاسرائيلية انطلاقا من سورية بعد أن توقفت تماما على أثر اخفاق مؤتمر جنيف في مارس آذار 2000 الذي جمع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في بادرة أخيرة لانقاذ مشروع السلام والتوصل إلى اتفاق سوري إسرائيلي ناجز، كان يبدو وكأنه أصبح بحكم المضمون؟

1- في شروط التوصل إلى تسوية سياسية

طبعا ليس هناك من يستطيع أن يرجم بالغيب في مثل هذه الموضوعات التي تدخل فيها عوامل متعددة وطنية وإقليمية ودولية معا، ويتسم سلوك الفاعلين فيها بحذر شديد، نظرا لتضارب المصالح وتداخل التحالفات وتعدد الرهانات المرتبطة بها، ويجري جزء كبير منها، من وراء المظاهر الرسمية، في إطار من السرية الشديدة وأحيانا المناورات السياسية.
لكن يجدر التمييز بداية، بين الدخول في مفاوضات، حتى لو كانت جدية وليست صورية، وبين فرص النجاح في التوصل إلى تسوية فعلية. وقد عرفت المنطقة تجارب عديدة لهذه المفاوضات، وبرزت للوجود مسارات مختلفة للتسوية مع إسرائيل لم تكن كلها مسارات جدية، ولم تقد أي منها حتى الآن، باستثناء اتفاقيات كمب ديفيد الاسرائيلية المصرية، إلى نتائج عملية. والسبب في ذلك أن فرص نجاح عملية التفاوض لا ترتبط، في الشرق الأوسط الراهن بشكل أكبر، بإرادة الاطراف المتفاوضة وحدها، وإنما بعوامل متعددة أخرى قد لا تقل أهمية عنها.
العامل الأول هو الظرف الدولي. فبقدر ما تشكل السيطرة على الشرق الأوسط موضوع رهان دولي، تمثل النزاعات والتسويات فيه جزءا من مسألة أكبر تعنى بتقرير او تأكيد الهيمة الدولية. وأكبر مثال على ذلك الاستقطاب الذي حصل حول القضية الفلسطينية الاسرائيلية خلال حقبة الحرب الباردة. فلم يغلق هذا الاستقطاب الطريق على أي تسوية سياسية، بل على فكرة المفاوضات نفسها واحتمال ايجاد حل للنزاع من خلالها، ولكنه فرض على طرفي النزاع الشرق أوسطي الالتحاق باستراتيجيات القوى الكبرى المتصارعة. ولم يكن من الممكن التوصل في الثمانينات إلى اتفاقيات كمب ديفيد التي انهت النزاع بين مصر وإسرائيل إلا بقدر ما غيرت مصر في توجهاتها الكبرى. فجاءت اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1978 جزءا من عملية أكبر هي الحفاظ على نظام الهيمة الغربية على الشرق الأوسط، أي على المنطقة التي تشكل خزانا استثنائيا للوقود الذي تحتاج إليه الدول الصناعية. والسؤال الذي يطرح على هذا المستوى هو: هل الظرف الدولي وتوازن القوى، وحاجات الدول الكبرى ذات النفوذ القوي في المنطقة، ملائم اليوم أم لا لإطلاق عملية التفاوض بين الأطراف وتشجيعها على التوصل إلى تسوية مقبولة. وفي هذا المجال يشكل تحليل الاستراتيجية الأمريكية الدولية والشرق أوسطية خاصة عنصرا أساسيا في أي تقدير لفرص التوصل إلى تسوية سورية إسرائيلية.
والعامل الثاني هو الوضع الإقليمي. وهو ما يتسم في الوقت الحاضر بسيطرة أزمات أربع رئيسية. أزمة الاحتلال الأمريكي للعراق، وأزمة تخصيب اليورانيوم والسيطرة على التقنية النووية في ايران، والأزمة السياسية اللبنانية المرتبطة بمسألة المحكمة الدولية ولجنة التحقيق في مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، والأزمة الفلسطينية النابعة من تفاقم عواقب استراتيجية الحصار التي فرضت على الشعب الفلسطيني بعد نجاح حماس في الانتخابات التشريعية ورفض التعامل معها من قبل المجموعة الغربية وإسرائيل معا. ومن الضروري معاينة ما يحصل أيضا، على خلفية هذه الأزمات جميعا وبموازاتها، من استقطاب بين دول الممانعة المعادية لأمريكا ودول الاعتدال المشجعة على التوصل إلى تسويات جزئية مع الولايات المتحدة وإسرائيل. والسؤال ما هو الأثر المحتمل لهذا الاستقطاب والتصادم بين سياسات ما يسمى بدول الاعتدال وسياسات دول الممانعة، على فرص التوصل إلى تسوية أو التشجيع عليها بين سورية وإسرائيل.
والعامل الثالث هو وضع الحكومتين السورية والاسرائيلية المنخرطتين في النزاع أو الساعيتين إلى التسوية، وهامش مناورتهما الداخلية، وما يمكن أن تمثله التسوية السياسية من مخاطر لهما من جهة وكذلك من رصيد يساهم في تعزيز شرعيتهما عند الرأي العام ويساعدهما على مواجهة التحديات التي تتعرضان لها وحل المشكلات الوطنية الأخرى العالقة أو المتعثرة، الاقتصادية منها والسياسية والأمنية، من جهة ثانية.
هذا يعني أنه لا ينبغي علينا أن نقصر تحليلنا لعملية التفاوض على أبعادها التقنية أو حتى السياسية، ولا بد من النظر إليها ضمن إطار أشمل، أعني في إطار الاستراتيجيات الشاملة التي تبلورها وتتبناها الأطراف المختلفة المنخرطة فيها.

2- من حرب العراق الأولى إلى مؤتمر مدريد للسلام

هكذا، لم تنطلق عملية المفاوضات العربية الاسرائيلية جديا إلا عندما أطلقت الولايات المتحدة مدعومة بأوروبة وروسيا مؤتمر مدريد للسلام عام 1991. وجاء هذا المؤتمر لتمتين اواصر التحالف بين الغرب الأطلسي والدول العربية وتغطية انخراط هذه الدول الأخيرة في الحرب الأولى ضد العراق. وكان التوصل إلى تسوية، أو على الأقل إطلاق مساراتها المختلفة، جزءا من سياسة دعم النظام الإقليمي الناشيء عن الانتصار على نظام صدام حسين، بعد أن أنجز هذا النظام نفسه في فترة سابقة عملية تحجيم ايران، خلال الحرب الدموية التي دامت أكثر من ثمانية أعوام، ودرء مخاطر تمدد الثورة الاسلامية أو تصديرها. وقد عززت مفاوضات السلام التي شجعتها واشنطن ودول الأطلسي عموما بين إسرائيل والعرب التفاهم العربي الأطلسي، وسعت إلى تعزيزه وترسيخه بوضع أهداف مشتركة والتقريب بين مصالح الأطراف المختلفة، حرصا على دعم استقرار النظام الإقليمي الناشيء ودعم قدراته. وكان لمشاركة سورية في الحرب على العراق دورا رئيسيا في تحقيق المناخ الجديد وتشجيع واشنطن على الانخراط في عملية التفاوض بين العرب والاسرائيليين.
لكن المفاوضات التي انطلقت من مؤتمر مدريد لم تستمر طويلا بعد أن أنجزت المهمة التي أوكلت إليها، أعني تفعيل التحالف العربي الأطلسي ضد العراق، وإضفاء نوع من المشروعية على الحرب التي شنت على البلد الشقيق. فلم تمض سنوات قليلة حتى انهارت، وحل محل السعي نحو السلام منذ عام 1966 تراشق بالاتهامات بين البلاد العربية وإسرائيل. وأخفقت جميع المحاولات التي بذلت بعد اغتيال اسحق رابين، رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق، لإعادة المفاوضات إلى مسارها. فبينما تمسكت سورية بمبدأ العودة إلى المفاوضات من النقطة التي انتهت إليها، مؤكدة على الوعود التي أعطيت لها بالانسحاب الكامل من الجولان، وهو ما أطلق عليه وديعة رابين، أصرت إسرائيل، لقطع الطريق على استئناف المفاوضات والتدليل على عدم اهتمامها باستكمالها، على العودة إلى المفاوضات من دون شروط، أي من دون أي اعتبار لما تم التوصل إليه من تفاهمات. وهو ما كان يعكس زوال الرغبة الاسرائيلية في التوصل إلى اتفاق يستدعي لا محالة التخلي عن الجولان أو عن جزء كبير منه. واستقرار الموقف الاسرائيلي على أن الاحتفاظ بالجولان يشكل مصلحة أكبر لاسرائيل من التوصل إلى اتفاقية سلام مع بلد ليس لديه أي قدرة على استرجاعه بالقوة أو شن الحرب.
وعندما تغير الظرف وأصبح لدى الولايات المتحدة وإسرائيل حوافز جديدة ومصلحة في تغيير المناخ الإقليمي وتحقيق بعض الأهداف الاستراتيجية، لم يجد الرئيس كلينتون صعوبة كبيرة في ايجاد صيغة تسمح باستئناف المفاوضات. وهو ما تحقق فعلا في أواخر عام 1999 عندما اعلن الرئيس بيل كلينتون -عقب انتهاء جولة وزيرة خارجيته في المنطقة ولقائها مع الرئيس السوري حافظ الاسد- استئناف المفاوضات السورية - الاسرائيلية من النقطة التي توقفت عندها عام 1996. وكانت الإدارة الأمريكية قد نجحت في فك عقدة استئناف المفاوضات من النقطة التي انتهت إليها من خلال ترك هذا المصطلح غامضا بما يتيح لكل طرف تفسيره بالطريقة التي تناسبه. وهكذا بينما حرص باراك على التأكيد على انه لم يلتزم بأي شروط لاستئناف المفاوضات، متجنبا الاشارة الى موقف محدد من الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران 1967، التزمت سوريا الصمت تجاه ما حصلت عليه من تعهدات من الطرف الاسرائيلي لقاء عودتها الى طاولة المفاوضات. وليس من المستبعد ان يكون باراك قد اعطى تعهدا شفويا للادارة الامريكية بتنفيذ انسحاب من كامل الجولان مع تعديلات بسيطة على الحدود.
ومن الواضح أن استئناف المفاوضات قد عبر في هذه المرحلة عن توافق مصالح الاطراف المختلفة في الخروج من حالة الجمود. فقد أراد الأسد أن يكون إنجاز سلام مع إسرائيل يعيد الجولان إلى الوطن الأم، في إطار الانفتاح على أوروبة والغرب، مقدمة سعيدة لإعداد خلافة نجله بشار الأسد. أما حكومة باراك فقد كان عليها أن تنفذ تعهدها الانتخابي الذي اكدته في الكنيست الجديد بالانسحاب من لبنان بحلول تموز (يوليو) 2000، والخروج من حرب الاستنزاف التي فرضها عليها حزب الله في جنوبه. وهو ما لا يمكن ان يحدث الا بمعاهدة سلام مع لبنان الذي يرفض ذلك بدون ان يتزامن مع معاهدة سلام مع سوريا، أو بانسحاب اسرائيلي احادي الجانب من لبنان والذي يحمل مخاطر امنية كبيرة بالنسبة للدولة العبرية. كما ان انجاز معاهدة على صعيد المسار السوري واللبناني كان يعتبر- بالنسبة لحكومة باراك -اقل تعقيدا من انجاز الحل الدائم مع السلطة الفلسطينية التي سيضعف موقفها التفاوضي مقابل تعزيز مكانة الحكومة الاسرائيلية بعد ظهورها بمظهر الراغب في السلام. وكان هذا سيقوي موقفها السياسي على الصعيد الدولي ويدفع الولايات المتحدة واوروبا للضغط على الطرف الفلسطيني للقبول في النهاية بالتصور الاسرائيلي لقضايا الحل النهائي، وهو تصور قد يصعب على السلطة القبول به لانه يكرس واقع الاحتلال الاستيطاني ويتجاهل القضايا المحورية المتمثلة بالقدس واللاجئين.
وبالمقابل، كانت الإدارة الامريكية تدرك أن تحقيق مثل هذا السلام سيشكل عاملا قويا في ضمان الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط التي ستصبح خاضعة كليا تقريبا لنفوذها. وكان بيل كلينتون يتوق شخصيا إلى أن يختم فترة رئاستة، التي شابها الكثير من الانتقادات على سلوكه الشخصي، بعمل إنساني كبير يخلد اسمه.

3- انهيار الجولة الأولى من محادثات السلام

كان لهذا التوافق بين الأجندتين الامريكية والإسرائيلية دور كبير في تقدم المفاوضات من جهة وفي إعطاء الأولوية للمفاوضات السورية الاسرائيلية على حساب المفاوضات الفلسطينية. وكادت المفاوضات تسفر بالفعل عن تنفيذ مرحلة اعادة الانتشار الثالثة التي نصت عليها اتفاقيتا (واي ريفر) و(شرم الشيخ)، والتوصل الى اطار اتفاق الحل النهائي بل وانجاز الاتفاق الكامل للحل النهائي بين البلدين، لولا تردد حكومة باراك في اللحظة الأخيرة، ولحسابات السياسة الداخلية الاسرائيلية وحدها. وهذا ما عبر عنه رفض الطرف الاسرائيلي تقديم تعهد واضح بالانسحاب الى حدود 4 حزيران، والاصرار على الاحتفاظ بالشاطىء الشمالي الشرقي لبحيرة طبريا، الذي يقع ضمن هذه الحدود في الطرف السوري، بالرغم من ابداء سوريا ليونة كبيرة تجاه احتفاظ اسرائيل بمصادر مياه الانهار التي تصب في هذه البحيرة، اضافة الى إظهار استعدادها لاجراء تغييرات تؤدي الى رسم خط الحدود مع الدولة العبرية بحيث يمر بين خط الحدود الدولية الذي حدده اتفاق 7 آذار (مارس) 1923 بين فرنسا وبريطانيا، وخط 4 حزيران 1967 الذي يحدد حدود سوريا قبل حرب 5 حزيران 1967. وفد أكدت بعض التقارير الصحفية الاسرائيلية ان مطالب باراك قد تجاوزت ذلك وشملت الدعوة إلى اجراء تعديلات على خط 4 حزيران وإزاحته عند بحيرة طبريا نحو الشرق بمسافة 100 - 200 م تضمن للطرف الاسرائيلي، إضافة إلى ضم منطقة الحمة، السيطرة على بحيرة طبريا من جميع جوانبها[2].
وهكذا أنهى فشل القمة الأمريكية السورية (جنيف 26 مارس آذار 2002)، الحلقة الثانية من المفاوضات التي انطلقت على أساس مؤتمر مدريد الذي نص على مبدأ الأرض مقابل السلام. وسيعقب هذا الفشل استئناف مناخ النزاع والحرب، مع انسحاب أمريكي واضح من العملية، وتراجع الرغبة الاسرائيلية في التوصل إلى حلول متفق عليها لصالح الحلول التصفوية وفرض الإرادة بالقوة. وهذا ما سوف تعبر عنه السياستين الاسرائيلية والأمريكية في السنوات التالية. فقد كانت النتيجة الأولى لانهيار المفاوضات استئناف الهجوم الاسرائيلي على لبنان وتدمير منشآته المدنية، واندلاع الانتفاضة الثانية في فلسطين، ثم دعوة دول الجامعة العربية، عبر اجتماع مجلس وزراء خارجيتها في بيروت اوائل مارس آذار 2000، الى اعادة النظر في عملية التطبيع مع إسرائيل، وفي المشاركة في المفاوضات متعددة الاطراف، اضافة الى تأكيد دعم الدول العربية المطلق للبنان في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي باعتبار ذلك دفاعا مشروعا عن النفس، والتأكيد على رفض توطين اللاجئين خارج فلسطين، والدعوة الى ضرورة حل قضية اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان.
ولم يغير انعقاد قمة شرم الشيخ التي جمعت بين باراك وعرفات برعاية الرئيس المصري حسني مبارك في استئناف المفاوضات، الفلسطينية – الاسرائيلية، وتغيير منحى الجمود السياسي والتوجه نحو سياسات المواجهة. كما لم تثن التنازلات التي قدمتها السلطة الفلسطينية، على صعيد القبول بمخطط اعادة الانتشار، الحكومة الاسرائيلية عن إرادتها في حسم النزاع بالطرق العسكرية ومن جانب واحد، بعيدا عن أي إطار للمفاوضات، سواء في لبنان أو في فلسطين. وبالمقابل، فاقمت هذه القمة من حدة الخلافات بين الدول العربية، وبين مصر وسوريا خاصة، حول موضوعي التطبيع والمفاوضات متعددة الاطراف. وأدى رفض مصر مطلب سوريا وقف التطبيع وعدم المشاركة في المفاوضات متعددة الاطراف الى إضعاف دور مصر في إطار الجامعة العربية وتبني الجامعة قرار دعم المقاومة اللبنانية الذي اثار انزعاج واشنطن وتل ابيب.
وباختيارها الانسحاب من جنوب لبنان من جانب واحد، زاد استهتار تل أبيب بعملية السلام ولم تعد تشعر أنها معنية بالمفاوضات مع سورية أو بالتوصل إلى اتفاق معها. كما أن انشغال ادارة كلينتون بالانتخابات الامريكية التالية، وسعي الديمقراطيين إلى التقرب من السياسة الاسرائيلية واللوبي الإسرائيلي لضمان نجاح المرشح الديمقراطي آل غور، عملا على تراجع الاهتمام الأمريكي بأزمة الشرق الأوسط. أما الدول العربية فقد اتجهت إلى الاهتمام بمشاكلها الداخلية المتزايدة.
لكن الذي سيوجه الضربة الأخيرة لعملية السلام هو من دون شك صعود المحافظين الجدد إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة. أما أحداث 11 سبتمبر ايلول 2001 التي أعقبت ذلك، فقد دفعت بواشنطن إلى تبني سياسة مناقضة تماما للسياسة الأمريكية والغربية التي سادت منذ مؤتمر مدريد، أي سياسة السعي إلى تسوية سياسية في الشرق الأوسط. فقد دفعت واشنطن إلى تبني سياسة فرض الأمر الواقع على العرب بالقوة، والتقرب بشكل لم يسبق له مثيل من سياسات تل أبيب والرهان على التفاهم معها لحسم الازمات الإقليمية، في فلسطين ولبنان وسورية والعراق وبقية البلدان الأخرى. وقد وضعت واشنطن هذه المقاربة العسكرية الجديدة في إطار استراتيجية الحرب العالمية ضد الارهاب، قبل أن تطلق مشاريع إصلاحها الديمقراطية، حتى يتسنى لها ايجاد تغطية سياسية وشرعية لها. ومن الطبيعي أن يترافق تطبيق مثل هذه السياسة مع دعم غير مشروط لإسرائيل والمراهنة على قوتها وتعاونها في انجاح الاستراتيجية الجديدة التي تهدف إلى استعادة السيطرة على المنطقة العربية، بما يعنيه ذلك من القضاء إذا أمكن على قوى المقاومة التي وسمت في فلسطين ولبنان وغيرهما من البلدان العربية بالارهابية، وإجبار الدول العربية على القبول بإسرائيل كما هي، والاصطفاف وراء التحالف الأمريكي الاسرائيلي من دون شروط. وهو ما دفع إسرائيل أيضا إلى الإمعان في سياسة التحدي والغطرسة وتوسيع رقعة الاستيطان والتفكير بإمكانية تصفية القضية الفلسطينية والسورية بالقوة، وعدم الاكتراث بدعوات السلام التي تطلقها دول عربية فقدت احترامها، وزادتها أحداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر انكشافا سياسيا واستراتيجيا أمام الضغوط الأمريكية والاسرائيلية.
ومع فقدان الحكومات العربية أي أمل في الضغط على إسرائيل لإعادتها إلى سياسة الحوار والتفاوض، وجدت نفسها مدفوعة بالرغم منها إلى القبول بالأمر الواقع والتعامل مع واشنطن وتل أبيب لتامين شروط استمرار حياة نظمها السياسية والاقتصادية. واكتفت في ما يتعلق بقضايا الاحتلال بالتذكير في المحافل الدولية بضرورة استئناف مفاوضات السلام، ومطالبة اوروبة بشكل خاص بتمييز موقفها عن الولايات المتحدة أو باتخاذ مبادرات فعالة لإخراج المنطقة من حالة اليأس التي تعيش فيها[3].

4- الأزمة الايرانية واحتمالات استئناف المفاوضات العربية الاسرائيلية

هناك عوامل عديدة تشير إلى أن من الممكن انطلاق جولة جديدة من مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية في المدى المنظور، ومن ثم سورية إسرائيلية. بل إن هذه المفاوضات قد بدأت فعلا وإن كان بأساليب مواربة وجانبية. من أهم هذه العوامل ما يتعلق بتظور الظرف الدولي. فالمنطقة تعيش اليوم حالة شبيهة في بعض جوانبها بالحالة التي كانت تعيشها في التسعينات والتي أدت إلى إطلاق مبادرة مؤتمر مدريد للسلام، أعني حاجة واشنطن الواضحة في تحشيد الدول العربية، والخليجية منها بشكل خاص، من ورائها في مواجهة الخطر الجديد الناجم عن تصاعد قدرات ايران العسكرية وتهديدها المحتمل لاستقرار النفوذ الغربي والأمريكي خاصة في المنطقة. ومما يزيد من هذه الحاجة إدراك واشنطن لخيبة الأمل العربية الكبيرة في سياستها الإقليمية، وانهيار استراتيجيتها الشرق أوسطية، وفقدانها الخيارات في معالجة ما تواجهه من تحديات، سواء أكان ذلك في ايجاد مخرج من الورطة العراقية أو في وقف عملية انتاج طهران اليورانيوم المخصب الذي يهدد وجود اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، أو في تثبيت الوضع في لبنان أو في فلسطين[4]. وهناك توافق عام بين المراقبين على أن المقاربة العسكرية للأزمة قد فشلت، وأن فتح الحوار، كما أشار إلى ذلك بشكل قوي تقرير بيكر هاملتون، يمكن أن يشكل مقاربة أكثر نجاعة. كما أن هناك توافق في وجهات نظر المحللين لا يقل عن سابقه في أن الحكومات العربية لم تعد قادرة على السير خلف السياسة الأمريكية وتحدي الرأي العام العربي من دون معالجة النزاع العربي الاسرائيلي.
وبالمقابل تعتقد حكومات الجامعة العربية عموما أن هناك فرصة اليوم في التوصل إلى بعض النتائج الايجابية تكمن في استغلال الضعف الأمريكي وحاجة واشنطن إلى مساعدة الدول العربية في لملمة الوضع المتدهور في المنطقة والمهدد للمصالح الأمريكية الاستراتيجية. وانطلاقا من ذلك تداعت الدول العربية، بقيادة المملكة العربية السعودية، التي تبدو الأكثر تأهيلا اليوم للتفاوض بين الأطراف بسبب ما تملكه من رصيد سياسي ومعنوي وموارد مالية أيضا، إلى تحويل مؤتمر قمة الرياض في آذار مارس الماضي إلى قمة المبادرة العربية من أجل السلام. وبالرغم من أن إسرائيل لم تعلن حماسها لهذه المبادرة، وشككت في قدرتها على أن تكون أرضية للنقاش إذا لم يطرأ عليها تعديلات أولية، إلا أنها لم ترفضها. كما أن الأطراف الدولية المعنية الأخرى شجعت عليها ووعدت بتقديم الدعم لها.
وإذا كانت الحاجة إلى الحشد الاستراتيجي ضد ايران هي الحافز لتبني واشنطن فكرة إطلاق مفاوضات سلام عربية إسرائيلية جديدة، فإن الأزمة السياسية والمعنوية التي تعاني منها إسرائيل بسبب الاحباط الذي أصابها، حكومة وأحزابا ورأيا عاما، على أثر الفشل في حرب تموز الأخيرة ضد حزب الله في جنوب لبنان، والاهانة التي تشعر بها نتيجة تكبدها هزيمة عسكرية كبيرة على يد من تنظر إليه كميليشيات أهلية صغيرة، تدفع بالكثير من قادتها إلى مراجعة استراتيجية الحل العسكري والتفكير في إمكانية العودة إلى مقاربة سياسية للأوضاع الشرق أوسطية.
وهكذا ليس من باب التفاؤل المبالغ فيه الإشارة إلى وجود مناخ يدفع اليوم في عموم المنطقة إلى التوجه في اتجاه الحوار ويشجع على فتح جولة جديدة من مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية أو السورية الاسرائيلية.
بيد أن من الضروري أيضا الإشارة في الوقت نفسه إلى أن هناك عوامل عديدة يمكن أن تقف حائلا دون تحقيق التقدم المنشود. فإذا كانت الولايات المتحدة تسعى اليوم بالفعل إلى تجريب أسلوب المفاوضات للتوصل إلى حلول أفضل للأزمة، إلا أنها لا يمكن أن تقبل بحلول للأزمات القائمة تتعارض مع مصالحها، في الوقت الذي لا تزال عاجزة عن إعادة تحديد هذه المصالح والتقليل من طموحاتها على ضوء النكسات الكبيرة التي تعرضت لها استراتيجيتها الشرق أوسطية. فهي مستعدة لاتباع طريق الحوار في العراق لكن ليس من أجل ترك العراق للعراقيين أو للايرانيين والعرب. ولا يختلف الأمر كثيرا عن ذلك بالنسبة لاسرائيل. فهي مستعدة مثل واشنطن لتجريب طرائق أخرى غير التي قادتها إلى تكبد هزيمة سياسية وعسكرية في حرب لبنان، لكن ذلك لن يساعد على التوصل لنتائج مقبولة من الاطراف إذا لم تتخل إسرائيل مسبقا عن طموحاتها التوسعية والاستيطانية وتقبل بمبدأ التعايش مع دولة فلسطينية مستقلة.
والمقصود أن المقاربة التفاوضية لم تصبح عند الأطراف القوية المسببة للأزمة، في واشنطن وتل أبيب، اختيارا نهائيا أو استراتيجيا يعكس تبدل أهداف الفاعلين أو التخلي عن بعضها، وإنما تبرز اليوم في إطار تجربة وسائل أخرى لتحقيق الأهداف المرسومة نفسها او الدفاع عنها. ومن جهة أخرى ينبغي القول إن مصالح الأطراف العربية والإقليمية ليست متطابقة، أو لا تبدو انها متطابقة، أو يمكن التقريب بينها اليوم، وأن التنافس في ما بينها يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير منتظرة وسيئة بالنسبة للعرب جميعا[5]. ومن جهة ثالثة قد تتضارب أجندة المفاوضات العربية الاسرائيلية، التي تبدو ذات وتيرة بطيئة بقدر ما تشتمل على ملفات معقدة ومتعددة، مع أجندة النظم التي تخضع لضغوط داخلية قوية، اقتصادية أو سياسية أو معنوية. وقد يؤدي البطء إلى تفجير الأوضاع أو تعقيدها أو دفع البعض إلى تبني استراتيجيات منفردة للحصول على منافع مؤقتة تساعده على تأمين مخرج لبعض أزماته الضاغطة السريعة.
بإمكان واشنطن ايصال عملية التسوية السياسية العربية الاسرائيلية إلى سلام ناجز لو قامت بالفعل بمراجعة جذرية لسياستها في الشرق الأوسط، وأقرت أن أصل الأزمة المستديمة أو أحد مصادرها الرئيسية هو استنمرار الاحتلال وسياسة الاستيطان الاسرائيلي الزاحف، واقتنعت بعد القدرة على حسم النزاع بالقوة وعلى حساب الطرف الأضعف الفلسطيني والعربي. وفي هذه الحالة كانت ستضطر أيضا إلى مراجعة سياستها تجاه ايران نفسها وتأخذ بنصائح العديد من الدول العربية والغربية التي تميل إلى ايجاد تسوية سياسية في ملف التقنية النووية الايرانية أيضا. والحال أن واشنطن تستخدم التلويح بتسوية عربية لتبرير استراتيجية المواجهة مع ايران، سواء أكانت غاية هذه المواجهة ضرب ايران أو محاصرتها بمساعدة الدول العربية. والمقصود أن التسوية العربية الاسرائيلية لم تصبح بعد غاية بحد ذاتها ما دامت لم تندرج ضمن مقاربة شاملة مختلفة لازمة المنطقة ولا ترتبط باستراتيجية شاملة لمواجهة هذه الأزمة تعكس المقاربة الجديدة.
وبالمثل، ما يدفع تل أبيب إلى التطلع نحو بدء جولة مفاوضات جديدة مع العرب يمكن أن يصبح حافزا على الإعداد لحرب جديدة. فلن يكون لاسرائيل مصلحة في العمل على إنهاء النزاع والتوصل إلى سلام مع العرب إلا في إطار مراجعة لأهدافها، تتخلى فيها عن طموحها للاحتفاظ بالأراضي وتوسيع استيطانها كجزء من استراتيجية مراكمة القوة والاحتفاظ بالتفوق في مواجهة التهديد الذي تعتقد أنها تواجهه الآن أو في المستقبل من قبل الدول العربية. فلا يصبح السلام رهانا معقولا لاسرائيل إلا في إطار التفكير بالاندماج في المنطقة والتحول إلى عضو كامل العضوية فيها، والمراهنة على هذا الاندماج في سبيل تحسين شروط حياة مواطنيها وتعزيز فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما يعني تدمير كل الأسطورة التاريخية التي بنيت عليها إسرائيل القائمة، والعمل على بناء إسرائيل جديدة مختلفة، هي بالفعل دولة مواطنيها، بصرف النظر عن أصلهم ودينهم ومذهبهم، أي تطبيع حالة دولة إسرائيل، والقبول بأن تكون دولة طبيعية وعادية مثلها مثل الدول الأخرى. ومثل هذا التطور يحتاج إلى ثورة عميقة فكرية وايديولوجية لا تظهر اليوم أي معالم واضحة لها في إسرائيل. ومن هنا يبدو لي أن المنطق الذي يوجه خيارات إسرائيل التفاوضية لا يزال لم يتغير منذ بداية المفاوضات في التسعينات، أعني التغطية على منطق الحرب المستمرة واستخدام مبدأ المفاوضات ومساراتها لإضعاف الأطراف العربية ووضع أحدها في مواجهة الآخر وبث التنافس في ما بينها على تقديم التنازلات للحصول على المعاملة الأولى أو الأفضلية.
وعلى الصعيد الإقليمي تتضارب مصالح الحشد ضد ايران مع مصالح العمل على حل الأزمة العربية الاسرائيلية. ولا يمكن أن تستقيم إلا إذا اعتبرت ايران جزءا من المعادلة الاستراتيجية الإقليمية. وليس من الممكن للولايات المتحدة وإسرائيل أن تقدم لسورية حلا مشرفا في الجولان مكافأة لها على التحالف الطويل والدائم مع ايران ما لم يتم التوصل مسبقا إلى تفاهم أمريكي ايراني. وليس من الممكن لدمشق التي لديها كل الأسباب كي لا تثق بوعود القيادة الأمريكية أن تتخلى عن علاقاتها القوية مع ايران، وما تؤمن لها من تغطية استراتيجية وحماية سياسية ومعنوية، وتنضم إلى بقية الدول العربية الموسومة بالاعتدال، والتي شاركت واشنطن محاصرة النظام وفرضت العزلة عليه بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري منذ سنتين.
هناك حالة واحدة يمكن أن يتحقق فيها خرق لصالح تسوية سورية إسرائيلية قبل حصول مثل هذه المراجعات للسياسات الكبرى. وهي حالة شبيهة بما حصل لمصر في كمب ديفيد، أعني أن تدرك إسرائيل أن اختياراتها سائرة نحو الضيق أكثر فأكثر مع تفجر المنطقة، وأن من مصلحتها اليوم البدء بتخفيف العبء العسكري والأمني. وفي هذه الحالة يمكن أن تفكر بأن اتفاقية سلام مع سورية بشروط معقولة، كتلك التي تحدثت عنها وثيقة جنيف، تشكل ثمنا مقبولا للتخلص من مضاعفات القضية الفلسطينية والتحرر من كابوسها. بمعني آخر إن استحالة التوصل إلى تسوية شاملة قد يكون هو حافز اسرائيل للبحث عن تسوية منفردة مع سورية. ولا يخفي العديد من المسؤولين الاسرائيليين رغبتهم هذه. وحصول مثل هذا التفاهم السوري الاسرائيلي يمكن أن يلغي المعوقات الأخرى، بقدر ما يجعل التحالف السوري الايراني قليل الأهمية لدمشق، ويقربها من واشنطن ويفتح عليها خزائن دول الخليج جميعا. لكن إسرائيل لا تبدو اليوم، أو على الأقل في المدى المنظور، في هذا الوارد، وهو ما عبر عنه فشل الزيارة الأخيرة التي قام بها ابراهيم سليمان إلى إسرائيل[6]. ثم إن موقف الإدارة الامريكية لا يزال غير واضح في ما يتعلق بتطوير العلاقات الجديدة مع دمشق، ولا تزال واشنطن تضغط على إسرائيل لمنعها من فتح باب المفاوضات الثنائية مع سورية. لكن ذلك أن الأفق مغلق أمام مثل هذا الاحتمال. وإدراك دمشق أهمية تذليل الممانعة الأمريكية هو الذي يدفعها إلى تكرار التأكيد على رغبتها العميقة في التفاهم مع واشنطن والعمل معها في العراق وفلسطين. وقد انعكس ذلك في الجو الايجابي الذي ساد في لقاء وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس ووزير خارجية سورية وليد المعلم في مؤتمر شرم الشيخ في العاشر من هذا الشهر (مايو نيسان). وبالمثل من الواضح أن تشكيك دمشق بإمكانية التوصل إلى اتفاق عن طريق الاصطفاف وراء المجموعة العربية والعمل خلف المبادرة الجماعية هو الذي يدفعها إلى اختبار مساراتها الخاصة الجانبية التي تامل من خلالها تجاوز العقبة الأمريكية، وإقناع إسرائيل بأن التسوية مع سورية هي المفتاح لمواجهة جميع الأزمات والتحديات الأخرى من حزب الله إلى حماس والأزمة الفلسطينية.
لا تزال هناك عقد عديدة ينبغي حلها في إسرائيل وفي سورية قبل إمكانية التوصل إلى مثل هذا التفاهم وتحييد الموقفين الأمريكي والعربي. وعلى الأرج سوف يظل التجاذب بين الخيارين هو السائد إلى فترة طويلة قبل أن تحسم الأطراف قرارها بين التسوية السلمية والعودة إلى الحرب. وبانتظار ذلك لن تتوقف سورية عن السعي لتذليل العقبات في وجه التسوية الثنائية، كما أن الولايات المتحدة لن تكف عن العمل لاجتذاب سورية بعيدا عن الاستراتيجية الايرانية، من خلال التلويح لها ببعض الحوافز، والضغط عليها في جوانب أخرى مثل موضوع المحكمة الدولية، واستمرارها في الضغط على إسرائيل لمنعها من الدخول في مفاوضات مع دمشق. ومن الممكن أيضا، بالرغم مما نشر في الصحافة عن فشل مهمة ابراهيم سليمان في إسرائيل، ليس هناك ما يمنع أن يتطور التفاهم بين تل أبيب ودمشق من وراء ظهر الولايات المتحدة، من دون أن يكون ذلك مرتبطا باستعادة الجولان، وكذلك من دون أن يغير من طبيعة علاقة دمشق المعقدة والصعبة مع واشنطن.

5- مفاوضات للمفاوضات

في المرحلة السابقة، ردت إسرائيل على شعار مؤتمر مدريد الذي تبناه العرب: الأرض مقابل السلام بشعار سلام مقابل سلام، أي من دون إعادة الأراضي. وعملت على أساسه، خلال أكثر من خمسة عشر عاما من عمر عملية السلام. واليوم هناك مخاوف مشروعة في أن تصبح المفاوضات أو فتح المفاوضات بين الأطراف هدفا في ذاته، وأن تحول إسرائيل شعار المفاوضات من أجل السلام إلى مفاوضات من أجل المفاوضات، أي في سبيل الحفاظ على الوضع القائم وضمان الأوضاع السياسية العربية في إطار من الهدوء والاستقرار.
والقصد أننا لا ينبغي أن نخلط بين فتح المفاوضات وبين التوصل إلى تسويات عملية على الأرض. فمن الممكن تماما، كما بينت تجربة العقود الماضية، ترتيب مسارات تفاوضية مستمرة وحية، من دون أن يعني ذلك التوصل إلى تسويات، بل من دون أن يكون لدى الأطراف المتفاوضة أي رغبة حقيقية في التوصل إليها. بل إن الكثير من المفاوضات لا تخاض إلا للتغطية على غياب الحلول العملية، وأحيانا لإعداد الرأي العام للحروب القادمة وإقناعه بحتميتها. ومن الواضح أن فكرة المفاوضات السياسية لم تدخل في ذهن القيادات الأمريكية والاسرائيلية في الأشهر الماضية إلا في إطار السعي إلى تقليص الخسائر الناجمة عن إخفاق الحلول العسكرية. وفي هذه الحالة من الممكن تماما أن لا تكون المفاوضات سوى حلقة من حلقات إدارة الأزمة الشرق أوسطية بوسائل دبلوماسية، أي بأساليب أقل عنفا، في انتظار تغييرات طارئة جديدة تنقذ الوضع أو تغير من تراتب القوى. ومما يزيد من هذا الاحتمال اعتقاد قيادات البلدين بأن التناقضات القائمة وراء الأزمات الشرق أوسطية عميقة ومستعصية على الحل. وهي تبدو كذلك بالفعل لأن هذه القيادات لا تتصور مثلا حلا يرتب على إسرائيل تنازلات والتزامات لا يمكن في نظرها إلا أن تخل بأمنها وتهدد مستقبلها، في الوقت الذي تدرك فيه أيضا أن من غير الممكن للأطراف العربية قبول التوقيع على سلام بالشروط الاسرائيلية. ولا يختلف الأمر كثيرا عن ذلك في العراق. فواشنطن تعتقد أن خروجها منه يعني تسليمه لايران أو لجماعات القاعدة، وبالتالي تحويله إلى بؤرة لا يمكن السيطرة عليها للارهاب الدولي.
وبالمثل، قد تحتاج الحكومات العربية إلى فتح مسار المفاوضات مع إسرائيل، لا في سبيل التوصل إلى اتفاق نهائي، أو اعتقادا بأن شروط تحقيق مثل هذا الاتفاق أصبحت قائمة، وإنما في سبيل تمديد فترة السلام، أي سلام الأمر الواقع القائم اليوم على الأرض، وشراء صمت واشنطن أو تل أبيب، أو حتى الحصول على تأييدهما لسياساتها الإقليمية أو الداخلية. فبقدر ما يطمئن الحديث عن السلام مع إسرائيل العواصم الدولية، ويدلل على النيات الحسنة للحكومات العربية تجاه هذا الكيان، الذي يشكل أحد محاور السياسة الغربية الشرق أوسطية الرئيسية، يغطي كذلك على عجز البلدان العربية عن بناء استراتيجية فعالة لمواجهة مشاكل احتلال الأرض والهيمنة الاسرائيلية الإقليمية. ومن هذه الناحية تهدف العديد من الأنظمة العربية في سعيها الحثيث للإبقاء على مسار التفاوض حيا، مهما كان صوريا وشكليا وفاقدا للنجاعة والفاعلية، إلى إخفاء عجزها عن مواجهة الواقع بصورة عملية، والتغطية على فقدانها المبادرة الاستراتيجية، وانعدام خياراتها جميعا إزاء سياسة القوة وفرض الأمر الواقع الاسرائيلية. ومما فاقم من هذا النزوع إلى التعويض عن العجز بالتشبث بالمفاوضات، ومن وراء ذلك لجوء العواصم العربية أكثر فأكثر إلى استخدام الدبلوماسية الموازية والرخيصة، التوافق الاستثنائي العميق الذي حدث في السنوات الأخيرة، في ظل الإدارة الجمهورية التي سيطر عليها المحافظون الجدد، بين الاستراتيجيتين الأمريكية والاسرائيلية، سواء بسبب التطابق المتزايد في المصالح – تفكيك العالم العربي وتجريده من سبل القوة مصلحة مشتركة ومفيدة لواشنطن لتعزيز قبضتها على المنطقة، ولاسرائيل لاستكمال مشروعها الاستيطاني والقومي – أو بسبب تنامي قوة اللوبي الاسرائيلي وتغلغله في مؤسساات القرار الأمريكية.
ومن هنا، هناك مجال للخوف من أن التوصل إلى حلول للاحتلال أو للأزمات التي يتخبط بها الشرق الأوسط لم يعد هو المحرك الرئيسي للدبلوماسية المحلية أو العالمية. وحل محله هدف أقل طموحا لكنه يبدو أكثر عملية هو الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار، واستخدام تقنية المفاوضات لامتصاص التوترات وتأمين إدارة النزاعات القائمة بوسائل أو بطرق أقل دموية وبتكاليف أرخص.

ومن هنا فإن الجواب على سؤال: هل تشجع الظروف الراهنة على فتح حلقة جديدة من المفاوضات العربية الاسرائيلية والسورية الاسرائيلية بشكل خاص، هو أن المفاوضات لم تنقطع أبدا، وأنها ستتخذ أشكالا أكثر تنظيما ورسمية في المستقبل، لكن ليس في سبيل التوصل إلى تسويات لا تزال غير ممكنة في أفق موازين القوى والمنظومات الفكرية والسياسية التي تسيطر على المنطقة، وإنما بالعكس في سبيل التغطية على غياب هذه التسويات ولملء الوقت الضائع. إنها تعبر هي نفسها عن الشكل الرث لسلام الشرق الأوسط، الوحيد الممكن والمتاح في الوقت الراهن، أعني التهدئة من دون حلول.
[1] [1] كان ابراهيم سليمان، الفيزيائي الأمريكي من أصل سوري، الشخصية قد عقد، حسب ما نشرته جريدة هاأرتس الاسرائيلية ونقلته الصحافة العربية، في الفترة بين ايلول 2004 وآب 2005 سبعة اجتماعات عمل سرية مع ليئيل وأرونسون، اختتمت باجتماع أخير في تموز 2006 خلال الحرب الاسرائيلية على لبنان. وبالرغم من حرص ليئيل وسليمان على التأكيد خلال هذه الاجتماعات على أنهما لا يتفاوضان كممثلين عن حكومتيهما، فقد اعلنا التوصل الى مجموعة "تفاهمات"، سميت وثيقة جنيف، لانهاء النزاع بين سوريا واسرائيل. وقد تضمنت هذه "التفاهمات" مبدأ انسحاب اسرائيل من الجولان المحتل الى خطوط الرابع من حزيران 1967 مع تحويل الجزء الاكبر من الأرض المحررة إلى مستوطنة طبيعية، واحتفاظ ااسرائيل بالسيطرة على مياه بحيرة طبريا ونهر الاردن وتتعهد سوريا بوقف دعمها لـ"حماس" و"حزب الله" والابتعاد عن ايران والتعاون مع الدولة العبرية في محاربة "كل انواع الارهاب المحلي والدولي"، كما يوافق البلدان على تطبيع العلاقات بينهما في مختلف المجالات، واقامة مناطق منزوعة السلاح على جانبي الحدود بعد انهاء الانسحاب الاسرائيلي من الجولان.

[2] للمزيد من التفاصيل، رضوان زيادة، السلام الداني، المفاوضات السورية الاسرائيلية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2005
[3] لتحليل أوسع حول سبب خسارة العرب معركة السلام، يمكن العودة إلى كتابنا: العرب ومعركة السلام، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، 2000.
[4] حول انهيار استراتيجية الولايات المتحدة وتداعي أسس نظامها للشرق الأوسط، انظر برهان غليون، ما بعد القومية والاستعمار، الجزيرة نت، 17 مارس آذار 2007.
[5] ظهر هذا التناقض بشكل واضح في مؤتمر شرم الشيخ الأخير، حيث تضاربت المواقف الايرانية والسورية. فحسب ما أكدت مصادر ايرانية مطلعة لـ «الحياة» (2007/05/07) كانت طهران «غير راضية» عن ما تعتبره «ارتجالاً» في السياسة السورية ازاء الولايات المتحدة، خصوصاً اللقاء الاخير بين وزيري الخارجية السوري وليد المعلم ووزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس.
[6] حسب جريدة الخليج الإماراتية (15 أبريل نيسان 2007) منيت زيارة سليمان الأخيرة إلى إسرائيل بإخفاق ذريع. بل ربما يكون الكنيست “الإسرائيلي” قد استغل الزيارة لبعث رسالة الى سوريا عبر ضيفها من أصل سوري، ابراهيم سليمان تقول ان الكنيست باكثريته يرفض السلام مع دمشق. وفي لقاء للجنة الخارجية والحرب مع الضيف السوري طلب النائب يسرائيل كاتس (ليكود)، رئيس لوبي الجولان، من سليمان نقل رسالة إلى القيادة السورية، مفادها أن الكنسيت يرفض بأغلبيته الانسحاب من الجولان وأن “61 عضو كنيست وقعوا على العريضة ضد الانسحاب من الجولان، ومن المفضل أن يعرفوا ذلك في دمشق”. كذلك طلب كاتس من سليمان تحرير رسالة تهديد بأنه في حال شنت سوريا حرباً على “إسرائيل” فإن كل أرض سورية تحتلها “إسرائيل” ستبقى بأيديها.

mercredi, mai 23, 2007

في تقويم حركات التغيير الديمقراطي العربية

الاتحاد 23 مايو 07
في ندوة تقييم حركات التغيير الديمقراطي في البلاد العربية، التي نظمها مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان (19-20 مايو 07)، لم يكن الموضوع، كما هو الحال غالبا، تحليل عطالة الأنظمة العربية والعوائق السياسية والاجتماعية والمعنوية التي تضعها في وجه التغيير، مما أصبح بديهة بالنسبة لغالبية الرأي العام العربي والأجنبي، وإنما تحليل عطالة قوى التغيير العربية والبحث عن الأسباب التي تمنعها من أن تكون أداة فعالة في الضغط من أجل الاصلاح. والواقع أن جميع الناشطين العرب يشعرون اليوم بوجود حاجة ملحة لمراجعة ذاتية تشمل خطط قوى التغيير الديمقراطي العربية وشعاراتها وأساليب عملها، بعد المرحلة العاصفة التي شهدتها الحياة السياسية في السنوات القليلة الماضية. فهناك شعور عميق بأن الآمال الكبيرة التي عقدت على هذه الحقبة من أجل الخروج من حالة الجمود، وبعث جدلية سياسية واجتماعية تعيد الشعب إلى الحياة العامة، وتؤسس لحياة سياسة ومدنية صحية وسليمة، بعد مرحلة طويلة من سيطرة السلطة الأبوية والتسلطية المفروضة من فوق، قد ضاعت جميعا، مخلفة واءها إحباطا عميقا لدى قوى التغيير وقطاعات الرأي العام الواسعة، التي راهنت عليها، حتى لو أنها لم تتجرأ على الانخراط فيها أو المشاركة بنشاطاتها.
في سياق هذا الاحباط، تدفع المراجعة النظرية البعض إلى العودة إلى نظريات قديمة كادت السنوات الماضية تقضي عليها وتتجاوزها. منها نظرية الاستثناء العربي والاسلامي الذي يسعى إلى البحث عن مصاعب الانتقال الديمقراطي في بنية الثقافة والبنية الثقافية الانتروبولوجية العربية التي تشجع على السلوك الجماعوي والشعبوي ضد فكرة الفردية. ومنها من يستعيد نظرية الأثر السلبي للدين الاسلامي، أو بالأحرى لسيطرة الفكر الديني عموما على تصور منظومة قيم ومباديء وأخلاقيات مدنية تؤسس للمواطنية. ومنها ما يشير إلى عمق البنى العصبوية القبلية والطائفية والمذهبية التي تسمم السياسة العربية. وتقدم هذه السمات الخاصة بالمجتمعات العربية كما يعتقد البعض تفسيرا للممانعة التي يظهرها الرأي العام تجاه أفكار الديمقراطية وما ترتبط بها من قيم الحرية والمساواة والعلمانية، وبالتالي لإخفاق حركات التغيير الديمقراطية في خرق جدران العزلة التي تحيط بها والتفاعل مع القوى الشعبية.
لا ينبغي بالتاكيد تجاهل هذه العوامل ولا صرف النظر عن مفعولها السلبي في تطور قوى الديمقراطية. لكنها ليست هي التي تفسر ضعف قوى التغيير الديمقراطي، ولا العطالة التي تميز الحياة السياسية لعامة الشعوب في البلاد العربية. بل يمكن القول إن هذه السمات ليست هي ذاتها إلا ثمرة اليأس والقنوط الناجمين عن الشعور الصحيح بانحسار فرص التغيير، أو على الأقل بعدم نجاح القوى الديمقراطية في بلورة مشروع واضح ومعقول، أي مقنع، للتغيير الديمقراطي في المدى المنظور. وأخشى أن يكون الخط الذي اتبعته هذه القوى في السنوات العاصفة الماضية والممارسات التي ارتبطت به قد ساهم في إضعاف صدقيتها وبالتالي في تعزيز عزلتها، أكثر مما عمل على تعزيز صدقيتها وإبراز ملامح المشروع الديمقراطي الذي يتوقف على بلورته ووضوحه ولاء الرأي العام أو أغلبه لها.
فقد اوحى تضافر عوامل داخلية، مرتبطة بصعود جيل جديد من الحكام الشباب الحائزين على ثقافة حديثة، في العديد من البلدان العربية، وخارجية، مرتبطة بتغيير البيئة الايديولوجية الدولية، مع تنامي ظاهرة التواصل بين الثقافات وتقدم فلسفة الليبرالية الجديدة على غيرها، وإقليمية، مرتبطة بتبدل واضح في استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وتبنيها سياسة كسر الاحتكار المؤبد للسلطة الذي فرضته النخب الحاكمة على المجتمعات، على أمل الحصول على بعض الشعبية لمشاريع سيطرتها الإقليمية، أقول أوحى كل ذلك بأن هناك نافذة فرص حقيقية للانتقال إلى حقبة جديدة من الانفراج السياسي الداخلي إن لم يكن للدخول فعليا في مرحلة انتقال نحو الديمقراطية.
والحال لم يظهر الجيل الجديد من الزعماء قدرا أكبر من التفهم للمشاكل الاجتماعية، ولم تساعده ثقافته الحديثة في التعامل بصورة أكثر عقلانية مع التحديات الجديدة، ولا حثته على التفاعل باحترام أكبر مع قطاعات الرأي العام أو أصحاب الآراء المغايرة. ولم تساهم الضغوط الأمريكية القوية على دفع النظم التسلطية التي عاشت عقودا طويلة تحت عباءتها وفي ظلها إلى فتح فرص أفضل لتحولات ديمقراطية أو لانفراجات سياسية. وبالمثل لم تقدم المناخات الليبرالية العالمية السائدة حوافز اكبر لتكيف النخب الحاكمة مع المعايير الدولية والمغامرة بتوسيع هامش المشاركة الشعبية واحترام الحد الأدنى من حكم القانون وحقوق الانسان.
ما حصل كان العكس تماما. فقد كان جيل الشباب بحاجة إلى أن يكشر عن أنيابه بشكل أكبر حتى يضمن طاعة شعبه وخضوعه، ويردع أيضا النخب المعارضة الصاعدة في إطار نظم تعاني من تصدعات حقيقية وتتعرض إلى تحديات متزايدة. وأعطت الضغوط الأمريكية القوية التي جاءت في رداء الحرب العالمية ضد الارهاب مبررات أكبر لجميع الأنظمة القائمة لتجاوز حكم القانون وممارسة العنف ضد قوى المعارضة والاحتجاج، والعمل بجيمع الوسائل لتثبيت الحكم وإغلاق النظم كما لم تكن مغلقة في أي حقبة سابقة. وفي هذه الظروف كان من الطبيعي أن تترافق العودة إلى تبني نموذج اقتصاد السوق بشكل واضح مع بروز ظاهرة تحالف سلطة رجال الدولة مع سلطة رجال المال، وتكوين شبكات من المصالح الاحتكارية الشاملة، هي أقرب إلى نمط اقتصاد المافيات الدولية منها إلى نمط اقتصاد السوق الذي تتحكم به طبقات رأسمالية منتجة مكونة من أصحاب مشاريع حرة يشكل الحفاظ على حكم القانون واحترام الحريات السياسية شرطا ضروريا لضمان المنافسة النزيهة بين أفرادها وتأمين وحدتها في الوقت نفسه.


هكذا لم يكن التفاؤل الشديد الذي ولد من تضافر هذه العوامل مبررا بالفعل. وما بدا لفترة وكأنه فرصة تاريخية للتحول الديمقراطي تحول إلى كابوس كان أول ضحاياه قوى التغيير الديمقراطي ذاته. فقد خلق هذا التفاؤل أوهاما كبيرة لدى النخب الصاعدة والجمهور معا. وعمل تضخم التطلعات والتوقعات في التغيير على تجاهل الحقائق الموضوعية الصلبة لصالح التأكيد على العوامل الذاتية. وقاد الاعتقاد بوجود فرصة للتغيير السريع إلى الحلم في ما يشبه الانقلابات المدنية، وهو ما عبرت عنه بعض القوى بدعوتها إلى العصيان العام، أو مراهنتها على تحويل الاعتصامات المحدودة إلى ثورة مدنية على شاكلة ما حصل في بعض بلدان أوربة الشرقية. وكان ذلك على حساب بلورة استراتيجية حقيقية تأخذ بالاعتبار التشوهات والنقائص والتحديات الحقيقية التي تعاني منها مشاريع الديمقراطية العربية. وأدى التمسك بأجندة التحويل السريع إلى المبالغة في تقدير أثر الضغوط الخارجية والظروف الطارئة، على حساب الاستثمار الطويل في بناء قوى التغيير والتحويل الديمقراطي الذاتية. وكانت النتيجة درجة أكبر من الانفصال بين الفكر والواقع، وبين حركة النخبة الجديدة الديمقراطية والجماهير، وتقديما للأحلام والرغبات الذاتية على الحسابات العقلانية والحقائق الموضوعية.
وفي اعتقادي، لن تستطيع قوى الديمقراطية العربية الخروج من حالة الاحباط التي تعيشها اليوم، ولا استعادة ثقة الرأي العام والربط من جديد مع قطاعاته الأكثر وعيا واستعدادا للاستثمار في العمل الوطني، وبالتالي استعادة روح المبادرة السياسية، من دون النجاح في معالجة آثار هذه النكسة والعودة إلى منطق العمل الطويل القائم على بلورة أجندة مستقلة عن الظروف الخارجية، من دون أن تتجاهلها بالطبع، وتركيز الجهود على بناء قوى التحويل الذاتية. وهو ما يشكل تحديات كبيرة ومعادلات ليس لدينا في العديد من البلدان العربية حلولا جاهزة لها بالتاكيد.

mercredi, mai 09, 2007

من هو المسؤول عن انتشار العنف الدولي؟

الاتحاد 9 مايو 2007

استخدمت العديد من حكومات الدول الكبرى وقوى سياسية متعددة، في العقدين الماضيين، تزايد عمليات العنف التي تقوم بها بعض التيارات الاسلامية المرتبطة بالقاعدة، أو التي أصبحت توقع عملياتها باسم القاعدة، في سبيل تعبئة الرأي العام العالمي من حول سياساتها الأمنية، وجره إلى مواقعها الرامية إلى تحويل الحرب على الارهاب إلى محور السياسات الدولية. ويهذه المناسبة ساهمت أيضا في خلق القاعدة الأسطورة التي أصبحت قطب جذب لجميع تلك القوى والجماعات الانتحارية والتدميرية التي لم تعد تحتمل نظام القهر العالمي، والتي تحلم بالفعل بدفعه نحو الفوضى والانهيار. ويتساءل الكثيرون من أنصار الرد العنيف على العنف والحد من الحريات العامة ومضاعفة إجراءات الملاحقة والتفتيش والمتابعة الأمنية والتنصت المهدد لجميع الحريات المدنية، عما إذا كانت المجموعة الدولية قد قامت بما يكفي من الجهود لمقاومة الارهاب. وهي تأمل من ذلك في أن تقنع القطاعات التي بقيت مترددة في قبول الإجراءات الامنية الشديدة السابقة، لما تتضمنه من تقليص في الحريات العامة، بالرجوع إلى العقل، وربما دفعها إلى نقد الذات.
باختصار، إن الدول والقوى التي لا تزال تطمح إلى استخدام الحرب ضد الارهاب لتحقيق أجندة سياسية واستراتيجية خاصة بها، تحاول، على شاكلة إدارة الرئيس بوش في واشنطن، أن تردع مناوئيها باتهامهم المضمر بالمسؤولية عن توسع العنف لأنهم لا يقروا جميع الوسائل والامكانيات التي تطلبها السلطات في معركتها ضد العنف. وإذا نجحو في ذلك فإن الوقت لن يطول قبل أن يسقط العالم بأجمعه تحت نظم أمنية لا هم لها سوى تجديد سلطة البيرقراطية العسكرية والمخابراتية والامنية بحجة مواجهة العنف. وهو ليس خطر محتمل. إنه خطر جاثم، خاصة وأن الدولة الأكبر هي التي تقف وراءه، وتتخذ منه درعا واقيا في مواجهة جميع أولئك الذين ينتقدون سياساتها المغامرة والكارثية في الشرق الأوسط والقوقاز ومناطق أخرى من العالم.
والحال، لم يشهد العالم عنفا أكثر انتشارا مما حصل بعد تطبيق نظرية الحرب العالمية ضد الارهاب. ومن المطلوب معرفة في ما إذا كانت هذه النظرية والاستراتيجيات التي اتبعتها ليست هي المسؤولة عن توسع دائرة العنف، لا ضعف الجهود المبذولة لوقفه أو تردد قطاعات الرأي العام في دعم هذه الجهود. بل ليس من المبالغة القول إن توسع دائرة انتشار العنف يبرهن على الإخفاق الذريع لنظرية الحرب العالمية ضد الارهاب، أكثر ما يؤكد نقص الموارد المخصصة لتطبيقها. فما كان من الممكن تصور مثل هذا الانتشار لو اتخذت المجموعة الدولية إجراءات حل المشاكل الدولية المولدة للعنف بدل المصادقة على الجهود الحربية، تجنبا لطرح المسائل الحقيقية. لكن حتى على هذا المستوى ما كان من المتوقع أن تسفر الحرب عن مثل هذا الإخفاق الذريع لو لم تستخدم لأغراض سياسية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالقضاء على العنف.
والمقصود أن الحرب العالمية ضد الارهاب أخفت منذ البداية أجندات متعددة تصب جميعا في عملية استعادة المبادرة من قبل قوى السيطرة العالمية على حساب آمال التغيير والتحول الايجابي لصالح الشعوب والفئات المحرومة. فقد جاءت بداياتها مع تنظيم أول مؤتمر عالمي ضد الارهاب في شرم الشيخ عام 1998، الذي كان يهدف إلى التضامن مع سياسات إسرائيل التوسعية، ومساعدتها على عزل الشعب الفلسطيني وكسر إرادته ومعنوياته، لتمكين تل أبيب من الاحتفاظ بالأراضي المحتلة وضمها. ثم أصبحت هذه الحرب الغطاء النظري والايديولوجي لتبرير سياسات السيطرة الأمريكية العالمية، في الشرق الأوسط خصوصا، قبل أن تتحول إلى محور السياسة الدولية وأجندتها الرئيسية، في سياق سعي جميع النظم القائمة إلى استخدام الحرب ضد الارهاب ذريعة للتغطية على المشاكل الداخلية والهرب من المسؤولية.
هذا ما يفسر أن الحرب ضد الارهاب قادت بالفعل إلى تنمية الارهاب، وذلك بقدر ما وضعت الشعوب المعرضة للتهديد، وبعضها كما في فلسطين والعراق للإبادة الوطنية والاضمحلال، في مواجهة تحد لم تعرفه من قبل، وهو تحدي تعبئة الرأي العام العالمي باكمله ضد حقوقها ومن وراء ذلك تبرير سياسات القوى التي تنتهك هذه الحقوق. فلم تنعم السيطرة الاستعمارية بفترة سماح أطول وأكثر رحابة صدر مما نعمت به في العقدين الماضيين تجاه السياسات الأمريكية الاستعمارية المعلنة في القوقاز والشرق الأوسط وأفريقيا. ولا وجدت إسرائيل ظرفا أكثر ملاءمة لتوسيع رقعة الاستيطان وتعزيز وجودها في الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة، وضرب مصالح الشعوب عرض الحائط، كما حصل في العشرين سنة الماضية أيضا.
لكن الحرب ضد الارهاب لم تستخدم فقط من قبل الدول الكبرى وإسرائيل لاستعادة السيطرة والمبادرة في مناطق النفوذ التي بدأت تهتز تحت أقدامها فحسب، ولكنها استخدمت ولا تزال تستخدم أيضا من قبل النظم الأوليغارشية العربية وغير العربية من أجل تعزيز سيطرتها الداخلية، وإغلاق أفق الاصلاحات الديمقراطية وتقوية قبضة حفنة من أصحاب المصالح المتوحشة على موارد شعوبها ومصائرها معا.
هكذا تحولت الحرب ضد الارهاب إلى شعار يخفي الحرب المعلنة ضد الشعوب وحريات أفرادها ومصالحهم ومستقبلهم في كل مكان، وصارت غطاءا تجري من تحته عمليات الاستفراد بالقرار، ونهب الدول، وتحييد المجتمعات، وولادة مافيات دولية تتفاهم من وراء ظهر الشعوب وعلى حسابها، من أجل تبادل المصالح والخدمات، من وراء الشعارات والخطابات الدعائية المعسولة. وما كان من الممكن لهذا الوضع إلا أن يقود إلى مزيد من التقهقر والتدهور في شروط حياة الشعوب، مع زيادة انعدام الامن الشخصي، وتصاعد عمليات القمع والقهر والاختفاء، وتفاقم ظواهر الفقر والبطالة وانتهاك القانون وتضييق حقل الخيارات أمام جميع السكان.
لم يخلق هذا الوضع ظروفا أفضل لتعبئة الشباب الفاقد لأي أفق أو أمل، والباحث عن مخرج فحسب، بعد أن ضاقت جميع السبل الاقتصادية، بما فيها المعتمدة على الهجرة إلى البلدان الغنية بفرص العمل في الخليج وأوروبة، ولكنه أعطى مبررات أكثر لمنطق العنف وقضيته. فبقدر ما قوضت الإجراءات الأمنية التعسفية التي يقدم معتقل غوانتنامو وأبو غريب وسياسات الحصار المضروب على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، والتنكيل بالناشطين السياسيين والمدنيين في معظم الدول العربية، لأسباب واهية أو من دون أسباب، أفضل تجسيد لها، أقول بقدر ما قوض ذلك صدقية النظم السياسية والحلول القائمة على احترام الآخر وقيم العدالة والمساواة والتطبيق الدقيق للقانون، جعل من استباحة هذه القيم والقوانين نفسها من قبل الجماعات الارهابية أمرا عاديا ومقبولا لدى قطاعات واسعة من الرأي العام، وبرر للكثير من الشباب العاطل والناقم السلوك مسلك الإجرام والعمل على أسس لا قانونية بل إرهابية.

لذلك ليس من الغريب أن تكون الحرب العالمية التي أعلنت ضد الارهاب هي السبب الأول لتوسيع دائرة انتشار العنف والارهاب، بقدر ما كانت هذه الحرب في الواقع حربا على استقلال الشعوب وسيادتها وحرياتها وحكم القانون فيها. وإذا كان من غير الممكن لعاقل أن لا يدين مثل هذه الأعمال الإرهابية، فمن غير المعقول أيضا أن لا يدان بالجريمة نفسها وبشكل أقوى أولئك الذين حولوا، ولا يزالون يحولون، بسياساتهم العدوانية، ومغالاتهم في الاستهتار بمصالح الناس وحقوقهم ومشاعرهم، شباب الشرق الأوسط أنفسهم إلى متمردين على القانون، وبعضهم إلى مجرمين.