mercredi, décembre 30, 2009

حول غزة ومصر وسياسات العزل العربية

الاتحاد 30 ديسمبر 09

في اليوم الثاني لتوقيع دمشق وأنقرة على اتفاق فتح الحدود بين الطرفين، والسماح لمواطني البلدين بالسفر من دون تأشيرة دخول، تكريسا لمجموعة من الاتفاقات الاقتصادية الاستراتيجية بين البلدين، بادرني بعض الأصدقاء المصريين اثناء مؤتمر علمي كنا نشارك فيه معا في أحد العواصم الخليجية بسؤال : ماذا يجري في الشرق بين سورية وتركيا، وأين تتجه الامور بهذه السرعة؟ وكان من الواضح أن تطور العلاقات السورية التركية يثير تساؤلات كثيرة عند أصدقائي من منطلق شعورهم كمصريين بأن مصر تفقد شيئا فشيئا مركزيتها بالنسبة للبلاد العربية، وبشكل خاص بالنسبة لدمشق التي كانت أكثر المتحمسين في الخمسينات للعلاقات الوثيقة مع القاهرة. حتى ذهب بها الأمر إلى الدخول في وحدة اندماجية معها، شكلت لفترة من الزمن معلما رمزيا كبيرا من معالم طموح العرب إلى تحقيق وحدة عربية لم يكتب لفكرتها النجاح إلى اليوم. قلت ما هو الغريب في الأمر. قال أصدقائي كيف يحصل مثل هذا التفاهم العميق بين بلدين كاد النزاع أن يكون سمة العلاقات الدائمة بينهما منذ انفصال سورية عن السلطنة العثمانية. هل هي العثمانية الجديدة؟ وماذا تسعى دمشق إلى تحقيقه من وراء ذلك؟

قلت للأسف الشديد أن ما أخفقت مصر في الإقدام عليه وتحقيقه في المشرق والعالم العربي يتحقق اليوم على يد تركيا، وهي البلد الذي كان العديد من الباحثين العرب ينظرون إليه منذ سنوات على أنه من بلاد الجوار المعادية. وقد صدرت كتب عربية عديدة بهذا المضمون. والحال أن تركيا استفادت من العقدين الأخيرين وطورت سياسات جديدة تماما، داخل تركيا وتجاه المنطقة المحيطة بها، العربية وغير العربية، بينما بقينا نحن، في مصر وغيرها، ندور في الحلقة المفرغة ذاتها لنقاشات الخمسينات والستينات، ونتبارى في تأكيد أطروحات الماضي أو نفيها. ولا يزال مثقفون مصريون، منذ قيام الناصرية إلى اليوم، يتنازعون في ما بينهم حول عروبة مصر أو مصريتها، وما يترتب على ذلك من تحديد دور مصر في محيطها العربي، ومدى التزامها بالقضايا العربية وفي طليعتها القضية الفلسطينية، وحدود هذا الالتزام وطبيعته. وما الدور الذي يمكن أن ينتظره في إقليمه بلد صرف جل وقته وجهده السياسي في العقدين الاخيرين في الصراع حول توريث السلطة أو عدم توريثها، بينما انقلب العالم رأسا على عقب. لقد همشت مصر نفسها بمقدار ما راوحت في مكانها في القضايا المحورية، من قضية التنمية واستغلال فرص الاندماج الإقليمي، إلى قضية الديمقراطية وبناء إطار قانوني واضح لتداول السلطة وممارستها على جميع الأصعدة، إلى قضية التفاعل الايجابي مع حاجات محيطها وتقديم يد المساعدة للشعوب المنكوبة فيه، وفي مقدمها قضية الاحتلال للاراضي العربية، وتقرير مستقبل الشعب الفلسطيني..

بالمقابل تطورت مواقف النخب السياسية التركية بسرعة كبيرة. وربما كان قبول مصر المساعدة المالية الأمريكية، ثمن توقيعها اتفاقات كمب ديفيد وفرطها التحالف العربي، ورفض برلمان أنقرة عرض الولايات المتحدة مبلغ عشرة مليارات دولار للسماح لها باستخدام أراضيها في حربها ضد العراق عام 2003 التعبير الواضح عن تباين خيارات تركيا الجديدة ومصر ما بعد الناصرية. فقد كان هذا الرفض مفتاح تأكيد الاستقلال التركي من دون أن يعني هذا الاستقلال قطع العلاقات مع الولايات المتحدة أو معاداة الغرب ورفض التعامل مع الاتحاد الأوروبي أو حتى الانسحاب من حلف شمال الأطلسي، تماما كما كان الحفاظ على المعونة الأمريكية مفتاح فهم العديد من سياسات القاهرة العربية والإقليمية. لكن هذا الخيار الاستقلالي والسيادي الفعلي لم يكن معزولا عن الخيارات الديمقراطية الداخلية للنخبة السياسية التركية على مختلف مشاربها. ففي العقدين الماضيين لم يضطر الجيش التركي الذي نصب نفسه منذ قيام الجمهورية حارسا على السيادة الوطنية إلى التسليم بالأمر الواقع وقبول الشرعية الانتخابية فحسب، وإنما لم يتردد قادة حزب الرفاه الذي اصطدم بالعسكريين، في التراجع عن العديد من مواقفهم، بل في إعادة بناء الحزب الاسلامي على أسس ليبرالية جديدة وتغيير اسمه للحفاظ على الخيار الديمقراطي والاستمرار في تطبيق برنامج العمل الوطني. وليس هناك شك أن وراء هذه التنازلات المشتركة التي عبرت عن نضج النخب التركية يتجلى تطور مفهوم المصالح الوطنية التركية، لا من حيث هي تعزيز لوضع النخبة العسكرية وتأكيد هيمنتها، أي لا من حيث هي عنتريات سيادية شكلية ومظهرية، وإنما كبحث عن فرص تحسين شروط حياة الأتراك الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

هكذا بمقدار ما تبلور مشروع وطني تركي يتمحور حول السيادة والاستقلال والحفاظ على الديمقراطية وتعزيز فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو مشروع حداثة حقيقية، تطورت بموازاته سياسة إقليمية جديدة تهدف إلى خدمته. وبدأت أنقرة التي كانت أعظم حليف إقليمي عسكري وسياسي لاسرائيل خلال عقود طويلة سابقة تشعر بمسؤوليتها تجاه مشاكل المنطقة ونزاعاتها. فناهضت سياسات إدارة بوش العدوانية، واستفادت من علاقتها التقليدية بتل أبيب من أجل فك العزلة السورية والسعي إلى تحقيق تسوية تضمن عودة الجولان المحتل، وعبرت أكثر من مرة عن دعمها لحقوق الشعب الفلسطيني واستعدادها للعب دور في أي تسوية سياسية. وأدانت الحرب الاسرائيلية الهمجية على غزة عام 2006. ولم يتردد وزير خارجيتها في زيارة غزة ثم في إلغاء أنقرة المناورات العسكرية المشتركة التي كانت تجري، مع الجيش الاسرائيلي، على حدود سورية الشمالية. ولا يترك زعماء تركيا العدالة والتنمية مناسبة من دون أن يظهروا اهتمامهم بمصير منطقتهم وحرصهم على المساعدة في بسط الاستقرار والسلام فيها. وهم يحققون بسبب ذلك مكاسب استراتيجية واقتصادية وسياسية وثقافية متواصلة لا تحلم بها أي من الدول العربية الرئيسية.ليس هناك إذن أي سر في تقدم تركيا وتنامي دورها في الشرق الأوسط والعالم العربي خاصة، وتراجع دور مصر وانحسار نفوذها في المنطقة نفسها. فمصر ما بعد الناصرية اختارت التفريط بالاستقلال والسيادة للحفاظ على معونة مالية تكاد تتحول إلى معونة رمزية، وأدارت ظهرها للديمقراطية في سبيل تأكيد استقرار أصبحت تربطه أكثر فأكثر بتخليد الوضع القائم وإرساء تقاليد شبه امبرطورية. وبدل العمل على توفير شروط الارتقاء بمستوى حياة السكان الثقافي والعلمي وتحسين شروط معيشتهم وإرساء أسس المجتمع الصناعي الحديث، قبلت النخب السائدة بسيطرة اقتصاد زبوني قائم على الاحتكار والمضاربة وتقاسم المنافع بين أقلية اجتماعية محدودة على حساب سعادة الأغلبية ومستقبل أبنائها، وهو نقيض مشروع الحداثة وعكسه. واختارت أخيرا، دعما لهذا المشروع السلطاني، الانفصال عن محيطها العربي ورفض تحمل أي مسؤولية في ضمان مستقبله ومستقبل أبنائه، ومازال العديد من مثقفيها وقادتها يمننون العرب، بمناسبة ومن دون مناسبة، بما قدموه ويقدموه من "تضحيات" مجانية، على حساب شعب مصر ومصالحه الوطنية. والنتيجة لا تزال مصر تعيش، مثلها مثل معظم الدول العربية، في عقلية الماضي، بينما تخوض تركيا معركة التفكير بالمستقبل والاعداد له.

لا أتذكر أن أحدا من الحاضرين قد شعر بالإساءة أو بالتجني. والجملة الوحيدة التي سمعتها في نهاية حديثي وجهها أحد كبار الباحثين والسياسيين أيضا لزميل جالس بيننا كانت: أسمعت يا سعادة السفير؟

حضرتني هذه الجلسة السريعة مع أشقائي من المثقفين والناشطين المصريين، الذين كانوا معي قلبا وقالبا، بمناسبة قرار الحكومة المصرية الجديد بناء جدار حديدي عازل على حدودها مع غزة، المحاصرة منذ ثلاث سنوات بهدف تجويع أهلها وفرض الاستسلام عليهم، والتسليم بالمطالب الاسرائيلية. وما يضاعف الأسى أن يدافع بعض المسؤولين المصريين عن بناء الجدار بوصفه مسألة سيادة مصرية كما لو أن مشكلته الوحيدة هي نفي تهمة الامتثال لمطالب السياسة الأمريكية والاسرائيلية، أو كأن السيادة مبرر كاف لأعمال تكاد تندرج إن لم تندرج بالفعل في عداد الجرائم ضد الإنسانية.

كيف يمكن لمصر، وهي واسطة عقد العرب، أن تلعب الدور المنتظر منها والمرتجى في محيطها، إذا كان استكمال حصار غزة والتنكيل بشعبها هو محمول السيادة المصرية ومعيارها؟ وكيف يمكن للعرب أن يتجنبوا سيطرة الدول الأجنبية الإقليمية والدولية إذا تبارت أقطارهم في النفور عمدا، كما أنشد امرؤ القيس، إلى الروم، نكاية بجاراتها وأشقائها ناكري الجميل؟ وأي عروبة يمكن أن تقوم على قاعدة الخديعة والأنانية والطفولية؟

يؤكد درس تركيا، وهذه هي الغاية من استذكاره، أن من يريد استقطاب الآخرين من حوله وحيازة موقع شرعي في محيطه، ولعب دور غير ذاك النابع من التهديد والوعيد، ينبغي أن يظهر، داخل بلاده وخارجها، مقدرة على حمل المسؤولية، وقبل ذلك أن يعرف معنى المسؤولية في قيادة المجتمعات وتكوين التحالفات.

lundi, décembre 21, 2009

هوية فرنسا: الاستثمار الانتخابي لليمين!

الاتحاد 21 ديسمبر 09

تبنت الحكومة الفرنسية، بطلب من رئيس الجمهورية ومبادرة من وزير الهجرة، طرح خطة لنقاش مسألة الهوية الوطنية تهدف، كما قال الوزير، إلى تقريب آراء الفرنسيين، بصرف النظر عن أصولهم وميولهم السياسية، في موضوع الهوية الفرنسية، وإلى بلورة برنامج عمل “يرسخ” هذه الهوية و”القيم الجمهورية”، ويعزز افتخار الفرنسيين بانتمائهم للأمة الفرنسية. ويدور النقاش عبر اجتماعات على مستوى محافظات فرنسا الـ96 ودوائرها الـ342، إضافة إلى “محافظات ومقاطعات ما وراء البحار” في منطقتي المحيط الهادي والكاريبي، ويشارك فيها منتخبون ومسؤولون تنفيذيون، وفرنسيون من أصول أجنبية، وقادة جمعيات وتنظيمات نقابية وشركاء قطاع التعليم، وممثلو الديانات وغيرها، بالإضافة إلى الناس العاديين الذين خُصص لهم موقع لوضع تعليقاتهم فيه. ويفترض أن تستمر هذه الحملة التي بدأت في 2 نوفمبر 2009 حتى 31 يناير 2010، وذلك لإتاحة الفرصة لمشاركة أكبر عدد ممكن من الفرنسيين.
وكانت جريدة “لوباريزيان” قد نشرت في بدايات الحملة نتائج استطلاع للرأي تقول إن المبادرة تحظى بـ60 في المئة من أصوات الفرنسيين، و50 في المئة من أنصار اليسار و72 في المئة من أنصار اليمين، ولا يرفضها سوى 35 في المئة من المستجوبين.
ولم ينكر المحللون السياسيون أن إثارة هذه الحملة ترتبط بالاستراتيجية التقليدية لليمين الحاكم الذي اعتاد الضرب على وتر التخويف من المهاجرين لكسب أصوات أقصى اليمين على عتبة الانتخابات المحلية في مارس القادم. من هذه الزاوية لا يختلف هدف الحديث عن الهوية الوطنية الفرنسية اليوم عن هدف الحديث الذي دار سابقاً حول الحجاب في فرنسا ذاتها، أو حالياً حول المآذن في سويسرا. لكن من الواضح أن موضوع الهوية يرفع التوتر إلى مستويات أعلى لأنه يضع المهاجرين أمام معادلة صعبة؛ فمثلا ما هو المطلوب من المسلمين حاملي الجنسية الفرنسية حتى يكونوا فرنسيين؟ وهل هناك درجات في المواطنة الفرنسية بحسب مستوى وقوة التماهي مع الثقافة الفرنسية وقيم الجمهورية؟ هل المطلوب أن يتجرد المتجنسون من أصول أجنبية من شخصيتهم الثقافية، المعنوية والمظهرية، وينحوا نحو الفرنسيين الأصلاء في اعتقاداتهم وتصرفاتهم ولباسهم وأكلهم وشربهم، حتى يحظوا بحماية الدولة وممارسة حقوقهم الأساسية؟ وما هي وضعية أولئك الفرنسيين الذين تركوا المسيحية ليعتنقوا الإسلام، وهم فرنسيون بالأصل؟
ليست هناك هوية خاصة من دون ثقافة خاصة، مهما كان وضع هذه الثقافة. وإذا تم ربط الهوية الفرنسية كليا بالثقافة الفرنسية الأصلية التي هي ثقافة الأغلبية، أو إذا كان شرط المواطنية الفرنسية تطابق الهوية الثقافية لجميع الأفراد مع الثقافة الفرنسية الموروثة… فمن المؤكد أن العرب والأفارقة لن يكونوا فرنسيين، ولن يصبحوا فرنسيين. فهم ظلوا يحملون على مدى ثلاثة أجيال أو أكثر، ثقافتهم العربية والأفريقية، من حيث القيم والأذواق والمشاعر والاعتقادات الدينية. وربما سيستمرون لفترة طويلة غير راغبين في تقمص شخصية الفرنسيين وقيمهم الخاصة. في هذه الحالة يطرح سؤال أساسي: لماذا لم يضع القانون اعتناق الهوية الثقافية الفرنسية كشرط للحصول على الجنسية؟

نقدنا لهذه الحملة ليس دفاعاً عن وضع البرقع أو عن انغلاق بعض المهاجرين على هوياتهم الخاصة، واختيارهم التهميش الذاتي أحيانا، كرد فعل على إنكار وجودهم أو عدم إعارتهم أي اهتمام من قبل الأغلبية الفرنسية… إن هؤلاء يشاركون العنصريين الفرنسيين في حمل المسؤولية عن تهميش جماعاتهم، ويغذون إرادة عزلهم وإخراجهم من الدائرة الوطنية، بوعي أو بدون وعي. ولا شك أن وجود هؤلاء يطرح مشكلة موضوعية على المجتمعات الأوروبية بقدر ما يساهم في تقويض المعايير والقيم التي يستند إليها أي اجتماع سياسي. إن ما نرمي إلى توضيحه هو، أولا أن التشهير بسلوك هؤلاء والخلط المتعمد أو غير المقصود بينهم، وهم أقلية صغيرة، وبين بقية المهاجرين العرب والمسلمين، لا يحل المشكلة بل يفاقمها بمقدار ما يعمل على تحطيم ثقة الجميع بإمكانية الاندماج في المجتمعات الأوروبية. وثانيا أن الهوية لا تُملى على الأفراد والجماعات، ولا يمكن فرضها بأوامر سياسية أو عسكرية أو إدارية، وليست حتى مسألة إقناع فكري أو استنارة عقلية، كما أنها ليست معطاة مرة واحدة وإلى الأبد، بل هي مسارات تاريخية متحولة ومتنامية باستمرار. وبقدر ما يشعر المهاجرون أنهم في وطنهم بالفعل، يتشربون القيم والمبادئ والمعايير التي ترتبط به وبثقافة الأغلبية فيه.
باختصار، يشكل المهاجرون أقلية ثقافية ودينية حقيقية في فرنسا وأوروبا عموما. ولا تساعد سياسات الضغط والإكراه والتشهير على اندماج الأقليات ولا تقريبها من قيم الأغلبية التي تمارس هذه السياسة، بل تدفعها إلى الابتعاد عنها أكثر والوقوف ضدها وربما تحديها ومعارضتها.
وفي أوروبا وغيرها، لا علاج لانعزال الأقليات سوى تطمينها على حقوقها ووجودها، واحترام شخصيتها واعتقاداتها، ومساعدتها على الاندماج في الحياة الوطنية، بما يعنيه ذلك من فرص مفتوحة لارتقاء أفرادها في السلم الاجتماعي ومن مشاركة متزايدة في المسؤوليات العمومية.
ومن المؤكد أن التوتر سيستمر بين الأغلبية والأقلية المهاجرة في جميع الدول الأوروبية، طالما بقيت الفجوة واسعة بين الثقافة الأوروبية القديمة والثقافات الإسلامية والأفريقية الوافدة. لكن لن تضيق هذه الفجوة، لصالح نشوء تسوية بين الثقافتين، إلا عندما يتحقق دمج الوافدين وتمكينهم من المواطنية الفعلية. ففي هذه الحالة وحدها يحصل فرز طبيعي عند الأقليات الوافدة بين ثقافتها الخاصة وثقافتها العامة التي تلتقي مع ثقافة الأغلبية، وتتحول خصوصيتها إلى خصوصية ثقافية غير حاملة لأي مطالب سياسية خاصة. لكن حتى في هذه الحالة لا ينبغي انتظار مطابقة كلية بين ثقافة الأقليات وثقافة الأغلبية لأن مثل هذه المطابقة تعني فعليا محو الشخصية الجماعية، أي محو الأقلية كأقلية دينية أو إثنية.
وهذا الأخير ما تهدف إليه الحملة الفرنسية الراهنة باسم الهوية الوطنية، لذلك فبدل أن تقصر فترة التوتر وتسرّع الاندماج، فهي تهدد بتفجير نزاعات لا ضرورة لها. إنها تهيج مشاعر اليمين المتطرف الذي يحلم بإرجاع التاريخ إلى الوراء، وتصفية الأقليات وطردها، وهذا هو مغزى تساؤل رئيس بلدية فرنسية: لماذا نأوي عشرة ملايين شخص لا يفيدون في شيء؟
ولن يقدم شحن مشاعر الكراهية وتعميق روح العنصرية أي فرصة لتوحيد الأمة الفرنسية ولا لترسيخ هويتها الوطنية، بقدر ما يقوض أخلاقيات شعوب أوروبية هي صاحبة الفضل الأول في نشر أفكار الحرية وحكم القانون والمساواة السياسية والأخلاقية والقانونية بين جميع المواطنين. إن هوية فرنسا الوطنية، كبقية الأمم والشعوب، ليست محفورة في جينات الفرنسيين، لكنها ما يصنعه التاريخ ويحوره عبر التفاعلات الكثيرة، على مستوى انتقال البشر والأفكار والأذواق والسلع والخدمات.
وفي عصر الانفتاح العالمي، تخسر أوروبا كثيرا إذا اعتقدت أن الحل لـ”غزو” الثقافات الأخرى لها، هو في الانغلاق على نفسها والتقوقع حول قيمها وثقافتها الموروثة. وهذا صالح أيضا للعرب والمسلمين أنفسهم، المهاجرين والأنصار على حد سواء. فالهويات جميعا، سواء أردنا ذلك أم لا، مسارات مفتوحة على التاريخ، قابلة للتحول والتنوع والتعدد لأنها صيرورة حية، وتــأويلات رمزية، لا ماهيات ثابتة ولا خصائص أبدية. والهوية الفرنسية اليوم، تنحو إلى أن تكون أكثر فأكثر توليفية، تغتني بالروافد والمساهمات، وتقطع مع التصورات الإثنية البدائية. والذين يريدون بقاءها جامدة، يحكمون على فرنسا بالموت وبخيانة قيمها الجمهورية التي يعلنون الدفاع عنها.

lundi, décembre 14, 2009

إحياء نصاب أهل الذمة في أوروبة

الوطن السعودية 12 ديسمبر 09
صوت الناخبون السويسريون يوم الأحد 29-11-2009 على قانون اقترحه حزب الشعب المسيحي يدعو إلى حظر بناء المآذن، في انتهاك واضح لمبادئ مساواة الدولة بين الأديان واحترام حرية العبادة. وبالرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت لهذا القانون في أوروبا والعالم، حرك هذا القانون نوازع عميقة في العديد من البلاد الأوروبية للسير في الطريق ذاتها.

وكانت الحكومة الفرنسية قد تبنت في الفترة نفسها تقريبا، بطلب من رئيس الجمهورية ومبادرة من وزير الهجرة إريك بيسون، طرح خطة لنقاش مسألة الهوية الوطنية تهدف كما قال الوزير إلى بلورة اقتراحات تؤدي إلى صوغ برنامج عمل "يرسخ هذه" الهوية و"القيم الجمهورية"، ويعزز افتخار الفرنسيين بانتمائهم للأمة الفرنسية. ومن المفروض أن تعقد اجتماعات على مستوى محافظات فرنسا الـ96 ودوائرها الـ342، إضافة إلى "محافظات ومقاطعات ما وراء البحار" يشارك فيها نواب وأعضاء من مجلس الشيوخ وأعضاء مجالس محلية ووزراء وسياسيون، وفرنسيون من أصول أجنبية، ومنشطو جمعيات وتنظيمات نقابية وشركاء قطاع التعليم، وممثلو الديانات وغيرها، بالإضافة إلى الناس العاديين الذين خصصت لهم الوزارة موقعا لوضع تعليقاتهم فيه.

ما يؤرق قطاعات الرأي العام الأوروبي، الذي يبدو أنه يكتشف مسيحيته بشكل أكبر كلما سعى إلى تأكيد قيمه العقلانية والدفاع عن حداثته العلمانية، هو الحضور المتزايد للإسلام، أناسا ومؤسسات ورموزاً، في الحياة العامة. ويبدو هذا الحضور المتزايد بفعل تطور أوضاع المسلمين أنفسهم واستقرارهم كما لو كان مصدر تهديد للهوية الأوروبية نفسها، ومن ورائها للهوية الوطنية الخاصة بكل قطر من أقطارها. وهذا ما تشير إليه بشكل واضح مبادرة الحكومة الفرنسية الجديدة. والتحدي الذي يواجهه هؤلاء هو كيف يمكن نزع الحجاب عن وجوه المسلمات ووضعه على المسلمين كجماعة، بحيث لا يعود من الممكن رؤيتهم في المشهد العام، بالرغم من وجودهم الذي لم يعد هناك مهرب منه. وحجب الإسلام عن عيون الغربيين يذكر، ويا للمفارقة التاريخية، بنصاب أهل الذمة الذين لم يكن هناك ما يوازي وجود الأقليات القوي فيه، واحتلالهم مناصب ومواقع اقتصادية وعلمية، سوى غيابهم الشكلي، حضورهم، واختفاء معالم حضورهم ورموزهم في الفضاءات العمومية.

والواقع أن من يتحدث في الصراع على الهوية يتحدث عن الصراع على الثقافة، وما تشمله من أنماط تفكير وعيش وسلوك. فليس هناك وجود لهوية من دون ثقافة خاصة مرتبطة بها تغذيها بالقيم والمعايير والمفاهيم والرموز. وكل هوية هي في الأصل هوية ثقافية، وليست الهوية الوطنية سوى تابع لها وأحد مشتقاتها. وهذه الأخيرة لا تعني شيئا آخر إذا فصلت عن الثقافة سوى الجنسية أو التابعية الإدارية كما نقول في لغتنا العربية. ومن الممكن داخل دولة واحدة أن تتعدد الهويات الثقافية، لكن القاسم المشترك الأعظم هو احترام القواعد والمبادئ والقيم الأساسية التي تقوم عليها الحياة السياسية المشتركة. وهذا الاحترام هو المقوم الرئيسي للثقافة الخاصة بالجماعة الوطنية، والتي تجعل منها جماعة وطنية شاملة للجماعات الأهلية. وهي ثقافة لا تتجاوز المبادئ والقواعد والقيم الأساسية.

وفي فرنسا، كما هو الحال في كل الدول والمجتمعات، ثقافات متعددة، تخفي هويات خاصة متعددة أيضا، حتى في دائرة المنتمين لجماعة إثنية واحدة. فللأرستقراطية ثقافتها وللبرجوازية ثقافتها وللطبقة العمالية ثقافتها، وللاشتراكيين ثقافتهم، ولليمين الليبرالي وغير الليبرالي ثقافته أيضا. ولا يمنع وجود هذه الثقافات من تكوين عقد اجتماعي واحد وتنمية حياة مشتركة، ولا يقلل من ذلك وجود التناقضات والتوترات المستمرة بين هذه الهويات جميعا، وأحيانا تفجر الصراعات العنيفة في ما بينها. والسبب في هذا التعايش هو الاعتراف الضمني بأن هناك ما هو عام، أي ما تم التفاهم من حوله كقواعد ضرورية للعيش المشترك، وهناك ما هو خاص، أي ما هو حق في الاختلاف، على مستوى القيم والسلوك والأذواق والاختيارات الشخصية والجمعية. ولا حياة لمجتمع سياسي من دون هذا التمييز الأول بين ثقافة خاصة لا غنى عنها لقيام واستمرار أي هوية جمعية، حزب أو جماعة أو طبقة أو جمعية مدنية أو شخصية حقيقية أو اعتبارية، وهوية عامة تغطي حقل المشترك بين الجميع، وتشكل صلة الوصل بين الجماعات المختلفة، وهي ما نسميه الثقافة الوطنية. والثقافة الوطنية في المجتمعات الديمقراطية هي باختصار ثقافة المواطنة، أي تمثل قيم الحرية والمساواة والأخوة التي تعني حرية الأفراد أيضا في الاختلاف، الثقافي والفكري والإثني، ومساواتهم الأخلاقية والقانونية من وراء هذا الاختلاف، وبالرغم منه، والتزامهم جميعا بالتضامن في ما بينهم في ما يتعلق بالحفاظ على الدولة والنظام الديمقراطي ومصالح البلاد العليا وأمنها واستقرارها. في ما عدا ذلك تشكل حرية الاختلاف وبالتالي وجود هويات خاصة مصدر الشرعية الأول للنظام الديمقراطي.

ينزع اليمين في كل البلدان والمجتمعات إلى المطابقة بين الثقافتين، ثقافة المواطنة التي تتعلق بقيم كبرى تعنى بالشأن العام وتخص حقل المصالح العامة للجماعة ككل، والثقافة الأهلية أو المدنية التي تميز شروط حياة الجماعات وأسلوب تفاعلهم مع بيئتهم الاجتماعية والطبيعية، وتكون شخصيتهم الخاصة. وهو في نزعته هذه لا يعمل في الواقع إلا على تسويد إحدى الثقافات الخاصة، ثقافته هو، وفرضها على الجميع بوصفها ثقافة كونية جامعة. وهدفه غير المعلن الحفاظ على الوضع القائم وتجميد حركة التاريخ. وهذه هي في الحقيقة رسالته الفكرية وأساس وجوده أيضا كتيار محافظ.

بالعكس، تنزع التيارات التحررية التي تعكس أفكار وتطلعات نخب أو جماعات صاعدة تسعى إلى تغيير أوضاعها الدونية والخروج من تحت السيطرة أو الهيمنة الطبقية أو الخارجية، إلى زعزعة الثقافة التقليدية الراسخة، وإضعافها من خلال فصلها عن الثقافة الوطنية، أي العمومية التي تؤسس للاجتماع السياسي والدولة، وإبراز خصوصيتها أو طابعها النسبي والجزئي. وهي في نزعتها هذه تميل إلى فتح مفهوم الثقافة العمومية، وإدخال عناصر جديدة إليها، من ثقافتها الخاصة. هذا ما قامت به الثورة الفرنسية عندما أعلنت الجمهورية وأسست لثقافة المواطنية التي أكدت قيم الحرية والمساواة والأخوة لجميع مواطني البلاد، بصرف النظر عن أصلهم ودينهم وجنسهم ومكان ميلادهم، في مواجهة قيم التراتبية الطبقية والسلطة المطلقة والهيمنة العقائدية للكاثوليكية.

ما تسعى إليه التيارات اليمينية التي تقف من وراء الحملات المتعددة الموجهة ضد الإسلام والمسلمين، هو ردع الجاليات الإسلامية وإجبارها على التستر على وجودها، وعدم التظاهر بما يبرز حضورها المادي أو الرمزي، حفاظا على الوضع القائم، وتحسبا لتزايد دور المسلمين، حتى لو استدعى ذلك التراجع عن القيم الجمهورية والديمقراطية التي بنيت عليها سمعة أوروبا وازدهارها المادي والأدبي معا. وهذا من علامات أزمة الوعي الأوروبي في عالم تقلب العولمة توازناته الراسخة التي كرست لأكثر من ثلاثة قرون الهيمنة الثقافية والسياسية الغربية.

mardi, décembre 08, 2009

في عجز الوساطات عن إطفاء لهيب الحرائق العربية

الجزيرة نت 8 ديسمبر 09

أكثر من أي نزاع من النزاعات العديدة التي تدور على الأرض العربية، شكلت المواجهات العنيفة، وردود الأفعال الأهلية والرسمية المثيرة التي رافقت مباراة مصر الجزائر لكرة القدم، على ملاعب القاهرة ثم الخرطوم (في منتصف نوفمبر تشرين الثاني 2009)، والتي لم تنته ذيولها بعد، صدمة كبيرة لوعي العرب الذين اكتشفوا فجأة الجرف الهائل الذي يقفون على حافته. وبمقدار ما أبرزت الحساسية المفرطة التي أبداها الجمهور هشاشة الاستقرار القائم، وعمق التوترات والإحباطات الدفينة، أظهر العنف المتبادل بين جمهوري الفريقين القابلية السريعة للاشتعال عند فئات واسعة من السكان. وبصرف النظر عن الحيثيات والمسؤوليات، وهي ليست مقتصرة على طرف واحد بالتاكيد، ومن دون البحث في النوايا والمخططات، يؤكد ما حصل على أن المجتمعات العربية تحولت إلى ما يشبه برميل بارود قابل في أي لحظة للاشتعال.

لكن نزاعات كرة القدم، او بالأحرى الحرب الكلامية والدبلوماسية التي فجرتها مباراة مصر الجزائر، وهذا هو الجديد فيها، لا تعبر عن النمط الوحيد للعنف المنتشر في المجتمعات العربية. فهناك أنماط عديدة أخرى مما يطبع العلاقات داخل كل قطر، أي بين أبنائه، وعلى صعيد العلاقات بين الأقطار والشعوب العربية، بطابع عدم الاستقرار وصعوبة التنبؤ أيضا. ومن هذه الأنماط ما يرتبط مباشرة بالسياسة، ويتراوح بين خروج جماعات أو تيارات سياسية على الحكم والنظام، وقهر السلطات والنظم القائمة المعارضات والزج بقادتها وأعضائها في السجون والمعتقلات، من دون أي حماية قانونية او سياسية. وغالبا ما كانت المعارضات ذات الايديولوجية الاسلامية هي الطرف الأكثر انخراطا في هذا الوضع وبالتالي تعرضا أيضا لعواقبه المأساوية، كما حصل في جزائر التسعينات من القرن الماضي ويحصل اليوم على نطاق أضيق في كثير من الأقطار. ومنها العنف الطائفي الذي يتفجر بين أصحاب المذاهب المختلفة ويتخذ أحيانا شكل الحرب الجزئية بل الشاملة أحيانا لجميع أراضي الدولة، كما كان عليه الحال في لبنان والعراق منذ عهد ليس ببعيد، وكما نشهد ولادته اليوم في الحرب اليمنية الخامسة بين السلطة المركزية والحركة الحوثية. ومنها الحروب المرتبطة بنزاعات إتنية أو قومية أو انفصالية، والتي تعكس سوء الإدارة وانسداد النظام السياسي وتصلبه، وطمع النخب الحاكمة في الاحتفاظ بالسلطة، وتخليد سيطرتها عليها بأي ثمن، وما ينجم عن ذلك من تهميش وإذلال وإقصاء، تلقائي أو متعمد، لمجموعات متزايدة من السكان. وقد تفككت العديد من الدول في أتون هذه الحروب، كالصومال، ولا يزال بعضها يقاوم التفكك والتصدع بصعوبة بالغة مثل ما نشاهده في العراق والسودان واليمن. ومنها العنف الديني الموجه من قبل جماعات أو منظمات جهادية وتكفيرية ضد الجماعات أو الأقطار الأخرى، على شاكلة ما تقوم به منظمة القاعدة.

وعلى صعيد النزاعات بين الأقطار، نكاد لا نجد قطرين عربيين متجاورين من دون أن يكون بينهما علاقات توتر وتشاحن تهدد بانتشار العنف في أي لحظة، وقد تستمر لأجيال متعاقبة، كما هو الحال بين المغرب والجزائر، وليبيا وتونس، ومصر والسودان، والأردن وفلسطين، وقطر والسعودية، وسورية والعراق. ولا نبالغ عندما نقول إن من يراقب من بعيد البلاد العربية لا يمكن ألا يلمح كيف أصبح العنف السمة الرئيسية لحياة مجتمعاتها. فلا يكاد نزاع يخمد في جهة حتى يندلع في جهة أخرى.

وكما تتعدد أنماط العنف وأشكاله تتعدد كذلك النظريات التي تسعى لتفسيره. فبينما يؤكد البعض على البنية التعددية، الاتنية والطائفية والثقافية للمجتمعات، يبرز البعض الآخر الخيارات السياسية والايديولوجية التي تبنتها النخب السائدة، وفي مقدمها خيار القومية العربية الذي ساهم في تغذية النزاعات بمقدار ما عمم مفهوما أحاديا للقومية يلغي الجماعات الاخرى تحت رداء هوية عربية واحدة وهمية، ولا يوليها أي اعتبار. وهناك، بالعكس، من يرى في العنف تعبيرا عن ماهية هذه الهوية العربية التي تبدو كما لو انها طبعت بالانقسام والمشاحنة والنزاع، على مبدأ اتفق العرب على أن لا يتفقوا. وهناك من يربط العنف بانحسار قيم الحداثة والعودة المظفرة للتقاليد والأعراف والعصبيات الدينية والمذهبية. وهناك من يركز بشكل أكبر على إخفاق النظم السياسية والنخب الحاكمة في توفير شروط التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي عدم تناسب معدلات النمو البطيء مع تزايد السكان ومطالبهم وحاجاتهم، بالإضافة إلى التفاوت المتزايد في توزيع الثروة بين الفقراء والأغنياء، وبين المناطق المركزية والأطراف. وهذا ما يفسر الإحباطات العميقة التي تعيشها شعوب لم تعرف منذ عقود طويلة أي إنجاز، لا على الصعيد الاقتصادي ولا العلمي ولا التقني ولا السياسي ولا الثقافي. وهناك من يرمي المسؤولية أخيرا على نوع الوطنية السالبة أو السلبية التي طورتها النزعة القومية العربية والموجهة نحو العداء للخارج أكثر مما هي موجهة نحو بناء الذات.

بالتأكيد جميع هذه العوامل تشترك بنسبة أو أخرى في إشعال الحرائق المنتشرة على اتساع البلاد العربية. لكنها لا تفسر، لا منفردة ولا مجتمعة، ما تحظى به من انتشار واسع ومن استمرارية ملفتة. وهذا ما أوحى لبعض المحللين بطرح مفهوم ثقافة العنف ومحاولتهم البحث عنها في النصوص الدينية التي تدعو إلى الجهاد وتربي الأفراد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ا

والصحيح أنه ليس هناك نظرية عامة في العنف، ولا يمكن صوغ أي نظرية من هذا النوع. فللعنف في كل مرة وكل مكان، أي حسب السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي، أسباب قد تختلف بين زمن وآخر، ومجتمع وآخر. بل قد يكون انفجار العنف راجع لأسباب متعددة ومتضافرة وليس لسبب واحد وحيد. لكن أهم ما نلاحظه في جميع هذه النزاعات التي أشرنا إليها في مجتمعاتنا هو مركزية الدولة فيها، وتورطها هي ذاتها، ربما أكثر من الجماعات الأهلية والميليشيات الخاصة، في إنتاج العنف وتصديره وتفجيره. فهي موجودة في قلب الصراع المتعدد الأوجه، تغذيه أحيانا، وتستفزه أحيانا أخرى وتتلاعب به أحيانا ثالثة، حسب حاجات الاحتفاظ بالسيطرة القائمة لنخبها ومسؤوليها.

فلا تزال الدولة تشكل، لأسباب متعددة، أهمها سيطرة الاقتصاد الريعي، وضعف وهشاشة الاقتصاد الخاص، وتبعيته للدولة وطلباتها، الفاعل الرئيسي في إعادة تشكيل المجتمعات العربية، سواء من حيث بناء/تفكيك الأمم، أو تحديد أشكال توزيع الموارد والثروة وتقاسم المنافع والخدمات، أو من حيث ترتيب المواقع وفرص التقدم والارتقاء الاجتماعيين. ولذلك تشكل السيطرة عليها، أو حتى النفوذ إلى مصدر القرار العام الذي يرتبط بها ويمثل أولى وظائفها، موضوع منافسة عنيفة وشاملة بين النخب والفئات الاجتماعية الصاعدة جميعها. ويمكن ان تتحول هذه المنافسة بسهولة، وفي أي لحظة، إلى حرب بالمعنى الحرفي للكلمة، عندما يطفح الكيل لدى جماعة من الجماعات التي تشعر، سياسية كانت أم مذهبية أم إتنية، بتمادي الحرمان والإقصاء، أو تعتقد أن هناك ظرفا خارجيا أو داخليا مناسبا لوضع حد لنير ما يكاد يتحول إلى استعمار داخلي بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث تسيطر نخبة حاكمة من دون انقطاع على موارد الثروة والسلطة وتخضع الآخرين لأمرتها من دون انقطاع. وبشكل عام، يشكل الصراع على الدولة اليوم محور نزاع المجتمعات العربية الأساسي بمقدار ما تتحكم الدولة فعليا بالموارد والامكانيات وفرص التقدم الاقتصادي والاجتماعي. ويتحول هذا الصراع من تنافس سياسي شديد إلى حروب طاحنة ونزاعات دموية في كل مرة تعتقد الاطراف المظلومة أنه أصبح لديها، لأسباب صحيحة او وهمية، فرصة للانقضاض على السلطة وانتزاعها، وإن لم يمكن ذلك، انتزاع جزء منها، من الفئات التي أحكمت قبضتها عليها وحولتها إلى بقرة حلوب لها ولمواليها وأبنائها فحسب.

في هذه الحالة، أعني بعد هذا التحليل لمصدر النزاعات والعنف المرافق لها، كيف يمكن التفكير في آلية توسطية تساهم في فض النزاعات ووقف العنف، أو على الأقل التخفيف من عنفوانه، وإذا أمكن نزع فتيل النزاعات والانفجارات قبل وقوعها؟

على افتراض أن هناك وسطاء محايدين فعلا في هذا الصراع، وهو افتراض صعب لكن غير مستحيل، ليس من المؤكد أن الأطراف المتنازعة تقبل بسهولة مثل هذه الوساطة، اللهم إلا في الحالات التي تدرك فيها أنها على وشك خسارة الرهان. ثم إنه ليس من البديهي أن تسفر هذه الوساطة عن نتيجة طالما أن موضوع الرهان لا يمس موردا معينا وتفصيلا يمكن التغاضي عنه أو تقاسم فوائده، ولكن سلطة الدولة التي يتحكم من يملك زمامها بجميع الموارد والمناصب والصلاحيات. وهذا ما يفسر تردد الجامعة العربية أو عجزها عن القيام بأي دور، فهي منظمة حكومات من جهة، وأي تدخل يثير خلافات أو يستدعي انقسامات أكثر مما يساهم في تقريب وجهات النظر. وقد توسطت جماعات وقوى إسلامية وعربية عديدة ونافذة لدى بعض الحكومات العربية لإطلاق سراح مثقفين أدينوا في محاكم عرفية، وبأحكام قاسية تصل إلى السجن سنوات طويلة بسبب مواقفهم السياسية، من دون أن يجد الوسطاء أي أذن صاغية. فلأن بنية السلطة أو النظم السياسية هنا شمولية، فأي تنازل في أي ميدان يبدو وكأنه تهديد لها بل بداية تفكك حتمي. والنخب الحاكمة التي تتصرف من منطلق الشعور بأنها في حرب حاسمة للحفاظ على مواقعها، ترفض التفريط بأي أداة من الأدوات التي تعتبرها مفيدة للانتصار في حربها الكلية والشاملة، في الوقت الذي يكاد صبر الجماعات المتعرضة للأذى من جراء هذه السيطرة ينفذ تماما ولا يترك لها اختيار سوى الموت البطيء أو الانتحار في حرب طاحنة لا أمل فيها .

يحتاج درء مخاطر تفجر الحروب والنزاعات المدمرة داخل المجتمعات العربية وفيما بين أقطارها، التي لم تعد بحاجة اليوم لأسباب كبيرة كيما تتفجر، إلى عمل جدي وسريع على محورين. الاول إصلاح الدولة، أي إعادة تأهيلها وتأميمها، أي جعلها مؤسسة عامة ومصلحة عامة، بدل أن تكون أداة للسيطرة الفئوية والمصالح الخاصة. وهذا هو أساس أي إصلاح. وهذا يعني السعي لإقامة حياة سياسية سليمة، يشارك فيها الأفراد كمواطنين على قدم المساواة، وينتفي فيها التمييز من أي شكل كان، ويحصل فيها تداول طبيعي للسلطة، بعيدا عن الانفراد والتسلط، وما يرتبط بهما حتما من سياسات القهر والإقصاء والاستبعاد والإهانة.

والثاني إعلان نهاية الحرب العربية العربية التي بدأت بعد الخمسينات في أعقاب صعود الحركة القومية وقسمت العالم العربي بين تقدميين ورجعيين قبل أن تتخذ اليوم من الممانعين والمعتدلين مصدرا لتجديد أنفاسها. أي بلغة أخرى تطبيع العلاقات العربية العربية، والتخلص من منطق المشاحنات والمزاودات النابعة من التنافس على الزعامة العربية الذي غذته الفترة القومية السابقة، والذي لا يستخدم اليوم إلا للتغطية على الإخفاقات الداخلية ومصادرة السلطة العمومية. وهذا يعني إقامة العلاقات العربية العربية على أسس موضوعية، كعلاقات بين دول عادية، تسعى من خلال التعاون إلى تحقيق هدف واحد هو تحسين شروط حياة مواطنيها من خلال العناية بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويجمع بينها برنامج العمل الذي يتفق مع مصالح أطرافها المتبادلة، تماما كما يحصل اليوم بين تركيا والعديد من الأقطار العربية التي لا تجمعها مع أنقرة لا قرابات قومية ولا لغة واحدة.

العمل على المحور الأول لا غنى عنه ولا مهرب منه، إذا أردنا بالفعل الخروج من دوامة العنف الجارف. فهو شرط أساسي لتبريد الأجواء والتنفيس عن الاحتقانات الاجتماعية والسياسية العميقة والنامية. إذ لا ينجم اندلاع النزاعات العنيفة والحروب عن وجود مشاكل فحسب. هي موجودة في كل المجتمعات، ولا تؤدي بالضرورة إلى اشتعال الحرائق والحروب الدموية، ولكنها تحل بوسائل أخرى غير العنف. فحتى يحصل الاحتراق لا تكفي شرارة شاردة، والشرارات موجودة دائما وكذلك الذرائع، إنما لا بد من وجود قابلية للاشتعال، كأن يكون الزرع يابسا كالهشيم يكاد أن يشتعل من دون أن تمسسه نار. وفي هذه الحالة لا يكفي ضبط الشرارات التي تنبع من التوترات العميقة التي تعيشها المجتمعات، ولا أحد يستطيع أن يتوقعها مسبقا. ولا يفيد في منعه أيضا تدخل رجال الإطفاء الذين لا تترك لهم سرعة انتشار النار ولا محركوها غالبا فرصة محاصرة الحرائق في بؤرها قبل أن يشتعل الحقل بأكمله. ولن يفيد تدخلهم عندما يكون الحقل قد احترق أو كاد.

فلا بد من أجل ذلك من ترطيب الهشيم بحيث تهبط حرارة الحقل من جهة ويزيد احتمال مقاومة الشرارات المنفلتة من جهة أخرى. وترطيب الهشيم يعني العودة إلى سقاية المجتمعات التي تحولت إلى هشيم لا روح ولا حياة ولا عاطفة، أي لا مبدأ يحميها من الجفاف والفراغ والبؤس الروحي والمعنوي والسياسي. مجتمعات يتيمة ومنبوذة تعامل كقطعان الماشية والببغاوات، وتتحول إلى موضوع للسخرية والاستهزاء أمام نفسها وفي العالم, والسقاية تعني الاعتراف بها ومعاملتها كبشر، أي احترام وعي أفرادها وإرادتهم، والنظر في وجوههم ومخاطبتهم بأسمائهم كمواطنين، وتحسيسهم بإنسانيتهم، أي احترام حقوقهم أو الاعتراف لهم بحقوق، والاقرار لهم بالمقدرة والاهلية لحمل المسؤولية، بدل سوقهم بالعصى وتسليط أجهزة العنف والميليشيات المسلحة عليهم، كما كان يفعل صغار اقطاعيي القرون الوسطى. ويعني أيضا الكف عن احتقارهم وإذلالهم وإهانتهم والزج بهم، لسبب أو من دون سبب في السجون والمعتقلات، وتشويه سمعتهم والتشهير بهم وتحقيرهم أمام أنفسهم.

والعمل على المحور الثاني ضروري أيضا لتعظيم فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية وخلق آفاق أرحب للنخب الاجتماعية المختلفة، المسيطرة والخاضعة، للبحث عن وسائل ارتقائها وتقدمها وتحسين شروط حياتها وضمان مستقبلها. من دون ذلك لن يكون هناك أي سبب لتوقف النزاعات وانحسار العنف، بل بالعكس، سيزيد عدد النزاعات العربية العربية، السياسية والوطنية، على حساب النزاعات الإقليمية التي يكاد العرب جميعا يصبحون أولى صحاياها.

ومن هنا، بدل لجان وساطة ليس من المؤكد أنها ستحصد شيئا، ربما كنا بحاجة أكثر إلى هيئة أو جماعة مكونة من أفراد على مستوى عال من النزاهة والتجرد عن المصالح الخاصة، ومن الزهد بالسلطة، ومن الشعور بالمسؤولية العامة، من علماء وأهل رأي ونشطاء مدنيين وأصحاب سوابق في العمل الوطني، تبين للحاكمين والمحكومين طريق الصلاح والعدل ومعايير المصلحة العامة وما يرتبط بها من احترام حقوق الأفراد والتأكيد على الواجبات والمسؤوليات، ودرء مخاطر النزاعات والمشاحنات، والارتقاء بمستوى وعي الشعوب وشروط حياتها.

dimanche, décembre 06, 2009

المجتمعات العربية وآلية إنتاج النخب

20الاتحاد 6 ديسمبر 09r

د. برهان غليون
قلت في مقال سابق إن أي نخبة قائدة، مهما كانت نوعيتها وطريقة تكوينها، ومهما كانت خصوصيتها، أكانت وثيقة الصلة بطبقة سائدة، كما هو قائم في الولايات المتحدة حيث تختلط عناصر النخبة القائدة بطبقة رجال الأعمال وأصحاب المشاريع الاقتصادية الحرة، أو كانت ثمرة تكوين طبقة إدارية وتكنوقراطية خاصة، عبر المدارس والجامعات الحكومية الكبرى وما تقدمه من فرص للحراك الاجتماعي، على نحو ما هو في فرنسا… لا يمكن أن تقوم بدورها وتحتل موقعها القيادي ما لم تنجح أولا في تأكيد استقلالها عن أصحاب الملكية والثروة والمال، وثانيا في استبطان معنى المسؤولية العمومية تجاه الدولة والمجتمع المرتبط بها. ومتى ما ضعف هذان الشرطان، أحدهما أو كلاهما، تراجعت النخبة إلى مستوى الجماعة الخاصة، وتذبذبت شروط ممارسة السلطة وإدارة الدولة أيضاً، . فالاستقلال عن الطبقة المالكة هو شرط تحولها إلى نخبة عامة، قادرة على تجاوز منطق المصالح الخاصة واستيعاب منطق المصالح الوطنية… وهو الذي يمكّنها من أن تمثّل الكلية الاجتماعية، وأن تحقق التواصل بين الأطراف والتنسيق بين المصالح وبث الانسجام والاتساق داخل النسق الاجتماعي بأكمله.
وفي غياب تلك الاستقلالية، وما تؤمنه من مقدرة على التواصل والتنسيق والاتساق بين المصالح والأطراف، تفقد النخب القائدة صفتها العمومية، وتتحول إلى طرف يعمل في صراع مع الأطراف الأخرى للاستحواذ على الموارد والمنافع والامتيازات.
لذلك فإنه حتى في المجتمعات التقليدية، لم يكن من الممكن قيام دولة وسلطة مستقرة وموحدة من دون وجود نخبة متميزة عن أصحاب الامتيازات والإقطاعات، متمتعة بحد كبير من الشعور بالمسؤولية تجاه وحدة النظام واستقرار المجموع. وعلى درجة قوة هذه النخبة السياسية والبيروقراطية واستقرارها وحسن تكوينها، كان يتوقف نفوذ الدولة وقوتها وامتدادها. والمجتمعات التي لم تنجح في تكوين نخب مستقلة نسبيا هي التي عجزت عن الاحتفاظ باستقلالها واضطرت إلى الاندراج في الإمبراطوريات ذات التقاليد البيروقراطية العريقة.
وكما هو واضح الآن، لا يبدو أن في المجتمعات العربية ديناميكية قوية لتكوين نخبة قائدة بالمعنى الفعلي للكلمة. ومع تفكك النخبة السابقة وانهيار شروط تجديدها بانهيار الحلم النهضوي والتحديثي، فقدَ المجتمع أساس التواصل والاتساق داخله وبين أطرافه، ولم تظهر في المقابل نخبة بديلة تحل محلها.
ولا يمكن للحركات الإسلامية التي تنزع إلى حشر الحداثة في قنوات ومصطلحات العقائد والأفكار الدينية أن تنتج مثل هذه النخبة، مثلما أنها لا تستطيع أن تحول الدين إلى بديل عن المصالح الدنيوية. لا توجد اليوم في الظاهر أي طبقة ذات نزوع وطني شامل، ولا أي مشروع دولة وطنية، ولا مقاومة ناجعة تتماشى مع أجندة تاريخية واضحة وقابلة للتحقيق. والفئات الاجتماعية التي تتحكم بالموارد المادية والرمزية، أو تملك حق النفاذ إليها، تتحول -مع غياب أي مشروع عام- إلى مجموعات تتنازع فيما بينها ومع المجتمع على المغانم. ورجال الأعمال، مثلهم مثل التكنوقراطيين والبيروقراطيين الذين يملكون السلطة والمال، يعملون جميعا حسب مبدأ “اضرب واهرب”، من دون اهتمام يذكر بالمستقبل أو بما يمكن تسميته المصالح العامة، أي وحدة النظام العام واتساق حركته وتفاعله وتنمية قدراته الاستيعابية.
ولأن شيئا لا يجمع في العمق بين النخب المختلفة والمتعددة، المثقفة والسياسية والتكنوقراطية والمالية والإدارية وغيرها، لا رؤية مشتركة، ولا أهدافا ولا غايات ولا أساليب عمل واحدة… لا يضمن وحدةَ النظام العام هنا واستمرارَه سوى استخدام القوة العنيفة المادية لفرض الانصياع على النخب نفسها، وصيغة ميكانيكية من القسمة وتوزيع الغنائم حسب الولاءات والانتماءات الخاصة، ونهج ديني في فرض الرأي الواحد. فليس هناك سوى القائد الملهم الذي يمكن أن يعوض، بموهبته وذكائه وحنكته السياسية، عن غياب الرؤية المشتركة والغايات العامة. فتكاد القيادة السياسية والاجتماعية والفكرية والروحية معاً تتطابق مع الزعيم الفرد ولا تخرج عن شخصه.
والقصد أن نشوء نخبة حية ونشيطة ومسؤولة، شرطٌ أساسي لنشوء الدولة وتطور نظام عام سياسي ومدني يحرر المجتمع من العنف والانقسام وعدم الاستقرار.
فالنخبة تعني في النهاية وجود قيادة، بما يتضمنه مفهوم القيادة من رؤية موحدة، ومنظومة معايير تضبط نشاط الأفراد في كل ميادين العمل الجمعي، وأجندة تاريخية تحدد الأولويات وتنظم مسيرة المجتمع ككل. ومتى ما فقدت النخبة السائدة هذه العناصر، والأهلية التي تنتج عنها لقيادة الشعوب، تحولت إلى طبقة خاصة، وكفت عن أن تكون مصدر اتساق الكل الاجتماعي الذي يُخضِع مصالح جميع الأطراف، وفي مقدمها النخبة القائدة نفسها، لمنطق هذا الاتساق. من هنا افتقار مجتمعاتنا إلى قاعدة عمل واضحة في كل ميادين النشاط الجمعي، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والفني والأدبي معا. فهي غير قادرة على ضبط حركتها والسيطرة على نشاطها وترتيب أوضاعها من ذاتها. وهذا ما يعطي للخارج أيضا موقعه المتميز في تقديم نموذج للتنظيم الداخلي ويفسر تدخل الخارج المستمر في شؤوننا واستيطانه في أذهاننا وعقولنا. وهو ما يفسر أيضا استعدادنا العميق لتلقف إنجازاته. فهو وحده القادر اليوم، في شعورنا العميق نحن أنفسنا، على تزويدنا بمادئ تنظيمنا…
بهذا المعنى أصبحنا أيضا مجتمعات من دون ثقافة، أي من دون معايير وقيم وقواعد عمل، نابعة منا ومستبطنة في وعي أفرادنا. وبالمقابل أصبح داخلنا مسرحا للقوى والعواطف والتطلعات المتناقضة، لا وجود فيه لأي قوة معنوية، أخلاقية أو فكرية، ولا مجال للتفكير أو العمل من منظار القيم أو المبادئ أو الكلية الاجتماعية أو المستقبل. أما النخب الجديدة الصاعدة، فلا تزال، في الكثير من الحالات والدول، مشاريع نخب اجتماعية تقف في وجه تحققها ونضوجها انقسامات وتناقضات، موروثة ومكتسبة، لا يزال من الصعب تصور الكيفية التي سيتم بها التجاوز

lundi, novembre 16, 2009

سقوط جدار برلين من منظور عربي

الوطن 16 نوفمبر 09

في التاسع من تشرين الأول/نوفمبر احتفل العالم الغربي بأكمله بسقوط جدار برلين قبل عشرين عاما بوصفه مؤسسا لحقبة ما بعد الحرب الباردة التي شهدت توحيد القارة الاوروبية ودمج دولها جميعا، بما في ذلك تلك الخارجة من الحقبة السوفييتية، في نظام واحد، أعني في الاتحاد الاوروبي الذي أصبح ينافس اليوم بقوته الاقتصادية العملاق الأمريكي. وكان النظام الشيوعي الألماني قد أشاد الجدار الشهير في 13 اغسطس / آب 1961 لمنع هرب الألمان الناقمين على السلطة الشمولية نحو الغرب، ولتكريس الحدود الجيوسياسية التي نجمت عن اتفاقيات مالطا التي قسمت مناطق النفوذ بعد الحرب العالمية الثانية بين المعسكرين العظميين الخارجين من حرب طاحنة ضد ألمانيا النازية.

وفي جميع المناقشات التي قدر لي متابعتها بهذه المناسبة في التلفزيونات الأوروبية، تركزت الأضواء في شرح مغزى سقوط الجدار على الجانب السياسي، أي على انهيار الشيوعية، فتعاملت وسائل الإعلام الغربية مع الذكرى على أنها عيد الحرية، ليس في أوروبة فحسب ولكن في العالم أجمع. ونظر إلى هدم الجدار وكأنه رمزا لتحرير للشعوب من نير الشيوعية، وغيبت إلى حد كبير مسألة الحرب الباردة التي لم تكن مسؤولية المعسكر الغربي في استمرارها لما يقارب نصف قرن أقل من مسؤولية المعسكر الشيوعي. وحتى عندما تثار مسألة الحرب الباردة التي وضع سقوط الجدار حدا لها، تبرز نزعة قوية عند المحللين الغربيين، وعند الكثير من العرب أيضا للأسف، إلى تعميم نتائج هذا السقوط في أوروبة على العالم أجمع، كما لو أن نهاية الحرب الباردة في أوروبة والغرب عموما قد أنهى الحروب في كل مكان، أو كما لو أن مثال إعادة توحيد هذه القارة يمكن سحبه على جميع البلدان والقارات المقسمة أو المنقسمة على نفسها.

ويسعى البعض إلى استغلال هذه المناسبة لعقد مقارنة بين إرادة التحرر التي مكنت الشعوب الأوروبية من الانتصار على الأسوار وتهديم الجدران والانعتاق من أسر الشيوعية، وعجز الشعوب العربية عن التغيير أو ضعف إرادة التحرر عند أعضائها. كما لو كان المقصود تبرئة الدول الكبرى من نصيبها من المسؤولية عما يحصل في المشرق العربي وتحميل الشعوب، بسبب ثقافتها أو دينها أو تفكك بنياتها، المسؤولية الرئيسية في جمود الأوضاع وغياب فرص التغيير وانعدام الحرية وسيطرة النزاعات المذهبية والعرقية. والحقيقة أن الشعب الألماني، مثله مثل شعوب أوروبة الشرقية الأخرى، لم ينجح في تهديم الأسوار المادية التي كان يمثلها جدار برلين إلا لأن الأسوار المعنوية، أي الكامنة في الأفكار والمعاني، كانت قد سقطت قبل ذلك في الاتحاد السوفييتي نفسه، بعد انكشاف عطالة النظام وعدم نجاعته، على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية والعلمية. لقد سقطت الشيوعية ونظمها في المنافسة الاقتصادية والتقنية والعسكرية كما مثلتها استراتيجية حرب النجوم قبل أن تسقط في الواقع المادي. وهذا هو الذي سمح لمقاومة الشعوب الأوروبية أن تثمر بعد أن بقيت لعهد طويل عقيمة أو عاجزة عن الانجاز في بولونيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر وغيرها في الستينات والسبعينات.

وقد سارت الأمور على عكس ذلك في العالم العربي. فسقوط جدار برلين الذي أعلن نهاية الحرب الباردة في أوروبة والغرب قد فتح حقبة من الحرب الساخنة والباردة في المشرق العربي قوامها تعبئة الرأي العام الغربي والديمقراطي ضد العالم الاسلامي وتشويه صورته ومعتقداته، باسم الحرب العالمية على الارهاب، والخلط غير الأخلاقي بين الاسلام والتطرف والعنف وكره الآخر والعداء للغرب. وسقوط جدار برلين الذي أطلق موجة تحررية جديدة في أوروبة التي كانت لا تزال خاضعة لحكم النظم الشمولية، عزز بالعكس نظم الشرق الأوسط المطلقة وفي مقدمها نظام التفرقة العنصرية في إسرائيل، وأعطى دفعة قوية لإرادة السيطرة والتسلط والاستيطان اليهودي في فلسطين. وهكذا وجدنا جدار التمييز والتفرقة والقطيعة والإقصاء ينتقل من برلين إلى الضفة الغربية وغزة، كما وجدنا الحرب الأمريكية الأطلسية تزرع العنف والفوضى في العراق وتزعزع استقرار شعوب المنطقة وتهز توازناتها الأقليمية. وفي موازاة ذلك وتكملة له، جاءت حروب اسرائيل المتكررة التي هدفت إلى نشر الرعب ولدمار في فلسطين ولبنان وعموم المنطقة.

وسبب ذلك أن نهاية الحرب الباردة التي أعلنت تفكك المعسكر السوفييتي واندثاره قد فتحت شهية الدولة العظمى الوحيدة التي بقيت على وجه المعمورة، وأوحت لها بأن لها رسالة كونية تدعوها إلى عدم الخوف من إعلان قيادتها العالمية والسعي بجميع الوسائل لبسط سيطرتها ونفوذها في العالم والانفراد في كتابة أجندة السياسة الدولية. وهكذا وجد أصحاب نظرية صراع الحضارات والمحافظون الجدد طريقهم بسرعة إلى قلوب الأمريكيين مرورا بالبيت الأبيض نفسه. وكان من الطبيعي أن يكون الشرق الأوسط هو مسرح الحروب الجديدة، الساخنة والباردة معا، وأن تدخل إسرائيل شريكا استراتيجيا في الصراع ضد العرب مع التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة.

في هذه الحروب،حل الاسلام محل المعسكر السوفييتي، ووضعت الديمقراطية وعقيدة الحرية التي يدعيها المعسكر الغربي في مواجهة ما سمي تعصب المسلمين وتطرف الاسلام واستبداده. وعلى هامش هذه المواجهة ستنشأ وتترعرع الجهاديات الاسلامية والغربية معا، ويدخل الشرق الأوسط، والعالم العربي بشكل خاص، في دوامة عنف لم يخرج منها بعد، ولن يخرج منها بسهولة، جعلت من مجتمعاته استثناءا بين المجتمعات وأفقدت ثقة رأيه العام بنفسه ورسخت الاعتقاد بتخلفها وعجزها وبعدها عن المدنية والحضارة.

ليس من المبالغة القول إذن، إن العالم العربي كان الضحية الرئيسية لنهاية الحرب الباردة، لا بسبب فقدانه حليفا مهما ممثلا في الاتحاد السوفييتي كما يعتقد بعض المحلنين لذلك العصر البائد، وإنما لأنه تحول إلى مسرح الصراع الرئيسي على وسائل السيطرة العالمية. وتعرض من جراء ذلك إلى دمار معنوي وثقافي وسياسي واقتصادي لا حدود له زعزع أسس استقرار مجتمعاته وأفقد أبنائه الثقة بجدارتهم ومقدرتهم على الخلاص من المحنة بجهودهم الذاتية وبوسائلهم الخاصة. وهو أسوأ درس يمكن لشعب أن يأخذه من حادث سقوط جدار برلين وما يرمز إليه.

dimanche, novembre 08, 2009

لثورة في عصر الردة!

الاتحاد 8 نوفمبر 09

في الرابع من
شهر أكتوبر المنصرم، غيب الموت محمد السيد سعيد، الباحث البارز وأحد أنشط المشاركين في النقاش السياسي والاجتماعي الدائر في المجتمعات العربية حالياً. وبعكس كثير من المثقفين الذين تخلوا بشكل أو بآخر، وعلى طريقتهم الخاصة،عن أحلام التغيير ومشاريعه، وأيضاً بعكس الذين تمسكوا بأفكارهم ومواقفهم دون أن يأبهوا لتغير الواقع وتبدل الظروف… صرف محمد السيد سعيد، كما فعلت القلة التي سلكت الطريق نفسه، في مصر وغيرها من البلاد العربية، كل وقته للرد على التحدي الكبير الذي يطرحه السؤال: كيف يمكن الحفاظ على حلم التغيير وقيمه وإبقاء شعلة التحرر الإنساني حية في ظروف الردة الدينية الواسعة من دون الخروج على المجتمع والالتحاق بالاستراتيجيات الدولية؟ وسؤال ما زال يشكل محور تفكير وعمل كثير من المثقفين الذين رفضوا القبول بالهزيمة، أي التسليم بالأمر الواقع والتعامل مع هزيمة مشروع الحداثة العربية، كما لو كان أمراً حتمياً ونهائياً.
وفي سياق هذا الرد، انصبت جهود أولئك المثقفين، وفي مقدمهم السيد سعيد، على محورين:
الأول إعادة البناء النظري لمشروع التغيير نفسه، وترشيده، أي إخضاعه للنقد التاريخي والعقلي وإبراز ما كان جوهرياً فيه ومرتبطاً بحاجات اندراج المجتمعات في عصرها وتاريخ حضارتها، وما كان ثانوياً أي ثمرة الظرف الخاص الذي ولد فيه ولم يعد موجوداً ولا راهناً ولا مهماً. وليس مثل هذا العمل بالأمر البسيط والواضح. ذلك أن التقدم فيه يستدعي مقدرة على أخذ مسافة من أفكارنا المسبقة ومن العقديات والتصورات السابقة التي درجنا على تبريرها وتقديسها خلال حقبة طويلة. كما يتطلب مقدرة موازية على الارتفاع عن النماذج المجردة وإعادة النظر إليها على ضوء القيم والمقاصد العليا التي يبرر الحفاظ عليها وحده عملية التضحية بها والتجرؤ على تبديلها. فمثلاً لا يمكن مراجعة فكرة القومية التي ارتبطت بالوحدة والقوة والاستقلال، من دون إبراز فكرة الأمة وحقوقها السياسية والمدنية، أي دون الاسترشاد بالمواطنة كقيمة سياسية وأخلاقية معاً. وما كان من الممكن التخلي عن النماذج الاشتراكية من دون العودة إلى قيم العدالة الاجتماعية والسياسية وأخلاقيات الحرية التي تأسست عليها سياسة الأمم الحديثة. وبالمثل، ما كان من الممكن مراجعة الفكرة العربية، كما تبلورت في الخمسينيات، من دون إعادة بناء فكرة العروبة في ارتباطها بالقيم العصرية الجديدة التي جعلت منها محوراً لاستراتيجية تقارب وتقريب بين الأقطار العربية وتأسيس جغرافية سياسية تفتح آفاق التنمية الاقتصادية وترسخ أسس الاستقرار والسلام في الوطن العربي، وتجديد أسس الممارسة وأساليب العمل وأهدافه المرحلية.
وكما كان الرجوع إلى قيم التغيير وغاياته، مما لا يتوافر إلا لأصحاب المبادئ، طريقاً لإعادة النظر في التصورات والصيغ والنماذج الجاهزة الموروثة للتغيير، كان الرجوع إلى معيار النجاعة والفاعلية والتواصل مع الكتلة الاجتماعية المستهدفة في أي مشروع تغيير، منطلقاً لتجديد أساليب العمل وإبداع مقاربات استراتيجية جديدة لضمان استمرار حركة التغيير وتقدمها. وهذا ما أدى بنا إلى اكتشاف العمل على صعيد المجتمع المدني وتطوير وسائل التواصل المختلفة مع جمهور يشكل عزله وتهميشه وإسكاته، الشرط الأول لإعادة إنتاج النظم الاجتماعية والسياسية القائمة.
في هذا النقد المزدوج، النظري والعملي، للوضع القائم، كان محمد السيد سعيد، ومن دون أدنى شك، رائداً وصاحب سبق. وقد كانت صحيفة “البديل” التتويج الأخير لفكره وعمله. ولا تشير “البديل” هنا إلى نظام آخر غير النظام الاجتماعي القائم فحسب، ولكن إلى بديل آخر للعمل النقدي أو للنقد العملي وللمعارضة بالمعنى الجديد أيضاً.
فمن باب الوفاء لفكرة العدالة والمساواة، أعاد سعيد النظر في أنماط التفكير الاشتراكي واليساري عموماً، وربطها بالديمقراطية وبالمجتمع المدني، حتى جعل من هذه الأبعاد الأخيرة محور عمله ونشاطه السياسي والمدني. ومن باب الوفاء لقيم الحداثة والتنمية والاستقلال الوطني والسيادة القومية، أعاد النظر أيضاً في الفكرة القومية العربية الناصرية وغير الناصرية، ولم يوفر فرصة لتأكيد خيار التقارب والتكامل والاندماج بين البلاد العربية.
وبعكس الكثير من المثقفين وأصحاب الرأي الذين دفعهم اكتشاف الديمقراطية إلى الانخراط في نزعة العداء للهوية والافتتان بالليبرالية الاستعمارية، دافع سعيد بكل قوة واقتناع عن الارتباط الذي لا ينفصم بين قيم الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. وبعكس كثير من المثقفين الذين مرت عليهم خدعة مشاريع “الدمقرطة” التي أطلقتها الإدارة الأميركية السابقة، وأيدتها الدول الأوروبية، لم يتزعزع إيمان محمد السيد سعيد باستقلالية حركة التغيير العربية، وبالارتباط الذي لا ينفصم بين مطلب الديمقراطية ومطلب السيادة الوطنية.
كان من الطبيعي والحالة هذه أن يتخطى سعيد خطوط الفصل القاطعة التي اصطنعها مثقفونا وأحزابنا في مجتمعاتنا السياسية، تلك التي تكرس إعادة إنتاج الوضع القائم أيضاً، بتكريسها القطيعة والعداء بين القوميين والقطريين، العلمانيين والإسلاميين، الليبراليين والاشتراكيين… وأن يبني لنفسه موقعاً في ما وراء ذلك، يتجاوز هذه المواقف ويجمع بينها معاً، معياره التغيير والنجاعة والفعل، وأن يطمح من خلال ذلك إلى تحرير أجيال الشباب من رواسب صراعات الماضي الميت ونقاشاته المكبلة، ويسعى إلى تعبئتهم وشدهم إلى معركة التغيير وتجديد مجتمعاتهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية.
بهذا المعنى كان سعيد، كما ذكر عن نفسه، يسارياً بين الليبراليين وليبرالياً بين اليساريين، قومياً بين القطريين ومصرياً بين القوميين، أي صلة الوصل بينهم جميعاً. وجوهر هذه الصلة هو ابتداع خطة عملية لدفع عملية التغيير، بمعناه العميق، أي تغيير الواقع نفسه لا فكرته.
وهذا التغيير هو الذي جعل السيد سعيد يكتشف أيضاً الحركة المدنية وينخرط فيها. لقد كان مفكراً عملياً وثورياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، لم يترك فرصة للتأثير في الواقع، نظرية كانت أم عملية، إلا واستثمرها. لهذا كان حاضراً في كل المناسبات النضالية، واثقاً من عمله، متفائل العقل، رغم صعوبات العمل وتحديات الواقع وعوائقه.

mardi, octobre 27, 2009

تحية تقدير لمحمد السيد سعيد في أربعينه

الاتحاد 21 اكتوبر 09

اكتشفت محمد السيد سعيد من خلال مداخلاته ومقالاته الصحفية قبل أن تجمعنا صداقة الفكر والممارسة والعمل السياسي والانساني. وكان محمد السيد في نظري باحثا لامعا تميز بنزاهة علمية نادرة وبسداد رأي استثنائي. فهو أحد ألمع المفكرين العرب المعاصرين وأبرز مثقفي جيله وأكثرهم نشاطا وإخلاصا وصدقية

ففي مجتمعات عربية ضلت أو تشعر غالبية أبنائها أنها ضلت طريق التقدم الذي كانت تحلم به قليل من المثقفين أو أصحاب الرأي لم يتعرض للاحباط واليأس. وبينما اختار القسم الأكبر من هؤلاء الانحناء للأمر الواقع، ومسايرة الوضع متخلين عن أحلامهم التغييرية، القومية أو الاشتراكية أو الديمقراطية، وانقلب قسم آخر على مواقفه السابقة أو تنكر لها باسم الواقعية أو التحولات التاريخية أو الانفتاح على العالم، ورضي قسم آخر بالانسحاب والانكفاء على النفس، بقيت أقلية من المثقفين، ومنها محمد السيد سعيد مصرة على الاختيارات التي ألهمت الحركات الاجتماعية والوطنية في البلاد العربية منذ بداية النهضة العربية أو ما نطلق عليه اسم النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعني الايمان بإمكانية تحويل العالم العربي والارتقاء به إلى مصاف المجتمعات الحديثة وتجديد بنياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية.

وبعكس المثقفين الآخرين الذين تخلوا بشكل أو آخر وعلى طريقتهم الخاصة عن أحلام التغيير ومشاريعه، أو أولئك الذين احتفظوا بعكس الأوائل، بأفكارهم ومواقفهم كما هي ورفضوا الاعتراف بالأمر الواقع، طرح هذا الموقف منذ البداية ولا يزال، أعني موقف التمسك بمشروع التغيير والتجديد والتحديث، تحديا نطريا وعمليا كبيرا، صرف محمد السيد سعيد، كما فعلت القلة القليلة التي سلكت الطريق نفسه في مصر وغيرها من البلاد العربية، كل وقتهم لمواجهته والرد عليه. فبينما لا تستدعي مسايرة الأمر الواقع القائم سوى تشغيل ملكة التكيف البسيط، التي تبررها الواقعية والابتعاد عن الأحلام التي لا يمكن تحقيقها، ولا يطرح الحفاظ على المواقف التقليدية أي تساؤل جديد، يتطلب الحفاظ على حلم التغيير، في سياق الانكفاء والردة وانحسار الآمال، جهدا استثنيائيا وهذا ما نسميه بالتكيف أو التكييف الإبداع بين الحلم والواقع، وما يترتب عليه من مراجعة مزدوجة يتعلق جزء منها بإعادة تقويم الحلم نفسه ومراجعة فكرته والجزء الآخر بإعادة تحليل الواقع نفسه والتمعن في ما تبدل فيه وجعل الأفكار والشعارات المطروحة في مرحلة ما مقطوعة عنه أو بعيدة المنال.

باختصار، كيف يمكن الاستمرار في معركة التغيير العربي، الاجتماعية والسياسية والثقافية، في واقع الهزيمة وتراجع المجتمعات نفسها عن أحلامها القديمة وسيطرة الأفكار المحافظة ونزعة الارتداد عن مشروع الحداثة وعليها سعيا وراء هوية ثابتة أو أصالية؟ وبمعنى آخر كيف يمكن الحفاظ على حلم التغيير وقيمه وإبقاء شعلة التحرر الانساني قائمة في مواجهة موجة اليأس الكاسحة التي لا تعني شيئا آخر في نهاية التحليل سوى التسليم للأمر الواقع والاستسلام؟ الرد على هذا التحدي هو الذي شكل محرك تفكير محمد السيد ومحتوى نضالاته العملية وغايته في آن. وهو الذي لا يزال يشكل محور تفكير وعمل الكثير من المثقفين الآخرين الذين رفضوا القبول بالهزيمة، أي التسليم بالأمر الواقع والتعامل مع إجهاض مشروع الحداثة العربية كما لو كان أمرا محتما ونهائيا.

وفي سياق هذا الرد انصبت جهود هؤلاء، وفي مقدمهم السيد سعيد على محورين:

الأول إعادة البناء النظري لمشروع التغيير نفسه،وترشيده، أي إخضاعه للنقد التاريخي والعقلي وإبراز ما كان جوهريا فيه يرتبط بحاجات اندراج المجتمعات في عصرها وتاريخ حضارتها، وما كان ثانويا أي ثمرة الظرف الخاص الذي ولد فيه ولم يعد موجودا ولا راهنا ولا مهما. وليس مثل هذا العمل بالأمر البسيط والواضح. ذلك إن التقدم فيه يستدعي مقدرة على أخذ مسافة عن أفكارنا المسبقة وعن العقائديات والتصورات السابقة التي درجنا على تبريرها والدفاع عنها إن لم على تقديسها خلال حقبة طويلة. وهذا ما يصعب تحقيقه من مقدرة موازية على الارتفاع عن النماذج المجردة وإعادة النظر إليها على ضوء القيم والمقاصد العليا التي يبرر الحفاظ عليها وحده عملية التضحية بها والتجرؤ على تبديلها هكذا لم يكن من الممكن، على سبيل المثال، مراجعة فكرة القومية التي ارتبطت بالوحدة والقوة والاستقلال من دون إبراز فكرة الشعب والأمة وحقوقها السياسية والمدنية، أي من دون الاسترشاد بالمواطنية كقيمة سياسية وأخلاقية وطنية معا. وما كان من الممكن التخلي عن النماذج السوفييتية وشبه السوفييتيه التي ارتبطت بالاشتراكية من دون العودة إلى قيم العدالة الاجتماعية والمساواة السياسية والأخلاقية وأخلاقيات الحرية التي تأسست عليها سياسة الأمم الحديثة. وبالمثل ما كان من الممكن مراجعة الفكرة العربية كما تبلورت في الخمسينات وأشكال تجسيدها وسبل العمل لتحقيقها كما خطت على يد أصحاب الدعوة القومية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين وقادت إلى إخفاقات وخيبات أمل كفرت قطاعات واسعة من الرأي العام العربي ، أقول ما كان من الممكن ذلك من دون إعادة بناء فكرة العروبة بارتباطها بالقيم العصرية الجديدة التي حولتها إلى محور لاستراتيجية تقارب وتقريب بين الأقطار العربية وتأسيس لجغرافية سياسية تفتح آفاق التنمية الاقتصادية وترسخ أسس الاستقرار والسلام في المنطقة، وبين الشعوب العربية

والثاني، تجديد أسس الممارسة وأساليب العمل وأهدافه المرحلية. وكما كان الرجوع إلى قيم التغيير وغاياته، مما لا يتوفر إلا لأصحاب المباديء طريقا لأعادة النظر في التصورات والصيغ والنماذج الجاهزة الموروثة للتغيير، كان الرجوع إلى معيار النجاعة والفاعلية والتواصل مع الكتلة الاجتماعية المستهدفة في أي مشروع تغيير منطلقا لتجديد أساليب العمل وإبداع مقاربات استراتيجية جديدة لضمان استمرار حركة التغيير وتقدمها. وهذا ما أدى بنا إلى اكتشاف العمل على صعيد المجتمع المدني وتطوير وسائل التواصل المختلفة مع جمهور يشكل عزله وتهميشه وإسكاته الشرط الأول لأعادة إنتاج النظم الاجتماعية والسياسية القائمة.

في هذا النقد المزدوج النظري والعملي للوضع القائم، كان محمد السيد من دون أدنى شك رائدا. وقد كانت مجلة البديل التتويج الأخير لفكره وعمله. ولا تشير البديل هنا إلى نظام آخر غير النظام الاجتماعي القائم فحسب ولكن إلى بديل آخر للعمل النقدي أو للنقد العملي وللمعارضة بالمعنى الجديد أيضا.

فمن باب الوفاء لفكرة العدالة والمساواة أعاد محمد السيد سعيد النظر في أنماط التفكير الاشتراكي واليساري عموما، وربطها بالديمقرطاية وبالمجتمع المدني، حتى جعل من هذه الأبعاد الأخيرة محور عمله ونشاطه، السياسي والمدني. ومن باب الوفاء لقيم الحداثة والتنمية والاستقلال الوطني والسيادة القومية أعاد النظر أيضا في الفكرة القومية العربية الناصرية وغير الناصرية، ولم يوفر فرصة لتأكيد خيار التقارب والتكامل والاندماج بين البلاد العربية وبعكس الكثير من المثقفين وأصحاب الرأي الذين دفعهم اكتشاف الديمقراطية إلى الانخراط في ما ينبغي تسميته نزعة العداء للهوية والافتتان بالنزعة الليبرالية الاستعمارية أو شبه الاستعمارية، دافع محمد السيد بكل قوة واقتناع عن الارتباط الذي لا ينفصم بين قيم الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. وبعكس الكثير من المثقفين الذين مرت عليهم خدعة مشاريع الدمقرطة التي أطلقتها إدارة الرئيس بوش الأمريكية، وأيدتها الدول الأوروبية، بقي ايمان محمد السيد لا يتزعزع في استقلالية حركة التغيير العربية، وفي الارتباط الذي لا ينفصم بين مطلب الديمقراطية ومطلب السيادة الوطنية.

كان من الطبيعي والحالة هذه أن يتخطى محمد السيد خطوط الفصل القاطعة التي اصطنعها مثقفونا وأحزابنا في مجتمعاتنا السياسية، تلك التي تكرس إعادة إنتاج الوضع القائم أيضا، بتكريسها القطيعة والعداء بين القوميين والقطريين، والعلمانيين والاسلاميين، والليبراليين والاشتراكيين، وأن يبني لنفسه موقعا في ما وراء ذلك، يتجاوز هذه المواقف ويجمع بينها معا، معياره التغيير والنجاعة والفعل، وأن يطمح من خلال ذلك إلى تحرير آجيال الشباب من رواسب صراعات الماضي الميت ونقاشاته المكبلة، ويسعى إلى تعبئتهم وشدهم إلى معركة التغيير وتجديد مجتمعاتهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية. بهذا المعنى كان محمد السيد، كما ذكر هو عن نفسه، يساريا بين الليبراليين وليبراليا بين اليساريين، قوميا بين القطريين ومصريا بين القوميين، أي صلة الوصل بينهم أيضا. وجوهر هذه الصلة هو ابتداع خطة عملية لدفع عملية التغيير، بمعناه العميق، أي تغيير الواقع نفسه لا فكرته.

وهذا التغيير هو الذي جعل محمد السيد يكتشف أيضا الحركة المدنية وينخرط فيها كما لم يفعل أي واحد منا. لقد كان السيد مفكرا عمليا وثوريا بالمعنى الحقيقي للكلمة، لم يترك فرصة للتأثير في الواقع، نظرية كانت أم عملية، لم يستغلها ويستثمرها. وكان لهذا السبب أيضا حاضرا في كل المناسبات النضالية، واثقا من عمله متفائل العقل، بالرغم من صعوبات العمل وتحديات الواقع الكبيرة جميعها.

ولأنه وهب نفسه لمشروع تغيير الواقع العربي لم يترك ميدانا للعمل لم ينخرط فيه، من المقالة إلى السياسة إلى المقاومة والمظاهرة والاضراب. لكن إخلاصه لمبادئه وذكائه الاستثنائي الذي جنبه خداع الذات وتغذية الأوهام التي غالبا ما يقع فيها الناشطون العموميون، السياسيون والمدنيون، عن أنفسهم وعن الآخرين وعن الواقع الاجتماعي أيضا جعلت منه رجل بصيرة استثنائي. فكان بامتياز رجل علم من دون ادعاء التجرد عن الايديولوجية والاختيارات السياسية والفكرية، ورجل سياسة من دون أي تطلع لمواقع السلطة. لقد كان رجل قيادة فكرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، مثقف الكلمة الحرة والفكرة الثورية والمنهج الحواري والعقلاني الهاديء والوفي في الوقت نفسه. رجل التضحية والشجاعة والتواضع ونكران الذات والمسؤولية

dimanche, octobre 25, 2009

فشل المصالحة إمعان في الانهيار

الاتحاد 25 اكتوبر2009

د. برهان غليون
لم يكن هناك شك عند أي مراقب للوضع الفلسطيني في أن تأجيل نقاش تقرير جولدستون سوف يعرض المصالحة الفلسطينية لامتحان خطير. وجاء خطابا كل من خالد مشعل ومحمود عباس في 11 نوفمبر الجاري، وما تلاهما من تصريحات لمسؤولي “فتح” و”حماس”، ليؤكدا ذلك وليضعا نهاية مأساوية لمحاولات رأب الصدع التي قامت بها شخصيات وقوى محلية ودولية عديدة للخروج من الأزمة الفلسطينية، وبهدف إيجاد شروط أفضل لإطلاق مفاوضات التسوية مع إسرائيل. فرغم إعلان عباس تمسكه بالمصالحة الوطنية وتأكيده على رفض تأجيل موعد التوقيع عليها، كما حددته الخارجية المصرية في 26 من الشهر الجاري، فإنه لم يوفر فرصة لمهاجمة “حماس” واتهامها بأشنع الأفعال، بما في ذلك العمل لصالح إسرائيل، كما لم ينس التذكير بـ “الانقلاب الظلامي” الذي قامت به في القطاع، ووصفها بالقول إنها قوة متمردة على الشرعية الفلسطينية.
ولم يكن خطاب مشعل أقل اتهامية وعنفاً من خطاب عباس، إن لم يكن أشد منه؛ فقد حمل على ما سماه “الفريق المسيطر على السلطة الفلسطينية”، متهماً إياه بالعمل لخدمة إسرائيل والتفاهم معها، في قطيعة مع تاريخ “فتح” ومع إرادة الشعب الفلسطيني ومصالحه الوطنية. واشترط مشعل لتوقيع المصالحة الوطنية محاسبة القيادة الفلسطينية الراهنة ووضع مرجعية وطنية تحول دون ارتكاب أخطاء جديدة في المستقبل وتحافظ على الثوابت الفلسطينية. ولم ينس أيضاًِ أن يذكر بموقف “حماس” القائل بأن المقاومة خيار استراتيجي بالنسبة لها، وأنها لن تفرط في الثوابت الفلسطينية كالقدس وحق العودة ورفض الاستيطان.
كان واضحاً من الخطابين أن أياً من الرجلين لم يكن مهتماً أو حريصاً على الاحتفاظ بخط الرجعة أو ترك الباب مفتوحاً للمصالحة. بل ظهر بوضوح تام، من خلال الخطابين، أن المصالحة لم تكن بالفعل مسألة مركزية في تفكيرهما وسياستهما معاً، وأنها ليست نابعة من اقتناع عميق بأهميتها بالنسبة لمواجهة الوضع الذي تمر به القضية الفلسطينية حالياً. لقد كانت ولا تزال تكتيكاً اتخذه الطرفان لتحقيق أهداف جزئية وظرفية، وبشكل خاص إرضاءً للأطراف العربية التي تخشى أن يؤدي الانقسام الفلسطيني إلى انكشاف خطير للموقف العربي بأكمله، وتوريطها هي أيضاً في أزمة تجاه رأيها العام.
وليس التأكيد المشترك من قبل عباس ومشعل على أنه لا حل للأزمة ولا مصالحة في النهاية إلا من خلال انتخابات شعبية تسمح للفلسطينيين بحسم الموقف، وتزيل الانقسام القائم، وتلغي الحاجة إلى تسوية بين مواقف فلسطينية لا يمكن التوفيق بينها… أقول ليس هذا التأكيد من قبل الطرفين على أولوية الانتخابات إلا دليل على غياب التفاهم وانعدام وجود أي تسوية سياسية فعلية، قبل قضية التقرير ومأساته.
من هنا يمكن القول إن كلا الطرفين وجدا في تأجيل مناقشة تقرير جولدستون فرصة للتراجع عن “التزاماته” السابقة بخصوص المصالحة، والعودة إلى مواقفه الأساسية.
فبدل أن يعترف عباس بالخطأ الذي وقع نتيجة قرار خاطئ اتخذه على الشعب الفلسطيني وقضيته، فضل التعبير عن غضبه من الجدل الصاخب حول ذلك القرار، مذكراً من جديد -لتبرير قراره- بتوافق مختلف المجموعات في مجلس حقوق الإنسان (العربية والإسلامية والأفريقية وعدم الانحياز) حول سحب التقرير. وكان بإمكانه أن يعترف بالخطأ ويعلن تحمله المسؤولية.
وبالمثل، ليس مقنعاً ما ذكره مشعل لتبرير التراجع عن المصالحة، ومن ورائها كما ظهر في الخطاب، التشكيك في إمكانية أي مصالحة مع فريق عباس. فلا يعني السير في المصالحة، كما قال، الموافقة على قرار عباس أو إضفاء الشرعية على الأخطاء التي تقوم بها سلطته. فالجمهور الفلسطيني والعربي يعرف موقف “حماس” كما يعرف موقف السلطة الفلسطينية، ولن يخلط بين الأمرين. بل يمكن لـ “حماس” أن تربح نفوذاً سياسياً أكبر لو أبدت حرصاً أكثر على المصالحة والوحدة في هذا الظرف الصعب. فالمفترض أن “حماس” لا تقوم بالمصالحة مع عباس أو الفريق الذي تتهمه بالوقوف مع القرار، وإنما تعمل من خلال المصالحة على تجاوز الصدع الفلسطيني الذي مس الأرض والمؤسسات والقوى الفلسطينية، أي الذي قسم الفلسطينيين وسمح لإسرائيل باللعب على تناقضاتهم ومحاولة تعبئة قسم منهم ضد القسم الآخر. وهي الوسيلة الوحيدة لإفشال ما سعت إليه إسرائيل منذ الاحتلال وأخفقت في تحقيقه حتى وفاة ياسر عرفات، أعني تفجير الحرب الفلسطينية الفلسطينية التي تريد من إشعالها التخفف من عبء الاحتلال ودفع الفلسطينيين إلى تبديد جهودهم بدل توحيدها ضد عدوهم المشترك والوحيد.
وما كان وفد “حماس” ليخسر شيئاً لو ذهب إلى القاهرة في الموعد المحدد، بل لكان استفاد من جو الغضب الشعبي الراهن ضد قرار تأجيل التصويت على تقرير جولدستون، وأظهر للرأي العام الفلسطيني والعربي أنه مؤمن فعلا بضرورة توحيد الجهد الفلسطيني بأي ثمن. لكن في اعتقادي أن “حماس” خسرت فرصة كبيرة لإظهار أنها ليست فريقاً فلسطينياً يدافع عن نفسه ومصالحه ضد فريق آخر مستفرد بالسلطة ومستفيد منها، بل إنها قيادة وطنية حريصة وقادرة على الجمع وتوحيد الشعب والإرادة الفلسطينيين!
وفي ماوراء انحسار أمل الوحدة الوطنية وتأكيد الانقسام، حتى بعد تصويت مجلس حقوق الإنسان على التقرير، الجمعة الماضي، يكمن الواقع المر الذي لا يمكن من دونه فهم ما يجري داخل الصف الفلسطيني، والعربي أيضاً، أعني انهيار آفاق مفاوضات التسوية السياسية العربية الإسرائيلية بعد أن أظهرت إدارة أوباما، والتي بُنيتْ عليها آمال عريضة طوال عدة أشهر، أنها غير مستعدة لثني إسرائيل عن متابعة مشروعها الاستيطاني الشامل، والذي يلغي أي احتمال لإمكانية قيام دولة فلسطينية.

ذلك في نظري هو السبب الأعمق للنزاع الفلسطيني الداخلي. لكن هل جوابنا المطلوب على انهيار مفاوضات السلام، وعلى فشل أوباما وإدارته في تأهيل إسرائيل، هو الاستمرار في النزاعات الفلسطينية والعربية الداخلية، أي الإمعان في الانهيار؟

mercredi, octobre 07, 2009

العلاقات السورية التركية ودرس الديمقراطية

الاتحاد 7 اكتوبر 09

التطور الذي تشهده العلاقات السورية التركية منذ بعض السنوات يثير الاهتمام والتأمل من عدة زوايا. الاولى والأهم تنبع من أنه يشكل، بما يميزه من روح الاستمرارية، والالتزام بالاستحقاقات والأسس القانونية، والتقدم المطرد على ميادين عمل متعددة، استراتيجية وسياسية واقتصادية وعلمية، الحالة الوحيدة الناجحة من التعاون بين قطرين في المنطقة، بما في ذلك بين الأقطار العربية. والثانية ترتبط بدور الايديولوجية ومكانها في نمو العلاقات بين الدول والشعوب. فمن المعروف أن جزءا كبيرا من تراث القومية العربية التي لا تشكل عقيدة الحكم فحسب ولكن الشعب، أو غالبيته، أيضا، في سورية، قد نما في الصراع مع الفكرة الطورانية والتشهير بسياسة العثمانيين الأتراك وتحميلهم مسؤولية انحطاط الثقافة والحضارة العربيتين. والزاوية الثالثة تحيل إلى تاريخ من العداء الدائم تقريبا منذ تكوين الجمهوريتين السورية والتركية في مطلع القرن الماضي حتى سنوات قليلة سابقة. وإذا كان هذا العداء قد تركز في بداية الاستقلال السوري على ذكرى الاضطهاد العثماني ثم ضم تركيا مقاطعة لواء اسكندرون عام 1938 فإنه لم يلبث حتى شمل قضايا كثيرة أخرى، وأهمها من دون شك الاختيارات الاستراتيجية المتعارضة للبلدين، الاطلسية في تركيا واليسارية في سورية. وفي هذا الإطار دخل البلدان أكثر من مرة في حالة نزاع كادت تفضي لحرب مدمرة. وليس هناك شك في أن الخوف من اجتياح عسكري تركي لسورية عام 1957 قد لعب دورا كبيرا في دفع الضباط السوريين المتنافسين على السلطة في دمشق إلى الذهاب إلى مصر وتوقيع اتفاقية الوحدة السورية المصرية عام 1958. وقد اتهمت مصر في ذلك الوقت أنقرة بالعمل لصالح الولايات المتحدة وبريطانيا لقلب الحكومة السورية القائمة، وهي حكومة ليبرالية، في إطار سعيهما المشترك لفرض حلف بغداد على العرب في إطار الحرب الباردة. وقد نظر الغرب بالفعل إلى حكومات سورية، منذ حرب السويس وتدمير أنابيب نفط العراق المارة عبر الأراضي السورية على أنها حكومات خاضعة لضغط اليساريين وسائرة بتوجيههم، خاصة بعد أن عقدت دمشق صفقة شراء السلاح من تشيكوسلوفاكيا عام 1955 وتقربت من الاتحاد السوفييتي في عهد رئس الوزراء خالد العظم.

وقد تجدد النزاع السوري التركي في التسعينات من القرن الماضي. واتهمت دمشق أنقرة بحجزها مياه الفرات عنها، وإرسالها المياه الملوثة عبر النهر، وتجفيف نهر الخابور، وطالبت بتوقيع اتفاقية لتقاسم المياه على أسس دولية رفضتها أنقرة حتى الآن. وتصاعدت حدة النزاع السوري التركي بسبب التعاون العسكري المتنامي بين تركيا وإسرائيل، واعتبرت دمشق، مثلها مثل الدول العربية جميعا، أنقرة أحد العواصم المعادية للقومية العربية والمتحالفة مع خصومها. وقد وصل النزاع إلى ذروته عام 1998 عندما هددت تركيا باجتياح الأراضي السورية لوضع حد لهجمات حزب العمال الكردستاني الذي كان يتلقى الدعم من سورية. وقد أسفرت الأزمة عن توقيع اتفاقية أضنة قبلت دمشق بموجبها وقف التعاون مع الحزب الكردي كما تراجعت عن المطالبة التاريخية باسترجاع لواء اسكندرون الذي كان نقطة خلاف دائمة وأبدية بين حكومات دمشق وأنقرة جميعا. لكن عهد التقارب الجدي الذي سيقلب الاتجاه شيئا فشيئا، محولا حالة العداء التاريخي إلى حالة من اللقاء الاستثنائي، إن لم نقل إلى ما يشبه الوحدة بين البلدين، بدأ عام 2004 عندما دفعت العزلة التي فرضتها الدول العربية وفي طليعتها مصر على النظام السوري، بل القبول بتقديم نظام الأسد كبش فداء للإدارة الأمريكية التي كانت عازمة على التخلص من أنظمة البعث السورية والعراقية في إطار إعادة ترتيب أوراق السيطرة على المنطقة. فلم تجد سورية خلال سنوات العزلة والحصار الطويلة، خاصة بعد اغتيال الحريري، سوى أنقرة للعب دور الوسيط بينها وبين الغرب، ومساعدتها على عبور المرحلة الصعبة.

هكذا، خلال أقل من خمس سنوات، كسرت العلاقات التركية السورية كل المحظورات وبوتيرة ملفتة. فتجاوز الحكام البعثيون في دمشق حواجز الثقافة والعقيدة السياسية، الرسمية والشعبية، وضغط الذاكرة التاريخية الحافلة بالمآخذ على أنقرة، بل وبالأحكام المسبقة عن الأتراك، فأقاموا مع هؤلاء، بصرف النظر عن استمرار تعاون أنقرة مع إسرائيل وعضويتها في الحلف الاطلسي، علاقات ثقة تتنامى كل يوم بشكل اكبر، حتى أصبحت أنقرة راعية المفاوضات السورية الاسرائيلية الرئيسية، والمدافع الأكثر حماسا عن النظام السوري في وجه الاتجاهات الغربية، الأمريكية والأوروبية، العدائية. ولم يتوقف التعاون على الميدان السياسي ولكنه سرعان ما انتقل إلى الميادين الاقتصادية والاستراتيجية. فبعد التوقيع عام 2004 على اتفاقية التجارة الحرة ، والبدء بتطبيقها عام 2007 ، أعلن البلدين، أثناء حفل إفطار أقامه رئيس الوزراء التركي للرئيس السوري في منتصف الشهر الماضي، عن فتح الحدود بين البلدين من دون سمة دخول. كما أعلنا عن تكوين مجلس للتعاون الاستراتيجي يجتمع بشكل منتظم، ويضم كبار مسؤولي الدولتين، بالإضافة إلى عشرات الاتفاقيات الأخرى. وما يلفت النظر في كل ذلك هو أن الاتفاقات الموقعة تنفذ بحذافيرها وفي موعدها المحدد إن لم تستبقه، ولا ينتهي مفعولها، كما هو الحال بالنسبة لمعظم الاتفاقيات الموقعة بين أعضاء الجامعة العربية، مثل اتفاقية منطقة التجارة العربية الكبرى بانفضاض حفل التوقيع. ويستطيع المرء معاينة ذلك من خلال التبادل المستمر للوفود من رجال الأعمال السوريين والأتراك، والإعلان عن استثمارات وشركات مشتركة بينهم، وبشكل خاص من خلال حضور البضائع التركية الكثيف في الأسواق السورية. وليس هناك شك في أن حجم التجارة السورية التركية الذي وصل خلال سنوات معدودة إلى ما يقارب الملياري دولار، والذي يتوقع أن يصل إلى خمس مليارات دولار خلال الأعوام القليلة القادمة يجعل من تركيا الشريك التجاري الأول لسورية.

ليس هناك سر في التقارب السوري التركي. فدوافعه واضحة ومعروفة بالنسبة للطرفين، والمصالح المتبادلة كبيرة أيضا لا يمكن لأحد أن يشك فيها، في الميادين السياسية والاقتصادية والتقنية والعلمية معا. السؤال:

لماذا نجحت تركيا في ما أخفقت فيه الدول العربية، وفي طليعتها القاهرة والرياض اللتين شكلتا مع دمشق المثلث الذي استند إليه استقرار المشرق العربي لعقود طويلة ماضية؟ بل لماذا أخفقت طهران أيضا في تقديم مرفأ آمن لسفينة دمشق الحائرة؟

السبب لأن تركيا بعكس العرب دولة مستقلة وناجحة، وبعكس ايران أيضا ذات علاقة قوية بالغرب. وإذا كانت طهران مفيدة لدمشق في أي مسعى للتمرد والاحتجاج، فأنقرة هي الجسر الوحيد نحو هذا الغرب الذي لا يزال يملك وحده مفاتيح الحل والربط في المنطقة. والأفراد يسيرون في النهاية وراء أصحاب الملاءة والفاعلية أملا في الاستفادة منهم، ولا يهتمون بمن هو أضعف منهم أو من يحتاج هو نفسه إلى من يساعده.

لكن إذا كانت تركيا دولة فاعلة اليوم تشد إليها سورية وغيرها فلأنها حلت مشاكلها الداخلية، ونجحت في سياستها الاقتصادية، واتبعت طريقا صحيحا في التعاون الدولي. فتركت منطق المجابهة لصالح العمل الايجابي الصعب والصبور والطويل المدى، فاكتسبت رصيدا كبيرا وثقة ثابتة، بينما لا تزال حكوماتنا العربية منقسمة بين أصحاب خط المزاودة القومية الفارغة من المضمون والمعنى، أو خط المناقصة وتقديم التنازلات المجانية على حساب استقلاليتها باسم الواقعية والفائدة. وسبب المزاودة والمناقصة في سياساتنا الخارجية واحد: افتقار نظمنا للشرعية الشعبية، وتوزعها بين من يبحث عن التعويض عن ذلك في الالتحاق بشكل أكبر بالدول الكبرى والدخول تحت حمايتها وقبول استراتيجياتها ومن يسعى إلى تعزيز سيطرتها الداخلية من خلا من خلال التلويح بورقة توت الوطنية الكاذبة وتضخيمها.

عندما تحل مسألة السلطة بشكل صحيح في بلادنا العربية، سيكون من الممكن الأمل بولادة سياسات خارجية عربية سليمة، عقلانية بالفعل وفاعلة، أي قادرة على تحصيل مكاسب وانتصارات، وبالتالي على جذب الآخرين واستقطابهم كما تفعل اليوم السياسة التركية.

لذلك لا ينبغي ان نشك في صدق اردوغان عندما يقول لزواره العرب إن أساس تقدم تركيا الاقتصادي والاجتماعي وتوسع نفوذها الخارجي هو الديمقراطية. فهي الكفيلة، وحدها فعلا، بتغيير قدر البلاد العربية وتخفيف البؤس المادي والسياسي الذي تعيش فيه جماهيرها الواسعة .

هارا كيري في القيادة الفلسطينية


الجزيرة نت 7 اكتوبر 09
كائنا من كان المسؤول الفلسطيني الذي اتخذ قرار مطالبة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتأجيل مناقشة تقرير غولدستون بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن ما حدث لا يشكل استهانة لا حدود لها بحياة الفلسطينيين الذين قضوا بسلاح الدمار الشامل الذي استخدمته إسرائيل، ولا بحياة أولئك الذين سيقضون به بعد الآن، ولكنه يمثل أكثر من ذلك ضربة أليمة للقضية الفلسطينية برمتها، وبشكل خاص لجميع أولئك الذين يكافحون في بيئة دولية معادية ومنحازة لتل أبيب في السراء والضراء، للكشف عن حقيقة ما يجرى في فلسطين، وتسليط الضوء على ما يعانيه شعبها من هدر للحقوق، وما تعتمد عليه إسرائيل، في سعيها لتوسيع رقعة الاستيطان وللابقاء على الاحتلال، من انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان.
جميع الأسباب التي يقدمها مسؤولون فلسطينيون لتبرير قرارهم الفريد مرفوضة من قبل الرأي العام العربي ولا تصمد أمام أي تحليل سياسي، سواء ما تعلق منها بالضغوط الأمريكية القوية التي ذكرت صحيفة ها آرتس أنها مورست على الرئيس الفلسطيني باسم حماية مفاوضات السلام من التردي، أو التهديدات التي ذكرت بعض المصادر الدبلوماسية أنها وجهت إلى رئيس وزرائه بقطع كافة المساعدات التي تمنحها الإدارة الأميركية للسلطة الفلسطينية، وكذلك توقيف إسرائيل عائدات الضرائب التي تعتمد عليها السلطة في دفع رواتب موظفيها، أو المخاوف من أن تنعكس نتائج ذلك على الأداء الاقتصادي في الضفة الغربية. أما التذرع بقبول الدول العربية والاسلامية بالقرار أو مشاركتها فيه، وهو ما ثبت بطلانه بعد التصريحات التي صدرت عن العديد من ممثليها، فهو حجة أقبح من ذنب. ذلك أن المسؤول عن مصير الشعب الفلسطيني والمخول في اتخاذ القرار المطلوب للحفاظ على حقوقه هو القيادة الفلسطينية. ومن واجبها أن تتخذ القرار الصائب سواء حصلت على تأييد الدول العربية والاسلامية أم لا.
فالحال أن الرأي العام العربي، الملدوغ أكثر من مرة من جانب العدالة الدولية، بالكاد صدق صدور مثل هذا التقرير واحتمال تحويله إلى مجلس الامن. فقد وقعت إسرائيل لأول مرة تقريبا في الفخ، ووجدت نفسها، بسبب مغالاتها في الاستهتار بالرأي العام العالمي، واعتدادها بمقدرتها على طمس الحقائق، ونتيجة صورة المعاناة القاسية التي نقلتها أجهزة الإعلام عن الحرب غير المشروعية وغير المبررة التي خاضتها ضد شعب غزة، وتحت ضغوط قوية ومتواصلة لقطاعات واسعة من الرأي العام ومئات منظمات حقوق الانسان الدولية، أقول وجدت إسرائيل نفسها أمام ما يمكن أن نسميه احتمال التعرض لمحاسبة سياسية وقانونية وأخلاقية نادرة الحصول على ممارساتها اللاإنسانية المستمرة في فلسطين منذ أكثر من خمسين عاما. وكان العرب، مثلهم مثل أنصار الحق الفلسطيني في العالم كله، ينتظرون بفارغ الصبر مثل هذه الفرصة ليضعوا حكومات العالم "الديمقراطي والحر" التي تدعم إسرائيل، وتغض النظر عن جميع ما تقوم به من تصرفات، وترتكبه من جرائم أمام الحقيقة، وتوقف مساعيها الدائمة لحماية إسرائيل وتجنيبها المحاسبة والعقاب.
في هذا السياق النادر الحصول، أمكن لأول مرة تشكيل لجنة تحقيق دولية ونشر تقرير من قبل وفد تابع للأمم المتحدة، أنيطت رئاستة بشخصية جنوب أفريقية لا يستطيع أحد من أنصار إسرائيل أن يتهمها بالانحياز للعرب أو الفلسطينيين. وصدر التقرير المنتظر يندد، بالرغم من نقائصة العديدة، بسياسة الحرب الاسرائيلية، وينتقد استخدام إسرائيل لأسلحة دمار شامل، مثل قنابل الفوسفور الأبيض والقذائف المسمارية في مناطق مأهولة بالسكان. ويبين على لسان أطباء أجانب إن الجيش الإسرائيلي استخدم قنابل دايم ضد المدنيين، منبها إلى خطورة هذه القنابل رغم أنها غير محظورة في القانون الدولي، كما يشير إلى احتمال استخدام الجيش الاسرائيلي قنابل اليورانيوم المنضب وغير المنضب. ولا يخفي التقرير ما قام به الجيش الإسرائيلي من اعتداءات على أسس الحياة المدنية في قطاع غزة، وتدميره البنية الصناعية التحتية، وشبكات الإنتاج الغذائي، ومنشآت المياه، ومعالجة مياه الصرف الصحي والسكن. وهو ما يشكل -حسب التقرير- انتهاكا للقانون الدولي، ويمكن أن يشكل جريمة حرب.
بانكشاف مثل هذه الحقائق للرأي العام، لم يكن هناك أدنى شك في أن إسرائيل كانت ستتعرض لإدانة علنية، وربما إلى ملاحقات قانونية لبعض قادتها ومسؤوليها العسكريين الذين أثبت التقرير أنهم قاموا بجرائم حرب عندما استخدموا المدنيين الفلسطينيين دروعا بشرية، وقصفوا مؤسسات يعرفون أنها تحولت إلى ملاجيء للمدنيين الفارين من القصف الهمجي، وفي مقدمها مقر الأونروا الذي كان يحوي ما بين 600 و700 مدني، ومستشفى الوفاء في مدينة غزة وتقاطع الفاخورة قرب مدرسة تابعة للأونروا في جباليا كانت تؤوي 1300 مدني.
وبالكاد يصدق الإنسان أن القيادة الفلسطينية اتخذت مثل هذا القرار الذي ستكون الخاسرة الوحيدة منه. فهو لن يعزز سلطتها المترنحة منذ وقت طويل ولكنه يوجه لها ضربة قاضية من الصعب أن تقف على رجليها بعدها. وبعكس ما اعتقد أصحاب هذا القرار، لن يدفع التبرع بإخراج إسرائيل من هذا الفخ تل أبيب إلى تليين موقفها أو التعامل بصورة أفضل مع السلطة الفلسطينية ولكنه سيزيد من استهتارها بها واحتقارها لها بقدر ما سيعزز ثقة قوى التطرف الاسرائيلية القابضة على الحكم في إسرائيل، بصحة سياساتها ونجاعتها. وقد أعلنت قيادات حماس منذ الآن أن من المستحيل عليها الجلوس مع من اتخذ هذا القرار، مما يعني أن أحد أسوأ آثاره تعطيل عملية المصالحة الوطنية الفلسطينية التي كدنا نعتقد باستحالتها قبل أن يعلن بعض المسؤولين الفلسطينيين عن قرب انعقاد مؤتمرها في القاهرة في نهاية هذا الشهر. وبقدر ما سيشجع هذا القرار المشؤوم إسرائيل على الاستمرار في سياستها التقليدية المستهترة بأي قانون، سوف يحبط جميع أولئك الذين يعملون من أجل العدالة والإنصاف في العلاقات الدولية، وفي مقدمهم المنظمات المدنية التي بذلت وتبذل جهودا استثنائية من أجل كسر جدار الصمت والحماية المحيط بإسرائيل. وقد أجهز هذا القرار منذ الآن على معنويات جميع أولئك الذين كانوا يراهنون على تفعيل القانون وتفعيل ضغط الرأي العام من أجل الدفع في اتجاه حل تفاوضي يقطع الطريق على الحرب والتطرف معا. ومما يزيد من أثر المأساة أن قادة فلسطينيين كان من المنتظر منهم أن يستغلوا مثل هذا الحدث أقصى إستغلال للضغط على إسرائيل وحرمانها من إمكانية التستر الدائم على جرائم انتهاك حقوق الفلسطينيين كانوا شركاء في جريمة قتل القانون وإجهاض التضامن العالمي مع حقوق الفلسطينيين وإحباط كل من يأمل بحل سياسي للنزاع الدموي القائم.
لا شيء يمكن أن يعوض الخسائر الكبرى الناجمة عن هذا القرار الذي حرم الشعب الفلسطيني من حقه في أن يعرف الرأي العام بمعاناته التاريخية وما يتعرض له يوميا من تنكيل واضطهاد، بمثل ما حرم الرأي العام العالمي من حقه في معرفة ما يجري في فلسطين من مصادر لا يشك أحد في احتمال انحيازها للعرب والفلسطينيين.
ماذا تستطيع تصريحات المسؤولين الفلسطينيين التي تسعى إلى التخفيف من وقع الصدمة الفضيحة بالتأكيد على أن القرار يقضي بتأجيل النقاش على التقرير ولا يعني إلغاءه؟ وفي أي مناخ سوف تحصل مناقشة التقرير في آذار مارس القادم بعد أن جاءت الضربة القاسية للدول والمنظمات المدنية المدافعة عن حقوق الفلسطينيين من الفلسطينيين أنفسهم؟ وأي جدوى لاستمرار العمل على فضح انتهاكات اسرائيل لحقوق الانسان إذا كان قادة الفلسطينيين هم أول المساهمين في تجنيب إسرائيل المساءلة وفي الاستهتار بحقوق شعبهم والتضحية بها؟ وماذا يستطيع تشكيل لجنة تحقيق أن يفعل بعد أن تم إجهاض التقرير، وانهارت الثقة بالسلطة الفلسطينية التي اتخذته، ودخلت قضية الوحدة الوطنية في أزمة جديدة حادة، وأثبتت الولايات المتحدة أيضا، بهذه المناسبة، أن أسلوبها في العمل من أجل السلام، والقائم على تأكيد حرصها على مصالح إسرائيل وإرضاء قادتها مهما كانت مطالبهم وممارساتهم، لا يعمل من أجل تحقيق تسوية عادلة تنهي النزاع الشرق أوسطي ولكنه يقود بشكل مستقيم، وهذا ما يحصل منذ سنوات، إلى تقويض ثقة الشعب الفلسطيني بقيادته وتكريس الوضع القائم الذي تريده اسرائيل لاستكمال مشروعها الاستيطاني العلني والرسم؟
ليس هناك ما يمكن أن يعيد للرأي العام الفلسطيني الثقة ويطمئن المنافحين عن حقوق الفلسطينيين في العالم العربي والخارجي معا سوى تقديم أولئك المسؤولين لاستقالاتهم وإفساح المجال أمام جيل جديد من القادة، أكثر إحساسا بمعاناة الفلسطينيين واحتراما لمشاعرهم وتفكيرهم، للحلول محلهم. فنحن لسنا هنا أمام سياسة يمكن فهمها وتبريرها وإنما أمام ما ينبغي تسميته "هارا كيري" فلسيطيني سوف يترك آثارا لا تمحى على مسار القضية الفلسطينية لأعوام عديدة قادمة. ولا تستطيع القيادة القائمة بعد الآن أن تتحدث باسم الفلسطينيين ولم تعد تملك الصدقية التي تخولها الدفاع عن حقوقهم.