لا يشك أحد في أن داعش يشكل، اليوم، تهديدا خطيرا لأكثر من جماعة وطرف، على المستويات، المحلي والإقليمي والدولي، وأنه ليس من الممكن مواجهته، ووضع حد لتهديداته، من دون تعاون عدد كبير من الأطراف، داخل المنطقة المشرقية وخارجها. لكن، من الواضح أن التركيز الكبير على خطره لم ينعكس في أي خطط جدية مشتركة لمحاربته، أو حتى لاحتواء نموه وتهديداته. ولذلك، لا يزال، على الرغم من الإجماع الدولي الذي أثاره ضده، يتمدد ويشن هجمات متوازية على أكثر من جبهة، ويشكل، أكثر من ذلك، مصدر إغراء وإغواء لآلاف الشباب، منزوعي الهوية في الشرق المعدم، وفي الغرب الغني، على حد سواء.
هل داعش منتج عربي وإسلامي؟
بخلاف ما تشيعه الصحافة والإعلام العالميان، داعش ليس منتجاً عربياً أو إسلاميا بالدرجة الأولى، حتى لو أن عربا ومسلمين هم من يملأون صفوفه، وأن شعوبهم هي التي تدفع الثمن الأفدح لانتشاره وجنونه. كما أن مشكلته لا تختصر في مسألة الإرهاب والتطرف فحسب، ولا يمكن مواجهته، كما تأمل دول التحالف الدولي، بتحييده عن جميع القضايا الأخرى، السياسية والاجتماعية والدينية والجيوسياسية.
يمد داعش جذوره في عمق المشكلات الوطنية والدولية والاجتماعية غير المحلولة، أو التي تركت تتعفن من دون حل، وهو ينمو في ثنايا وتناقضات السياسات المحلية والدولية لنظام العالم الذي ولد، بعد نهاية الحرب الباردة، وما ارتبط به من انتهاكات خطيرة، بقيت من دون رد، وقوّضت مفهوم حكم القانون، على مستوى الدول ومستوى الإقليم والمجتمع الدولي معاً، وشجعت على استسهال التضحية بالقيم والمبادئ الإنسانية المكرسة في مواثيق الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، وفي الدساتير الوطنية، في كل مكان. وكان لهذه الانتهاكات الدور الأكبر في زرع روح الكراهية والحقد والانتقام والعدمية عند أعداد كبيرة من سكان العالم، ممن فقدوا الأمل بحياة طبيعية كريمة، وعانوا من ظلم الأجهزة الأمنية، ومن استهتار الدول المجهضة، أو أشباه الدول التي تولت التحكم بشؤون الجماعات وتسييرها، بحقوقهم، وفشلها في تقديم الحد الأدنى من الأمان والاستقرار النفسي والمادي لملايين البشر، والذين وجدوا في حفنة من المغامرين والخارجين على الدين والشريعة والقانون المعول الذي يسمح لهم بالتعبير عن مشاعرهم، وهدم الهيكل بأكمله على رؤوس الجميع.
ليس هناك مثال أكثر تعبيراً عن انهيار الآمال التي علقت على نهاية الحرب الباردة، مما حصل ويحصل في سورية والمشرق. فقد رفع زوال الاستقطاب الدولي والنزاع التاريخي الذي ارتبط به بين نظامين متخاصمين، يطمحان إلى الهيمنة العالمية، من مستوى توقعات الشعوب والمجتمعات، وجعلها تعتقد أن حقبة جديدة من بسط السلام والأمن والتعاون الدولي واحترام ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي قد ولدت، وأن القضايا المعقدة التي أوجدتها الحرب الباردة، أو ساعدت على تعفنها، ومنها قضية فلسطين، لكن ليس وحدها، سوف تجد، أخيراً، الحل المناسب لها بتعاون الدول وتفاهم الشعوب.
لكن العقود الأربعة التي أعقبت انهيار جدار برلين، بحروبها ونزاعاتها وتدخل الدول الكبرى بشكل أو آخر، وما حدث في أفغانستان وإيران والعراق والبوسنة وبلدان إفريقية عديدة، من مذابح جماعية وعمليات إبادة موصوفة، وما يحدث في سورية وليبيا والمشرق عموما اليوم، ومنذ خمس سنوات، من مجازر وجرائم وصلت إلى حد استخدام الأسلحة الكيماوية، قد أسقطت كل الأوهام، وأظهرت أن ميثاق الأمم المتحدة الذي التزمت به الدول، وأقر حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق المدنيين بالحماية وبالتضامن ضد جرائم الحرب والإبادة، لم يكن سوى حبر على ورق، وأن عمليات القتل المنظم والمبرمج وعمليات التطهير القومي أو الطائفي أو الديني لم تصبح أبداً من الماضي، ولا يكاد مرتكبوها يخشون أي عقاب، بينما يقف المجتمع الدولي مكتوف اليدين، عاجزاً عن القيام بأي رد فعل عملي. هذا يعني أننا على الرغم من الضجيج الإعلامي والبيانات الدبلوماسية واللقاءات والمؤتمرات ودعوات التعاون والحفاظ على السلام والاستقرار، لا نزال نعيش في مجتمع دولي تحكمه القوة، ويكاد يعترف رسمياً بحق الفتح والغزو.
لا يمس تقويض معنى القانون والتضامن الإنساني منظومة الأمم المتحدة العاجزة وحقل العلاقات الدولية فحسب. نجد صورة أكثر سوداوية له في حقل العلاقات الإقليمية في أكثر من منطقة وقارة. وهنا، أيضاً، تبرز حالة المشرق والشرق الأوسط عموما حالة استثنائية في الاستهتار بحقوق الشعوب وأمنها واستقرارها والمحافظة على مستقبل أجيالها. ولا تكاد توجد هنا حدود لإرادة السيطرة والعمل بجميع الوسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية والدينية، من أجل كسر التوازنات القائمة وتقويض حياة المجتمعات واستقرارها، وسرقة مواردها، بما في ذلك أرضها وتراثها، إلى درجة لم تعد تخشى فيها الدول الطامحة في زيادة وزنها ونفوذها من الإفصاح عن إرادتها و"حقها" في بسط سيطرتها على هذه الدولة أو تلك، أو إلحاقها بشكل علني بها، أو محو الحدود وإعادة بناء إمبراطوريات بائدة تعود إلى (ما قبل التاريخ). كما أن الشعوب التي أملت أن نهاية الحرب الباردة سوف تخفف من الضغوط الخارجية، وتسمح بولادة موجة جديدة من التحولات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، لم تجد أمامها سوى تعزيز النظم المافيوية، والمزيد من التسلط والنهب والقهر وخرق القانون، أو تعليقه بشكل رسمي، من خلال قانون الطوارئ، وأخيراً في تنظيم حروب أهلية وبرمجة القتل المنظم وحصار التجويع والدمار الشامل الذي تقوم به أنظمةٌ، كانت تحظى بدعم الغرب وروسيا والصين، في الوقت نفسه، ولا تزال. واليوم، يقف الشرق الأوسط كله في طريق مسدود، وعلى شفا حرب طاحنة، تهدد بالقضاء على مستقبل المنطقة بأكملها، إن لم تكن قد قضت عليه بالفعل.
داعش وتقويض حكم القانون
داعش ليس ثمرة وجود آلاف الأفراد المتعطشين لسفك الدماء والخارجين على القانون في بلدانهم، والناقمين على السلام والأمن الدوليين، والمطلوب قنصهم وتصفيتهم، فحسب. إنه الابن الشرعي لتقويض حكم القانون واستسهال هدر حياة الإنسان والتضحية بالملايين لأتفه المصالح، وتمريغ كرامة البشر بالوحل، وإخضاعهم بالقوة، وإذلالهم بالعنف والاحتيال. وفي الوقت نفسه، الرد الصاعق عليه بسياسات أكثر همجية، تجعل من الهدر المسبق لحياة الإنسان، وتقويض الأمن والسلام والاستقرار في العالم، المبدأ والغاية والمصير والقانون. هذا يعني أن داعش ليس ابن الماضي، وما بقي في تراث الشعوب من قيمه البدائية، ولا ابن القرن الماضي وخبرته الاستعمارية الأليمة وحساباته المعلقة. إنه الوجه الهمجي لنظام حضارتنا القائم اليوم، وتناقضات مبادئه وممارساته، وقد تحول إلى دولة مسخ، وصار يحلم بإرساء أسس مدنية وحضارة مبدأها الاستهتار بحياة الإنسان. هو ابن الخوف والرعب الدائم الذي كتب على ملايين البشر بسبب تغول الدول الأكبر، وطمع الدول الطامحة إلى العظمة في تعزيز أمنها على حساب أمن الآخرين ووجودهم، وتجاهل مصالح وحيوات ملايين البشر الذين تركهم نظام نيوليبرالية العولمة الجديد على قارعة التاريخ، من دون أمل ولا مستقبل. إنه الانهدام الأخطر داخل (نظام العالم الجديد) الذي وعد بمستقبل زاهر، ولم يأت إلا بمزيد من الظلم والقهر والاستهتار بحقوق الناس وهدر حياتهم وحرياتهم. داعش هو الخلاصة المكثفة لسياسات الغزو والإبادة الجماعية والتهجير والحكم بقانون الطوارئ والأحكام الاستثنائية، والفساد المالي، ومراكمة الثروة وسرقة الموارد وهدرها على حساب التضامن الإنساني وحريات الأفراد وحقوقهم، والرد الوحشي عليها، في الوقت نفسه.
من الطبيعي أن يكون هذا الانهدام في الحضارة الأعنف والأعمق في الشرق الأوسط على قدر المظالم والاختلالات والتفاوت في الحقوق والمصالح والثروات وتناقض الوقائع مع الآمال والتوقعات: انهداما في الروح والعقيدة والمذهب، وانهداما في العلاقات الوطنية والاجتماعية، وفي الدولة، فكرة ومؤسسة، لصالح المليشيات المتطرفة وغير المتطرفة الدينية والقومية والعشائرية والطائفية، وفي منظومة العلاقات الإقليمية التي تحدد قواعد تعامل الدول مع بعضها في المنطقة، واحترام كل منها سيادة الأخرى، وفي علاقة المنطقة بأكملها بالمجتمع الدولي الذي انسحب تماما من المشرق، وتركه فريسة صراع القوة المجردة، وحروب الاستنزاف والموت الجماعي المبرمج. وأخيراً انهداما في منظومة حقوق الشعوب والإنسان التي أقرت المساواة والعدالة والأخوة والتضامن الانساني ضد حروب الإبادة والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات المتكررة للحق والقانون. يكفي أن نتابع ما يجري منذ سنوات في سورية وليبيا واليمن وغيرها، وما يكتب حول مصيرها وتقسيمها أو اقتسامها ومستقبل شعوبها، حتى ندرك أننا لا زلنا نعيش في القرون الوسطى، وأن "قانون" القوة المجردة والعنف البدائي وحده الذي يقرر، اليوم، وفي هذه المنطقة، مصير الأفراد والجماعات والدول والأقاليم.
لأن الحكومات المسؤولة تدرك أن داعش ليس مسألة تطرف وإرهاب فحسب، وإنما هو أكثر من ذلك، ولا يمكن مواجهته من دون معالجة الثغرات الخطيرة في بنية نظام العالم الراهن المنتج كل أشكال الهمجية، للجوع والفقر والخوف والتشرد والموت، مثل ما ينتج السلام والأمن والرفاه والرخاء، إن لم يكن أكثر، والذي يراكم من الخيرات بمقدار ما ينتج من النفايات والبؤس، النظام الذي يدعي تأسيس حكم القانون والتضامن الإنساني، ولا يتردد في فرض نفسه بالقوة المجردة والتدخلات الهمجية والاحتيال. أقول، لأنها تدرك صعوبة حل مشكلة داعش، مع الحفاظ على السياسات الفاسدة نفسها، فهي تحجم عن أي التزام جدي بمواجهة داعش، وتترك الأمر للشعوب المعدمة، بعد أن قوّضت توازناتها ومزقت نسيجها سياسات السيطرة والسطو والتهميش والابتزاز التي كلفت بها عملاءها المحليين الصغار. باختصار، إنها تتخلى عنها للإرهاب، وتحكم عليها بالحرب الدائمة والدمار والموت.
شيطنة داعش هي أفضل وسيلة لتبرير الهرب من مسؤوليات مواجهته، ورمي المسؤولية على الآخرين، أولئك الذين كانوا، ولا يزالون، ضحاياه الحقيقيين. هكذا يتحول داعش إلى خطيئة أصلية قادمة من خارج التاريخ والعالم والعقل، كعفريت خرج من قمقم الدين من دون إنذار، لا قبل لأحد ولا لدولة في مواجهته، أو حتى وضع حد لشهوة القتل التي تسكن أعضاءه. ولا يهدف التركيز المتزايد عليه كأجندة شبه وحيدة للسياسة الدولية، مع غياب أي مبادرات عملية لوقف تمدده، إلا إلى تجنيب السياسات الفاسدة التي تكمن وراء ولادته ونموه الصاعق أي نقد، وإلى الحفاظ من دون تغيير على ضيق أفق الأجندات القائمة على تعظيم المصالح القومية ومنطق الهيمنة وتراكم الثروات والمكاسب الفئوية، على جميع المستويات المحلية والوطنية، الإقليمية والعالمية، على حساب الآخرين.
داعش هو مختصر ثقافة الأنانية والعنف والقهر والإكراه ومستنقع إعادة إنتاجها في الوقت نفسه. إنه الثمرة المرة للاستقالة الجماعية والتخلي عن قيم التضامن الإنساني وهدر الحياة الإنسانية والكرامة البشرية. ليس مستغرباً بعد ذلك أن نجد بين الدول من يطالب بالتحالف مع النظم البدائية والهمجية نفسها التي كانت وراء نشوء داعش، وأحيانا خططت له، لوضع حد لتمدده، مع التأكيد على أن أحداً لا يعرف متى يمكن القضاء عليه، بل في ما إذا كان ذلك ممكناً حقاً.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/7/3/%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%AF%D8%A7%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9#sthash.CwUVLM6V.dpuf
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire