samedi, avril 05, 2014

التقرير الاستراتيجي الأول سورية في السنة الرابعة للثورة

http://sdsc.org/arabic/wp-content/pdf%20files/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B9%D8%A9.pdf




المـــركز الــــســـــوري لــدعــــم القـــرار
التقرير الاستراتيجي السوري ( 1)
أبريل نيسان 2014







سورية في السنة الرابعة للثورة:
صعوبة الحل العسكري وغياب أفق الحل السياسي.








أعده فريق من الباحثين السوريين
تحت إشراف الدكتور برهان غليون





أولاً : الوضع السياسيّ: سورية إلى أين؟
فشل الحل السياسي
بعد التقدم السياسي والميداني والدولي الثابت الذي شهدته الثورة خلال السنة الأولى، بدأت منذ منتصف عام ٢٠١٢، مرحلة اتسمت بالمراوحة في المكان. ونجح النظام خلالها في دفع الثوار، شيئا فشيئا، إلى حرب مواقع في المدن والقرى التي تحررت من سيطرته، قبل أن تبدأ مرحلة الحصار التي تعاني منها اليوم معظم مناطق الاشتباك. وارتبطت هذه التحولات بتغير عميق في طبيعة الحرب التي انتقلت من حرب داخلية يواجه فيها شعب يتوق للحريّة نظامًا مصمما على البقاء بأية وسلية، إلى حرب إقليمية، بعد أن قررت ايران أن تنخرط كليا في الحرب وتعتبر السيطرة على سورية خط الدفاع الأول عن مصالحها الاستراتيجية ونفوذها الاقليمي. وكان هذا القرار بداية تدفق الرجال والسلاح والمال من دون حدود على نظام الأسد لتعزيز مواقعه والحيلولة بأي ثمن دون سقوطه.
تقاطع هذا الخيار مع الاستراتيجية الروسية التي كانت في حالة احتجاج دائم على ما تسميه "غدر" الغرب بها في ليبيا ومن قبل في العراق. ووجدت موسكو في النزاع السوري فرصة سانحة للانتقام من الغرب وتقويض صدقيته وإجباره على التراجع أمامها والاعتراف بدورها في السياسات الدولية. وكما وجدت موسكو في الانخراط الايراني المتزايد في الحرب الداخلية السورية إلى جانب النظام عوناً لها في تحقيق أهدافها، وجدت طهران في موسكو التي تملك حق النقض في مجلس الأمن ضالتها المنشودة لحماية تدخلها في سورية ومنع أي تحرك دولي يعرقل خططها أو يحد من قدرتها على تنفيذ سياستها الرامية إلى جعل سورية خط الدفاع الأول عن الجمهورية الاسلامية الايرانية.
كل ذلك رفع من مستوى التحدي الذي يواجهه الغربيون - في ما إذا قرروا، أو قرر بعضهم، التدخل بشكل أو آخر لدعم الثورة أو مد يد العون السياسي والعسكري لها - وقطع الطريق على أي عمل منسق بينهم من النوع الذي شهدته ليبيا بمبادرة وضغط من فرنسا.

والواقع أن الغرب الذي مكن لحكم النظام القائم، وراهن عليه لضبط "تمرد" الشعب السوري، وإجهاض تطلعاته التحررية المعادية للغرب والمؤيدة لفلسطين وحركات الاستقلال في المنطقة في الخمسينيات والستينيات، وغض النظر عن العنف غير المسبوق الذي استخدمه الرئيس السابق حافظ الأسد، وجميع المشاركين من عائلته معه في الحكم، لم يكن لديه حافز كبير ولا مصالح استثنائية لدعم الثورة السوريّة. بل بدا في بعض الأحيان أنه كان يخشى من انتصارها أكثر مما يخاف من بقاء النظام، ويأمل بشكل أكبر أن يؤول الأمر إلى تغيير، متفاوض عليه، من داخل النظام، وبالتعاون مع الأسد نفسه، كما يشير إلى ذلك الوسطاء الكثر الذين ترددوا على دمشق في الأشهر الأولى للثورة لإقناع النظام بتعديلات دستورية وسياسية توقف حركة الاحتجاج المتنامية، وعلى رأسهم أمير قطر ووزير الخارجية التركية والعديد من المبعوثين الغربيين، حتى أن داوود اوغلو قدم للأسد مسودة لدستور معدل يقدمه النظام نفسه للشعب.
لكن الأسد رفض أي مشروع تغيير، واعتبره مغامرة بالنسبة لما كان يسميه الخصوصية السورية، واضطر جميع أصدقائه وناصحيه، من القطريين والأتراك والسعوديين والفرنسيين والبريطانيين إلى التخلي عنه، خوفا من التورط في التغطية على سياسة مضمونها الوحيد العنف والقتل المنهجي والجرائم ضد الانسانية وخراب البلاد.
لم يكن بإمكان الرئيس الحالي أن يتخلص من الاعتقاد الذي مارسه من قبله نظام والده خلال عقود، وهو أن أي تنازل ولو كان بسيطا للشعب سيقود إلى تنازلات أكبر، ويهدد بالتالي بنية نظامه القائمة على الاحتكار اللامحدود للسلطة والثروة وكل موارد القوة والنفوذ في جميع أنحاء سورية وعلى جميع المستويات. وقد كان الخطاب الاول للأسد في ٣٠ آذار مارس ٢٠١١ واضحاً تماماً في ذلك عندما قال إنه جاهز للمواجهة إذا كانوا جاهزين، ويقصد الشعب الذي اعتبره منذ تلك اللحظة عدواً ، واعتبر ثورته مؤامرة أجنبية.

ما ميز السياسة الغربية، وعلى رأسها سياسة الولايات المتحدة، في مقابل الانخراط الواسع والعلني لروسيا وايران في دعم نظام الأسد والمشاركة في الدفاع عنه بالرجال والسلاح، هو الابتعاد عن المواجهة المباشرة، والاكتفاء بالضغوط الاقتصادية والسياسية، بانتظار أن تؤدي تضحيات السوريين وأخطاء النظام إلى تفكك هذا الأخير من داخله أو حصول إنشقاقات فيه تفتح باب التفاوض على تسوية ترضي جميع السوريين وتضمن مصالح الدول جميعا.
هذه هي السياسة التي سمحت بالتوصل إلى اتفاق جنيف1 في 30 حزيران/ يونيو 2014، الذي أصبح منذ ذلك الوقت محور جميع المبادرات السياسية المتعلقة بوقف الحرب السورية، وقادت إلى إصدار القرار ٢١١٨ الذي كرس التفاهم الروسي الأمريكي، وكرس واقع استحالة أي حسم عسكري في سورية وحتمية الحل السياسي.

ما بعد جنيف 2: الأزمة المفتوحة
كان مؤتمر جنيف٢ صدمة قوية ومصدر خيبة أمل كبيرة للحكومات الغربية التي راهنت على تعاون روسيا في دفع النظام السوري إلى القبول بالانخراط في مفاوضات جدية تقود إلى تسوية تضمن مصالح الجميع. لكن روسيا التي أدركت غياب الخيارات الغربية في سورية، وضعف الحوافز للتدخل لصالح الشعب السوري وتلبية تطلعاته السياسية والأخلاقية، قلبت للغرب ظهر المجن، وتحللت من التزاماتها المسجلة في قرار مجلس الأمن ٢١١٨. وهذا ما بدا واضحا في آخر لقاء ( أواخركانون٢ جنفييه ٢١١٤ ) جمع بين جولتي المفاوضات وفد الإئتلاف الوطني بوزير الخارجية الروسية لافروف الذي لم يتردد في التعبير عن اعتقاده بان التوصل إلى اتفاق حول هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات من الأمور المستحيلة، نظرا للخلافات العميقة بين المعارضة والنظام، كما ذكر، وأن من الأفضل في نظره تشكيل لجان فرعية لنقاش نقاط تفصيلية دون التطرق إلى مسألة الانتقال السياسي. كان هذا التصريح صدمة للمعارضة، مكنتها من استباق نتائج مؤتمر جنيف٢، والتأكد من انعدام أي أمل في الخروج منه بشيء. لكن هذا لم يمنع المعارضة من الذهاب إلى مونترو، المدينة السويسرية التي افتتح فيها مؤتمر جنيف٢، بعد أن استقر رأي الأغلبية، وبعد نقاش طويل، على أن المشاركة في هذا المؤتمر وإظهار خوائه من أي مضمون هو الطريق الوحيد لتحرير الرأي العام الدولي من الأوهام التي نمت من حوله، وسمحت بإعطاء النظام المزيد من الوقت لمواصلة قتل الشعب السوري، وإعادة وضع الدول أمام مسؤولياتها والدفع في اتجاه سياسات عملية ومبادرات جديدة.
كما كان منتظرا، رفض وفد النظام الدخول في أي مفاوضات، واستمر خلال ثلاثة أسابيع متواصلة يكرر رفضه لجدول الأعمال الذي طرحه الوسيط المشترك، الأخضر الابراهيمي، ومطالبته بجدول أعمال يلبي رغبته في القفز على قضية الانتقال السياسي التي هي جوهر قرار مجلس الأمن الذي كان أساس الاتفاق على عقد مؤتمر جنيف، ومرجعتيه الرئيسية.

وتدل المشاروات التي قام بها الأخضر الابراهيمي في الأسابيع التي تلت فشل مؤتمر جنيف2 مع الدول المعنية، والتصريحات التي أدلى بها على أنه لم يعد هناك توافق دولي كاف للتوصل إلى اتفاق للعودة إلى جولة ثالثة للمؤتمر. ما يعني أن الحل السياسي لم يعد ممكنا في الشروط الراهنة، وأن الأمر أصبح مؤجلا إلى أجل غير معلوم. يمكن القول أن أهم ما أنجزه فشل مؤتمر جنيف٢ هو:
أولاً: كشفه عن خواء مؤتمر جنيف2 الذي لم يكن في الواقع إلا ورقة توت سعت الولايات المتحدة من خلالها إلى التغطية على عدم مبالاتها بالملف السوري، وروسيا وحليفها الايراني إلى التشويش على انخراطهما المتزايد في الحرب، وساعدهما على كسب الوقت لتمكين النظام من استنزاف قوى الثورة ومقاتليها ومحاصرتهم وتدمير الحاضنة الشعبية لهم بالقصف العشوائي على المدن والأحياء الآمنة وإجبار السكان على الهجرة والنزوح.
وثانيا: إظهاره بشكل ملموس غياب أي خيارات أو مبادرات عربية أو دولية بديلة لمواجهة تطرف النظام وتعنت روسية وايران واستفرادهم جميعا بالشعب السوري المنكوب.
امام هذا الفراغ، وانكشاف الأدوار المختلفة للأطراف الدولية، وضعف الأداء العربي، كان من الطبيعي أن تعيش الثورة فترة أزمة استراتيجية مفتوحة ومتعددة الجوانب، سياسية وعسكرية تضاف إلى الأزمة الإنسانية التي يزيد من تفاقمها كل يوم طوفان الدم النازف والخراب والتهجير الجماعي للسوريين، ودفع المزيد منهم للتشرد وأماكن اللجوء والمنافي.
في مناخ هذه الأزمة بدأ تآكل الثقة المتبادلة داخل صفوف قوى الثورة والمعارضة وبينها وقطاعات الرأي العام المؤيد والمتطلع إلى التغيير. ومع تنامي الشعور بتباعد أفق الحل الشامل وعجز المعارضة عن فرض تسوية سياسية عامة، ولدت عند العديد من مجموعات المقاتلين، المحاصرين منذ أشهر طويلة، تكتيكات جديدة للبحث عن مخارج جزئية ومؤقتة. وهذا ما أكده التوقيع على الهدن والمصالحات المناطقية التي تعددت في الأشهر الماضية.
على هامش هذه الأزمة أيضا، بدأ يتعاظم وزن القوى الرديكالية والتكفيرية المغالية على حساب قوى الثورة ومقاتليها. وفيها أيضا نمت المطامع الشخصية التي دفعت بالكثير من القيادات السياسية والعسكرية إلى التحول إلى أمراء حرب أو إقطاعيي سياسة، بعد تجيير المؤسسات والمواقع والموارد العامة التي تخضع لإشرافهم لحسابهم الخاص، وجعلهم من مراكز نفوذهم قاعدة لتطوير مشاريعهم الخاصة.

هكذا يجد السوريون أنفسهم اليوم، بعد ثلاث سنوات من المعاناة والكفاح المر، أمام الحقيقة العارية، وهي أنهم بالرغم مما يتلقونه من مساعدات، يحاربون وحدهم، وهم المعنيون بايجاد وسائل تحررهم، وعليهم وحدهم يقع عبء التفكير في سبل الخلاص من نظام يستخدم جميع وسائل الارهاب، وفي مقدمها التدمير والتجويع للمدنيين، للضغط على الشعب والمجتمع، وتحقيق أهدافه واثقا، بعد ثلاث سنوات من حربه الدموية.

استعادة المبادرة:
بعكس ما خطط له وراهن عليه نظام الأسد، لم تفض سياسات القتل والتدمير والارهاب إلى استسلام قوى الثورة والمعارضة، ولا دفعت الشعب إلى الانقلاب على الثورة. لقد زادت من اقتناع السوريين بحتمية إكمال المعركة لإسقاط النظام. وتبخر الأمل بإمكانية التوصل إلى حل سياسي مع تشبث ايران وروسية بمواقفهما المؤيدة لبقاء الأسد وتجديد انتخابه، واستمرار تورط رجالاته في جرائم الإبادة الجماعية. ومن لم تكن هناك إمكانية للتوصل معهم إلى حل سياسي قبل سنتين أو ثلاثة، حين لم يكونوا قد غرقوا في دماء ضحاياهم، وكانت الثورة في أقوى حالاتها المدنية والعسكرية، لن يمكن اقناعهم بالجلوس على مائدة مفاوضات تفضي إلى حل للأزمة يعرفون أنه سيفرض عليهم التخلي عن مواقعهم إن لم يفتح باب محاسبتهم أمام المحاكم الوطنية أو الدولية.

بعد ثلاث سنوات من القتال تكشفت فيها مواقف الدول وتبلورت رؤاها لمصالحها، ولد اعتقاد عميق عند الجميع بأن أي خطة للتخلص من نظام الأسد لن تكون ناجعة إذا اختصرت رهاناتها على التعلق بوهم الحسم العسكري، أو تعديل ميزان القوى على الأرض وحده. ولن تكون هناك فرصة امام الشعب السوري لتحقيق أهدافه إلا من خلال بلورة استراتيجية متعددة الجوانب، عسكرية من دون شك، لكن سياسية وإعلامية ودولية أيضا من أجل دفع النظام القائم إلى التفاوض على رحيله أو اختيار طريق التفكك والانهيار. وفي الحالتين تستدعي حماية مصالح الثورة والاستمرار في الدفاع عن المباديء التي قامت من أجلها وتقريب أجل الخلاص العمل بالتوازي على خمسة محاور رئيسية :
المحور الأول، عسكري: يهدف إلى استعادة المبادرة على الأرض و إعادة بناء القوى المقاتلة للثورة على ضوء المهام الجديدة، والانتقال بها من قوى مقاومة شعبية إلى قوات عسكرية منظمة، وتزويدها بالاسلحة اللازمة لتجاوز سياسة رد الفعل والدفاع عن النفس في المواقع المحاصرة إلى سياسة هجومية تمكن المقاتلين من تعقب قوى النظام وحلفائه ومن توجيه ضربات قوية وحاسمة لها تعيدها إلى خط الدفاع والتراجع في أمد منظور
المحور الثاني، سياسي: جوهره استعادة الحاضنة الشعبية إلى جانب الثورة، وإعادة التواصل والتناغم مع جماهير الثورة والشعب عموما، وعزل الطغمة الحاكمة وحصارها، وطمأنة قطاعات الرأي العام التي بقيت بعيدة أو مبتعدة على مستقبلها، بإعادة التذكير بمباديء الثورة وأهدافها، وتمسك السوريين بوحدة سورية واستقلالها والمساواة بين جميع أبنائها، واحترام جميع الهويات الثقافية والدينية والقومية الصغيرة والكبيرة التي تعيش على أرضها.
المحور الثالث،اجتماعي: يستدعي من المعارضة أن تأخذ بيدها وبجدية قضية تخفيف معاناة السوريين المنكوبين ومعالجة نتائج التدمير المنهجي للمجتمع، ومتابعة أوضاع السوريين وتسيير شؤونهم وايجاد الحلول لمشكاكلهم الجديدة الناجمة عن انهيار الدولة ومؤسساتها والتشرد واللجوء في المخيمات، و بالانخراط بشكل أكبر في عمليات الإغاثة وإدراة الجهد التطوعي والحث عليه في داخل سورية وخارجها بين المشردين والمهجرين والمغتربين.
المحور الرابع، دبلوماسي: يعنى بإعادة بناء حقل علاقات الثورة الدولية وتفعيلها.
المحور الخامس، إعلامي وثقافي: يهدف إلى معارضة حملات النظام الدعائية والنفسية التي يسعى من خلالها إلى تخويف قطاعات واسعة من الرأي العام، وفضح سياسات النظام وأهدافه وتزويد الصحافة والاعلام والرأي العام العالمي بمعلومات منتظمة وصحيحة عن عمق المأساة السورية، وتوسيع دائرة الوعي بمعاناة الشعب وعدالة قضيته، وتعبئة الجمهور السوري والعربي، في العالم العربي والمهجر، لدعم كفاح السوريين من اجل الحرية والكرامة والسلام.
يترتب على ذلك مهام كبيرة ومتعددة ومعقدة ينبغي على قوى الثورة والمعارضة أن تطرحها وتفكر فيها بتأن وعمق. وأن تعيد النظر في منهج عملها، وتبادر إلى إصلاح المؤسسات الثلاث الرئيسية التي تملكها قوى الثورة والمعارضة لإعادة تاهيل نفسها وتنظيم قواها وترتيب أوضاعها، وهي : الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وهيئة أركان الجيش الحر، والحكومة المؤقتة.

إصلاح الإئتلاف:
يشكل إصلاح الائتلاف من حيث هو أو ينبغي أن يكون الإطار الجامع، ومركز القيادة السياسية، بما تعنيه وتشمله من مهام التفكير والتصميم والمبادرة وحشد الجهود وتعبئة الطاقات وتوحيدها، المدخل لتحقيق الاصلاح في المؤسسات الأخرى التي ترجع له، وفي إنشاء مؤسسات جديدة عندما تتطلب الحاجة.ويتطلب هذا الاصلاح لعمل الإئتلاف الذي تدهورت صورته عند الرأي العام بسبب ضعف أدائه، قبل أي شيء آخر، تحولات عميقة في أساليب عمل المسؤولين فيه، وطرق إدارتهم، وصيغ تنظيمهم، وحشد طاقات الأعضاء وجهودهم. لكن يتطلب أيضا، وقبل أي شيء آخر، النظر إلى الاصلاحات المنشودة كجزء من مشروع كبير لاستعادة الانغراس في الأرض السورية والارتباط بشعب حرم من أي قيادة أو تنظيم، و لتجديد روح الثورة وقواها، وإعادتها إلى قيمها ومبادئها الاصلية. وهو ما يحتاج إلى تغيير في توجهات القادة، وطريقة فهمهم لمهامهم وتواصلهم مع جمهور الثورة والشعب السوري بكل أطيافه وتكويناته.

من هنا لا يمكن لإصلاح عمل الائتلاف أن يختصر في تغيير النظام الداخلي الحالي، الذي وضع بالفعل لتعزيز منصبي الرئاسة والأمانة العامة، وتأمين قاعدة الولاء اللازمة لهما، على حساب مشاركة الأعضاء وتفعيل طاقاتهم. ينبغي الذهاب إلى ماوراء ذلك و إعادة تحديد موقع الإئتلاف ودوره في الثورة ككل، وتحويله من واجهة لتوفير دعم القوى الحليفة العربية والأجنبية، والموازنة بين اجنداتها، إلى مركز قيادة حقيقي يعمل على تجميع القوى وحشد الجهود وإدارة النشاطات المتعددة التي تتطور في حضن الثورة وتشكل ديناميكياتها الرئيسية، عسكرية كانت أم سياسية أم ثقافية أم اجتماعية أم إعلامية. مما يعني زج الإئتلاف وأعضائه في الممارسة العملية اليومية، وإخراجه من مناخ العطالة والاجتماعات المرسلة والمناقشات النظرية العقيمة، ومنطق المحاصصات السياسية والمناكفات الشخصية، وتطعيمه بالخبرات والعناصر الديناميكية الجديدة، والعمل بأسرع وقت على وضع خطة وبرنامج عمل يحدد الاهداف ويدرس سبل الوصول إليها وتأمين وسائل تحقيقها، ويعين المهام العامة والمرحلية المطلوبة، وتوزيعها على مؤسسات الإئتلاف، وأخيرا، العمل على تطوير آليات واضحة لاتخاذ القرارات على جميع المستويات، وتشكيل اطر للمتابعة، والمساءلة والمحاسبة.

فالمطلوب ليس عملية إصلاح تزيينية، وإنما تجاوز أساليب العمل والتوجهات وأشكال التنظيم التي لم تكن مفيدة إلا في هدر الطاقات البشرية والوقت والأرصدة السياسية، وتحويل الإئتلاف إلى منظمة فاعلة في خدمة الثورة، أي إلى خلية عمل ومناقشات سياسية ونظرية قادرة على مواجهة التحديات وإطلاق مبادرات واقتراحات لحل المشاكل القائمة، وتأطير الطاقات السورية في الداخل والمهجر، وتنظيم النشاطات العديدة.
من دون ذلك لن يكون بإمكان الإئتلاف القيام بالأعباء الكبرى الملقاة على عاتقه، والذي أخفق فيها حتى الآن بسبب تجاهله لمهامه وانشغاله بأوضاعه الداخلية والتنظيمية. وهي مهام أساسية لا يستطيع أي طرف آخر أن يقوم بها مادام الائتلاف هو الطرف الوحيد الذي يملك سمة الشرعية والحديث باسم الثورة والمعارضة في المحافل الدولية. فعلى عاتق الإئتلاف تقع مهمة وضع الخطط العامة ومتابعة تنفيذها، والتنسيق بين عمل مؤسسات الثورة المختلفة، وفي مقدمها هيئة الأركان والحكومة المؤقتة، ومناقشة خطط الحكومة وسياساتها، ومتابعة عمل هيئة الأركان ورفدها بالوسائل والموارد التي تمكنها من تحقيق أهدافها وأداء مهامها واليوم معالجة الوضع المزري للكتائب وتشتتها ونقص تسليحها وتدريبها وتموينها .
وبالمثل، على عاتق الائتلاف تقع مسؤوليات تطوير علاقات الثورة الدولية، سواء ما تعلق منها بتأمين المساعدات أو بتأمين التواصل مع الدول الأجنبية والعمل على تعديل مواقف حكوماتها، أو بوضع الخطط الدبلوماسية التي يستبق بها قرارات الدول ويؤثر في سياساتها، وتعيين السفراء والمبعوثين وتلقي تقاريرهم ومناقشة خطط عملهم ومساءلتهم. وعليه يقع عبء تنسيق علاقات الثورة مع المنظمات الدولية التي تتولى اليوم القسم الأكبر من توزيع المساعدات على الشعب المحتاج، وهو الذي يفترض به أن يراقب عملها ويساعدها على القيام بواجباتها.
ولا بد أيضا من تطوير عمل الإئتلاف في مجال الارشفة وحفظ ذاكرة الثورة وأسرارهما، وإنشاء بنك معلومات يساهم في تغذية آليات اتخاذ القرارات وتطويرها. ولا بد أخيراً من تحديث أجهزته الإعلامية وتجديد رسائله اليومية والدائمة التي يبثها إلى فئات الشعب المختلفة والعالم، ومن أن يستفيد من خدمات مكاتب العلاقات الخارجية" البي آر" التي وظفت من قبل بعض مؤيديه، والتي تفتقر لمن يتابع عملها ويوجهها، بل أقل من ذلك لمعرفة ما ذا تفعل وفي ما إذا كانت تقوم بالفعل بالحد الأدنى من التزاماتها.

كل ذلك يتطلب توفر إرادة حقيقية وقوية لتثوير عمل الإئتلاف من أجل الانخراط بشكل حقيقي في العملية الثورية، والتجرؤ على تحمل المسؤولية والاعتراف على المهام وتوزيع المسؤوليات، وبالتالي القبول بالمشقة بدل الاكتفاء باجتماعات متقطعة وقرارات لا تلزم أحدا ولا يشعر أحد بأنها تستحق المتابعة.
والحال، وللأسف، لا تزال هناك كما يبدو مقاومة كبيرة لإخراج الإئتلاف من مناخ التسيب الذي اعتاد عليه، ووضعه على سكة الاصلاح بالسرعة المطلوبة. وهذا ما يفسر إلغاء قادة الإئتلاف لاجتماع يوم 22 أذار/ مارس 2014 الذي كانت الهيئة السياسية ذاتها قد أقرته في جلستها يوم 13 أذار/ مارس 2014، لمناقشة خطة عمل الإئتلاف ووضع برنامج عمله لمرحلة ما بعد مؤتمر جنيف، وللأشهر القليلة القادمة التي يمكن أن تكون أشهرا حاسمة.
وبالتنسيق بين نشاطات الإئتلاف الذي يتولى القيادة السياسية وحشد الطاقات وتجميع القوى وتنظيم العلاقات الدولية، ونشاط هيئة الأركان التي يقع على كاهلها عبء إعادة تأهيل وتدريب وتنظيم وتسليح الجيش الحر والكتائب المقاتلة لاستعادة المبادرة على الأرض، ونشاط الحكومة المؤقتة الذي ينصب على مساعدة الحاضنة الشعبية على المقاومة وتأمين شروط اعادة الحياة للمناطق شبه المحررة وتقديم الخدمات الأساسية للشعب، تستطيع الثورة أن تؤمن القوى وتخلق الفرص التي تمكنها من منع النظام من تحقيق أهدافه وحرمانه من الحسم العسكري، واستنزافه، وإجباره على القبول بحل سياسي يقوم على الانتقال السياسي نحو نظام جديد ديمقراطي، يتفق مع هدف قرار مجلس الامن 2118، ويؤسس لدولة الحق والقانون والمواطنة المتساوية وإلغاء كل أشكال التمييز والأقصاء والتهميش.

ثانيًا: التطورات الميدانيّة: اختراقات للنظام ونجاحات هامة للمعارضّة
إثر انتهاء الجولة الثانيّة من جنيف 2 دون تحقيق اختراقات سياسيّة أو نتائج جديّة، وعجز الدول الراعيّة عن إعادة بث الروح فيه من جديد على الرغم من حرصها على عدم إعلان فشله، وبعد مجموعة من التغيرات في مشهد النظام الإقليمي، وخاصة الأزمة المستمرة في مصر والخلاف الخليجي الخليجي، والتغيرات في المشهد الدولي كانفجار أزمة أوكرانيا، وانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، تراجع الاهتمام الدوليّ والإقليمي سياسيًا وإعلاميًا بالملف السوريّ. لقد أوضح جنيف 2 كما ذكرنا سابقًا لامبالاة الغرب، وعدم تحمسهم واندفاعهم لتغيير مقاربتهم للأزمة السوريّة إذ لم يترتب على سلوك النظام المعطل للتسوية السياسية والعملية التفاوضيّة أية إجراءات رادعة ضده، أو أي جهد دبلوماسي أو سياسي للضغط على حلفائه لإجباره على الالتزام بأهداف العملية التفاوضية أو جدول الأعمال المقترح من قبل الوسيط الدوليّ الأخضر الابراهيميّ.

وفي ظل الواقع السابق، أضحت الأزمة السوريّة بدون " عنوان سياسي" لحلها، وبدون آفق في المدى المنظور، وبدت في مشهدها العام وكأنها صراع طويل تحاول الأطراف الخارجية الفاعلة أن تنأى بنفسها عنه ولكن مع حصره في نطاقه الجغرافي. وجد النظام وحلفاءه في المعطيات السابقة فرصة لتصعيد الحملة العسكريّة ضد قوات المعارضة في مناطق يعتبرها حيويّة واستراتيجية بالنسبة له كالقلمون، وريف حمص الغربي، وأحياء دمشق الجنوبيّة، وقد نجح في تحقيق اختراقات هامة. أما الفصائل المسلحة المعارضة، فقد توافرت لديها قناعة تتمثل في أن مواجهة تقدم قوات النظام لم يعد ممكناً إلا بتحالفات عسكرية جديدة، وبفتح جبهات مؤلمة للنظام كجبهة الساحل. وقد تمكنت فصائل المعارضة من إحراز نجاحات هامة كان لها أثر كبير في إعادة التوازن نسبياً مع قوات النظام في مناطق مختلف لاسيما في الشمال وفي ريف حماه الشماليّ.
ويمكن تلخيص أبزر التطورات الميدانيّة خلال شهر أذار/ مارس 2014 وفق الآتي:

النظام يحسم الجولة الثانيّة في القلمون ويتجهز للثالثة:
بعد عمليات عسكرية استمرت ما يقارب 30 يومًا نجحت قوات النظام السوريّ، بالاشتراك مع وحدات من حزب الله اللبناني وميليشيات عراقيّة أخرى، من دخول مدينة يبرود، وانسحبت فصائل المعارضّة المسلحة وجبهة النصرة منها. وكان هذا انجازا كبيرًا للنظام للأهمية الاستراتيجيّة للمدينة بالنسبة للصراع العسكري في القلمون.
قسم النظام معركة القلمون إلى أربع مرحل الأولى: ونجح خلالها في إحكام سيطرته على بلدة قارة و المدن والبلدات ( النبك، دير عطية، معلولا) المحاذية للطريق الدولية دمشق حلب، والتي تشكل الممر الرئيس لامدادات قواتها المتجهة من المنطقة الجنوبية ودمشق إلى المنطقة الوسطى والشماليّة. أما المرحلة الثانية، فبدأت في أواخر شهر شباط/ فبراير 2014 للسيطرة على يبرود والقرى المحيطة فيها ولاسيما قرية السحل وريما. وعلى الرغم من قربها من الطريق الدوليّة، إلا أن يبرود لم تكن تشكل خطرًا كبيرًا على استراتيجية النظام الراميّة إلى تأمين الطريق الدولية بالدرجة الأولى.
وبخلاف النظام، كانت معركة يبرود تمثل هدفاً استراتيجياً ملحاً بالنسبة لحزب الله لأسباب عدة أبزرها: قربها من الحدود اللبنانية ولاسيما قرية عرسال والتي تمثل المعبر الرئيس لإمدادت المعارضة. إذ يرى حزب الله أن يبرود تشكل بيئة حاضنة لما يسميهم " الجهاديين" و"التكفيريين" الذين يرسلون المفخخات عبر عرسال إلى مناطق مؤيدة له، ويطلقون الصواريخ على القرى اللبنانية " الشيعية" في البقاعين الاوسط والشماليّ.

وقد أبدت الأوساط الإعلامية والسياسية التابعة لحزب الله أو القريبة منه اهتمامًا كبيراً بمعركة يبرود، ووصفتها بأنها " معركة تخص حزب الله دون سواه". وفي سبيل ذلك، حشد الحزب نحو ألفي متطوع من اللبنانيين الشيعة لمساندة قوات النخبة المتمركزة أصلاً في بعض قمم وهضبات جبال القلمون على طرفي الحدود. وقد تولى هؤلاء الدور الرئيس في عملية اقتحام المدينة في حين بقي دور قوات النظام مساندًا عبر القصف الجوي والقصف المدفعي البعيد، واقتحام المحاور البعيدة.
نجحت المعارضة المسلحة في الصمود لفترة طويلة، وألحقت خسائر بشريّة ومادية كبيرة بحزب الله فاقت توقعاته. ولعل أبرز مقومات صمود كتائب المعارضة هو توافر الذخيرة والتي جرى اغتنامها سابقة من مستودعات مهين، إضافة إلى تنظمها في غرفة عمليات واحدة. لكن اشتداد القصف خلال الأيام الأخيرة من المعركة، وانسحاب بعض الكتائب المكلفة بتأمين تلة مارمارون أحدث ثغرة تمكنت خلالها قوات النظام وحزب الله من دخول المدينة قبل ان يتخذ القرار بالانسحاب الكامل من المدينة والتحصن في جيوب قريبة منها ما تزال تقوم بعمليات متفرقة من دون فتح جبهة واضحة. وبعد خمود المعارك في يبرود، شنت قوات النظام هجومًا سريعا تمكنت خلاله من السيطرة على قرى رأس المعرة وفليطة لتنهي بذلك المرحلة الثانية من معركة القلمون.


وعلى الرغم من رجحان كفة الموازين لصالح النظام، فإن حسم المعركة في القلمون لن يكون قريباً. ويتطلب جولتين إضافيتين؛ أولاها في مثلث (عسال الورد، ورنكوس، والزبداني)، وأخرى في ريف حمص. وبعد ذلك، يتطلب الأمر جولةً إضافية داخل الأراضي اللبنانيّة؛ أي في عرسال، وفي بعض قرى البقاعين الأوسط والشمالي.

لقد أوضحت معركة يبرود غياب دور الائتلاف وعجزه عن توفير مقدرات الصمود، إذ طغت الخلافات البينية داخل الائتلاف على التفكير الاستراتيجي والعملياتي. وعلى الرغم من أن حزب الله والنظام تجهزا لخوض المعركة قبل بدئها بأشهر، وحشدوا وجيشوا لها، فإن الائتلاف لم يتنبه إليها إلا في الأيام الأخيرة عندما كانت قوات حزب الله والنظام على مشارف المدينة. كما بينت معركة يبرود ايضًا عدم جدوى التسلح الاعتباطي العشوائي، فقد قارب عدد المقاتلين في يبرود نحو 5000 مقاتل من ألوية مختلفة " لواء القصير، القادسية، جيش الإسلام.. الخ" لكن عندما حصلت المواجهة عن قرب انسحب معظمهم إلى رنكوس وعرسال، ولم يبق إلا نحو 500 مقاتل، غالبيتهم من فصائل إسلامية وجهاديّة.

إن نجاح حزب الله في حسم معركة القلمون لصالحه بعد جولات أخرى متوقعة سوف يمنحه السيطرة والتحكم بالشريط الحدودي مع لبنان بشكل شبه كامل. ومن شأن ذلك، إغلاق جميع المعابر غير الشرعية مع لبنان وعددها يقارب 17 معبرًا وبالتالي انقطاع الإمدادات العسكرية والإغاثية عن مناطق هامة بالنسبة للثورة لاسيما الغوطة الشرقية، وريف حمص الغربي والجنوبيّ.
لا بديل عن استراتيجية عسكريّة موحدة تترجم بدايّة بتشكيل غرفة عمليات تضم مختلف مناطق القلمون وليس منطقة بذاتها. فالتصدي المناطقي لهجمات النظام وحزب الله كان بمنزلة " المقتل" لقوات المعارضة، وساهمت في "سقوط المناطق" واحدة تلو الأخرى دون التنبه إلى ضرورة وضع مثل هذه الاستراتيجيّة.

إعادة التوازن في الشمال:
حلب
في مطلع العام الحاليّ، بدأت مواجهة عسكريّة ما تزال مستمرة حتى الآن بين كتائب الجيش الحر والفصائل الإسلامية، وجبهة النصرة من جهة، وبين تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام ( داعش). وعلى الرغم من الانجازات التي تحققت بطرد داعش من أغلب مناطق ريف حماه، وادلب، وحلب وريفها باستثناء الريف الشرقيّ، ودير الزور وريفها، فإن هذه المواجهة أرهقت الكتائب وألحقت بها خسائر مادية كبيرة، وبشريّة. وجد النظام في المواجهة مع داعش فرصة لتغيير موازين القوى في الشمال ولاسيما في مدينة حلب لصالحه لاسيما وأنه نجح أواخر عام 2013 في إعادة فتح الطريق الوحيد بين حلب والمنطقة الوسطى عبر خناصر.
تمكن النظام من تحقيق اختراقات هامة في جبهات المدينة ولاسيما في جبهة النقارين، والشيخ نجار، والمنطقة الصناعيّة مستفيدًا من انسحاب داعش منها، وعجز الكتائب عن سد الفراغ العسكريّ أنذاك. وفي ظل تقدم قوات النظام، أضحت مدينة حلب مهددة بالسقوط، أو على الإقل بالحصار.
ولتدارك هذا الواقع، أعلنت أقوى الفصائل العاملة في الشمال في اندماجها في غرفة عمليات واحدة ( 26 شباط/ فبراير 2013) سميت " الغرفة المشتركة لأهل الشام في حلب وريفها وضمت كل من الجبهة الإسلاميّة، وجيش المجاهدين، وجبهة النصرة. وعلى الرغم من توقف الدعم الخارجي لهذه الغرفة على خلفية مشاركة جبهة النصرة بشكل معلن فيها، فإن الكتائب استطاعت استعادة زمام المبادرة من قوات النظام بسلسلة من العمليات النوعيّة داخل مدينة حلب وريفها لاسيما في جبهة النقارين، والشيخ نجار، والمنطقة الصناعية بشكل سد الثغرة القائمة هناك. كما نجحت هذه الفصائل في 21 أذار/ مارس 2013 من السيطرة على جبل شويحنة أحد ابرز مواقع النظام الاستراتيجية المطلة على المدينة، وخط الدفاع الأول للمدفعية المتركزة في حي الزهراء.



خان شيخون ومورك:
بموازة التطورات في حلب، شهدت المنطق الواصلة بين ريف ادلب الجنوبي، وريف حماه الشماليّ تطورات هامة جدًا قد تحدث في حال المحافظة عليها تغيرات نوعيّة في موازين القوى ومسار الصراع في الشمال. فمنذ أواخر شهر شباط/ فبراير 2014، بدأت كتائب الجيش الحر بالتعاون مع فصائل إسلامية، ولاسيما لواء الإيمان التابع لحركة أحرار الشام، وجبهة النصرة، سلسلة من الهجمات العسكريّة واستهدفت الحواجز المحيطة في خان شيخون. وتمكن مقاتلوا المعارضة من السيطرة على 12 حاجزا هي ( المعرزافي، الغدير، السيرتيل، تجمع النمر، زمزم، الفقير، حاجز الجسر، المدرسة، ، طارق عجيب، الفنان، وبناية قدور، والخزنات)، ولم يبق للنظام سوى اربعة حواجز هي ابو صليا، وابو علاء، والمداجن، والتلاوي.

تأتي أهميّة خان شيخون من كونها أكبر المدن التي يسيطر عليها النظام في ريف ادلب الجنوبي والمحاذية تمامًا للطريق الدوليّة دمشق حلب. وتعد نقطة تجمع وانطلاق لعملياته في ريف ادلب وريف حماة الشماليّ لاسيما وأنها قريبة من معسكريّ وادي والحامديّة. وتمنح السيطرة على خان شيخون للمعارضة حرية الحركة ابتداءً من الشمال وصولاً إلى مشارف مدينة حماه من الجهة الشماليّة لاسيما وأن كتائب المعارضة ما تزال تسيطر على مدينة مورك الاستراتيجية والواقعة على الطريق الدولية مباشرة. على أهمية ما تحقق في هذه الجبهة، فإن ثغرات عدة ما تزال قائمة أبرزها؛ العمل المنفرد للكتائب، وعدم التنسيق فيما بينهم، عدم وجود غرفة عمليات مشتركة، ندرة السلاح الثقيل، تلكئ المجالس العسكريّة في تعويض الكتائب الصغيرة والتي استنزفتها المواجهة.

مواجهة أخرى في الساحل
لم تمض أيام قليلّة على انتصار النظام في يبرود حتى انفجرت مواجهة غير متوقعة بالنسبة للنظام، حيث شنت كتائب إسلاميّة وجهاديّة ( حركة أحرار الشام، كتائب أنصار الشام، حركة شام الإسلامية، جبهة النصرة) هجومًا عسكريًا في مدينة كسب الحدوديّة، وتمكنت خلال أيام قليلة من السيطرة على كامل المدينة بما فيها معبر كسب ليكون أخر معبر حدوديّ مع تركيا يخسره نظام الأسد.
لم يسطع النظام وقوات الدفاع الوطنيّ استعادة المدينة على الرغم من التعزيزات العسكريّة الكبيرة، بل حققت الكتائب إنجازات عسكريّة هامة تمثلت في السيطرة على البرج 45، وقرية السمرا المطلة على البحر المتوسط، وقرية قسطل معاف، وحاجز قرية البركة في جبل التركمان. كما تمكنت الكتائب من السيطرة على جبل البدروسية المطل على قرية البدروسية الساحليّة، وهي نقطة استراتيجية مهمة، فالسيطرة عليها تعني قطع طريق رأس البسيط كسب والذي يستخدمه النظام لإمداد قواته المتمركزة في العديد من المناطق القريبّة. وقد جاء مقتل قائد قوات الدفاع الوطني هلال الأسد ( ابن عم الرئيس السوريّ) والمعروف بجرائمه ودوره الرئيس في تجنيد الشبيحة، وقيام الدفاعات الجوية بإسقاط طائرتيين للنظام ليوسع من الانجازات في جبهة الساحل.



على الرغم من الانجازات السابقة للكتائب المهاجمة، ووجود مؤشرات تدل على تنسيق ودعم تركيّ لها فإنه يصعب توقع نتائج قطعيّة للمواجهة الدائرة في الساحل لأسباب عدة، الطبيعة الجبليّة الوعرة لمنطقة الساحل، وجود بيئة معاديّة للمعارضّة، محدوديّة مقدرات الفصائل المسلحة، غياب التنسيق الفاعل بين الكتائب الإسلامية وكتائب الجيش الحر العاملة هناك والتي بدأت المشاركة في المواجهات، حساسيّة المنطقة بالنسبة للنظام باعتبارها حاضنة شعبية وخزان بشريّ للمتطوعين والمجندين في جيشه والمليشيات التابعة، وهو ما يعني فعل ما يلزم لمنع سقوطها كما حصل أثناء المواجهة الأولى في مطلع شهر آب/ أغسطس 2014.
وبناء على ماسبق، فإن المواجهة في الساحل ستفضي إلى تغيرات تكتيكية في مسار الصراع القائم، وقد تحققت بعض الفوائد بالنسبة للمعارضة مثل؛ ضرب الاستقرار النسبيّ الاقتصادي والمعيشي الموجود القائم في منطقة الساحل، والذي أفاد النظام في تأمين العنصر البشريّ اللازم للمعارك في مناطق أخرى من الجغرافيا البشريّة عبر تجنيد ممأسس لأبناء القرى العلويّة مقابل مغريات وحوافر اقتصاديّة. فمع اشتعال الجبهة، وتفكك هيكل الدفاع الوطنيّ أمام هجمات المعارضة بدأ قسم من هؤلاء بالعودة إلى الساحل وترك الجبهات الأخرى بغية الدفاع عن مناطقهم. الأمر الذي انعكس ايجابياً على المعارضة في بعض المواجهات في الجبهة الشماليّة كما في ادلب وحلب والمنطقة الوسطى ( مورك وخان شيخون). يضاف إلى ذلك، أن فتح جبهة الساحل أسهم في قطع الطريق بين اللاذقية وادلب، وهو الطريق البريّ الوحيد المتبقي لإمداد قوات النظام في ادلب.
ومن منظور أخر، ترى كتائب المعارضّة أن فتح المواجهة في الساحل والسيطرة على مناطق فيه من شأنه قطع الطريق على مخطط قد يلجأ إليه النظام لإقامة " دويلّة علويّة". وعلى الرغم من إدراك المعارضة أن النظام لا يرضى بالتقسيم ما دام قادراً على حكم سوريّة، فإن وقائع عدة بدأت تظهر عياناً بالنسبة لهم كافتتاح المطارات والمنافذ البحرية في مدن الساحل، ومنح التسهيلات للصناعيين والتجار لمزاولة انشطتهم في الساحل، وإحداث ميليشيات طائفية تشرف على تطهير بعض المناطق من سكانها المختلفين طائفيا كما حصل في بانياس والبيضا، وتهدد بتهجير العنصر التركماني الموجود في الساحل إلى تركيا.

في المقابل، تحتوي مواجهات الساحل على أثار سلبيّة وتداعيات اجتماعيّة، إذ ستساهم في تأجيح البعد الطائفيّ للصراع، وتزيد من الاستقطاب القائم في المنطقة وهو ما قد يؤدي إلى زيادة في منسوب جرائم الكراهيّة والقتل الطائفيّ في المناطق المختلطة. كما أن فاعلية العنصر الجهاديّ في المواجهات ينطوي على مخاطر جمة، فالحركات الجهاديّة ترى في منطقة الساحل بيئة جاذبة للجهاديين من مختلف أنحاء العالم، وبأنها مؤهلة لتكون قاعدة للمشروع الجهادي في سورية لطبيعتها الجبلية والمشجرة والتي توفر لهم حماية نسبية من تدخل مستقبليّ. وفي هذا الإطار يخشى من قيام بعضها بإعلان إمارات أو كانتونات إسلاميّة، الأمر الذي يثير مخاوف قوى دولية وإقليمية ويدفعها إلى محاولة احتواء خطرهم عبر إيقاف العمليات العسكريّة هناك. ولعل إعلان العقيد مالك الكرديّ عن تشكيل غرفة عمليات تضم كتائب في الجيس الحر تابعة لهيئة الأركان بقيادة عبد الإله البشير خطوة مهمة من شأنها أن تمنع تفرد العنصر الجهادي أو الكتائب الإسلامية بالمعركة.

ثالثًا: المشهد الاقليمي و الدولي: تردد غربيّ واندفاع روسي إيراني
شهدت الشهور الستة المنصرمة تحولات سياسية مهمة على المستويين الاقليمي و الدولي انعكست سلباً على واقع الثورة السورية. فقد استمر شلل العالم العربي تجاه مأساة الشعب السوري. وسبب تسليم مقعد سورية للإئتلاف الوطني كما كان مقرراً في مؤتمر القمة السابق، مشكلة لبعض الدول العربية. بل ربما حصل تراجع في موقف العديد من هذه الدول وحماسها بالمقارنة مع السنتين الماضيتين من عمر الثورة والإئتلاف.

ففي مصر، بدأت معالم تبدل الموقف المصري تظهر منذ استلام النظام العسكري الذي أطاح بالرئيس السابق محمد مرسي السلطة. ويبدو موقف القاهرة اليوم أقل حماسا للثورة السورية مما كان سابقاً، كما أن هناك تبدلاً واضحا ًفي الموقف من السوريين الذين اضطروا إلى اللجوء في مصر. وربما نظر النظام المصري الجديد إلى سياسته تجاه سورية من منظار صراعه الداخلي ضد الاخوان المسلمين. ويعاني السوريون في مصر من مزيد من التضييق ومن حملات إعلامية مغرضة واتهامات بالتعاطف مع حكم الرئيس المعزول.
في المقابل، ظهرت تقارير اعلامية تتحدث عن أسلحة مصرية يستخدمها النظام السوري في قصف المدن الثائرة و استهداف الثائرين، فيما روج إعلام النظام السوري للإطاحة بحكم الاخوان في مصر وكأنه نصر له. و قد بدت بعض أثار التغيير الذي طرأ على سياسة مصر السورية بعد إطاحة الرئيس مرسي في الموقف الذي اتخذته القاهرة لتجنب منح مقعد سورية في الجامعة العربية للائتلاف الوطني. ولم تنجح جهود حلفاء مصر الخليجيي، خاصة السعودية، في ثني القاهرة عن موقفها المعارض. ومن الواضح أن الخلاف الخليجي حول تقييم الوضع في مصر قد أرخى بظلاله أيضا على الثورة السورية، لجهة الدعم او على الأقل التنسيق بين الأطراف.

و في لبنان أدى الاتفاق الإقليمي و الدولي على تشكيل الحكومة، بعد اتضاح فشل مؤتمر جنيف 2، إلى تضاؤل الاهتمام بمواصلة الجهود لتسوية القضية السورية، التي شكل احتواؤها و منع تمددها اقليمياً أحد الاسباب التي دعت الى محاولة ايجاد حل لها. كما ظهر قبول جميع الأطراف بتشكيل الحكومة، في ظل استمرار انخراط حزب الله في الصراع الى جانب النظام السوري، وكأنه استسلام لواقع عدم القدرة او الرغبة في فعل شيء حياله.
وعلى الصعيد الإقليمي، تعرضت تركيا في ظل حكومة رجب الطيب اردوغان لسلسلة من المشاكل الداخلية، تراوحت بين مزاعم بالفساد الى خلافات مع حلفاء سابقين الى ضغوط غربية على خلفية مسائل متعلقة بضمان حرية الرأي و التعبير. كما أخذت الازمة السورية تنعكس على تركيا أمنياً، سواء عبر تفجيرات مثل تلك التي حصلت في الريحانية في شهر أيار/مايو 2013، أو هجمات قام بها داعش ضد مراكز حدودية تركية. كما بدا اردوغان، عقب اتفاق النووي الايراني، و كأنه يستبق تقارباً أميركيا-ايرانيا، بمحاولة استعادة دفء العلاقات التي توترت بسبب الازمة السورية مع طهران، فقام بزيارة إليها حاول خلالها أن يكرر مقاربته مع روسيا والتي تمكن خلالها من عزل تداعيات العلاقة مع سورية عن مصالحه الاقتصادية الاكبر التي تربطه بحلفاء النظام، فدعا من طهران الى انشاء هيئة مشتركة تركية-ايرانية، و الى "التعاون في شكل بنّاء" لمكافحة الارهاب.

لكن مع ذلك لا ينبغي أن نتجاهل الأثر الايجابي المحتمل لنتائج الانتخابات المحلية التركية. فمن المؤكد أن فوز مرشحي حزب العدالة والتنمية عزز وسيعزز أكثر موقف رئيس الحكومة طيب رجب أردوغان داخل تركيا، وسوف يشجعه هذا على الثبات على موقفه الداعم للشعب السوري.

بالمقابل، وفي الوقت الذي كان يتراجع فيه وضع خصوم النظام اقليمياً (مصر الاخوانية و تركيا) كانت ايران تحقق مكاسب سياسية جديدة. و قد لعب انتخاب حسن روحاني لمنصب الرئاسة دوراً مهماً في الحيلولة دون توجيه واشنطن ضربة عسكرية للنظام السوري عقب استخدامه السلاح الكيماوي في شهر آب/أغسطس 2013. اذ ساهمت ايران بالتعاون مع روسيا - و مستفيدة من رغبة الرئيس باراك أوباما في تجنب الانجرار إلى تدخل عسكري جديد في المنطقة والإضرار بفرص التقارب مع حكومة روحاني - في إخراج اتفاق السلاح الكيماوي السوري إلى حيز النور. و قد ساهم الاتفاق في نوع من اعادة تأهيل النظام باعتباره طرفاً في اتفاقية دولية نص عليها قرار مجلس الامن رقم 2118. كما عزز التوصل الى اتفاق حول البرنامج النووي الايراني في شهر نوفمبر 2013 من اتجاه ادارة اوباما الى بناء علاقة تفاهم مع ايران بدلا من محاولة اضعافها عبر المساعدة في اطاحة الاسد. كما بدأ الاميركيون يجدون، من جهة أخرى، في احتواء نفوذ التيارات الجهادية في سورية عاملاً اضافياً مشتركاً يمكن بالبناء عليه تحقيق مزيد من التقارب مع الايرانيين. ومن هنا أيضاً كانت موافقتهم على تسليم حكومة نوري المالكي طائرات اباتشي الهجومية للمساعدة في القضاء على تنظيم داعش الناشط في سورية و العراق، و كذلك ميل الاميركيين الى دعمه في مسعاه للحصول على ولاية جديدة عبر انتخابات عامة يمكن اجراؤها قريبا اذا سمحت الظروف السياسية و الامنية بذلك..
و تأتي أهمية أي تغيير يطرأ على الموقف الايراني قوةً او ضعفاً من كون طهران هي الحليف الاكبر للنظام السوري و أهم رعاته. و اذا كانت روسيا تؤمن دعماً دبلوماسياً و سياسياً للنظام على الساحة الدولية وخاصة في مجلس الامن، فان الدور الإيراني يعد أكثر أهمية، لأنه منخرط بشكل مباشر بالصراع الدائر على الارض وعلى كل المستويات : من خلال الدعم اللوجستي أو حشد وإرسال قوات من ميليشيات حليفة في العراق و لبنان للقتال الى جانب النظام السوري، أو عبر الخبرات التي يقدمها جيش المستشارين الايرانيين الموجودين في سورية، أو الدعم المالي الواسع، وشحنات الاسلحة التي يجري ارسالها لتعزيز موقف النظام و الحيلولة دون انهياره. كل هذا يجعل إيران اللاعب الإقليمي الإبرز في الصراع السوري و صاحبة النفوذ الأكبر على النظام. وتنظر ايران الى الصراع السوري باعتباره مسألة تخص امنها القومي و جزء من معركتها لانجاز بناء مشروع نفوذها الاقليمي الذي بدأ في لبنان في ثمانينات القرن العشرين ثم حصل على دفعة قوية بعد احتلال العراق و الاطاحة بنظام حكم الرئيس صدام حسين عام 2003. و مع الانفتاح الاميركي على ايران، ازدادت المخاوف من ان تعطي ايران ثمناً يرضي واشنطن و اسرائيل في الملف النووي مقابل اقرار الطرفين الاميركي و الاسرائيلي بنفوذها الاقليمي الذي يشمل سورية. و هو أمر لا شك أنه أثار مخاوف في عواصم خليجية أيضاً حيث عبرت السعودية بشكل خاص عن اسيتائها من اهتمام الاميركيين بموضوع النووي ارضاءًا لاسرائيل في مقابل عدم اهتمامهم بالقضايا التي تقلق العرب في السلوك الايراني، و من بينها الانخراط في الصراع الى جانب النظام السوري.

أما على الصعيد الدولي فلا تزال المعادلة التي ساهمت في مراوحة الثورة في المكان، على الصعيد العسكري والدبلوماسي، مستمرة من دون تغيير يذكر، أي الانخراط الواسع والشامل من قبل روسيا وايران إلى جانب النظام من جهة، والتردد الذي طبع موقف حلفاء الثورة الغربيين وفي مقدمهم الولايات المتحدة من مسألة تسليح الثوار بالأسلحة الثقيلة والنوعية. لا يزال من غير المؤكد في ما إذا تغير موقف واشنطن الرافض لتسليح المعارضة بالسلاح المضاد للطائرات بعد القمة الأمريكية السعودية الاخيرة في الرياض.
كما أن ضعف رد الفعل الغربي في الازمة الاوكرانية، وضم روسية شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي، أعطيا مزيداً من الثقة للنظام و حلفائه. إذ تبين مدى اللامبالاة التي يتعامل بها الرئيس أوباما مع قضايا السياسة الخارجية، خاصة تلك التي لا يعدها تشكل تهديدا لمصالح واشنطن و استراتيجياتها.
هكذا يمكن اختصار صورة المشهد الاقليمي و الدولي للثورة السورية وهي تدخل عامها الرابع، وما يسمه من حالة تقدم وتراجع في الحقلين الميداني و السياسي، بمقولة واحدة : ابتعاد آفاق الحل العسكري في غياب أي أفق للحل السياسي.

رابعًا: مأساة متفاقمة ومجلس الأمن معطل: ما البديل ؟
دخلت الثورة السورية عامها الرابع بكلفة بشرية و إنسانية لاتقارن مع نظيراتها في مصر وتونس و اليمن بل وحتى ليبيا التي ساهم التدخل العسكري في توقف عداد الضحايا عند قرابة الأربعين ألف. أما في سورية فحتى قبل إعلان اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي أن النزاع في سورية قد وصل إلى عتبة النزاع المسلح 15 تموز/ يوليو 2012 كان النظام السوري قد قتل عن 28372 شخص بينهم 2483 طفل و 1889 امرأة بنسبة مدنيين تقدر ب 98% وذلك بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان. وحتى بعد دخول الثورة السورية في ظل نزاع مسلح غير دولي بقي استهداف المدنيين هو الحدث الأبرز. تشير تقارير لمنظمات حقوقية عدة من ضمنها الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن القوات الحكومية قد قتلت مالايقل عن 106 ألف مدني فقط (وأكثر من 18 ألف مقاتل ) بينهم 14 ألف طفل و 13 ألف امرأة، أي أن النساء و الأطفال يشكلون ما مجموعه 25% من الضحايا المدنيين، وهي نسبة مرتفعة جدا وتدل على تعمد استهداف المدنيين.



تتفق أدبيات القانون الدولي الإنسانيّ على أنه في ظروف الحرب النظامية بين الدول يجب أن لا تتجاوز نسبة الضحايا من النساء والأطفال عتبة 2%. وفي حال حصل ذلك، تجرم الدولة وتصنف كدولة تستهدف المدنيين. هذه العتبة جرى تجاوزها في سورية ووصلت النسبة التقريبية لاستهداف النساء والأطفال إلى عتبة الـ 24% . وبلغت نسبة القتلى المدنيين نحو 83% من إجمالي عدد الضحايا، وهي نسبة مرتفعة جدًا بالنسبة للصراعات، داخلية كانت أم دوليّة. والجدير بالذكر أن نسبة القتلى المدنيين خلال الحرب العالمية الثانية لم تتجاوز57% من عدد إجمالي عدد الضحايا وهو ما يوضح حجم المأساة الإنسانية في سوريّة. أما الفصائل المتشددة التابعة للقاعدة (مثل تنظيم دولة العراق و الشام ) فقد قتلت مالايقل عن 386 شخص مدني (موالين ومعارضين) بينهم 41 طفل و 32 امرأة، في حين قتلت فصائل مسلحة معارضة مالايقل عن 174 شخص مدني بينهم 42 طفل و 28 امرأة وذلك بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان .
بعد إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة مبدأ مسؤولية الحماية عام 2005 والذي ينص على "أن كل دولة ترتكب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب فإنها تفقد سيادتها"، تم تأسيس محكمة الجنايات الدوليّة عام 2007، وسادت موجة من التفاؤل ضمن المنظمات الحقوقية والإنسانية والمدافعين عن حقوق الإنسان بإمكانية نجاح هذه الإجراءات في الحد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة، والقدرة على اتخاذ أليات تردع الأنظمة الشمولية والديكتاتورية من القيام بقتل وإبادة شعوبها كما حصل في أوغندا أو في البوسنة والهرسك.
تلاشت الأوهام السابقّة مع عجز المجتمع الدوليّ، ووقوفه صامتاً ومتفرجاً على ما يرتكب في سورية من جرائم موثقة باعتراف الأمم المتحدة نفسها عبر لجنة التحقيق الدولية المستقلة التي أصدرت سبعة تقارير من ضمنها التقرير الأخير الذي صدر في 17 آذار/ مارس 2014، وتحدثت جميعها عن ارتكاب النظام السوري جرائم ضد الإنسانية في جميع أنواع الانتهاكات كالقتل و العنف الجنسي والتعذيب وارتكاب جرائم حرب في الأعمال القتالية عبر انتهاكات واسعة لمختلف أحكام القانون العرفي الإنساني.
كما أصدر مجلس حقوق الإنسان 15 قرار من ضمنها القرار الأخير الصادر في (28 أذار/ مارس 2014). وتعد سورية من الحالات النادرة التي يصدر فيها المجلس هذا العدد من القرارات خلال 3 سنوات، وتحتوي جميعها على إدانات واضحة للنظام. ومع ذلك، ما يزال مجلس الأمن معطلاً، إذ تعرقل روسيا والصين استصدار أي قرار يحاسب مرتكبي الجرائم، أو يحيل ملف سورية إلى محكمة الجنايات الدوليّة.
في 22 شباط/ فبراير 2014، وافقت روسيا والصين على مشروع قرار غربي في مجلس الأمن. وطالب القرار الذي حمل رقم ( 2139) بأن تسمح " كافة الأطراف، والسلطات السورية على نحو خاص، للوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة وشركائها التنفيذيين بالوصول إلى من هم بحاجة بحاجة للمساعدة بسرعة وأمان ودون معوقات، بما في ذلك عبر خطوط النزاع وعبر الحدود. كما نص على "ايقاف القصف العشوائي غير المميز وتحديدا البراميل المتفجرة". وعلى الرغم من ذلك، فإن الواقع لم يتغير واستمر القصف العشوائي والحصار والتجويع.
وقد أصدرت منظمة هيومان رايتس ووتش في 28 أذار / مارس 2014 تقريرًا اتهمت فيه النظام السوري بتحدي مجلس الأمن بشان إيصال المساعدات وطالبت المجلس بتطبيق الإجراءات الإضافية التي نص عليها القرار. كما أصدرت هيومان رايتس ووتش و أيضا الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدة تقارير عن استخدام النظام السوري للبراميل المتفجرة على نحو واسع في محافظة حلب وفي داريا في ريف دمشق وفي الجنوب في محافظة درعا. كما رصدت المنظمتان السابقتان توسع استخدام القنابل العنقودية المحرمة دوليا. بالإضافة إلى ذلك، أطلعت منسقة الأمم المتحدة للإغاثة الطارئة فاليري آموس في 29/آذار/2014 مجلس الأمن الدولي على تقارير تفيد بوقوع 300 حالة عنف جنسي في محافظة دمشق خلال أربع أسابيع من التصريح. وبرأينا فإن السبب الرئيسي وراء ذلك، هو عمليات الابتزاز لادخال مواد غذائية أو طبية التي يقوم بها عناصر الأمن و الشبيحة على الحواجز المنتشرة حول العاصمة وخصوصا الدخول و الخروج من الغوطة الشرقية ".
وسط كل هذه الظروف من قتل وقصف ودمار و عنف جنسي، تتزايد أعداد النازحين داخل سورية لتصل إلى ( 6.4) مليون بحسب تقديرات الأمم المتحدة، واللاجئين خارجها إلى 4.5 بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان .
من غير الممكن أن تحل المأساة الإنسانية في سورية مالم يتحرك مجلس الأمن تحديدا متجاوزًا الخلافات الجيوستراتيجية بين القوى العظمى، والتي لاتقيم أي وزن حقوقي أو أخلاقي، عبر اتخاذ خطوات ملزمة بادخال المساعدات، وحظر استخدام الأسلحة المحرمة دوليا، والقصف العشوائي، وإحالة المتورطين في سورية إلى العدالة وإشعارهم بأن هناك محاسبة عما اقترفوه من جرائم.
لكن في حال بقي مجلس الأمن صامتا متفرجا على الأزمة السورية فماهي الخيارات الأخرى المتاحة بيد المعارضة و أصدقاء الشعب السوري والتي يمكنهم فعليا التحرك من خلالها؟

نرى أن البديل المتاح هو اللجوء إلى الجمعية العامة تحت إطار مايسمى "الاتحاد من أجل السلام" وهو القرار الذي ضغطت الولايات المتحدة لاستصداره عام 1950 من أجل التغلب على المعارضة الروسية الرامية إلى تعطيل استصدار أي قرار عمل عسكري بشأن كوريا. ومن هذا المنطلق فإنه ينبغيى على المعارضة السورية أن تدرس آليات تفعيل عمل الجمعية العامة، واستصدار قرارات قابلة للتطبيق وغير خاضعة لحق الفيتو، بالاعتماد على تعبئة جميع الدول الصديقة وحثها على العمل. ومع ذلك، لا ينبغي أن ننسى أيضا أن المشكلة ليست في استصدار قرار أو رخصة من مجلس الأمن للتدخل الانساني لوقف المجزرة اليومية وإنما في غياب إرادة التدخل نفسها عند المجتمع الدولي حتى الآن على الأٌقل. لكن تقصير المعارضة والائتلاف لا يزال كبيرا أيضا في إيصال التقارير الحقوقية الصادرة عن جهات ذات خبرة ومرجعية إلى الرأي العام الغربي، وعدم الاستفادة من عمل شركات العلاقات العامة المختصة في هذا الشأن .


خاتمة وتوصيات:
إن حالة المراوحة في المكان وابتعاد آفاق الحل العسكري أو السياسي القريب، والتي تعني تمديد أمد الصراع، يمكن أن تكون أيضا حافزا للدفع في اتجاه تحقيق الاصلاحات البنيوية التي طال انتظارها، على مستوى القيادة السياسية والعسكرية.
أولاً: الائتلاف
تأسس "الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السورية"، في الدوحة في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، لتدشين مرحلةٍ جديدةٍ تختلف عن سابقتها، من ناحية وجود قيادةٍ سياسيّةٍ، تطمح إلى تشكيل بديلٍ سياسيٍّ وديمقراطيٍّ، يتولى إدارة الثورة والمرحلة الانتقاليّة، وتحظى بدعمٍ مشروطٍ من الشارع المؤيد للثورة داخل سورية وهيئاته التنظيمية، وتتمتع بترحيب معظم الفصائل العسكريّة. كما تحظى هذه القيادة باعترافٍ دوليٍّ من جامعة الدول العربيّة ودول مجلس التعاون الخليجيّ وتركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كـ "ممثلٍ شرعيٍّ وحيد للشعب السوريّ".  لكن "الائتلاف" لم يوظف المعطيات السابقة لتطوير أدائه السياسي وخدمة الثورة، بل جعلها مادة للتجاذب والتنافر السياسي بين هيئاته وشخصياته، الأمر الذي أدى إلى ظهور خلافات عميقة، ساهمت في ترهل العمل السياسي والثوريّ
وخلال الفترة الماضية وعلى وقع التراجع الميداني في العديد من الجبهات ظهرت نداءات وأصوات في الداخل والخارج تطالب بإقالة رئيس الإئتلاف. وفي الحقيقة لم تعكس هذه المطالبات بعداً شخصياً بقدر ماعبرت عن الاحتجاج على ضعف أداء الائتلاف ذاته.
يتطلب تحسين أداء الائتلاف وتعزيز موقعه السياسي في العمل العام حل ثلاث مسائل رئيسية أهمها :
تعديل النظام الداخلي، وإصلاح آلية اتخاذ القرار، بحيث لا تظل سلطة القرار محصورة في يد شخصين أو موقعين. ومن أجل ذلك لا بد من تفعيل الهيئة السياسية وإعطائها الصلاحيات الكاملة، وتأكيد تفريغ أعضائها ومداومتهم في مكاتبهم، للمتابعة والإشراف على تنفيذ القرارات المتخذة، والتعامل مع المستجدات اليومية والطارئة. ومن الممكن والمفيد تطعيمها بالمستشارين من داخل وخارج الإئتلاف .
مأسسة الإئتلاف من خلال تزويده ببرنامج عمل فعلي، وتوزيع واضح للصلاحيات والمهام، وتغيير أسلوب العمل بهدف تجاوز الانفرادية نحو التعاون وتعزيز روح الفريق، وإيجاد آليات واضحة وديمقراطية لاتخاذ القرارات على جميع المستويات، واجتماعات دورية للمساءلة والمتابعة.
بناء علاقات واضحة وسليمة بين الإئتلاف والحكومة المؤقتة، وتحديد الصلاحيات بشكل أدق لكليهما، وتحقيق التنسيق الكامل بين الإئتلاف بوصفه مركز القيادة السياسية والحكومة المؤقتة المسؤولة عن الإدارة اليومية لشؤون المناطق المحررة وشبه المحررة وللسوريين عموما. ومن شأن ذلك أن يساهم في تجاوز الخلافات القائمة والابتعاد عن التجاذبات الاقليمية الراهنة.
ثانيًا: هيكلة الاركان والجيش الحر
لم تقم هيئة الأركان منذ تشكيلها بواجبها كهيئة أركان عسكرية فعلية. وجاءت التغييرات الأخيرة في رئاستها لتضعها في أزمة لم تخرج منها بسبب الانقسام الذي أحدثته بين قادة الجبهات وأعضاء المجلس العسكري.
والسبب الرئيس في التخبط الذي واجهته هيئة الاركان هو غياب المرجعية الواضحة في وتشكيلها، وتراجع وضع المجلس العسكري الأعلى، وتداخل الصلاحيات بين الاركان والوزارة والائتلاف في الميدان العسكري، واختلاط الأجندات الشخصية والعامة.
يستدعي الخروج بالأركان من أزمتها وقيامها بمسؤولياتها في تأطير الجيش الحر وقيادته وتنظيم صفوفه وبلورة خططه العسكرية، تحديد العلاقة والصلاحيات الخاصة بشكل أدق بين الائتلاف من جهة والحكومة من جهة ثانية وهيئة الأركان من جهة ثالثة. وتحديد العلاقة بشكل أدق أيضا بين قيادة هيئة الاركان والمجالس العسكرية والثورية التابعة لها. من دون ذلك لن تستطيع الاركان مواجهة التحدي الكبير الممثل في تشتت القوى المقاتلة وتباين اتجاهاتها وولاءاتها والنجاح في التنسيق في ما بينها.
ثالثا: العلاقات الدولية والدبلوماسية
وعلى مستوى تنسيق علاقات الثورة مع القوى والدول العربية والأجنبية التي لا تزال تعتمد على زيارات منفردة، وأحيانا يتيمة لا متابعة لها، لا يمكن التقدم في بناء علاقات ثابتة ومتينة وتطويرها مع أي من الدول أو القوى المؤيدة من دون العمل بأسرع وقت على بناء جهاز دبلوماسي قوي بالتعاون مع الدبلوماسيين المنشقين، يتابع حسب الاختصاص شؤون المناطق والدول والتكتلات، ويقدم المعلومات الصحيحة عن سياسات الدول والتكتلات، ويساعد على تحسين أداء قادة الائتلاف وإصلاح سياساته وضبط مواقفه. فلا يمكن ان تستمر قرارات الإئتلاف السياسية ثمرة تفكير فردي وقرارات واجتهادات شخصية، وأن لا يكون في الإئتلاف أجهزة تتابع تطور العلاقات الدولية وتطور مواقف الدول الرئيسية في آسيا والصين واليابان ودول البريكس، وتقدم الخطط للتعامل معها والتنسيق مع قادتها ووضعها في صورة ما يجري في سورية من مآسي وكوارث. ومن الضروري أيضا الاستفادة من الشخصيات الاعتبارية السياسية والاجتماعية والثقافية الكثيرة التعاطفة مع الثورة ومبادئها لتشكيل مجلس للعلاقات الخارجية يعمل على تحسين العلاقات مع الدول والقوى السياسية في العالم، والتواصل معها والحوار بشأن القضايا المختلف عليها وإزالة سوء الفهم والإعداد لحملة واسعة دولية لشرح القضية السورية في الأشهر القادمة التي يمكن أن تكون حاسمة في تقرير اتجاه الأحداث.


التقرير الاستراتيجي السوري تقرير شهري يعنى بمتابعة تطورات الثورة السورية على المستويات المختلفة، ويحرص على تقديم تحليل موضوعي لمجريات الأحداث









Aucun commentaire: