منذ ثلاث سنوات تنتقد روسية سياسة دعم بعض الدول الغربية للثوار السوريين وتتهمها بالتدخل وتطالبها باحترام سيادة الدولة السورية والنظام. لم تتردد الحكومة الروسية في استخدام حق النقض لأبسط الأسباب حتى لمنع صدور قرار إدانة لعمليات العنف الهمجية التي يمارسها مرتزقة النظام السوري وشبيحته. و لصرف النظر عن المجازر اليومية التي تجري في سورية على يد قوات الأسد، وتجنيب الحكم السوري أي مساءلة وضعت موسكو اعتراضها على ثلاثة قرارات في مجلس الأمن في الأعوام الثلاثة الماضية. كل ذلك بذريعة رفض التدخل الخارجي والسماح للسوريين أن يحلوا أزمتهم بأنفسهم من دون تأثير أو ضغوط أجنبية. وفي آخر لقاء، جمعني في الشهر الماضي وبقية أعضاء وفد الائتلاف مع وزير خارجية روسية، نصح لافروف الائتلاف بعدم تأييد القرار الذي كانت استراليا والمجموعة العربية تستعدان لتقديمه لمجلس الأمن حول الملف الانساني، من أجل وضع حد لجرائم القصف بالبراميل المتفجرة العمياء ولحصار الجوع وتعذيب السجناء والمعتقلين. وكانت حجته في ذلك أن التصويت على مثل هذا القرار ربما يخلق الذرائع لتدخل دولي في سورية وتهديد سيادة البلاد. لقد جعل الروس من قضية التدخل أو بالاحرى من رفض التدخل، منذ بدء الثورة السورية، عقيدة سياسية، ولو أن هذه العقيدة لاقت هوى واضحا أيضا لدى دول غربية متعبة من أزماتها الداخلية الاقتصادية والمالية والسياسية. لكن التدخل الروسي العسكري المباشر في اوكرانيا ألقى بهذه العقيدة التي كان الجميع يعرف إنها تستخدم كذريعة فحسب، إلى سلة القمامة .
التبرير الذي قدمه الروس لهذا التدخل لا يختلف عن تبريرات تدخلهم غير المباشر في سورية من خلال الدعم الشامل للنظام، وهو كما يرددون التصدي لمؤامرات الغرب الذي انتهك سيادة اوكرانيا. فحكومة بوتين لا تعترف بشرعية التغيير باسم الديمقراطية ولا ترى أي استقلال للتظاهرات الشعبية الواسعة، بل تنظر إليها على أنها مدفوعة من الخارج، ولا تعبر عن أي إرادة محلية. ثم ما لبثت روسية أن ذكرت بحقوق الاوكرانيين الناطقين بالروسية والمؤيدين لتوثيق العلاقات بها، واتهمت النظام الجديد بانتهاكها، وهو بالكاد كان قد بسط سلطته على الدولة أو مركزها.
والحقيقة أن العكس هو الصحيح. فروسية لم تكف عن التدخل في شؤون الدول المحيطة بها. وقد زادها تشبثا بهذه الوسيلة العنيفة للضغط على الجيران سياسة الغرب الضعيفة أو اللامبالية بعد فشله في الافغانستان وفي العراق. فما كان هذا التدخل ليحصل، ومن ضمنه الدعم اللامحدود لنظام الأسد، لو لم تتخل الدول الغربية عن التزاماتها تجاه تطبيق ميثاق الأمم المتحدة لحماية المدنيين في سورية، ولو لم يظهر الرئيس الأمريكي باراك أوباما الكثير من التردد بل والزهد في دفع بلاده إلى الانخراط في السياسة الدولية، فما بالك في التدخل العسكري. يستغل الروس خور الإرادة والعزيمة الذي يميز سلوك التكتل الأطلسي، والأمريكي منه بشكل خاص، وما ينجم عن ذلك من خلل في الموازين الجوستراتيجية، لتحقيق مكاسب سياسية وجيوسياسية كبرى تستجيب لروح الانتقام التي أطلقها انهيار امبرطورية الاتحاد السوفياتي، وتعيد إلى روسية روح العظمة القومية التي تحتاج إليها النخبة الروسية الحاكمة لتعوض عن فشلها في الانتقال السياسي.
المشكلة التي يطرحها سلوك القيادة الروسية على العلاقات الدولية تنبع من مفارقة أن روسية لا تزال تعيش، وربما بصورة أوضح اليوم مما كان عليه الحال في العقود الأخيرة من القرن الماضي، في جو الحرب الباردة بكل ما يشير إليه هذا التعبير من معنى، مضافا إليها إرادة الاقتصاص من التاريخ، في الوقت الذي اتجه فيه الغرب إلى الانسحاب من هذه الحرب الباردة، بعد أن رأى في انهيار جدار برلين انتصارا حاسما لأفكار الحرية والديمقراطية في المواجهة الفكرية والسياسية، ونجح في تحصين شعوبه ضد الايديولوجيات والنظم الشمولية. وهكذا انتقل الغرب من الحرب ضد الشيوعية، ومن القتال لتوسيع دائرة النفوذ أو للحفاظ عليه في الدول والمناطق الاخرى، إلى الحرب ضد الارهاب “الاسلاموي”. بالمقابل لا يزال النظام الروسي متمسكا بالطرق والوسائل والأساليب التقليدية في دفاعه عن نفسه وتصوره لمصالحه القومية، ولايزال لا يعير أهمية تذكر لاحترام مباديء القانون الدولي والمواثيق الانسانية، سواء ما تعلق منها باحترام حقوق الانسان أو حق الشعوب في تقرير مصيرها.
ما حصل في أوكرانيا يفسر ما حصل في سورية ويلقي أضواءا كاشفة عليه. روسية ومن ورائها ايران ونظام الأسد ونظام المالكي في العراق وبعض الانظمة القمعية والشمولية الجديدة الاخرى تدرك أنها على وشك الزوال، وأن السبيل الوحيد لمغالبة مصيرها وقطع الطريق على انتشار روح الثورة التحررية وأفكارها فيها هو الانقضاض على الثورة في أي مكان تقوم فيه، وتشكيل جبهة واحدة فاشية في مواجهة تيار التحرر الجارف للشعوب في كل مكان.
سورية كانت حتى اليوم بؤرة هذه المواجهة ومسرحها الرئيس بين قوى الفاشية الجديدة الواقفة على خط الدفاع وقوى التحرر الانساني والديمقراطية وحكم القانون. وهذا ما يفسر عظم التضحيات التي قدمها السوريون، فهم لا يدفعون ضريبة تحررهم وحدهم كشعب وإنما ضريبة مواجهة تحالف الفاشية والنظم الديكتاتورية في أكثر من منطقة في العالم.
هل ستفتح الأزمة الأكرانية كوة في هذه المواجهة المستمرة منذ ثلاث سنوات متتالية، وتعمل على تخفيف الضغط عن الشعب السوري أم أنها ستدفع تحالف النظم الديكتاتورية إلى المزيد من التصعيد في سورية وبقية مسارح الصراع؟
الجواب مرتبط بنوع الرد الذي سيوجهه معسكر الديمقراطية إلى تحدي الديكتاتورية المنفلتة والثورة المضادة: التخاذل والتراجع والبحث عن تنازلات ومسكنات لا يمكن إلا أن تشجع الطرف الآخر على الاستمرار في سياسته الهجومية والتدخلية، أو قبول التحدي والرد عليه من مستوى الرهانات التاريخية لثورة الديمقراطية التي أعطاها سقوط جدار برلين زخما جديدا لم يكن غائبا عن إطلاق ربيع العالم العربي .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire