شاركت الأمس بندوة من تنظيم المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية حول العدالة الانتقالية.
وتعني العدالة في الحالة الطبيعية للمجتمعات الحديثة تطبيق القانون بالعدل والنزاهة باعتباره تنظيما للحقوق انبثق عن سلطة شرعية تمثل الشعب. أما العدالة الانتقالية فهي مفهوم للعدالة النوعية خاص بمراحل استثنائية تمر فيها المجتمعات تتعرض فيها لهزات خطيرة وجماعية في مايتعلق بتطبيق القانون وانتهاكات حقوق الانسان يصبح فيها التطبيق الحرفي والوحيد للقانون غير قادر على مواجهة الفوضى واخراج المجتمع من النزاع وإطلاق دورة الحياة الطبيعية من جديد. ولا بد في هذه الحالة من استخدام آليات ووسائل أخرى غير قانونية إضافة إلى تطبيق القانون. من هذه الوسائل ما هو سياسي كالتوافق على ميثاق وطني جديد، وماهو اقتصادي مثل التعويضات المادية للمتضررين، وما هو اجتماعي مثل الحوار، وما هو نفسي مثل الاعتراف والاعتذار للمتضررين والصفح من قبل هؤلاء في إطار عملية مصالحة وتنقية للنفوس من المشاعر السلبية التي احدثتها الكارثة، والعمل على بناء الذاكرة وتخليد ذكرى الضحايا إلخ، وقبل ذلك محاكمة المسؤولين الرئيسيين عن الجرائم ومعاقبتهم.
وعلى سبيل المثال يحصل اثناء الحروب والحروب الأهلية بشكل خاص ان يشارك آلاف وربما ملايين الافراد المتحاربين في انتهاك حقوق الانسان، وسيكون من المستحيل تقديم جميع المشاركين إلى المحاكم العادية والتحقيق بشكل سليم في الجرائم أو الاخطاء التي ارتكبت، كما سيكون من المستحيل أيضا ضمان إطلاق الحياة الطبيعية وتحقيق التفاهم ووقف دوامة الانتقام المتبادل بين الاطراف من دون تحديد دائرة المحاسبة في فئة محدودة تتحمل مسؤولية الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت. ويصبح من الضروري البحث عن وسائل أخرى لرد الحقوق والتعويض عن المظالم بالنسبة لقسم كبير من الضحايا.
ففي جنوب أفريقيا لعب الاعتراف بالخطأ والتكفير عنه بالاعتذار للضجايا من قبل البيض دورا كبيرا في دفع السود الذين عوملوا كعبيد خلال قرون إلى الصفح ووقف عمليات الملاحقة والإدانة، وبالتالي في ولادة دولة جنوب افريقية الديمقراطية والقضاء على نظام التمييز العنصري، ليس في النصوص فقط وإنما داخل النفوس أيضا. وقد ساهم ذلك في تفكيك النظام العنصري والخروج منه إلى الأبد وبناء نظام ديمقراطي جديد يساوي بين الجميع، وأهم من ذلك إعادة بناء الثقة بين الجماعتين البيضاء والسوداء وبدء حياة وطنية مشتركة.
والأمر ذاته، لكن بأشكال أخرى، حصل حيثما كانت هناك حروب أهلية او نزاعات سياسية تمت فيها انتهاكات خطيرة وبالجملة مثل البوسنة وصربيا وتشيلي والمغرب وتونس وغيرها. ويعتقد أصحاب هذا المفهوم للعدالة الانتقالية المرتبط بمراحل انتقال صعبة أن تطبيق آليات العدالة الانتقالية قد ساهم في كسر دوامة العنف والحد من روح الانتقام والانتقام المضاد وسهل للمجتمعات العودة إلى الحياة الطبيعية.
في تقاليدنا ينتمي هذا المفهوم إلى حقل الاحسان الذي هو اعلى مرتبة دينية وأخلاقية من الاقتصاص. لكن ليس لهذا المفهوم معنى إلا في حالة واحدة، عندما يقود التنازل عن بعض الحقوق الفردية إلى كسب او اكتساب حقوق جماعية أكبر، مثل إنهاء الحروب والنزاعات الأهلية ولا يطبق بالتالي إلا بعد نهاية النزاع وبعد اعتراف المسؤولين عن الانتهاكات بأخطائهم والاعتذار العلني عنها، وتصحيح المسار وتوبة المخطئين وقبولهم بالالتزام بالقانون واحترام الميثاق الجديد والتخلي عن الافكار والمسالك التي قادتهم إلى الضلال.
على العموم، تطوير مثل هذه المفاهيم مهم وضروري من أجل تعزيز روح التسامح والمصالحة في كل المجتمعات التي ابتليت بنزاعات خطيرة، ولا توحد حياة اجتماعية من دون روح التسامح والصفح والكرم الأخلاقي الذي يشكل الرصيد الحقيقي لبقاء المجتمعات واستقرارها. لكن لا ينبغي أن يؤثر ذلك على قدسية احترام الحقوق والقانون. ولا أن يحول دون محاكمة المسؤولين الرئيسيين عن الانحراف الجماعي الذي حصل، أعني أصحاب القرار عن قتل الأبرياء والتنكيل بهم. لأن التغاضي عن مثل هذا العمل يهدر حقوقا جماعية أساسية، ويقضي على معنى المسؤولية ويدمر بالتالي أسس النظام الجديد قبل أن يظهر.
وفي سورية من المهم أن نفكر بكل ذلك بالرغم من أن الوقت لم يحن بعد لتحقيقه، ومن المفيد أن نعد القوائم بالمجرمين المنتهكين لحقوق الناس وبالضحايا حتى نكون على بينة من أمرنا حال سقوط النظام ولا نترك الجراح العميقة تتقيح، ومن اللازم أن نعد منذ الآن ورش التعويضات عن هذه الانتهاكات الخطيرة في ما يخص مثلا النساء الذين تعرضن للعنف والاغتصاب والأطفال المعاقين والمشردين والذين فقدوا أسرهم وعائلاتهم، وأسر الشهداء وغير ذلك من الحالات الخطيرة والأليمة التي ملأت حياة سورية والسوريين لسنتين متتاليتين، لم يمارس فيهما من قبل نظام القتلة سوى العنف على الجميع، والعنف بجميع صوره وأشكاله، المادية والمعنوية، الجماعية والفردية. وسنحتاج بالتأكيد لورشات عمل كثيرة ولسنوات طويلة حتى ننجح في تصريف هذا الكم الفائض والهائل من العنف ونستعيد تاريخا طبيعيا، تاريخ الشعوب التي تحظى بحكم العدالة والقانون.
لكن الأولوية الآن ينبغي أن تظل لوقف هذا العنف وإسقاط النظام الذي لم يعرف يوما وسيلة للتعامل مع الشعب غيره. ويكفي جزء بسيط من هذا العنف الذي تحمله السوريون في العامين السابقين للحكم بالإدانة القاطعة والشاملة على بالموت على هذا النظام الذي جعل من الإرهاب سياسة دولة وعقيدة حكم، ومن إذلال الناس وإهانتهم والدوس اليومي على كرامتهم وتجريدهم من حقوقهم وهوياتهم مصدر فخر وشرف للحاكمين ورخصة قتل مفتوحة في يد خصيان متسيدين .