vendredi, novembre 29, 2013

حول ميثاق الجبهة الاسلامية ومشروعها السياسي الجديد

أثار الاعلان عن ميثاق «الجبهة الإسلامية» التي تشكلت في سورية في الأيام الماضية، نقاشا متجددا لدى الرأي العام السوري داخل صفوف مؤيدي الثورة ومعارضيها. ولأن الجبهة تضم قوى رئيسية في الجيش الحر، كان من الطبيعي أن يسقط الكثيرون موقف الجبهة على الثورة نفسها، متسائلين في ما إذا كان هدف الثورة اليوم هو إقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة، بدل القانون المعد من قبل ممثلين للشعب يتماشى مع حاجات الشعب المتعدد المذاهب والمشارب الفكرية ومع تطور الحياة الاجتماعية وتزايد الاوضاع الجديدة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والسلوكية، التي تحتاج إلى تقنين دائم ومستمر.
ما خفف من أثر هذا الانعطاف الفكري في مسيرة قوى الثورة السورية التي بدأت سلمية ومدنية بامتياز، هو تمسك البيان بمبدأ الشورى، مما يبقي أفق الحوار والنقاش مفتوحا على مشاركة الشعب في القرار، من جهة وتأكيد أصحاب المشروع السياسي الجديد على حماية حقوق الأقليات، باعتبار أن «التراب السوري يضم نسيجا متنوعا من الأقليات العرقية والدينية تقاسمته مع المسلمين لمئات السنين في ظل الشريعة الغراء التي صانت حقوقها».
يحتاج هذا البيان إلى نقاش مطول وتوضيح للكثير من العبارات والمفاهيم التي تحتمل أكثر من تأويل، بما في ذلك معنى الشورى، وكيف تصح ممارستها، ومن يشارك فيها، وتصور تطبيق الشريعة، بل التأويل الذي تنوي الجبهة الأخذ به في هذا المجال، الذي لم يعد جديدا على المجتمعات العربية والاسلامية، بعد أن شهدت تجارب متعددة ومختلفة فيه، من أفغانستان إلى السودان إلى ايران وغيرها.
وبالمثل، يحتاج مفهوم الدولة المدنية التي وضعها البيان في تناقض او تضاد مع دولة الشريعة الاسلامية أيضا إلى توضيح، خاصة عندما تتم المطابقة بين الشريعة الإلهية وميادينها والتشريع البرلماني الذي هو من باب التنظيمات التي تمس أمورا ترتبط بتنظيم شؤون الحياة المدنية للمجتمعات ويعكس تطور الحضارة وتقنياتها وتنظيماتها، وهو عابر للحدود الدينية والسياسية والجغرافية، وغايته تنظيم شؤون البشر وتامين أمنهم وسلامتهم الجسدية والنفسية وتحسين شروط حياتهم المادية على الأرض، أكثر مما يرتبط بمذهب أو فلسفة أو عقيدة دينية. وتستند معظم هذه التنظيمات كي لا نقول كلها وبشكل كبير إلى الخبرة العملية والتاريخية والتفكير المنطقي والعلمي.
فالفرق كبير بين التشريع الذي هو حق إلهي، لأنه يعنى بالمقاصد الكبرى والغايات العليا للكون والحياة والوجود الكوني والانساني، أي بالمقدسات، والتنظيمات الانسانية، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والتقنية وغيرها مما يعنى بتحسين الأداء والفاعلية والانتاجية والعمل في كل الميادين، ويعتمد على العقل والعلم ويتضمن الاختيار بين حلول وطرائق وأساليب مختلفة ومتعددة للتنظيم والترتيب والتنسيق والتحسين لشؤون الحياة المادية والمدنية، اي التي لا تمس الاعتقادات من أي نوع كان. وفي هذا الباب تدخل تنظيمات الصناعة والزراعة والعمل والإدارة والعلم والحرب التي تتطلب جميعا إعمال العقل.
ومن هذا التصور لنوع المهام التي تقوم بها الدولة جاء مفهوم الدولة المدنية، التي تعني أن على السلطة السياسية العمومية أن تقتصر في وظيفتها على تنظيم شؤون الحياة المادية، وأن تترك للفرد والمجتمع أي الناس تنظيم شؤون حياتهم الدينية. مما يعني أن وظيفة الدولة في كل الميادين تنظيمية، أما كل ما يتعلق بالرأي والفكر والمذهب والدين، أي بمحتوى الأفكار المتداولة في المجتمع وبالقيم والأهداف والغايات العليا للجماعات، فهي مسؤولية هذه المجتمعات نفسها وكل فرد فيها، وأن واجب الدولة هو تأمين الفضاء الحر لجميع الناس كي يقرروا في شؤون دينهم تحت إشراف أصحاب الاختصاص من رجال الدين وبهديهم.
غير ذلك يعني أن تفرض الدولة محتوى العقيدة والقيم والمباديء والغايات التي ينبغي على المجتمع وكل فرد أن يأخذ بها ولا تكتفي بتنظيم ممارسة حرية الفكر والاعتقاد.
وقد عرفنا نحن السوريين نموذجا كارثيا لهذه الدولة العقائدية في صورة دولة البعث التي أرادت أن تصبغ المجتمع كله بصبغتها الفكرية والمذهبية والسياسية، وكانت النتيجة تجريد الشعب، باسم إخضاعه للعقيدة البعثية والقومجية الرسمية، من حقوقه وحرياته جميعا، وتسليم البلاد والمجتمع بأكملهما إلى تلك المجموعات الصغيرة التي امسكت بالدولة، واستغلت ما ألحقته بنفسها من حق المراقبة والتفتيش على الضمير والعقل والسلوك، من أجل بناء سلطة مطلقة وغاشمة، لا شيء يوازن جبروتها في المجتمع، دمرت معنى السياسة والعقيدة والفكر والعلم والمعرفة والانسان نفسه.
من حق كل إنسان وأي تكتل أو تجمع أن يقدم التصور الذي يراه مناسبا لتنظيم المجتمع والدولة. لكن من حق كل إنسان أيضا، عضو في هذا المجتمع ومعني بمصيره ومستقبله، بل من واجبه، ان يناقش أي تصور مهما كان، اللهم إلا إذا كان أصحاب هذا التصور يعتبرونه عقيدة مقدسة لا تناقش. ولا أعتقد أن مثل هذا الموقف يمكن أن يكون موقف شباب مؤمن، أخلص لهذا الشعب وفداه ولا يزال بروحه، وساهم في صنع معجزة الثورة وتحطيم صنم نظام الأسد الذميم.

Aucun commentaire: