بالرغم من المقاومة القوية التي أظهرتها الشعوب العربية لمشعلي الفتن الطائفية في السنوات الأخيرة، في العراق وغيره، إلا أن الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها أطراف متعددة، رسمية واهلية، من الخارج والداخل معا، تدفع بشكل متسارع نحو جعل المخرج الطائفي حتمية لا تقاوم في العديد من أقطار العالم العربي. بل إن هناك من بدأ يتحدث بصراحة عن مخاوف انجرار المنطقة برمتها إلى نزاع طائفي لن تكون نتيجته سوى الدمار المعمم. وشيئا فشيئا يكاد الرأي العام العربي يستسلم في بعض الأقطار، بل في أكثرها، لفكرة قبول النزاعات الطائفية كما لو كانت عاهة ولادية مرتبطة ببنية المجتمعات العربية وثقافتها.
والواقع ليس لهذا الانجرار وراء المخرج الطائفي أي علاقة بوجود تعددية دينية أو حتى حساسيات وحزازات قديمة بين الطوائف المتواجدة منذ قرون طويلة على الأرض نفسها. فكما يمكن أن تقود التعددية إلى التعايش المثمر والمثري والمبدع، كما أظهرت ذلك قرون طويلة من الحكم العربي، ليس في اسبانيا وحدها ولكن في بلاد المشرق جميعها، يمكن أن تقود أيضا إلى النزاع وتشريع القتل المأساوي على الهوية. وبعكس ما يعتقد الكثيرون، ليس لهذا النزاع علاقة بطبيعة العقائد ومضمونها واختلافاتها وإنما بالظروف التي تشرط حياة الجماعات وتحدد علاقات واحدتها بالأخرى. فمن الممكن أن تكون العقائد متباينة تماما بين الأطراف ويكون التعايش كبيرا في ما بينها، كما أن من الممكن أن يولد النزاع بين جماعات تنتمي إلى الأصول ذاتها ولها منظومات عقائد وأعراف وتقاليد واحدة، كما تبرهن على ذلك الصراعات التي غالبا ما تندلع داخل القبائل والعشائر والطوائف، بل والعائلات نفسها.
وهكذا، عندما عززت حقبة الاستقلال الانخراط في العالم الحديث وخلقت آمالا كبيرة بالتقدم والارتقاء لدى الجميع، وفي جميع المجالات، ولدت حركة وطنية وقومية واسعة وحدت بين جميع الاطراف ودفعت إلى تجاوز الانقسامات التاريخية الطائفية والأقوامية والاندماج في كل وطني حديث واحد. وبالعكس، يغذي الانسداد والجمود الذين تقود إليهما نظم متحجرة ولا إنسانية، وما ينجم عنهما من حرمان الجميع من فرص التقدم والارتقاء، شعورا عميقا بالاحباط والخوف وانعدام الثقة يشجع الجماعات والأفراد معا على التحلل من قيم التضامن الإنسانية وعلى القبول بجيمع الطرق والوسائل اللاأخلاقية للخروج مما يبدو وكأنه حالة حصار وموت محقق، بأي ثمن وعلى حساب الجماعات والأفراد الآخرين.
ومن هنا يشكل الخيار الطائفي، بالمعنى الديني والأقوامي معا، التعويض المباشر عن غياب الخيار السياسي، أي الجماعي الوطني. وطالما بدت شروط تحقيق هذا الخيار الأخير مفقودة أو مستحيلة التوليف، تنزع الجماعات إلى الحلول الانفرادية لعلها تجد لنفسها مخرجا لا أمل بايجاده مع الغير. فالطائفية هي رديف إعدام السياسة، والقضاء على روح التواصل والألفة، وتمجيد الوصولية والانتهازية والقائمتين على الأنانية، وانهيار مفهوم القانون، بما يعنيه من احترام الحق والعدل أمام استئثار العصبية العمياء التي تقوم على مبدأ نصرة الأخ ظالما أو مظلوما. وهذه الشروط هي ما تشهده العديد من الاوضاع العربية، حيث تشعر جميع الاطراف بأنها في بداية نفق مظلم طويل لا تعرف إذا كانت ستخرج منه أم لا.
وأول من يبدو عليه الضعف أمام إغواء الطائفية هي تلك النخب التي تحكم منذ عقود طويلة من دون مشاركة ولا قيود ولا التزامات واضحة، والتي تواجه اليوم استحقاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية كبيرة من دون أن يكون لديها أي فرصة لتلبيتها او الرد عليها، في الوقت الذي تخضع فيه لضغوط وتحديات خارجية استثنائية تهدد استقرارها وبقاءها نفسه. فهي محاصرة من الداخل والخارج وخائفة من السقوط والانهيار في أي لحظة. ولهذا يزداد الإغراء عند بعض قادتها بالهرب نحو التعبئة الطائفية، كدرع حماية، ووسيلة للعب على تناقضات المجتمعات، واستخدام فئاتها المختلفة وانقساماتها لدفعها إلى تحييد بعضها بعضا. فبقدر ما تسد هي نفسها باب الخيار السياسي، أي، اليوم، الديمقراطي، للخروج من الأزمة الوطنية الشاملة، وتدرك محدودة وسائل القمع التقليدي، تنزع هذه الجماعات المتسلطة إلى أن ترى في التعبئة الطائفية سلاحا مفيدا لخلط الاوراق من جديد، وإجهاض المجتمع من قواه الاحتجاجية النامية، لعلها تتمكن من الالتفاف على الاستحقاق التاريخي والخروج من الطريق المسدود الذي وضعت نفسها فيه.
لكن النخب الحاكمة أو بعضها ليست الطرف الوحيد الذي يمكن أن يجد في إحياء المنطق الطائفي مهربا إلى الأمام من مشاكله السياسية المستعصية على الحل. إن الضغط الذي تتعرض له قطاعات واسعة من المعارضة السياسية والمدنية في سبيل حرمانها من أي أمل في المشاركة في مصير وطنها بل في التعبير عن نفسها والتواصل مع الرأي العام بأي صورة من الصور، مهما كانت سلمية ومدنية، يهدد بأن يدفع بعض قواها الأكثر استعجالا والأقل حكمة إلى التفكير باستخدام الطائفية لفك عزلتها. وربما اعتقد قسم من أولئك الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين ضغوط الحياة اليومية المتزايدة ومراوغات السلطة وقهرها اللاإنساني واللاقانوني، أن بناء عصبية قوية تقف في مواجهة عصبية السلطة هو الطريق الوحيد المتبقية لفرض نفسه على النظام وانتزاع الاعتراف به من دون التعلق بالتدخلات الأجنبية. وحصل مثل هذا في الثمانينات من القرن الماضي وانتهى بكارثة إنسانية في حماة وبكارثة سياسية في سورية بأكملها.
بيد أن المجتمعات نفسها ليست محصنة ضد الاستخدامات الطائفية أيضا. وتدغدغ الطائفية مشاعر العديد من قطاعات الرأي العام التي تعيش في شروط حياة هشة وغير مستقرة وتكاد أن تنهار بين حصار النظم الحاكمة التي تخشى انفجارها فتفرض عليها حكما مطلقا يشلها عن التفكير والحركة، وحصار الرأي العام الدولي الذي يوحد بينها والارهاب ولا يكف عن استفزازها ووضع هوية مجتمعاتها الثقافية والدينية موضع الشك والسؤال. كما تشكل الظروف الصعبة التي تعيشها أغلبية السكان والضغوطات المستمرة التي تتعرض لها، وغياب أفق الحلول الجماعية والسياسية، أي الوطنية، تربة خصبة لنمو المشاعر السلبية عند الأفراد والجماعات، وتوجهها نحو الخيارات التصفوية التي تجعل كل منها تعتقد أنه لا حل لأزماتها المستفحلة والمديدة إلا بالتخلص من الآخر، بتحييده او إقصائه أو القضاء عليه والسطو على حقوقه وموارده. فالحرب الطائفية هي شكل من أشكال حروب التصفية والتطهير العرقية. ونحن مهددون بالانجراف أكثر فاكثر نحو حالة الاحتراب التي تميز المجتمعات الفقيرة والمعزولة والمحاصرة. فندرة الموارد وتصاعد الضغوط وغياب الأمل بالوصول إلى نهاية النفق بالطرق الطبيعية وفي وقت معقول، كل ذلك يشكل مصادر متضافرة قوية لتوليد المنازعات الدموية في كل المجتمعات والأزمان. وبقدر ما يصبح القتال أسلوب الانتاج الرئيسي للثروة والسلطة والجاه تبرز الحاجة إلى بناء العصبية، أي روح الطائفية التي تتغذي من أوهام القربى الدينية أو القبلية أو الثقافية، وتصبح بمثابة اللحمة التي تصهر الأفراد والمجموعات المتميزة في بوتقة واحدة. فلا تقوم الطائفية إلا بعنصرين: بعث الوهم بالمطابقة الكاملة أو التماهي بين أفراد مختلفين بالفعل والأصل رغم انتماءاتهم الدينية او القبلية، بحيث يذوب الفرد بالجماعة ولا يعيش إلا بها، ثم تأكيد الحق في العدوان باسم الدفاع عن الحقوق الجماعية للعصبية الواحدة في مواجهة العصبيات الأخرى. ولذلك مثلما لا تولد العصبية من دون النزاع أو خارج سياقه، لا يمكن للحرب الطائفية أن تندلع وتستمر إلا بقدر ما تنجح في إعادة صهر المجتمع في بوتقة العصبية، أي في إعادة خلقه كعصبيات متماثلة. وما منع هذه الحرب من الانتشار حتى الآن في بلدان كالعراق وسورية بالمقارنة مع لبنان، هو رفض المجتمع بأغلبيته المدنية الانخراط في سياسة العصبية هذه وسعيه إلى استيعاب النزاعات الطائفية من داخل المفاهيم والأطر السياسية. لكن هنا تكمن المشكلة بالضبط. فمع القضاء على مفاهيم السياسة المدنية وأطرها أو تفريغهما من معناهما، وتحت ضغط التدهور المتسارع للأوضاع المعيشية والسياسية والنفسية الراهن، أصبحت هذه المقاومة مهددة بالفعل.
والحال لا تشكل الحرب الطائفية، التي يصعب على أحد اليوم السيطرة عليها إذا اندلعت، مخرجا من أي مأزق قائم، لا مأزق الحكم ولا مازق المعارضة ولا مأزق المجتمع والرأي العام التائه والمتخبط. بالعكس، إنها تعمق ورطة الجميع وكل الأطراف. فهي لن تحرر النخب الحاكمة من مواجهة الاستحقاقات القادمة ولا توفر عليها الاعتراف بحقوق هذه المجتمعات والتزاماتها تجاهها، ومن باب أولى أن تمكنها من استعادة السيطرة عليها. كما أنها لن تعطي للمعارضة أي دفع جديد يساعدها على التغلب على الحصار المضروب من حولها. أما بالنسبة للمجتمع، فهي تقود حتما إلى الدمار العام بقدر ما تهدد وجود الدولة وتبدد موارد البلاد وتعريضها للتهديدات الخارجية. إن المستفيد الوحيد منها هي بالتحديد اسرائيل وشبكات المصالح المافيوزية نفسها التي قادت إلى إفلاس الدولة والسلطة، والتي لا تستطيع أن تنمو وتزدهر وتتحول إلى زعامات تاريخية إلا في مناخ الحروب والأزمات. وأصحابها الذين يحتقرون بالتعريف فكرة وجود التزامات جماعية وقيم تضامن إنسانية وحقوق سياسية وحريات فكرية ويفتقرون إلى أي شعور بالمسؤولية هم المعنيون الوحيدون بتغذيتها وتفجيرها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire