mercredi, août 25, 2010

النظام الدولي و"طبقات" الدول أو في عقم الدولة وبؤسها



الاتحاد 25 آب أغسطس 10
تكرس منظمة الأمم المتحدة، بوجودها ومبادئها، مفهوما وهميا لنظام دولي مكون من مجموعة دول مستقلة ومتساوية وذات سيادة، تتتعاون أو تتنازع في فضاء دولي محكوم بقواعد وقوانين وشرائع وأعراف تهدف إلى أن تضمن لكل منها هويتها ومصالحها وحقوقها. والحال أن هذه صورة خادعة ومزورة لواقع السياسة الدولية لا علاقة لها بما يجري بالفعل. فالعالم يخضع لبنية سياسية واحدة تتوضع كل من الدول فيها بحسب قدراتها وإمكانياتها، ويخضع فيها الضعيف حتما للقوي والمسود للسائد، في علاقة تفاعل دائم ومتجدد. وهذا يعني أنه لا توجد هناك دولة مشابهة لدولة أخرى في درجة السيادة والاستقلال وإمكانيات النمو والتقدم. وما يوجد بالفعل هو بنية سياسية دولية تحدد مكانة الدول ومصيرها إلى حد كبير.
وإذا أردنا التبسيط قلنا على شاكلة مؤلفينا القدماء أن هناك طبقات دول كما كان هناك طبقات شعراء. فهناك ، داخل هذه البنية الدامجة للجميع في منظومة واحدة، طبقة الدول السيدة التي تتمتع بدرجة كبيرة، ولو نسبية، من االمركزية أو الاندماج الداخلي الوطني ومن السيادة، وطبقة الدول التابعة أو الناقصة السيادة والاندماج الوطني إلى حد كبير أو صغير، وهناك أخيرا طبقة من الدول الفاقدة تماما لأي درجة من تمركز السلطة (الوطنية) والسيادة . وكل من هذه الطبقات محكومة بقوانين تطورها الخاصة,لا ينبغي أن نفهم من ذلك أن طبقات الدول، المرتبطة بالمواقع التي تحتلها في فضاء النظام الدولي العام، ثابتة أوجامدة. بالعكس إنها في تحول وتبدل مستمرين، بطيء أحيانا وسريع أحيانا أخرى، على نمط التحولات التي تعرفها الخريطة الجيولوجية من تقارب القارات وابتعادها وولادة الهزات والزلازل والانهدامات وتلاشيها. وهي الظروف التي تسمح للفاعلين الواعين، أي للنخب، التي تنجح في استغلال فرص ااختلال التوازن الظرفي أو البعيد المدى، لتغيير مصير بلدانها أو تحسين مواقعها على خريطة التحولات الدولية وطبيعة اندراجها في البنية العالمية.
والمقصود أن الدولة، ليست كيانا قائما بذاته، ولا يمكن أن يفهم تحولها وتطورها بمعزل عن علاقاتها مع الدول الأخرى في إطار النظام الدولي الذي يحكم مسار الدول جميعا، بما في ذلك الدول الكبرى التي تستمد كبرها والدرجة العالية من تمركزها واندماجها الداخلي وسيادتها العالمية، من علاقتها مع من هو تحتها، أي من قدرتها على تحويل غيرها إلى أضعف منها، والحفاظ على علاقات التفوق والسيطرة بوسائل مادية ومعنوية معا. فقوة البعض هي ثمرة ضعف البعض الآخر. والصراع على الاحتفاظ بالسيطرة أو على مواقع السيطرة هو الدافع للاستثمار في التفوق المادي والتقني والعلمي معا بين الدول.وتترتب على هذه الفرضية التي ترى في الدولة جزءا من بنية دولية بالأساس حتى في ما يتعلق بوجودها، لا تجسيدا مباشرا لإرادة شعبية ، ولا تعبيرا عن خصائص أو إمكانيات المجتمعات المدنية أو الثقافات المحلية، نتائج عديدة. أولها وأهمها أن الدول، بعكس ما تشيعه النظرية السياسية السائدة، لا يمكن أن تتطور بطريقة واحدة، ولا تنطوي بنياتها أو أنماط بنياتها الخاصة جميعا على بذور التطور ذاته وفي مقدمه فرص تكوين أمة. وثانيها أن الدول ليست إلا جزئيا، وفي البلاد الكبرى ذات الاستقلالية الواسعة، تعبير عن إرادة سكانها وتحقيقا لتوازنات داخلية، أما في معظم أصقاع الأرض فهي تابعة في تطورها وفرص نضجها وتحقق مفهومها لإرادة الدول الكبرى ، وهي أحيانا ليست إلا أداة خارجية، تستخدمها هذه الدول ، بصورة غير مباشرة، من خلال التفاهم مع النخب المحلية، لكن أحيانا بصورة مباشرة، من دون تفاهم لتحقيق أغراضها. بينما لا تملك القدرة على التحول إلى ديمقراطية حقيقية إلا تلك الدول التي تتمتع بقسط كبير من السيادة يعطي لإرادة شعبها المشتركة الأثر الأكبر في تحديد سياساتها الداخلية.
وثالثها وجود تناقض بنيوي بين منطق اشتغال الدولة ومنطق اشتغال المجتمع، وهو ما تعبر عنه النظرية السياسية بالتمييز بين "ريزون ديتا" (منطق الدولة)، الذي تضعه دائما في موقع الأسبقية لكونه مرتبط بمتطلبات الحفاظ على وجود الدولة ذاته، وإرادة الأمة وحرياتها التي هي مصدر شرعية الدولة. وهذا التناقض، الذي يزداد أو ينقص حسب الطبقة التي تنتمي لها الدولة، إلى أن يبلغ أقصاه في البلدان الضعيفة التابعة ويحرم الدولة نفسها من الوجود كدولة أمة ويحولها إلى وكالة خصوصية للنظام العالمي، أو يقضي عليها تماما بسبب الفوضى والنزاعات الدائمة وعدم الاستقرار، هو الذي يفسر ما نعرفه من علاقات عداء وتناقض صارخ أحيانا، في بعض الدول التابعة الصغيرة، بين الحكومات والنخب السائدة التي تعرف أنها لا تضمن مصالحها إلا بالتفاهم مع الدول الكبرى المسيطرة من جهة، والشعوب التي تنزع، من منطق الحرية والاستقلال والسيادة الذي يقوم عليه رسميا النظام العالمي للدولة، إلى تعريف مصالحها الوطنية، بصرف النظر عن ضغط العلاقات الدولية ومحتواها. حتى لتبدو أغلب حكومات البلدان الصغيرة في نظر شعوبها حكومات أجنبية أو "خائنة"، وهي تتردد بالفعل بين موقف التبعية والالتحاق، أو كما نقول اليوم الاعتدال، لتضمن دعم الدول الكبرى، وموقف التمرد ورد الفعل الذي ينطوي عليه النزوع المبالغ فيه للاستقلال وتأكيد السيادة المستحيلة. ويسرى هذا الوضع اليوم جزئيا على بعض الحكومات الاوروبية الوطنية التي تحتاج كي يستقيم أمرها أن توفق بين الإرادة الشعبية الداخلية وحاجات الاندماج أو الاتساق الأوروبي على مستوى سلطة القرار الاتحادية التي يحركها منطق مستقل عن منطق المصالح الوطنية الخاصة بالاعضاء المكونة لها.قد تنجح بعض الدول في انتزاع قسط كبير من السيادة والاستقلال في حقبة ما نتيجة اضطراب يحصل في علاقات القوة داخل النظام العالمي للدول، كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب النكسة التي شهدتها السيطرة الغربية، والأوروبية خصوصا، بعد الدمار الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، ومن قبلها الحرب العالمية الأولى، والنزاعات العنيفة التي احتلت النصف الأول من القرن العشرين بين الدول الكبرى. لكن سرعان ما نجحت الدول المسيطرة بنيويا، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في امتصاص هامش المبادرة الذي منحته الثورات الوطنية وحركات التحرر من الاستعمار للشعوب والدول الجديدة. وما لبثت بعد زوال الحرب الباردة، وانهيار القوة المناوئة للنظام، حتى أعادت سيطرتها الكاملة، الاقتصادية والسياسية والثقافية على هذه الشعوب، لدرجة زالت فيها من الوجود أو تكاد حركة عدم الانحياز التي كانت تجمع بينها خلال حقبة الاستقلالات القصيرة التي ستبدو في ما بعد وكانها بالفعل حقبة استثنائية مسروقة من التاريخ لا جزءا لا يتجزأ منه.
وفي منطقتنا بدأت الدولة، بوصفها عنصرا في منظومة دولية، تنمي هذا التعارض بين منطق السيادة الشعبية والسيادة الدولية منذ الاستقلال، بل حتى في عصر الوصاية الأجنبية، بالرغم من خضوعها في تلك الحقبة لنظم تعددية ودستورية انتخابية. وهذا هو الذي يفسر الانقلابات الداخلية التي عرفتها هذه الدول والنزاع الذي ميز علاقات النخب المحلية في ما بينها. وكان له دور كبير في إضعاف شرعية النظم الليبرالية نفسها.
بيد أن مقدرة الدولة على مقاومة الإرادة الشعبية وتجاوز النزاعات الداخلية بين النخب السائدة سوف تتضاعف مرات عندما ستتخلص هذه الدولة من النظم والتقاليد التعددية الدستورية، وتفرض نظام الحزب الواحد. ففي مثل هذه الحالة سوف تتحول الدولة إلى لاعب مستقل تماما عن المجتمع، وتدخل مباشرة في لعبة النظام العالمي للدول. وستصبح وظيفتها الرئيسية إخضاع شعوبها بالقوة والعنف لصالح أجندة عالمية، وبالتالي السعي إلى التفاهم مع الدول الكبرى بدل العمل على اكتساب الشعبية من أجل الحفاظ على الوضع القائم وضمان استقرار النظام واستمرار النخب الحاكمة في السلطة والحكم. وسيتسع هامش مبادرة النخب الحاكمة في مواجهة شعوبها بمقدار كسبها التأييد من الخارج وتحسين علاقاتها به وتقاسم المنافع معه. ولن يخفف من ذلك تبني النخب عقائديات اشتراكية أو قومية، بل سوف يعززه بقدر ما يموه منطق العلاقة الجديدة ويبرر الانفراد بالسلطة والقرار.
تشكل الدولة إذن جزءا من بنية سياسية عالمية واحدة، هي التي تحدد طبقتها بين الدول، وتخضعها، بوصفها عضوا في منظومة دولية متفاعلة ومتضامنة، لقواعد عمل لا تستطيع أن تتجاوزها، وإذا تجاوزتها دخلت في منطق العصيان، وألبت ضدها النظام الدولي بأكمله، وعلى رأسه الدول الكبرى المسيطرة لتي تسهر عليه، وتدافع عنه دفاعا عن مكانتها وموقعها وامتيازاتها.

mercredi, août 11, 2010

منطق الجمود وإنكار السيادة

الاتحاد 11 أغسطس 2010

قلت في مقال سابق إن فشل الحركة التحررية التي أعقبت، في خمسينيات القرن الماضي، نشوء الإدارة الحديثة على يد السلطة الاستعمارية، قد أنتج -في الكثير من البلاد العربية التي شهدت اندفاعة قوية نحو الحداثة- ثورة مضادة عملت على إعادة ترجمة العلاقات الاجتماعية الحديثة بين النخبة والشعب على ضوء النموذج التقليدي الذي يفصل بشكل قاطع بين "الخاصة"، وهي نمط من استقراطية الوجهاء والأعيان التي أنتجها غياب الدولة المركزية القوية، وبين "العامة" المحرومة من أي مقام. فعادت الأوضاع السياسية إلى سابق عهدها بين تابع ومتبوع. ولم يكن من المتوقع -في هذه الشروط- أن تتطور روح وطنية تدفع إلى المعاملة المتساوية للأفراد ولا إلى تنمية ملكة المشاركة في الحياة العامة، أو الاهتمام بالشأن العام عند الغالبية الساحقة من السكان. وربما سيطرت أكثر من السابق روح الاتكالية والتسليم للقوة والقبول بالأمر الواقع كما لو كان قدراً محتوماً.

لكن غياب التقاليد السياسية الحديثة وانسحاب الشعب من الساحة السياسية وتخليه عن روح المسؤولية وشعوره بأن مشاكل السلطة والإدارة ميداناً خاصاً بشريحة اجتماعية وليست ميداناً يشارك فيه العموم... لم يمنع وجود أفراد نجحوا -سواء عن طريق الثقافة أو الاحتكاك بالغرب- في تمثل قيم الحداثة السياسية متشبثين بحقهم في المشاركة في حياة مجتمعاتهم العامة.

وقد كان للنظم السياسية المطلقة التي نشأت عقب الثورة "القومية"، الدور الأكبر في قتل هذه النواة التحررية من القوى الصاعدة، وتجريد المجتمعات منها في ما يشبه عملية التعقيم السياسي التي تستخدم، إلى جانب وسائل الردع والتهميش وشل الإرادة، آلية الحرب الوقائية المستمرة والهادفة إلى قتل أي روح استقلالية ناشئة، وخنق أي قوى اجتماعية جديدة نازعة إلى التفكير من أفق العمومية وبلورة مشاريع وسياسات "قومية".

وقد ساعد على هذا أن الأغلبية الساحقة من النخب الحاكمة استلمت السلطة بوسائل السيطرة المباشرة. وقد استمرت في الإمساك بمقاليد السلطة نتيجة اعتمادها مشروعية تاريخية لم يعد النظر فيها ولا يسمح بإعادة النظر أو بتجديد أصولها. والنخب التي لم تعتمد في صعودها إلى سدة الحكم، ولا في تجديدها لنفسها في السلطة، على استشارة المواطنين، ولا تزال ترفض طرح وجودها وبقائها في السلطة، لا بل سياساتها اليومية، لأي اقتراع أو استفتاء، لا يمكن أن تقبل بمبدأ المساءلة والاعتراض، وبالأحرى أن تربط استمرارها في السلطة بمصادقة الرأي العام. ومن الصعب أن تساهم بنية سلطة سياسية قائمة على إنكار السيادة الشعبية وعلى اعتماد مبدأ الأمر الواقع كقاعدة للتعامل السياسي، في التشجيع على التعددية ونمو القوى الديمقراطية. وفي هذا السياق يعني القبول بوجود قوى سياسية مشروعة في الساحة السياسية التراجع عن منطق الوصاية الذي يحكم تفكير النخب السائدة وممارستها، والاعتراف بوجود حقوق للأفراد، وبأن السلطة مسألة اجتماعية لا واقعة طبيعية ولا مرتبة دينية، وبالتالي يمكن طرح سياساتها وأساس البقاء فيها وطريقة ممارستها للنقاش والتفاوض عليها ومن حولها.

وربما كان أفضل اسم يطلق على هذه النظم السياسية العربية ويعبر عن طبيعتها العميقة هو حكم الغلبة، أي السلطة التي لا يتحقق استمرارها إلا بفضل الشوكة والقوة المادية والعسكرية المسلطة، وما تنتجه من أثر مادي ومعنوي على الأفراد، من دون السؤال عن رأي الأغلبية الاجتماعية أو الانشغال بقبولها أو رفضها. فهي نظم سلطة الأمر الواقع. ومن الصعب على سلطة الأمر الواقع أن تطور أي تفكير في التعددية أو أن تدرك مضمون ومعنى التحولات الديمقراطية كتجسيد لإرادة جمعية، بل أن تقدر على تنمية أي شعور بالمسؤولية العمومية عند الحاكمين والمحكومين.

كما أنه من الصعب عليها أن تتطور وتتبدل وتغير نفسها أو تخرج من تقاليدها. فهي لا تتغير إلا بالانهيار من الداخل أو بفعل عوامل خارجية. وأفضل ما يجسد غياب منطق التحول والتطور والتغير فيها هو الثبات الأسطوري الذي ينبغي أن يحظى به ممثلها الأول وزعيمها. فرؤساء الجمهوريات في النظم السياسية العربية لا يتغيرون، ولا يقبل منطق النظام تغييرهم أو تبديلهم. وإذا ماتوا دفع النظام تلقائياً أحد أبنائهم ليحل محلهم، حتى صار التوريث أحد موضوعات الجدال الرئيسية في فكرنا وممارستنا السياسية.

وهذا الحلول بالمعنى الحرفي للكملة هو البرهان على انعدام أي منطق للتغير والتحول والتطور داخل النظام، والتأكيد على ما يلفه من هوس الثبات والاستمرار والاستقرار.

وبالعكس، تخضع النظم السياسية المستندة إلى منطق الاستشارات الشعبية، حتى لو كانت ناقصة أو مزورة في بعض الأحيان، لتغيرات تدريجية، لأنها تكون حساسة لتنامي الضغوط الاجتماعية. بل إن النظم السياسية لا تتطور في الواقع إلا بقدر ما تتضمن اعترافاً، ولو جزئياً في البدء، بشرعية هذه الضغوط وفائدتها في تعديل النظم وإصلاحها أو دفعها للإصلاح، وأهمية المساءلة والمحاسبة، أي بسيادة الشعب وصدور السلطة عنه وحقه في نقلها أو تحويلها، أي بقدر ما ترفض مبدأ قدسية الزعيم وملكية السلطة أو الأهلية الخاصة بالحكم.

أما في البلاد العربية فغالباً ما تعكس الاستشارات، على ندرتها وتعدد شروطها، إرادة الناس أو تعبر بالفعل عن رغباتهم. بل إن الخضوع لهذه الرغبات يبدو للحاكمين والنخب عموماً كما لو كان من قبيل تسليم الأمر، أي السياسة، للجهلة والأميين. ولم تعد هناك حاجة حتى للتغطية الظاهرية على قرارات وسياسات جاهزة الصنع لا يطلب من الشعب سوى التصويت عليها. وفي كثير من الحالات تكون نسبة المصوتين في الانتخابات وعدد الأصوات مقررين مسبقاً قبل بدء الاستشارات الشكلية.

وفي هذه الحالة، أعني غياب التغيير وغياب المشاركة وتقادم النظم، ليس من المستغرب أن يكون تاريخنا السياسي للحقبة الحديثة الماضية مسرحاً لتناوب حركات التمرد وعمليات القمع المنظم والاضطهاد، وتعزيز أحدهما للآخر. وهو تناوب يعكس الآفاق المسدودة للتغيير. أما في الوقت الراهن، ونتيجة تلاقي مصالح النخب القائمة والدول الكبرى في حفظ الاستقرار، وتأمين إسرائيل والدفاع عن تفوقها الاستراتيجي وهيمنتها الإقليمية، فقد تجاوز الأمر ذلك وأصبح تاريخنا الحقيقي هو تاريخ التعايش الدائم وفي الزمن الواحد لحركات التمرد وعمليات القهر معاً ودعم أحدهما الآخر.

samedi, août 07, 2010

مرض نقص المناعة العربي

الوطن 7 آب 10

تحت ضغط النكسات العسكرية والسياسية التي شهدتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج د. بوش اضطرت واشنطن إلى نبذ نظرية الحرب الاستباقية وحتمية تغيير النظم العربية، وتبني سياسة جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والحوار والشراكة الاقتصادية مع العالم العربي والاسلامي. وهذا ما أعلنه الرئيس الجديد فور توليه الرئاسة.

وأمام هذا التغيير وجدت إسرائيل نفسها في وضع جديد يكاد يجردها من وظيفتها التاريخية كرأس حربة في الحرب غير المعلنة لتطويع المشرق العربي وإخضاعه لأهداف السياسة الغربية. فلا تحتاج السياسة الجديدة التي تهدف إلى درء مخاطر تصاعد النفوذ الايراني ونمو الحركات المتطرفة، إلى دولة متخصصة بتأديب الدول المحيطة ، وإنما إلى إسرائيل جديدة أيضا قادرة على التعاون مع الغرب من أجل الحفاظ على الحد الأدني من الاستقرار المهدد في منطقة حيوية بالنسبة للمجتمعات الصناعية. وربما إلى تعزيز قدرات الدول العربية الحليفة، العسكرية والسياسية لتمكينها، من مواجهة تيارات الاحتجاج والتمرد العاتية، الدينية والإتنية.

لم تعن السياسة الجديدة تغيرا في الموقف من المصالح العربية الأساسية، وإنما التراجع نحو خطوط دفاعية أكثر قدرة على حماية مصالح الغرب الاستراتيجية. وليست خطوط الدفاع الأنجع هذه سوى إعادة تكليف الدول العربية بتحقيق الاستقرار والأمن في بلدانها، أو على الأقل المشاركة فيهما، بعد أن سعت سياسة الرئيس الأمريكي السابق إلى نزع الوكالة عنها، والعمل على تغيير سلوكها والإطاحة ببعضها ، والأخذ بزمام الأمور مباشرة في الإقليم لتأمين الأمن والاستقرار بالتعاون مع إسرائيل وتعزيز دورها العسكري والاستراتيجي.

ولم تعن السياسة الجديدة أيضا التخلي عن إسرائيل أو التضحية بها وإنما دفعها إلى لعب دور أكثر ايجابية، وإخضاع استراتيجيتها التوسعية بشكل أكبر لأجندة السياسة الغربية. مما يتطلب من حكومات إسرائيل التقليل من استعراض القوة ومن اللجوء المتكرر إليها ، وبشكل خاص تجميد مشروعها الاستيطاني الذي أصبح مصدر استفزاز دائم وتقويض لصدقية الحكومات العربية.

باختصار، كانت السياسة الأمريكية والغربية الجديدة تحلم، من خلال العودة إلى التحالف مع النظم العربية القائمة وتقريبها منها، بما في ذلك النظم التي لديها مشاكل معها، في أن تستعيد سيطرتها على المنطقة، بعد زعزعة النظام الإقليمي الذي أقامته في المرحلة السابقة، وكانت قوة اسرائيل وتفوقها ونشاطيتها الحربية ركنه الرئيسي. وهي تامل في أن تنجح في تكوين جبهة عربية متراصة تقف ضد "زعزعة الاستقرار" والصعود الايراني المتواصل. ومن الحتمي ان مثل هذا المشروع لا يمكن تحقيقه مع استمرار تسليط اسرائيل كوكيل أعمال مفوض في المنطقة. وبالمثل، أن إضفاء أي حد من الصدقية على هذه السياسية يتطلب كبح جماح إسرائيل وتحديد حجم أطماعها في التوسع الإقليمي الاستيطاني. وهكذا عادت قضية حل النزاع العربي الاسرائيلي إلى مقدمة المسرح بعد غياب طويل.

للذفاع عن دورها التقليدي، شكلت إسرائيل مع اللوبيات المقربة منها جبهة متراصة وفاعلة لإجبار الرئيس أوباما على التراجع عن أهدافه أو حرمانه من وسائل تحقيقها. وتدل الشروط التي أعلن فيها استئناف مفاوضات التسوية السياسية الفلسطينية الاسرائيلية إلى أن مقاومتها قد ثمرت. واضطر الرئيس اوباما إلى التراجع عن وعوده التي كان قد قدمها للعرب.

بالمقابل تراجعت الجامعة العربية عن شروطها التي أعلنتها على لسان أمينها العام، والتي نصت على أنه لا عودة للمفاوضات من دون وقف الاستيطان والحصول على ضمانات بجدية الدورة الجديدة منها، وقبلت بالتغطية السياسية على دخول الفلسطينيين في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل من دون أي إطار زمني أو سياسي واضح.

كنا نعتقد أن إسرائيل ستجد نفسها أخيرا في مأزق وستضطر للقبول بشروط واشنطن أو على الأقل ببعضها، وأن الموقف العربي كان الأقوى، بسبب الاتفاق العربي، والتردي الكبير الذي حصل لصورة اسرائيل وسمعتها بعد نشر تقرير غولدستون، ثم أكثر من ذلك هجومها على اسطول الحرية المتوجه إلى غزة وانكشاف جريمة حصارها للقطاع للرأي العام العالمي. فما الذي حدث حتى انقلبت الأمور رأسا على عقب، وقبلنا بخسارة الجولة الأولى من المفاوضات، وهي الأهم، لأنها تتعلق بشروط سيرها وإدارتها؟

جميعنا نعرف أن لاسرائيل لوبيا قويا في واشنطن، وأن هذا اللوبي قد عمل المستحيل للي عنق أوباما وثنيه عن قراره بدعم مفاوضات تفضي إلى إقامة دولتين كحل نهائي لما يسمى أزمة الشرق الأوسط. وهناك من يشير إلى أن الجامعة العربية قد تلقت رسائل تطمينية من الرئيس الأمريكي شجعتها على المضي في المفاوضات المباشرة من دون شروط. لكن هناك أيضا إشارات متكررة إلى التهديدات التي تعرض لها الفلسطينيون ومخاطر رفضهم الانصياع إلى مطالب الحكومة الأمريكية ، واحتمال تخلي الإدارة عن دعم الفلسطينيين في هذه المرحلة وتركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم.

كل هذا صحيح لكنه لا يفسر وحده نجاح نتنياهو في ثني الإدارة الأمريكية عن سياستها ؟

الصحيح أيضا أن إسرائيل عملت كل ما بوسعها، لتحويل الموقف الذي كان لغير صالحها، وجر العواصم الدولية في النهاية، وفي مقدمها واشنطن، إلى القبول بشروطها. وليس ما قامت به في واشنطن عن طريق لوبياتها هو الأهم في نظري ولكن ما حاكته من مناورات في المنطقة هددت بزعزعة استقرارها، وكان آخر فصوله ما نشرته صحافتها عن مضمون القرار الظني للمحكمة الدولية، وما أحدثته من ضجيج حول احتمال نشوب حرب في المنطقة أو تجدد الفتنة والحرب الطائفية في لبنان. وقد ابتلع العرب الطعم، فكادت الفتنة تشتعل بالفعل، مما دفع القادة إلى قمة بيروت لتطمين الأطراف القلقة وتهدئتها. وأمام هذا الوضع صار القبول بالتنازل في شروط التفاوض حول التسوية الإقليمية، عند العرب، وربما بالنسبة لإدارة أوباما أيضا، أهون الشرين أمام مخاطر زعزعة الاستقرار الإقليمي الذي كان ولا يزال السلاح الأمضى لاسرائيل. مما يعني أن جوهر الضعف في الموقف العربي هو نقص المناعة الدائم وربما الكامل في المنظومة العربية بأكملها.