mercredi, août 11, 2010

منطق الجمود وإنكار السيادة

الاتحاد 11 أغسطس 2010

قلت في مقال سابق إن فشل الحركة التحررية التي أعقبت، في خمسينيات القرن الماضي، نشوء الإدارة الحديثة على يد السلطة الاستعمارية، قد أنتج -في الكثير من البلاد العربية التي شهدت اندفاعة قوية نحو الحداثة- ثورة مضادة عملت على إعادة ترجمة العلاقات الاجتماعية الحديثة بين النخبة والشعب على ضوء النموذج التقليدي الذي يفصل بشكل قاطع بين "الخاصة"، وهي نمط من استقراطية الوجهاء والأعيان التي أنتجها غياب الدولة المركزية القوية، وبين "العامة" المحرومة من أي مقام. فعادت الأوضاع السياسية إلى سابق عهدها بين تابع ومتبوع. ولم يكن من المتوقع -في هذه الشروط- أن تتطور روح وطنية تدفع إلى المعاملة المتساوية للأفراد ولا إلى تنمية ملكة المشاركة في الحياة العامة، أو الاهتمام بالشأن العام عند الغالبية الساحقة من السكان. وربما سيطرت أكثر من السابق روح الاتكالية والتسليم للقوة والقبول بالأمر الواقع كما لو كان قدراً محتوماً.

لكن غياب التقاليد السياسية الحديثة وانسحاب الشعب من الساحة السياسية وتخليه عن روح المسؤولية وشعوره بأن مشاكل السلطة والإدارة ميداناً خاصاً بشريحة اجتماعية وليست ميداناً يشارك فيه العموم... لم يمنع وجود أفراد نجحوا -سواء عن طريق الثقافة أو الاحتكاك بالغرب- في تمثل قيم الحداثة السياسية متشبثين بحقهم في المشاركة في حياة مجتمعاتهم العامة.

وقد كان للنظم السياسية المطلقة التي نشأت عقب الثورة "القومية"، الدور الأكبر في قتل هذه النواة التحررية من القوى الصاعدة، وتجريد المجتمعات منها في ما يشبه عملية التعقيم السياسي التي تستخدم، إلى جانب وسائل الردع والتهميش وشل الإرادة، آلية الحرب الوقائية المستمرة والهادفة إلى قتل أي روح استقلالية ناشئة، وخنق أي قوى اجتماعية جديدة نازعة إلى التفكير من أفق العمومية وبلورة مشاريع وسياسات "قومية".

وقد ساعد على هذا أن الأغلبية الساحقة من النخب الحاكمة استلمت السلطة بوسائل السيطرة المباشرة. وقد استمرت في الإمساك بمقاليد السلطة نتيجة اعتمادها مشروعية تاريخية لم يعد النظر فيها ولا يسمح بإعادة النظر أو بتجديد أصولها. والنخب التي لم تعتمد في صعودها إلى سدة الحكم، ولا في تجديدها لنفسها في السلطة، على استشارة المواطنين، ولا تزال ترفض طرح وجودها وبقائها في السلطة، لا بل سياساتها اليومية، لأي اقتراع أو استفتاء، لا يمكن أن تقبل بمبدأ المساءلة والاعتراض، وبالأحرى أن تربط استمرارها في السلطة بمصادقة الرأي العام. ومن الصعب أن تساهم بنية سلطة سياسية قائمة على إنكار السيادة الشعبية وعلى اعتماد مبدأ الأمر الواقع كقاعدة للتعامل السياسي، في التشجيع على التعددية ونمو القوى الديمقراطية. وفي هذا السياق يعني القبول بوجود قوى سياسية مشروعة في الساحة السياسية التراجع عن منطق الوصاية الذي يحكم تفكير النخب السائدة وممارستها، والاعتراف بوجود حقوق للأفراد، وبأن السلطة مسألة اجتماعية لا واقعة طبيعية ولا مرتبة دينية، وبالتالي يمكن طرح سياساتها وأساس البقاء فيها وطريقة ممارستها للنقاش والتفاوض عليها ومن حولها.

وربما كان أفضل اسم يطلق على هذه النظم السياسية العربية ويعبر عن طبيعتها العميقة هو حكم الغلبة، أي السلطة التي لا يتحقق استمرارها إلا بفضل الشوكة والقوة المادية والعسكرية المسلطة، وما تنتجه من أثر مادي ومعنوي على الأفراد، من دون السؤال عن رأي الأغلبية الاجتماعية أو الانشغال بقبولها أو رفضها. فهي نظم سلطة الأمر الواقع. ومن الصعب على سلطة الأمر الواقع أن تطور أي تفكير في التعددية أو أن تدرك مضمون ومعنى التحولات الديمقراطية كتجسيد لإرادة جمعية، بل أن تقدر على تنمية أي شعور بالمسؤولية العمومية عند الحاكمين والمحكومين.

كما أنه من الصعب عليها أن تتطور وتتبدل وتغير نفسها أو تخرج من تقاليدها. فهي لا تتغير إلا بالانهيار من الداخل أو بفعل عوامل خارجية. وأفضل ما يجسد غياب منطق التحول والتطور والتغير فيها هو الثبات الأسطوري الذي ينبغي أن يحظى به ممثلها الأول وزعيمها. فرؤساء الجمهوريات في النظم السياسية العربية لا يتغيرون، ولا يقبل منطق النظام تغييرهم أو تبديلهم. وإذا ماتوا دفع النظام تلقائياً أحد أبنائهم ليحل محلهم، حتى صار التوريث أحد موضوعات الجدال الرئيسية في فكرنا وممارستنا السياسية.

وهذا الحلول بالمعنى الحرفي للكملة هو البرهان على انعدام أي منطق للتغير والتحول والتطور داخل النظام، والتأكيد على ما يلفه من هوس الثبات والاستمرار والاستقرار.

وبالعكس، تخضع النظم السياسية المستندة إلى منطق الاستشارات الشعبية، حتى لو كانت ناقصة أو مزورة في بعض الأحيان، لتغيرات تدريجية، لأنها تكون حساسة لتنامي الضغوط الاجتماعية. بل إن النظم السياسية لا تتطور في الواقع إلا بقدر ما تتضمن اعترافاً، ولو جزئياً في البدء، بشرعية هذه الضغوط وفائدتها في تعديل النظم وإصلاحها أو دفعها للإصلاح، وأهمية المساءلة والمحاسبة، أي بسيادة الشعب وصدور السلطة عنه وحقه في نقلها أو تحويلها، أي بقدر ما ترفض مبدأ قدسية الزعيم وملكية السلطة أو الأهلية الخاصة بالحكم.

أما في البلاد العربية فغالباً ما تعكس الاستشارات، على ندرتها وتعدد شروطها، إرادة الناس أو تعبر بالفعل عن رغباتهم. بل إن الخضوع لهذه الرغبات يبدو للحاكمين والنخب عموماً كما لو كان من قبيل تسليم الأمر، أي السياسة، للجهلة والأميين. ولم تعد هناك حاجة حتى للتغطية الظاهرية على قرارات وسياسات جاهزة الصنع لا يطلب من الشعب سوى التصويت عليها. وفي كثير من الحالات تكون نسبة المصوتين في الانتخابات وعدد الأصوات مقررين مسبقاً قبل بدء الاستشارات الشكلية.

وفي هذه الحالة، أعني غياب التغيير وغياب المشاركة وتقادم النظم، ليس من المستغرب أن يكون تاريخنا السياسي للحقبة الحديثة الماضية مسرحاً لتناوب حركات التمرد وعمليات القمع المنظم والاضطهاد، وتعزيز أحدهما للآخر. وهو تناوب يعكس الآفاق المسدودة للتغيير. أما في الوقت الراهن، ونتيجة تلاقي مصالح النخب القائمة والدول الكبرى في حفظ الاستقرار، وتأمين إسرائيل والدفاع عن تفوقها الاستراتيجي وهيمنتها الإقليمية، فقد تجاوز الأمر ذلك وأصبح تاريخنا الحقيقي هو تاريخ التعايش الدائم وفي الزمن الواحد لحركات التمرد وعمليات القهر معاً ودعم أحدهما الآخر.

Aucun commentaire: