قلت في مقال سابق، لا يمكن للشخص نفسه أن يكون ناقدا علميا للدين على طريق فلاسفة الأنوار، ومصلحا دينيا على طريقة لوثر أو كالفن أو حتى محمد عبده. وليس للعالم أن يعمم حقيقته على الجمهور، ولا للمصلح أن ينطلق في إصلاح الدين من تطبيق المناهج العلمية على التراث. فلكل منهما ألوياته التي لا يمكن أن تختلط بأولويات الآخر من دون أن تثير شكوكا مبررة، في البحث العلمي المطبق على الدين، وفي الدعوة الاصلاحية المستمدة منه، على حد سواء. وهذا ما عانت منه ولا تزال ما يمكن أن نسميه الدراسات الاسلامية الحديثة في العالم العربي التي ربطت، من دون تمييز، بين النقد العلمي للفكر والتاريخ الدينيين، والسعي إلى تسويد تأويلات جديدة للدين تجعل من الباحثين الاجتماعيين دعاة ومبشرين بدين هو بالأحرى دين العلماء العقلاني الذي ليس له علاقة بدين المؤمنين العاديين. وهذا ما يذكرنا بدين عبادة العقل الذي نشأ في أعقاب الثورة الفرنسية وارتبط بالفلسفة الوضعية لأوغوست كونت. وربما يفسر هذا ما يواجهه خطاب التجديد الديني العربي الحديث من سوء فهم، بل أحيانا من اتهامات بسوء النوايا والغايات معا.
ولعل أبرز مثال على هؤلاء محمد أركون الذي بدأ باحثا اجتماعيا، أي علميا، في الدين، وفي الاسلام بشكل خاص، وانتهى داعية إصلاح ديني سلبي، يثير عداء المتدينين أكثر مما يدفعهم إلى التجديد. والواقع أن أركون لم يكتشف رسالته الدعوية إلا متأخرا، بعد أن بدأت ترجمات أعماله تجذب إليه أنظار الكثيرين من طلبة التجديد الفكري والديني. وهكذا وجد نفسه مدفوعا شيئا فشيئا إلى الحديث كمصلح ديني. ومع نمو الحركات الاسلامية الاحتجاجية أو المتطرفة تضاعف الطلب على الخطاب العقلي في الدين. وتحول أركون إلى ما يشبه الناطق الرسمي، على منابر العالم العربي وفي الغرب معا، باسم إسلام العقل وتجديد الفكر الديني.
وليس في هذا التحول أي بأس. فليس المطلوب من العالم أن يكون معزولا عن مشاكل مجتمعه. وأنا من الذين يعتقدون أن علم الاجتماع لا قيمة له إن لم يكن في الوقت نفسه علم إصلاح للمجتمع. مما يعني أنه لا يوجد بحث علمي منفصل تماما عن اختيارات قيمية عميقة. ومن الطبيعي أن يستثمر الباحث العلمي الذي يريد الانخراط في النقاش النظري المتعلق بالمشاركة في تقرير مصير مجتمعه، نتائج أبحاثه في بلورته للخيارات التي يقترحها من أجل إصلاح النظام الاجتماعي. ففي السياسة كما في الاقتصاد كما في علم اجتماع الدين، هناك خيارات نظرية أساسية لا يمكن لأي عالم أن يتقدم في بحثه من دونها أو بمعزل عن إضاءتها. وإذا لم يكن الأمر يبدو بهذا الوضوح في المجتمعات الغربية والصناعية فلأن الديمقراطية واقتصاد السوق والعلمانية أصبحت قيما مضمرة بديهية، بل حقائق أولية لا تناقش في منظومة علمية عالمية ترعرعت في حجر الثقافة والسياسة الغربيتين.
لكن ناردا ما يثير استثمار الباحثين نتائج أبحاثهم في مواقفهم الاجتماعية مشاكل فكرية وأخلاقية وسياسية خطيرة كما يثيرها استغلال نتائج البحث العلمي في الدين. ففي هذا المجال يغامر الباحث من دون شك بأن يصدم بقوة وعي المؤمنين ويثير عداءهم. ذلك أن الحقائق الدينية هي بالتعريف غير علمية ،ولا تستند إلى أدلة مادية أو تجريبية أو معرفة موضوعية. وتحليل الفكر الديني ونقده وتفكيكه، مما يشكل محور عمل الباحثين العلميين في الدين، يمس ميدان المقدسات، ويتعرض لاعتقادات وتصورات وروايات دينية وتاريخية مستبطنة تمد المؤمنين بمعنى حياتهم وتضفي قيمة على أعمالهم، وتحتل، لهذا السبب، مكانة خاصة لا يمكن إخضاعها ببساطة للمحاكمة العلمية أو النقد التاريخي. ومن هنا يحمل الخطاب العلمي في الدين مخاطر مواجهات حتمية، ليس بين الباحثين العلميين ورجال الدين أو أصحاب الولاية الرسمية أو شبه الرسمية فحسب، ولكن بين الباحثين والمؤمنين أنفسهم، عندما يدرك هؤلاء أن وراء التحليلات العلمية الجديدة يكمن خطر زعزعة أكيدة للعديد من المسلمات والاعتقادات الراسخة.
من هنا، ربما كان أهم ما يتميز به برنامج الاصلاح الديني هو أنه ليس مرتطبا بالعلم، ولا يستند إلى قوة الدليل العقلي أو المحاكمة الموضوعية، ولا علاقة له بنشر التاويل العقلي للنص الديني. ولم يحدث أن كان وراء حركات الاصلاح الديني عالم إجتماع أو سياسة أو اقتصاد أو انتروبولوجية. قد ينجم التأويل الأقرب إلى المنطق العلمي عن الاصلاح، لكنه ليس أصله ولا وسيلته. فالدين بالأساس ايمان، والايمان ليس من أفعال العقل، بل هو عكسه، ولا يتوهج بالحجة المنطقية الموضوعية أو المادية، وإنما تحركه القصة والعبرة والأسطورة والرمز. فهو بالتعريف فعل تسليم. وهنا، التسليم بحقائق تتجاوز العقل العلمي، حقائق وجود خالق للكون، وبالتالي للانسان، من خارج الزمان والمكان، هو بالتعريف لا يحول ولا يزول ولا تدركه العقول.
لذلك لم يقم الاصلاح الديني في الماضي على عاهل مفكرين وفلاسفة عقلانيين ولا علماء رياضيين، وإنما ارتبط برجال دعوة دينيين من أصحاب الكرامة والجاذبية والسحر الشخصي. وهو بالتأكيد لا يتم أيضا بقرار، ولا يعتمد على نوعية الفكر العقلاني أو غير العقلاني، إذ ما قيمة الفكر الجديد إذا لم يرجع صداه لدى المؤمنين، ولم يؤثر فيهم، ولم يتفاعل مع عواطفهم ويلهب خيالهم.
هذا لا يعني أنه لا قيمة للفكر الفلسفي والعقلي أو للتأويل الفلسفي والتاريخي للدين، مما نشط به الكثير من مفكرينا في العقود الأربعة أو الخمسة الماضية. لكن ليس على مستوى عملية الاصلاح الديني، أي إصلاح ايمان مئات الملايين من البشر، وإنما من باب تطوير الفكر النقدي عند النخب الاجتماعية وعند الرأي العام ككل، وهو ما لا بد أن ينعكس ايجابيا على مستوى الجمهور الواسع، وعلى أسلوب تعاطيه مع الدين. بل هو شرط ولادة المصلحين من المتدينين الذين يرون في تجديد العقيدة الدينية، أو في إدخال أفكار مبتكرة على الفكر الديني، أو نقد ما هو سائد من تقاليد دينية ليست جزءا لا يتجزأ من الدين، أو ابتكار معان وتأويلات جديدة في الدين، غاية نشاطهم ومشروع حياتهم الفكرية. فتطور الفكر الديني مرهون هو نفسه، في الزمن الذي نعيش، بتطور الفكر العلمي والموضوعي، وليس العكس كما يعتقد أكثر مثقفينا المعاصرين.
هذا يعني أخيرا، أن تطوير مناهجنا العلمية وتوسيع دائرة نشاطنا الفكري، وتجديد أساليب تناولنا لمشكلات قديمة وحديثة، والارتقاء بمستوى وعينا النظري وقدراتنا على مواجهة ما يستجد من أمور العالم، هو هدف الفلسفة والمفكرين والعلماء، وهو غاية قائمة بذاتها. وهي مفيدة، وضرورية، ليس بسبب ما يمكن أن تحدثه مباشرة من تجديد في عقائد الجمهور الدينية، وإنما لما تحدثه من تحويل في بنية العقل السائد، وما تساهم به من تربية فردية واجتماعية، تعزز روح التفكير القائم على الحجة العقلية، في الدين وخارج الدين، وتمكن لمفهوم التعددية الفكرية وحق الاختلاف، مما لا يمكن من دونه تحقيق أي إصلاح، دينيا كان أم سياسيا. وبهذا تتأكد أسبقية المعرفة العقلية، المنطقية والتاريخية معا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire