mercredi, mars 12, 2008

نفاق الغرب

الاتحاد 12 مارس 08

بنيت ثقافة الغرب الحديث بأكملها على أخلاقيات الاستقامة والصراحة والصدق والشفافية، التي يعززها الاعتراف بشرعية اختلاف المصالح بين فئات المجتمع، وشرعية الاختلاف في الاعتقادات والأراء والأفكار والآراء ووجهات النظر. وكان لهذه الأخلاقيات الجديدة الفضل الأكبر في تأسيس حياة مدنية سليمة قائمة على مباديء الحق والمساواة والعدالة والاحترام المتبادل، وفي بناء حياة سياسية ديمقراطية قائمة على التنافس النزيه ونبذ الحرب والعداون بين أفراد المجتمع الواحد وفئاته المختلفة. وبالتالي في نشوء مفهوم السياسة والوحدة الوطنية، بل وجود الوطنية نفسها كمفهوم وممارسة، وتحضر الدول، وتطور مفهومها ووظائفها، واستقرار المجتمعات. فبفضل هذه الأخلاقيات، لم يعد الإنسان فيها، فردا كان أم مجموعة، بحاجة إلى اللف والدوران والكذب والغش والخداع، أو ما كان يسمى في أدبياتنا العربية الكلاسيكة الحيلة، حتى يضمن حقه في الوجود المختلف، ويحفظ مصالحه، ولا يعرض نفسه في ذات الوقت لبطش أصحاب السلطة أو المال او الجاه. وبالعكس، كان علم الحيل والاحتيال في ماضي ما قبل الحداثة السلاح الوحيد الذي يسمح بتعديل منطق القوة ذي الاتجاه الواحد، وبإدخال عناصر أخرى، من ذكاء ودهاء وحنكة ومناورة، في معادلة العلاقات الاجتماعية والدولية وميزانها.
بيد أن ما كانت ثقافة القرون الوسطى السياسية تختزنه، في كل المجتمعات، من إرث الحيلة والاحتيال، وما سيتخذ في ما بعد خطأ اسم المكيافيلية، نسبة لذاك الذي أخرج السياسة من منطق العقيدة، وألغى بالتالي الحاجة إلى الخداع والاحتيال، وجعل منهما جزءا من خطط أكبر للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، لن يزول من الوجود. إنه سوف ينمو ويتجمع ليتحول إلى مادة أساسية في نظام توجيه الممارسة التي طبعت ولا تزال تطبع علاقة الدول الغربية بالمجتمعات والبلاد الأخرى. فعلى هذا الإرث من القيم سوف تستند الممارسة الاستعمارية التي أوقعت بالشعوب، وأدخلتها في شراكها، وأخضعتها لمصالحها واهدافها، من دون أن تتخلى لحظة في خطابها، أمام الآخرين أو أمام جمهورها، عن مديح الحرية والمساواة والعدالة الانسانية. وفي قلب هذه الممارسة القائمة على الخداع وبموازاتها يتحول النفاق إلى ممارسة كاملة، تقول غير ما تفعل، وتعلن غير ما تضمر، وتوعد غير ما تقرر. وهو يفسر وحده كيف أمكن لأصحاب المشروع الاستعماري أن يجمعوا بين خطاب الإنسية وتلك الممارسات الوحشية التي رافقت وضع اليد على أراضي القارات المختلفة، وتحويل شعوبها لعقود طويلة إلى عبيد أو ما يشبه ذلك، أي أن يجمعوا بين منطق الدفاع عن تحرر الانسانية وانعتاقها والسقوط في بربرية العنصرية والإبادة الجماعية.
لم أذكر ذلك لأكشف عن أحد مظاهر العطب والنقص الذي لا يزال يميز الحداثة ويفسر موجه الاحتجاج والارتداد العنيفة عليها وعلى قيمها في مناطق واسعة من المعمورة، وليس في البلاد الإسلامية فحسب، وأعني بهذا العطب استمرار قيام العلاقات الدولية وبين المجتمعات على أسس "ميكيافيلية"، تضعف من صدقية قيم الحرية والمساواة والعدالة التي تؤسس جوهر الحداثة فحسب. ولم أذكره أيضا لأشير إلى المأساة التي نجمت عن انتقال هذا الإرث الاستعماري نفسه إلى النخب المحلية السائدة في البلاد التي استعمرت سابقا، وتبنيها له ولقيمه بالجملة. إن ما ذكرني به هو ما جري ويجري في غزة ومن حول مأساتها، والذي يشكل هو نفسه امتدادا لما جرى في المشرق العربي من ممارسات أدخلت الشرق الأوسط بأكمله في متاهة لا مخرج منها، وتهدد بتقويض أسس السلام العالمي نفسه. ولا أقصد هنا الإشارة إلى السياسات الاستعمارية القديمة التي لا تزال هنا راهنة، وإنما إلى الطريقة التي نظر بها الغرب، وأعني هنا بالغرب الحكومات والرأي العام معا، ولا يزال ينظر بها إلى المسألة الفلسطينية، التي نشأت من رميه نتائج سياساته العنصرية تجاه اليهود على العرب، وعلى الفلسطينيين منهم بشكل خاص.
فكيف نفسر، من دون هذا النفاق، نجاح إسرائيل التي ما كان من الممكن أن تقوم ولا أن تبقى، باعتراف قادتها أنفسهم، من دون احتضان الغرب ودعمه السياسي والأخلاقي والعسكري، في الاستمرار في المراوغة وتحدي إرادة الغرب الذي يدعي الالتزام بالسلام والتسوية والحل العادل للقضية الفلسطينية، وفي إحباط مبادراته، المتكررة منذ أكثر من نصف قرن، وحلوله المقترحة، ونصائح لجانه الرباعية وغير الرباعية، وفي الوقت نفسه رفض الحكومات الغربية، بما فيها الاوروبية المؤيدة كما تقول للحقوق الفلسطينية، اتخاذ أي عقوبات ضد الدولة العبرية. بل بالعكس عدم الخجل من الاحتفاء بها في المناسبات الدولية وجعلها، كما هو الحال هذا الشهر في فرنسا، ضيف الشرف على معرض الكتاب العالمي، بالرغم من ممارساتها اللاإنسانية، حسب عبارة منظمات حقوق الانسان الدولية، في غزة وغيرها من المناطق الفلسطينية؟ وكيف نصدق أنه، لا الولايات المتحدة ولا أوروبا ولا روسيا ولا غيرها من الدول الكبرى الصديقة والقريبة لاسرائيل، وكلها تدعي الإخلاص لقيم الحرية والعدالة والمساواة، والصداقة للعرب والمسلمين أيضا، لا تملك أن تتخذ أي إجراء لثني إسرائيل عن ممارساتها العنصرية وتشجيعها على الدخول في منطق السلام والتسوية السياسية؟
ما الذي يمكن أن نحسه غير الاحباط، وأن نفكر به غير النفاق، إزاء وعود تتكرر ولا تنفذ منذ قرن، ومبادرات سلام، أمريكية أو اوروبية، تتوالى كل سنتين او ثلاثة دون جدوى، ومؤتمرات دولية تعقد وتموت من دون اكتراث، وموائد حوار تنظم من دون ثمرة ولا إنجاز، ومشاورات عالمية لا تتوقف، ومباحثات تعددية او ثنائية يقوم بها مبعوثون مخصوصون للشرق الأوسط لا تثير حتى فضول الصحافة المحلية، ومفاوضات لا تنتج غير البيانات المنمقة التي لا تهدف إلا إلى خداع العرب وتسكين غضب الرأي العام؟ وإلى متى سيحتمل العرب مهزلة السلام الموعود، الذي أخذ الغرب ثمنه سلفا بدمج الدول العربية في الحرب ضد الإرهاب، ولهاث حكوماتهم وراء سراب حلول ومبادرات، يعرف الجميع منذ البداية، ورعاتها الغربيون أولهم، أن الهدف الفعلي لها غير الهدف المعلن، ولا تفيد إلا في إعطاء إسرائيل المزيد من الوقت لتحقيق أهدافها، مع مراعاة مصالح النظم العربية وحفظ ماء وجهها، وتصبير الفلسطينيين على جراحهم وآلامهم، بانتظار أن تتحقق الغاية، ويصبح لا مناص لهم من الاعتراف بعدم وجود أية إمكانية لإقامة دولة فلسطينية بالمعنى الحقيقي للكلمة، والقبول نتيجة ذلك بما قسم لهم، أي بمجموعة من المعازل المقطوعة والمعدمة داخل إسرائيل الكبرى، حتى لو أطلق على هذه المعازل اسم دولة، وربما جماهيرية عظمى.
ثم ما الفائدة من ترديدنا التحليلات نفسها، والتذكير بالمسؤوليات، والتحذير من النتائج، مادامت سياسة الخداع والكذب والغش مستمرة، وطالما لم تدرك الحكومات ورأيها العام، في الغرب والدول الصناعية الكبرى والعالم أجمع، أن قيم الحداثة الإنسانية ليست نهائية ولكنها قابلة للارتداد، وأن خيانتها المستمرة، على أي مستوى من مستويات العلاقات الإجتماعية والدولية، ومن قبل أي طرف كان، يقود لا محالة إلى النكوص الجماعي عنها، بما يعنيه ذلك من تعميم مشاعر الشك والخوف وقيم العنصرية والعدوان، والتهديد بتوسيع دائرة حرب عالمية بدأ فتيلها يشتعل بالفعل، منذ الآن، في أكثر من بقعة من بقاع المعمورة.

2 commentaires:

Anonyme a dit…

أتفق معك في كل ماذهبت أليه من نفاق الغرب وازدواجية المعايير التي يستخدمونها عندما نرى النظام القيمي المعمول به داخل دولهم ونرى في نفس الوقت تعاملهم مع البلدان الأخرى، لكن لا أتفق معك في ما ذهبت إليه في آخر هذا المقال عندما عولت على إدراك الحكومات الغربية ورأيها العام ليست نهائية وأن استمرار خيانتها يقود إلى النكوص الجماعي عنها، وهذا ما بدأنا نستشعره حقيقة في قلب تلك المجتمعات ذاتها. اختلافي معك هنا هو حول مسؤولية إنقاذ تلك القيم الإنسانية من حرية ومساواة واحترام متبادل التي ناضل الإنسان في سبيلها آلاف السنين، فلا شك أن الغرب حكومة ومجتمعات يتحمل جزءً من المسؤولية ولكنك أغفلت مسؤولية مجتمعات ما يسمى بالدول النامية والتي هي من يعاني الآثار المباشرة داخلياً وخارجياً لهذا الخلل في التعاطي مع القيم الإنسانية، أعتقد أنه من واجبها أن تلعب دورها في عولمة هذه القيم بالمعنى الإيجابي بعيداً عن الأمركة. أصبح من واجبها الآن انقاذ القيم الإنسانية من براثن الحكومات الغربية وآلاتها الإعلامية، ولا تستطيع أن تفعل ذلك إلا عندما تنتزع حريتها من حكامها المستبدين وتطور آلياتها الخاصة لمواجهة طموحات الغرب الاستعمارية ونيل استقلالها الحقيقي. عندها تستطيع أن تفرض احترامها على الغرب وتصحح المسارات العملية لتطبيق مفاهيم القيم الإنسانية، وهي بذلك تكون قد قدمت خدمة لنفسها أولاً وللحضارة الإنسانية ثانياً.

Anonyme a dit…

تحية طيبة..
الحق يقال المجتمع الغربي يعيش رفاهية وحرية تتلائم مع ظروفه وطبيعته، وكل فرد في المجتمع الغربي يحس بقيمة نفسه لذلك فهو ينطلق من هذه القيمة التي يحس بها في سبيل بناء نفسه ومجتمعه، وحينما يأتي الأمر على العلاقات الدولية يبقى الأمر أمراً سياسياً بحتاً فمعظم الشعوب الغربية تريد نوع من التمازج الثقافي مع الشعوب الأخرى لا الصدام الحضاري الذي يسعى إليه الساسة الغربيين بفرض عقلية الهيمنة على شعوبها..
المشكلة يا عزيزي.. بأن الشعوب الشرقي أو بالأحرى العربية لطالما عقدت آمالها على المصلحين العالميين وعلى الشرطي العالمي في استرداد حقوقها المغتصبة في الوقت نفسه لا تستطيع أن تتنفس إلا بأمر ولي الأمر فكيف لها أن تحصل على حرية قادمة من الخارج في حين أن الداخل مصاب بمتلازمة الحرية الاوتوقراطية..
تقديري..

نايثن..