الجزيرة نت 19 مارس آذار 07
وبالنسبة لشعوب المنطقة، يخلق انهيار الشرق الاوسط القديم، الذي يضاف إلى انهيار النظام العربي القومي الذي عمل العرب من دون نجاح على إحلاله محل نظام التبعية الغربية، في الخمسينات والستينات، فراغا كبيرا وخطيرا، استراتيجيا وسياسيا وفكريا ورمزيا في الوقت نفسه. ويثير فراغ القوة هذا شهية اطراف محلية واجنبية عديدة، ويجذبها للدخول في لعبة الشرق الأوسط وتغيير قواعدها. كما يعطي للقوى المختلفة المكونة للنظام الشعور بهامش أكبر للحركة المستقلة، ويدفعها إلى التطلع إلى سياسات بديلة، والبحث عن استقطابات لم يكن من الممكن تصورها من قبل. هكذا تنزع كل قوة إلى مراجعة حساباتها الوطنية والإقليمية، والتفكير في إعادة تحديد أهدافها وسياساتها، في سياق الاستعداد للمشاركة في بناء نظام شرق أوسطي جديد، يقوم ككل نظام، على توازن القوى واتساق الرؤى الكبرى، وتوفير الموارد، وتحديد الغايات، وبلورة الأهداف وتعيين الوسائل.
وفي هذا الإطار، وكما عمل فراغ القوة الذي نشأ عن انهيار الاتحاد السوفييتي إلى تعظيم شهية نظام البعث العراقي إلى توسيع دائرة نفوذه وفرض نفسه حارسا للخليج، وأدى بهذا النظام نفسه إلى الهلاك في مواجهة القوى الدولية الضارية، التي لا تخاف من الوحوش الصغيرة حتى لو كانت مفترسة، سعت ايران أحمدي نجاد في الأشهر الماضية إلى استغلال فراغ القوة الناجم عن انهيار الوضع الأمريكي في الشرق الأوسط، وهو في أساس استقرار النظام، للتقدم والتصدي لموقع القوة الإقليمية القائدة والمتحدية. ووجد هذا التوجه الايراني نحو تأكيد زعامتها الفكرية والسياسية، وهو ما هدفت إليه التصريحات والمواقف والنشاطات الموجهة لكسر المقدسات الصهيونية،وعملها على مراكمة القوة التي يجسدها التاكيد على استقلال البرنامج النووي الوطني، ولعب دور إقليمي رئيسي في مواجهة الولايات المتحدة وسياساتها التسلطية، هوى قويا عند بعض الأطراف المحلية التي عانت ولا تزال تعاني من غطرسة القوة الأمريكية وظلمها أيضا، في سورية وفلسطين ولبنان وغيره من البلدان العربية. وهكذا تشكل ما أطلق عليه المحللون السياسيون الدوليون محور طهران/دمشق/حزب الله/ حماس الذي وجد في الوقوف في وجه السياسات الامريكية هدفا مشتركا لجميع الأطراف. وبينما يتوقف حلم دمشق البعثية في استغلال قيام المحور الجديد على تحصين نفسها ضد الضغوط الدولية التي تتعرض لها في إطار تكوين المحكمة الدولية للتحقيق في مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، والهرب من دفع ثمن الخطأ الذي ارتكبته بوضع نفسها علانية في خانة المتهم بمقاومة السياسة الأمريكية في العراق والفرنسية في لبنان، يأمل حزب الله أن يمكنه صعود نجم طهران الإقليمي وتحديها للولايات المتحدة، ذات السياسات المخفقة والمتخبطة، من الاحتفاظ بقوته العسكرية والسياسية داخل لبنان، أي الاحتفاظ بأسلحته، تطمح حماس، في المقابل، كغيرها من القوى الشعبية المناهضة للسيطرة الأمريكية، إلى الحصول من المحور نفسه على دعم مادي واستراتيجي وسياسي ومعنوي يعوض الدعم العربي والأوروبي الذي فقدته، والذي لا أمل لها من دونه في البقاء والاستمرار في الحكم في فلسطين.
لكن، بالرغم من الوضع شبه اليائس الذي تعيشه السياسة الأمريكية الشرق أوسطية اليوم، وغياب خياراتها الجدية، لا أعتقد أن أمام المشروع القومي الايراني مستقبل كبير، سواء نجح الايرانيون في الحصول على القنبلة النووية ام لا. وليس هناك أي أمل في أن تتحول ايران إلى محور السياسة الشرق أوسطية أو محركها الرئيسي. فحتى لو أخفق التحالف الأمريكي الاسرائيلي وجزئيا الاوروبي، وسوف يخفق في نظري، في استعادة زمام المبادرة في الشرق الأوسط، لن يكون ذلك لصالح أي قوة أخرى منفردة. ولن يعود الاستقرار في المنطقة إلا إذا توصلت القوى الرئيسية فيها، وهي الدول العربية، وعلى رأسها اليوم مصر والسعودية من جهة، وايران من جهة ثانية، وتركيا من جهة ثالثة، إلى تفاهم إقليمي قوي يسمح بإعادة إطلاق الحياة الدولية والسياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة على أسس جديدة، ويخلق إطارا لتسيير شؤونها بصورة متسقة ومتكاملة وتشاركية. ولن يمكن تحقيق ذلك من دون تفاهم أيضا مع الدول الكبرى ذات المصالح الحيوية في المشرق العربي، وعلى رأسها من دون شك الولايات المتحدة وأوروبة، لكن أيضا الصين والاتحاد الروسي والهند واليابان.
فليس البديل عن نظام الشرق الاوسط الغربي المهدد بالانهيار نظام شرق اوسطي احادي جديد يقوم من حول دولة واحدة، مهما كانت مواردها وقدراتها، ولا حتى من حول مجموعة دول ذات مصالح مشتركة ومتشابهة. إن طريق تحرير الشرق الأوسط من محنته واستعادة حالة الأمن والسلام والاستقرار والإزدهار فيه يمر لا محالة عبر التفاهم بين جميع الاطراف المعنية على بناء نظام تعددي، يعترف بمصالح الجميع، ويقيم التسويات المطلوبة بينها على مباديء وقواعد عادلة ومقبولة. ويحتاج التوصل إلى مثل هذه التفاهمات إلى ورقة طريق بل اوراق طريق عديدة، على المستوى العربي أولا، لتقريب وجهات النظر بين الدول العربية ووضعها على سكة واحدة وتبنيها اختيارات مشتركة، وعلى المستوى الإقليمي ثانيا، بين العرب والايرانيين، والعرب والأتراك أيضا. وعلى مستوى دولي أخيرا، يقرب مصالح ووجهات نظر ما يمكن أن نسميه منذ الآن "منظمة أمن وتعاون دول الشرق الأوسط" من مصالح ورؤى الدول الكبرى، منفردة ومجتمعة. وهو عمل يحتاج إلى ايمان وإرادة قوية وتعبئة سياسية وفكرية من قبل النخب الحاكمة العربية، التي ينبغي عليها أخذ المبادرة، لأنها هي المعنية أولا بهذه القضية، بقدر ما انها تشكل الضحية الرئيسية لغياب التفاهم الدولي والإقليمي في الشرق الأوسط ومن حول تنظيم شؤونه الاستراتيجية والسياسية.
ينطلق مشروع التعاون الإقليمي المقترح من الاعتقاد بأن المشروعين السابقين الذين عنيا بتنظيم شؤون الشرق الأوسط وطمحا إلى التحكم بعلاقات أطرافه، في العقود الماضية، مشروع القومية العربية الذي يقي مشروعا نضاليا بديلا لم يجد، إلا لماما، وعلى مستويات محدودة، حظه من التطبيق، ومشروع الشرق الاوسط شبه الاستعماري الذي فرض نفسه منذ استقلال الدول العربية، واستعاد المبادرة بعد السبعينات، بالرغم مما تعرض له من تحديات قوية، قد وصلا معا إلى طريق مسدود. أفل نجم المشروع العربي منذ السبعينيات، ونحن نشهد اليوم انحسار المشروع الوصائي الغربي وتفكك أسسه ومبادئه. وكل الأزمات والانفجارات والعنف الذي تشهده المنطقة منذ عقدين او اكثر ليس إلا تعبيرا عن أزمة هذا النظام ومأزقه التاريخي. ولا يفسر العجز عن التوصل إلى تسويات للنزاعات والتشنجات القائمة في كل مكان، داخل الدول وبينها، إلا رفض القوى المشاركة فيه، عربا وغربيين، من الاعتراف بهذه الحقيقة وسعيهم، ضد المنطق والواقع معا، إلى إحياء مشاريع تجاوزها الزمن، ولم يعد لها أساس عميق في الواقع يمكن البناء عليه. كما لا يفسر الأخطاء العديدة التي يرتكبها العرب والغربيون معا سوى استمرارهم في استلهام قيم قومية أو استعمارية بائدة، وتعلقهم بنماذج النظم السابقة وتشبثهم بها والتصرف من منطلقها. ولا يمكن لاستمرا هذا السلوك إلا أن يقود إلى مواجهات لا نهاية لها ولا قرار. لن ينجح العرب في إحياء مشروع نظام الشرق الأوسط القومي الذي يفرض على المنطقة هوية العرب ومصالحهم وأجندتهم التاريخية في المقام الأول. ولن ينجح مشروع الوصاية الغربية الذي يريد جعل الشرق الأوسط مزرعة للمصالح الغربية وجزءا من أجندتها التاريخية. وكما ستخفق جميع مشاريع التنظيم الإقليمي القائمة على قيم التمحور القومي في وضع حد لتدخل القوى الدولية الكبرى، الأمريكية اليوم، والصينية أو الهندية أو الروسية أو كلها معا غدا، سوف يخفق الغرب وحلفاؤه، ومنافسوه الدوليون في المستقبل، في إخماد جذوة الحرية والاستقلال عند العرب، والقضاء على مقاومتهم التي يمكن أن تتخذ أشكالا متعددة، بما فيها التوسع في الحركات الارهابية.
ليس هناك حل لأزمة الشرق الأوسط، أي للفراغ الذي أحدثه غياب المشروع الناظم فيه، بما فيه المشروع الاستعماري او شبه الاستعماري، ومن قبل المشروع القومي، إلا في تجاوز منطق القومية ومنطق الاستعمار معا. فمن غير الممكن أن يسمح مثل هذا المنطق للعرب اليوم بالتعامل مع الوقائع التاريخية الملموسة، أي الموجودة على الأرض، ولا أن يفتح أي آفاق أمام الممارسة السياسية والاقتصادية والفكرية الايجابية، أي البانية لوضع عربي جديد قادر على حل مشكلات المجتمعات العربية، أو وضع أسس التحرر في المستقبل. بالعكس، إن هذا المنطق يقود إلى التورط بشكل أكبر في المواجهة والعنف، وفي تفكيك المجتمعات العربية وتذريرها. ليس هناك بديل للفراغ الإقليمي الراهن، في نظري، سوى في إقامة نظام إقليمي جديد، يتجاوز القومية، من دون أن يلغيها، لكن مع تشذيبها وتعديلها، أي إعادة تعريفها، نحو الفكرة الإقليمية، ويستبدل الاستقلال الذاتي للإقليم، من دون أن ينفي الاعتراف بمشروعية مصالح الدول الصناعية، بالوصاية الخارجية.
بالتاكيد، لا تتسق هذه الرؤية مع قيم عديدة سائدة عندنا وعند الغرب، ولا مع الصور التي يكونها كل طرف للطرف الآخر، عن حق أو من دون حق. ومن هنا، يفترض تبينها والأخذ بها في سبيل بناء هذا النظام الاقليمي المنشود تحولا عميقا في تصور العرب لإقليمهم ولمكانتهم في هذا الإقليم والاعتراف، في مواجهة النرجسية أو المركزية القومية التي سيطرت علينا خلال العقود الطويلة الماضية، وفصلتنا عن الواقع، أننا لسنا الوحيدين الذين نعيش فيه، والذين نملك الحق في تقرير مصيره، وأن ضمان حقوقنا مرتبط بقدرتنا على التعرف على حقوق الشركاء الآخرين، والاعتراف بها والتفاهم معها. وعلينا في السياق ذاته أن ندرك كذلك الطابع الاستراتيجي، أي الدولي، للمنطقة التي تحتوي على ثلثي احتياطي الطاقة العالمي، وتحتل موقعا جيواستراتيجيا حساسا، كما أنها تتحمل، أو وقع على عاتقها أن تتحمل، بسبب هروب الغرب من مسؤولياته التاريخية، مسؤولية كبيرة في حل المسألة اليهودية التي هي في الأصل مسألة إوروبية. كما يفترض تبني هذه الرؤية والاستراتيجية العربية الجديدة الاعتراف بأن الاستقلال لا يغني عن التفاهم مع الدول الكبرى ولا يلغي الحاجة إليه، بل بالعكس إنه يستدعيه ويتطلبه، لأن شرط الاستقلال، في الشرق الأوسط بشكل خاص، تفاهم العرب ودول الإقليم مع القوى الصناعية الغربية القريبة، وتحويلها من قوى منافسة، إلى شريكة في السراء والضراء. وأنه لا يمكن لشعوب الشرق الاوسط، من العرب والايرانيين والأتراك والأكراد، أن يحققوا مصالحهم وتقدمهم واستقلالهم في مواجهة هذه القوى أو بالعداء لها وتهديد مصالحها الاستراتيجية. وهذا يعني العمل تماما بعكس ما نفعله الآن. أي أن علينا استدراج الغرب لمفاوضات جدية ودولية علنية حول شروط استثمار النفط، وشروط توطين إسرائيل، والعمل إلى جانب المجموعة الدولية لحل المشكلات النابعة عن هذه المسائل جميعا. وهو ما يشجع عليه اليوم الوضع الهش للغرب في المنطقة، وما يستدعي إطارا للحوار يختلف عن تلك الإطارات الوهمية المسماة بحوار الحضارات والأديان أو مفاوضات السلام الاسرائيلية ويؤطر لها جميعا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire