الوطن ديسمبر 05
يكاد المجتمع المدني في المجتمعات العربية يدين في وجوده بشكل رئيسي لما نسميه ظاهرة العولمة، من حيث ما تنطوي عليه من انتشار للأفكار والمكتسبات عبر الحدود أو من حيث ما ترتبط به من تطور في تقنية الاتصالات الجديدة. فهي التي قدمت له الإطار النظري والوسائل التي مكنته من الحصول على حد أدنى من حيز الاستقلال عن النظم القائمة. فليس من المبالغة القول، إن المجتمع المدني، الذي لا يزال يبدو دخيلا على المجتمع العربي، هو هبة شبكة الانترنيت. فهي التي تحتضنه وتقدم له المكان الافتراضي بعد أن حرمته السلطات من المكان الحقيقي. لكن بقدر ما يدين هذا المجتمع في وجوده للعولمة يعيش أيضا عيوب المجتمع المعتمد على العلاقات الخارجية.
لا يعني ذلك أنه صنيعة خارجية ولا تعبيرا عن حاجة ثانوية، ولكنه يعني أن وجوده لم يكن ممكنا من دون تجاوز الحدود الوطنية، وفي ماوراء ذلك، من دون حد أدنى من الالتقاء بين مصالح القوى العولمية الخارجية وقوى الطبقات الوسطى والقطاعات النشيطة الداخلية التي لا تزال تملك عناصر الارتباط بالعالم والحضارة والتفتح على الفضاءات الخارجية. فهو ثمرة العولمة الحقيقية. لكن ضموره وتبعيته للموارد الخارجية المادية والسياسية تظهر أيضا حدود العولمة العربية وفقرها.
ولعل ذروة التلاقي بين التحول المجتمعي الايجابي المعبر عن ديناميكيات تطور المجتمع المحلي بالتوازي مع نشوء المجتمع العالمي، بما يضمره من تفاعل وتضامن بين قطاعات الرأي العام العالمية، تتجسد في الهيئات والجمعيات المدنية المرتبطة بحركة تحرر المرأة. فقد حصلت هنا طفرة حقيقية جعلت من الحركة النسوية نموذجا ناجحا للمجتمع المدني العربي بل ربما النموذج الوحيد الناجع والناجح. في حين بقيت حركات مثل حقوق الانسان والمنتديات الفكرية ضعيفة ومعزولة وغريبة إلى حد كبير عن مجتمعها بالرغم من زيادة لجوء الجمهور لها. فمن الواضح هنا أنه لا يوجد توافق كبير بين الطلبات المحلية وحاجات نمو المجتمع العالمي. فحقوق الانسان لا تثير اهتمام القوى العولمية إلا بقدر ما يمكن أن تستخدم كأدواة للضغط الجزئي في سبيل تحقيق أهداف خارجة عنها.
في هذ الإطار ينبغي تحليل التخلف الشديد الذي يميز أحوال المجتمع المدني العربي، باستثناء الحركة النسوية، بالمقارنة مع التطور المذهل الذي حصل لهذا المجتمع في عصر العولمة، والذي يشكل بالفعل أحد المحاور الرئيسية التي يتم من خلالها تجاوز الاستراتيجيات الوطنية نحو استراتيجيات عالمية، كما يتم ضبط التحولات الاقتصادية المعتمدة على إعطاء الأسبقية لمنطق السوق وإخضاعها لمعايير وقيم وغايات إجتماعية وإنسانية.
فليس من الممكن الفصل بين تخلف هذا المجتمع المدني والصعوبات التي واجهتها المجتمعات ولا تزال في الخروج من نموذج النظم التسلطية. ففي جميع البلدان العربية ووجهت فكرة المجتمع المدني ونشاطاته بحذر وتشكيك كبيرين. يتجلى هذا الاتجاه في طبيعة القوانين التي أنتجتها السلطات العربية في هذا الميدان والتي حرصت القوانين المتعلقة بتكوين الجمعيات في البلاد العربية على الحد من حقوق الأفراد في تكوين الجمعيات وإخضاع هذه الجمعيات إذا نشأت إلى شروط تعجيزية وموافقات أمنية مسبقة، والتضييق عليها لمنعها من التواصل مع أفراد المجتمع أو التأثير فيهم. كما حرصت أن تحرم هذه الجمعيات من إمكانيات الاستفادة من موارد لا تستطيع السيطرة عليها أو التحكم بها واستسهال توجيه التهم السياسية لقادتها بالتعامل مع الخارج أو بالفساد للحد من قدرتها على الحركة.
وتدفع الآثار السلبية لتطبيق برامج التحرير الاقتصادي وما ينجم عنها من آثار سلبية، وبالتالي الخوف من تنامي الحركات الاحتجاجية، واحتمال استخدامها لهيئات المجتمع المدني كإطار لإعادة بناء الشرعية السياسية، النخب القائمة إلى التمسك بشكل أكبر بالسيطرة البيرقراطية ووضع كل ما في مقدورها من العقبات أمام نشوء مجتمع مدني حي وفاعل. لا بل إن الكثير من النخب العربية قد نظر إلى المجتمع المدني على أنه بدعة تخريبية تختفي وراءها المعارضة السياسية واتهمه قسم منها بأنه صناعة أمريكية. وهكذا لم يواكب تقدم مسار العولمة هنا تزايد عدد مؤسسات المجتمع المدني وانتشار فكرتها ونشاطاتها في النسيج الاجتماعي كله، وفي سياقها توسيع دائرة المشاركة الشعبية في إدارة الشؤون العمومية التي كانت محور التنمية الاجتماعية في العديد من المجتمعات الصناعية، وإنما ترافق بتعزيز السيطرة الرسمية واكتساحها لكل السلطات السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والأبوية معا. وتم التعويض عن نقص المؤسسات المدنية بالنمو الملفت في عدد الأجهزة الأمنية ودوائر المخابرات السياسية والعسكرية ومكاتبها وفروعها، وفي تعدد مناحي اختصاصاتها ونشاطاتها، التي تقلص دورها تماما في ميدان الأمن الوطني إن لم تكن هجرته لصالح التدخل اليومي والمباشر في شؤون الأفراد والجماعات والمؤسسات والشركات الخاصة والعامة على حد سواء. وقد استفردت في بعض الحالات بالقرار وأخذت على عاتقها القيام مكان الشعب أو البرلمان في تعيين المسؤولين من أدنى مرتبة إدارية إلى أعلى سلطة سياسية ومتابعة مسيرتهم ومراقبتهم، فجعلت مصير الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلم وكل نشاطات المجتمع معلقا بقرار الأجهزة السرية التي تحولت هي نفسها، في غياب القانون، ومع الصلاحيات اللامحدودة التي استحوذت عليها، إلى ميليشيات خاصة أو ما يشبه الميليشيات الخاصة التي تتصرف كدولة داخل الدولة، ولا تعترف بأي قاعدة سلوك أو قانون غير قانون تخليد سيطرتها وتعميمها على كافة شؤون المجتمع.
لكن، في ما وراء التدخلات المباشرة من قبل السلطة السياسية للحد من نمو المجتمع المدني، لا شك أيضا أن تفكيك الدولة الوطنية وانحلالها لصالح دولة الأجهزة الأمنية والمصالح الخاصة الفئوية قد حرم المجتمعات من نقطة الارتكاز الضرورية لبناء هياكل ومؤسسات من طبيعة مدنية، أي قائمة على الشراكة بين مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. فزوال الدولة الوطنية قد حطم قاعدة المواطنية وإمكانية التعامل على أسس قانونية سياسية عقلانية لحساب عودة أشكال التعاون والتواصل القديمة ما قبل السياسية. وبموازاة تراجع النخب والنظم الحاكمة عن الأجندة الوطنية وانكفائها على برنامج إثرائها الخاص والشخصي، ومع تراجع صدقية العقد الوطني الضمني والشك المتزايد بنجاعة الفكرة الوطنية، حصل تراجع تدريجي، لكن قوي ومتواصل، للقاعدة الشعبية العريضة عن القيم الوطنية لصالح إحياء مصادر الألفة وقيم التضامن وهياكل القرابة الاجتماعية القديمة التي سيطرت في حقبة ما قبل الوطنية.
وكما وظفت النخب الجديدة الدولة نفسها كإطار لتنظيم نفسها والدفاع عن مصالحها المتعددة، تحولت الأطر العشائرية والطائفية والعائلية المستعادة إلى أدوات لبناء الهوية الخاصة وإحياء التضامنات الاجتماعية التي ستوظفها الفئات المختلفة في معركة الدفاع عن مصالح تصبح، هي أيضا، أكثر فأكثر، مصالح فئوية، عشائرية أو طائفية أو مذهبية أو أصنافية. وهكذا ستتراجع قدرة المجتمعات على التفكير بمفاهيم ومقاييس عصرية في ما يجري من تحولات تاريخية لتعود إلى الصدارة مفاهيم ونظريات المؤامرات الخارجية والحروب الدينية. وتتضائل الهياكل والمؤسسات المدنية الحديثة، في العدد والوزن والقوة والنشاط، أمام الانتشار الواسع للمؤسسات والهيئات الخيرية والاجتماعية التي أطلق عليها الباحثون إسم المجتمع الأهلي لتمييزها عن جمعيات المجتمع المدني الحديثة. ولا يوازي غنى هذه الجمعيات التي تعتمد في بنائها المباديء والقيم والأعراف والتقاليد الدينية والعرفية، وتستمد مصادرها المالية الكبيرة من المساهمات الشعبية الداخلية ذات السمة الدينية، من زكاة وصدقة وتبرعات أهلية، سوى فقر الجمعيات المدنية الحديثة وبؤسها واعتمادها الكلي تقريبا على المعونات الخارجية المقدمة من قبل مؤسسات المجتمع المدني العالمية.
تضع هذه الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية منظمات المجتمع المدني في حالة هشاشة كبيرة. فهي تعيش في حالة عزلة نسبية عن المجتمع ولا يتجاوز نشاطها الشرائح المثقفة وقطاعات محدودة من الطبقة الوسطى. ويتسم معظمها بالطابع الشللي وأحيانا العائلي والافتقار للهياكل التنظيمية السليمة والخبرة العملية والقدرة على توفير التمويل الذاتي. وتشكل العديد منها واجهات للربح وتحقيق مصالح شخصية أو أداة في يد بعض القوى السياسية أو الاقتصادية أو الطائفية أو الأقوامية. ويفتقر الكثير منها كذلك للشفافية وتسيطر عليه عقلية السيطرة الفردية وغياب التقاليد الجمعوية والديمقراطية.
وهي بشكل عام ضعيفة الصلة بالمجتمع الذي تعمل فيه ولا تزال بعيدة عن أن ترد على حاجات الاندراج في العولمة المدنية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire