jeudi, avril 07, 2005

الديمقراطية وإعادة بناء الوطنية العربية


يشكل المسرح السياسي اللبناني الراهن مختبرا متقدما لمستقبل التحولات السياسية القادمة في عموم المنطقة العربية. وكما عبرت المظاهرات العديدة والمتكررة التي ارتبطت بالاحتجاج على اغتيال الحريري، في ما وراء المطالبة بتفكيك نظام السيطرة الأمنية السورية اللبنانية وانسحاب القوت السورية من لبنان، عن قوة الحوافز التي تدفع إلى طريق الديمقراطية بما تعنيه من سيادة قيم المواطنية واحترام الحريات الفردية والأمن الشخصي والمشاركة السياسية وسيطرة دولة القانون عند الشعوب العربية، عبرت المظاهرة الضخمة التي قادها حزب الله، في ما وراء التعبير عن الوفاء لسورية والتمسك بسلاح المقاومة اللبنانية، عن المخاوف المشروعة عند قطاعات واسعة من الرأي العام العربي من التفريط بالقيم القومية والوطنية التي حركت الشعوب العربية لعقود طويلة بعد الاستقلال ولا تزال تشكل بالنسبة لقطاعات واسعة منها رصيدا قويا ومصدرا لا يمكن التنكر له للمشروعية السياسية. لكن الدرس الأكبر لهذا التنافس المتزايد بين حركة ديمقراطية تركز على قيم الحرية عموما وحركة وطنية تركز على قيم القومية أساسا - بما تعنيه من تأكيد على الهوية والخصوصية ووشائج القربى والتضامن العربية - هو حالة الانقسام العميق الذي يعيشها الرأي العام العربي، بسبب ما يبدو من تعارض لا يمكن تجاوزه بين متطلبات تطبيق برنامج الديمقراطية الذي يتلاقى اليوم مع برنامج الهيمنة الغربية ومتطلبات الاستمرار في المقاومة الوطنية الذي يبدو أيضا وكأنه مرتبط ولو ظرفيا بالتمسك بالنظم الاستبدادية والدفاع عن خياراتها السياسية والاستراتيجية. وهذا يعني أن الوعي العربي التاريخي الراهن يعيش في حالة تراجيدية مهما كانت طبيعة القيم الرئيسية التي يركز عليها هذا القطاع أو ذاك. بل هو يعني أكثر من ذلك أن التعارضات التي قادت إلى تفكك الوطنية العربية وانحلالها على المستوى الجماعي الإقليمي وعلى مستوى كل قطر عربي على حدة لا تزال قائمة كما كانت من قبل، إن لم نقل قد تعمقت أكثر من أي حقبة أخرى سابقة.
فكما عاش الوعي العربي محنة وضع السياسات القومية في مواجهة القيم الديمقراطية وبناء وطنية تستلهم نظم الشمولية وقيمها الاستبدادية في العقود الثلاثة الماضية التي أعقبت الاستقلال، يعيش الوعي العربي اليوم محنة وضع الخيارات الديمقراطية في مواجهة حدية مع قيم الوطنية واختياراتها الأساسية، سواء ما تعلق بمفهوم السيادة الوطنية أو الاستقلال عن الدول الأجنبية أو التضامن بين الدول العربية أو العداء للامبريالية والصهيونية أو التمسك بالخصوصية الثقافية والحضارية. ومن الممكن أن يقود هذا الفصام بين قيم الديمقراطية وقيم الهوية إذا استمر من دون حل إلى وضع الديمقراطية الوليدة اليوم في العالم العربي في طريق مسدود، تماما كما قاد وضع القيم الوطنية في مواجهة قيم الديمقراطية في الماضي الحركة الوطنية العربية على المستوى الاقليمي وداخل كل قطر إلى طريق مسدود عزلها تماما عن العالم وفصل أنظمتها عن أي قاعدة اجتماعية وجعلها تعتمد على قوى الزبائنية والمساندة الأجنبية فحسب وحول النخب الوطنية نفسها إلى حامل للهيمنة الأجنبية والتبعية.
يطرح هذا الوضع بالتأكيد مسألة كبيرة جدا على التحولات الديمقراطية العربية الجارية والقادمة، بل ربما طرح السؤال والتحدي الأعظمين. فليس هناك مهرب من الاعتراف اليوم بأن استعادة الحرية في العالم العربي قد ارتبطت أو هي في طريقها لأن ترتبط بعودة الهيمنة الأجنبية على المستوى الإقليمي وبالتالي بتراجع مواقع النظام العربي الإقليمي أو ما بقي من ذكراه الماضية. ولا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يثير قلقلا عميقا عند قطاعات واسعة من الرأي العام العربي ويدفع جزءا كبيرا منه إلى اتخاذ موقف الممانعة أو على الأقل موقفا سلبيا مما يجري. وهو ما يجعل من الديمقراطية قضية إشكالية أيضا في الواقع العربي المعاصر. ومما يفاقم من هذه المشكلة أن الدول الأجنبية التي تقف اليوم وراء مشروع الديمقراطية أو تستخدم شعارها كي تستعيد مواقعها الاستراتيجية قد لعبت دورا أساسيا ولا تزال في تثبيت ركائز الحكم المطلق منذ عقود طويلة في العديد من بقاع العالم العربي وفي جميع بلدانه في ربع القرن الأخير على الأقل. وهي المسؤولة بشكل رئيسي أيضا عن خلق النزاع العربي الاسرائيلي ورعايته وتقديم الدعم المالي والعسكري والسياسي كي تستمر اسرائيل في إنكار حقوق الشعب الفلسطيني وفي احتلال الأراضي العربية. بل أكثر من ذلك، إن هذه القوى نفسها التي تريد أن تستعيد مواقعها من خلف ثورة الحرية التي تحبل بها الشعوب العربية لا تخفي إرادتها في تفكيك العالم العربي وتكريس تذرره فحسب ولكنها لا تخفي أيضا إرادتها في أن تفرض عليه الاندراج في إطار هوية شرق أوسطية تلغي وشائج القربى العميقة بين أطرافه في سبيل تحجيم الدول العربية جميعا ودمج اسرائيل وتمكينها من السيطرة على مقدرات الأمور الإقليمية.
كل هذا يحول دون المطابقة بين ما يحدث في لبنان وما حدث من قبل في دول أوروبة الوسطى أو في أوكرانيا حيث لم يكن هناك انفصال ممكن بين متطلبات الدفاع عن المصالح الاستراتيجية العليا ومتطلبات معانقة رياح الحرية. ولذلك لم يكن للدعم الذي قدمته ولا تزال تقدمه الدول الأوروبية والأمريكية للثورات السياسية الديمقراطية التي تجرى في البلقان أو في أوكرانيا المضمون ذاته الذي يتخذه مثل هذا الدعم في البلاد العربية. فلا يوجد هناك أي استحقاقات سياسية أو استراتيجية بين شعوب البلقان وشعوب أوروبة وأمريكا يمكن أن يجعل من التعاون بينهما على تغيير النظم القائمة صفقة خاسرة تعزز مجموعة من القيم السياسية ضد مجموعة أخرى. بل بالعكس إن الالتقاء مع تيار الحرية السياسية الجارف يتماشى تماما هنا مع الاندماج في الجماعة الأوروبية والتحول إلى عضو أصيل فيها، أي إلى المشاركة في السيادة العالمية.
أما بالنسبة للشعوب العربية فإن الدعم الذي تحظى به أو تطمح إلى أن تتلقاه الحركة الديمقراطية من التحالف الأوروأمريكي يبدو وكأنه الثمن للتنازل عما بقي في بلدانها من أوهام هذه السيادة والاستقلال. فهو يندرج في مشروع أشمل لا يكاد ينفي نواياه في إعادة تركيب المنطقة الشرق أوسطية حسب حاجات الهيمنة الأمريكية والأطلسية عموما سواء ما ارتبط منها بالسيطرة المباشرة على موارد استراتيجية عربية في مقدمها النفط أو بوضع اليد على كل ما يتعلق بالترتيبات الجيوسياسية والجيوستراتيجية الإقليمية في سبيل ضمان هذه السيطرة واستخدامها في حرب الهيمنة العالمية أو أخيرا بالحفاظ على أمن إسرائيل وتوطينها في المنطقة من منطلق تلبية طموحاتها في الحفاظ على علاقة القوة والتفوق الاستراتيجي على جميع البلدان العربية وربما الاسلامية. ولا يمكن تحقيق مثل هذا البرنامج الأمبرطوري الأمريكي من دون التضحية بالبرنامج الوطني العربي، أي من دون القضاء على طموح السيادة والاستقلال وتأكيد هوية مشتركة تفتح آفاق تعاون متميز بين بلدانهم يسمح لهم بتجاوز حالة البلقنة والانقسام ويخلق فرص التنمية والتقدم والأمن الإقليمي في مواجهة مشاريع الهيمنة الاسرائيلية والخارجية عموما ويمكنهم من بناء ما يشبه اتحادا قوميا قريبا مما عرفته الهند أو روسيا الاتحادية أو الصين يتماشى وصورتهم عن حضارتهم وموقع هذه الحضارة بالفعل في الثقافة العالمية. فالسيطرة على منابع النفط وتأمين إسرائيل وتمكينها في المنطقة والتخلي عن الحلم العربي الذي يعني الإقرار بأولوية الهوية العربية الثقافية والسياسية في إقليم الشرق الأوسط هي في الواقع الأهداف الثلاثة اليوم إن لم نقل الشروط الرئيسية لموافقة التحالف الأوروأمريكي على حصول تحولات ديمقراطية، بالضرورة وبالتأكيد جزئية، في البلاد العربية.
وبالرغم من الطابع الرسالي الذي بدأت تأخذه مسألة الحرية والانتقال إلى الديمقراطية في خطاب رئيس الدولة الأعظم، الولايات المتحدة، وربما بسبب ذلك أيضا لا تزال هناك أسئلة كثيرة مطروحة حول حقيقية التزام القوى الغربية بمسيرة التحول الديمقراطي في البلاد العربية. فهل هناك بالفعل ما يبرر الاعتقاد بأن بث الديمقراطية في البلاد العربية يشكل خيارا نهائيا للولايات المتحدة أم أنه يعبر عن التقاء ظرفي للمصالح نابع من رغبة واشنطن في تحسين صورتها كقوة هيمنية جديدة طامحة إلى خلافة المنظومة الإقليمية العربية والعروبية معا؟ وما ذا سيكون عليه الوضع إذا كانت نتائج الاقتراع الديمقراطي لغير صالح الهيمنة الأجنبية؟ وفي اتجاه آخر، هل تخدم التحولات الديمقراطية بالضرورة مصالح الهيمنة الأجنبية وتساعد على استقرار نفوذ الدول الأوروبية في البلاد العرية وبالتالي هناك استحالة في فصل الديمقراطية العربية عن هذه الهيمنة أم أن من الممكن تصور ديمقراطية عربية مستقلة ومختلفة مع المخططات الأطلسية؟ لكن، أيضا، هل ينبغي أن نرفض التحولات الديمقراطية لأنها قد تؤدي إلى تراجع مواقعنا الاستراتيجية أم نقبل بوقف الممانعة وأن نتعاون مع الدول الكبرى الطامحة إلى الهيمنة على المنطقة العربية لنيل قسط أكبر من الحريات الفردية وربما من الفرص لتحقيق التنمية الاقتصادية والتحكم بشكل أفضل بمصير أوطاننا القطرية؟ وبالعكس، هل لا يزال من المشروع بل من الممكن الدفاع عن النظم الاستبدادية أو التعاون معها طالما كانت لا تزال تمثل ولو على مستوى الخطاب قيم الوطنية العربية الأساسية المرتبطة ببناء الهوية الثقافية والسياسية العربية الواحدة والمستقلة وربما على أمل أن تستعيد هذه النظم زمام المبادرة وتعيد ترتيب أوضاعها بما يمكنها من إعادة الاعتبار لمشروع القوة العربية؟ هذه هي الأسئلة التي يتوجب علينا اليوم جميعا الإجابة عنها في مواجهة ما تخبؤه الأيام القادمة من المواجهات العنيفة على ساحة المشرق العربي والتي يتوقف عليها تحديد موقع كل واحد منا في المعركة الدائرة اليوم حول إعادة بناء الشرق الأوسط ومستقبل التحولات التي سيشهدها في السنوات القادمة.
لكن هل هناك فعلا اختيار؟
من الواضح أن السمات الخاصة التي تميز المنطقة العربية وتجعل منها منطقة استراتيجية من الدرجة الاولى، بل مركز بناء استراتيجية الهيمنة الدولية للعقود القليلة القادمة، تقضي بأن لا تأتي الديمقراطية هنا إلا في مناخ القطيعة والشك والتمزق وأحيانا الخيانة للذات. ومن المحتم أن تكون معركة الديمقراطية في البلاد العربية طويلة ومعقدة معا. ولن نستطيع الحديث عن انتصار الديمقراطية إلا عندما ننجح في التوفيق بين القيم الديمقراطية المستمدة من مفهوم السيادة الشعبية المرتكز على احترام حرية كل فرد وتمكينه من المشاركة في تقرير المصير الجمعي والقيم المرتبطة بمفهوم السيادة الوطنية الذي يضمن أن لا تكون ممارسة هذه الحريات على حساب التخلي عن الحقوق الجماعية الكبرى، وفي مقدمها الاستقلال واسترجاع الأراضي المحتلة وبالنسبة للبلاد العربية تحقيق الحلم العربي النبيل والمشروع في بناء اتحاد يضم جميع أو معظم الدول العربية ويسمح للثقافة وللهوية العربيتين بالاستقرار والازدهار في إطار من الأمن والسلام والتفاهم العالمي. وهذا يعني أنه لا ينبغي أن نأمل بتحقيق أي تقدم راسخ وثابت على صعيد تحقيق برنامج التحولات الديمقراطية بما يتضمنه من قيم احترام الفرد وحرياته وحقوقه الأساسية أو على صعيد تحقيق برنامج الدفاع عن المصالح الجماعية العربية والبعيدة المدى وما تعنيه من الحفاظ على الاستقلال والسيادة والحقوق الوطنية من دون أن ننجح مسبقا في الدمج الخلاق بين قيم الديمقراطية وقيم الوطنية، وهو التحدي الرئيسي الذي يتوقف على مواجهته نجاح مشروع إعادة بناء أو تأسيس الوطنية العربية التي دمرتها سنوات طويلة من الاستبداد وضياع الأحلام القومية والاحتراب بين قوى المجتمعات وقيمها الأساسية.

الجزيرة نت 7 أبريل 05

Aucun commentaire: