dimanche, avril 04, 2004

محنة الاصلاح في العالم العربي 1


الانهيار الذي عرفته قمة الاصلاح التي كان من المتوقع أن تعقد في العاصمة التونسية في نهاية شهر آذار مارس الحالي يقدم البرهان القاطع على المحنة التي واجهها الاصلاح ولا يزال في العالم العربي منذ عقود طويلة. وبالرغم من أن الأمين العام لجامعة الدول العربية قد أعلن عن الاتفاق لعقد هذه القمة مجددا في تونس في مايو القادم إلا أن الأمل في احراز تقدم حقيقي فيه يكاد ينعدم اليوم بسبب المناخ الذي خلقته الدعاية الرسمية العربية في الأشهر القليلة الماضية. فقد نجحت هذه الدعاية في حرف المناقشة حول الاصلاح عن هدفها الرئيسي عندما ركزت الجهود كلها على موضوع واحد ووحيد : من أين تأتي الاصلاحات؟ من الداخل وبأيادي عربية أم من الخارج وبأيادي أجنبية. والنتيجة لم يعد أحد يفكر في طبيعة الاصلاحات المطلوبة ومضمونها وأهدافها ووتيرتها ولكن في طبيعة المصدر الذي يتحدث بها وعنها. بل ليس من المبالغة القول إن الدعاية العربية الرسمية قد نجحت في وضع مسألة الاصلاحات في مواجهة المسألة الوطنية لا بتزاز الرأي العام وفرضت عليه الاختيار بين التمسك بالقيم الوطنية ورفض الاصلاح أو القبول بالاصلاح والخضوع لإرادة القوى الأجنبية. فقد ربطت مبادرة الاصلاح بحل المسألة الفلسطينية أو بتحرير الأراضي المحتلة كما لو كان هذا التحرير جزءا من مهام الدول الأجنبية وثمنا لقبول الدول العربية بالاصلاحات الداخلية، أو كما لو أن مثل هذا التحرير لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التمسك بنظم استبدادية تستبعد بشكل دائم ومطلق أي احتكام حر للإرادة الشعبية وتفتقر إلى المؤسسات وينعدم فيها حكم القانون لصالح قانون المحسوبية والولاءات الشخصية للزعامات أو الطوائف أو العشائر ولا يسمح فيها لقوة منظمة بالبقاء سوى قوى الأجهزة الامنية.

وإذا عبر هذا المنطق عن شيء فإنما يعبر عن تهافت معنى الاصلاح في أذهان العديد من النخب العربية أو بالأحرى عن انعدام أي امل فيه في إطار النظم وقواعد العمل والحكم القائمة في معظم البلاد العربية. وبالفعل، إن الوقت الذي كان بالامكان الإصلاح عبر النظم القائمة قد فات منذ زمن طويل ولم يعد هناك بديلا من الاعتراف بأن أي إصلاح مهما كان ضعيفا وجزئيا أصبح يستدعي كشرط ومقدمة له تغييرا في طبيعة الحكم وأساليبه وقواعده وغاياته ورجالاته أيضا، أي يستدعي التحول من نمط الحكم القائم على الوصاية أو القيادة الطليعية أو الأبوية إلى نمط الحكم المستند إلى تفويض مباشر وعن طريق انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية من قبل الشعب والخاضع لمراقبة ممثليه أو نوابه. ومن غير ذلك لن يتقدم مشروع الاصلاح خطوة واحدة سواء كان الدافع إليه الضغط الخارجي أو الضغوط الداخلية. وكل الجهود المادية والمعنوية التي ستبذل أو يمكن أن تبذل في هذا الاطار قبل التغيير سوف تضيع وتساهم أكثر من ذلك في إضاعة الوقت على المجتمعات العربية التي تعيش حالة خطيرة من الاحباط والاحتقان والقلق والخوف من المستقبل.

ومهما كان الامر لا أعتقد أن حالة التخبط والتمزق والانهيار التي نعيشها على جميع مستويات حياتنا الجمعية، في جبهة النزاع العربي الاسرائيلي وفي الميدان الاقتصادي وفي الميدان السياسي والاجتماعي والفكري، هي بأي معنى أو شكل مقدمة للاصلاح، أي إصلاح كان، بقدر ما هي النتيجة الطبيعية لفشل الاصلاح الذي كان منتظرا منذ عقود ولم يمكن تحقيقه. وإذا كنا لا نزال نتحدث عن الاصلاح أو إذا عدنا إلى مفاهيم الاصلاح بعد طول نسيان فليس ذلك لأننا أصبحنا أكثر وعيا بمتطلبات الاصلاح ودواعيه وإنما كي ما نغطي، نحن ودول الغرب الأطلسية التي تمارس دور الوصي علينا معا، على إخفاق الاصلاح وانعدام فرصه وآفاقه.
يعني الاصلاح كما تتحدث عنه الولايات المتحدة وأوروبا اليوم وكما تتحدث عنه النظم العربية التي تريد تمييز مشروعها عن المشاريع الأجنبية حتى لا تبدو وكأنها وكيلة لها في المنطقة، أن النظم القائمة، بالرغم ما بدا منها من قصور في تحقيق الأهداف والمطالب المجتمعية، لا تزال سليمة بالعموم وليس من الضروري تبديلها أو تغييرها. إن المطلوب في نظرها، وهذا واضح من المشروع الامريكي الذي وجدته النظم العربية طموحا بالنسبة لها، هو تعديل بعض القوانين التي تحد من عمل النظام أو تعيق اشتغاله بشكل صحيح. ومن ذلك الاصرار على توسيع قاعدة المشاركة السياسية للطبقة الوسطى بما يعنيه ذلك من الحد من السيطرة الشمولية والشاملة للحزب أو للفريق الحاكم على وسائل السلطة والثقافة والاعلام والاقتصاد والإدارة معا والحد من الفساد المستشري وإدخال إصلاحات تتعلق باكتساب المعرفة والتقنيات الحديثة وزيادة مشاركة المرأة في الحياة العمومية. ومن المفروض أن يطلق كل ذلك دينامية التنمية الاقتصادية الضرورية لامتصاص البطالة المتزايدة والحد من توسع دائرة الفقر وبالتالي التخفيف من مشاعر الاحباط ومن التوترات التي تعرفها المجتمعات العربية اليوم والتي تهدد باتساع دائرة الخروج على النظام وربما الانتماء إلى منظمات العنف والتمرد المحلي والعالمي. إن المقصود هو باختصار إجراء بعض التعديلات الضرورية حتى تستعيد الأنظمة الراهنة بعض الصدقية وتخفف من المفرزات المدمرة والخطيرة للأزمة التاريخية التي تعيشها مئات الملايين الثلاثة العربية والتي ليس لها في الأفق المنظور أي حل.
في اعتقادي كان من الممكن لمثل هذا المشروع الاصلاحي، بصرف النظر عن الداعي له أو المشجع عليه، أن يتحقق ويفتح آفاقا جديدة لو حصل في الثمانينات، أي في الفترة ذاتها التي شهدت موجة عامة من الاصلاحات في العالم أجمع وبشكل خاص في الدول الشيوعية والفاشية أو شبه الفاشية التي انضمت في ما بعد إلى أوروبة والتي كانت تشابه في بنية أنظمتها أنظمة معظم النظم العربية. فلم تكن الأزمة التي شهدتها البلاد العربية في تلك السنوات أقل حدة ولا أقل تجليات مما حدث في أوربة الشرقية واليونان والبلقان واسبانيا والبرتغال. وقد بدأت ثورات الخبز منذ بداية الثمانينات وامتدت إلى أكثر من بلد عربي وتكررت المواجهات بأشكال مختلفة ولأسباب واحدة بين قوات الامن العربية وحركات الاحتجاج الشعبي التي كانت في أغلب الاحيان حركات عفوية قبل أن تتحول في مرحلة لاحقة لمنظمات تسميها الدول اليوم إرهابية تستخدم السلاح وتجعل من العنف وسيلتها الرئيسية لمقاومة السلطات المحلية. وأعقب هذه الحركات انتفاضات واعتصامات وإضرابات مختلفة مناطقية وقطاعية ومهنية في أكثر من مكان أيضا قتل فيها في بعض الأحيان المئات من المواطنين بل الآلاف.
وبالرغم من هذه التظاهرات الكبيرة والخطيرة للأزمة المجتمعية والاحتقان العميق الذي بدأت تفرزه وتزايد حسابات القتلى والسجناء، لم تظهر النظم الحاكمة أي قلق ولم تبد أي تساؤل عما حدث وما يمكن أن يحدث في المستقبل. لقد كانت أكيدة مئة بالمئة من صحة توجهها ولم تر في حركات الاحتجاج والاعتصام والتشكي سوى محاولات من قبل القوى الأجنبية للضغط عليها والانتقاص من سيادتها أو من قبل قوى المعارضة التي لا تستحق حتى اسمها في نظرها لمنافستها على السلطة والثروة. ولأنها رفضت الاعتراف حتى بحصول أخطاء جزئية أو اتباع مناهج أو السير في توجهات غير مناسبة لم يكن من الممكن لها التفكير حتى بفكرة الاصلاح. لقد كانت تعترف في أفضل الأحوال بوجود صعوبات لكن لتؤكد أن كل خياراتها السياسية والاستراتيجية والثقافية والتعليمية كانت صحيحة وعلى صواب. واالنتيجة هي ما نعرفه اليوم من خروج مسألة الاصلاح من بين أيدينا وتبنيها من قبل الدول الاجنبية.

الاتحاد أفريل 04

عام على احتلال العراق


من الواضح ان احتلال العراق يشكل ورطة بالنسبة للإدارة الأمريكية التي توقعت نصرا سريعا وحسما أسرع للوضع لكنها لا تكف عن مواجهة أوضاع تتعقد أكثر مع مرور الوقت. وبالرغم من مظاهر الاستمرار في استعراض القوة تدرك واشنطن أكثر فأكثر أن المخرج الوحيد الذي بقي لها هو السعي إلى تحقيق التفاهم مع الدول الأوروبية لاتخاذ قرارات جديدة في مجلس الأمن تسهل نقل السلطة إلى العراقيين وتخفف العبء عن الأمريكيين. إنها تتراجع شيئا فشيئا عن غطرستها الأولى وتقبل بالشراكة مع حلفائها الذين رفضت مشاركتهم في السابق.
بيد أن المخاطر على العراق لم تتضاءل ولن تتضاءل بسبب ذلك. فمن جهة أولى لا تزال لدى الولايات المتحدة القدرة على نشر الخراب والحروب الداخلية لتبرير بقائها العسكري والسياسي وقطع الطريق على استقلال ناجز للعراق. وهي تستطيع في هذا المجال أن تعتمد على الكثير من القوى الصغيرة المتطرفة كما تستطيع أن تعتمد على أجهزتها ووسائلها الخاصة لتحويل الحرب من حرب وطنية بالنسبة للعراقيين إلى حرب داخلية أهلية. ومما يضاعف المخاوف في هذا المجال الاختلاط الكبير الحاصل في وضع المقاومة الوطنية العراقية نفسها. فإذا كانت الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي تقف بشكل واضح ضد الاحتلال وتريد إخراجه من العراق، لا يختلف في ذلك السنة والشيعة، فإن الاختلافات التي بظهرها العراقيون بخصوص تحديد طرق هذه المقاومة وأساليبها تزيد من مخاطر الانقسام داخل الصف العراقي. لكن ما هو أهم من كل ذلك الغموض الذي يلف المقاومة المسلحة والطابع شبه الطائفي الذي تنزع إلى اتخاذه. فبالاضافة إلى أن هذه المقاومة لا تزال تفتقر للهوية الواضحة ولا تعلن عن أي أهداف واضحة بخصوص مستقبل العراق لا يزال من الصعب على المراقب التمييز بين أعمال المقاومة الوطنية الحقيقية والعمليات الاجرامية الكثيرة التي تستهدف المدنيين العراقيين وتخفي إرادة تفجير الحروب الداخلية. وللأسف لا يبدو أن هذه المقاومة تدرك حتى الآن مخاطر هذا الاختلاط والالتباس الحاصل وتقوم بما ينبغي القيام به لتمييز نفسها وعملياتها بصورة حاسمة عن الأجهزة المشبوهة وعمليات العنف الأعمى، كما أنها لا تظهر إدراكا كبيرا لضرورة وأهمية أن تتحمل هي أيضا المسؤولية في المشاركة في وضع حد للمجازر التي ترتكب في العراق والتي لا تستهدف الاحتلال بقدر ما تستهدف وحدة الشعب العراقي وفرصه في الخروج من الفوضى والخراب.
ومن جهة ثانية يشكل الخلاف حول مسألة ا لفيدرالية بين العرب والأكراد مصدر قلق آخر بشأن مستقبل عراق ما بعد الفاشية. فإذا كان من المكن تبرير مشروع االفيدرالية على أساس غير أقوامي كما تسعى إلى التأكيد عليه الأطراف العربية في إطار الاعتراف بالشروخ العميقة التي خلفها النظام الطغياني داخل المجتمع والعمل على تجاوز ضياع الثقة فيما بينها، فإن مشروع الفيدرالية القائمة على التقسيم الأقوامي أو العرقي كما تريد الأحزاب الكردية يخفي من دون شك إرادة الانفصال سواء أجاء ذلك مع إعلان قيام الدولة الكردية المستقلة أو من دونه. وإذا كان هذا هو الهدف فلتفتح المفاوضات منذ الآن ومن دون لف ودوران حول وضع المنطقة الكردية ومستقبل علاقاتها بالعراق بدل أن تدور المعركة في الظل ومن وراء ظهر الشعب العراقي وفي خفية عنه.
ومن المؤكد أن عدم توصل العراقيين بين سنة وشيعة وعربا وأكرادا وتركمان إلى تفاهم فيما بينهم سوف يقدم للولايات المتحدة فرصة ثمينة لتأجيل الاعتراف بسيادة العراق أو لفرض سيادة ناقصة عليه. وسوف يشجعهم من دون شك على تبني مواقف شبيهة بتلك التي لجأت إليها بريطانيا في حقبة ما بين الحربين العالميتين لتكريس احتلالها الدائم للعراق، أي تطبيق نوع من الوصاية غير المعلنة على عراق منقسم على نفسه يحكمه العراقيون أنفسهم من حيث المظهر فحسب في حين يبقى القرار الحقيقي في يد مندوب سام معين بالاسم أو من دون تعيين رسمي.
ومن جهة ثالثة، وفي حالة من الغياب الكامل للعالم العربي عن الأحداث الدولية والإقليمية التي تهزه يخشى أن تقود المقاومة العراقية إلى تحقيق أهداف غير التي تسعى إليها. فمن الممكن تماما أن يؤدي الضغط العسكري الكبير على قوى الاحتلال الأمريكي البريطاني إلى دفع الأمريكيين، للحد من تدهور الوضع السياسي والعسكري في العراق، إلى التقرب من جديد من الاوربيين الذين لا يطمحون إلى شيء آخر في العراق سوى المشاركة في الغنيمة وتجنب الاستبعاد، والتفاهم لاستصدار قرارات جديدة في الأمم المتحدة تعزز مواقفهم جميعا. ومن المؤكد أن مثل هذا التفاهم، بعكس ما يعتقده الساسة العرب، لن يكون إلا على حساب مصالح العرب وضدهم. فمثل هذا التفاهم الأمريكي الأوروبي هو القاعدة الأساسية لتعزيز السيطرة الأطلسية على المنطقة العربية.
كما أن من الممكن لاستمرار تدهور الموقف السياسي والعكسري الأمريكي في العراق أن يشجع بعض صقور واشنطن وهم كثر إلى تبني سياسة الهرب إلى الأمام وتوسيع دائرة الحرب لتشمل سورية، خاصة وأن مثل هذا الهرب يمكن أن يخدم أيضا خطط الحكومة اليمينية الاسرائيلية التي تسعى إلى الخروج من ورطة الحرب الفلسطينية. وكما أن من الممكن أن يساهم توسيع دائرة الحرب، بصرف النظر عن الفوضى التي سيثيرها، إلى التغطية على المأزق الأمريكي في العراق، من الممكن أن يقدم نقل الحرب إلى سورية وسيلة للتغطية على انسحاب حكومة شارون من غزة والضفة الغربية وما يعبر عنه هذا الانحساب من إخفاق في تحقيق أهداف الحرب الاسرائيلية الجارية لتصفية القضية الفلسطينية. ومما يزيد من مثل هذه المخاطر، هو أن أجندة الولايات المتحدة في سورية أو بالنسبة لسورية هي أجندة إسرائيلية أكثر حتى مما هي أمريكية. ومن الطبيعي أن يتفاقم الخطر على سورية عندما تتعرض حكومة شارون إلى هزة كبيرة وتحتاج كي تتجاوزها إلى عمل يعزز موقفها في الداخل وتجاه الفلسطينيين. والأمر يتوقف في الأشهر القادمة على نجاح هذه الحكومة في تحقيق إنسحابها من الأراضي من دون الحاجة إلى عمليات استعراضية للتغطية على مأزق التورط، من دون أمل في تحقيق أي هدف من أهدافها الأصلية، في حرب الدمار الفلسطينية.
وكما ذكرت في أحد مقالاتي الماضية أن الحرب التي تدور في العراق ليست حربا أمريكية عراقية فحسب ولكنها أيضا حرب اسرائيلية عربية. فتحت رداء الحرب الأمريكية كانت تل أبيب تخوض ولا تزال حربها الخاصة. وإذا كانت أحد أهداف الحرب الأمريكية ا لسيطرة على العراق، ومن ورائه تثبيت سيطرتها على الخليج ونفطه، فإن هدف الحرب الاسرائيلية منع العراق من الاستقرار وإذا أمكن دفعه نحو التمزق والتفتت. ولا أستبعد أن تكون العديد من العمليات الارهابية التي عرفتها المدن والمواقع الدينية العراقية والمؤسسات الدولية من صنع أيادي المخابرات الاسرائيلية.
ثم إن اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في ظروف تؤكد بشكل متزايد تصاعد شعبية المرشح الديمقراطي قد تدفع الإدارة الأمريكية الراهنة إلى التشدد أكثر في المنطقة العربية لتحسين صورة وسمعة الرئيس بوش لدى الرأي العام الذي يميل بشكل أكبر لصالح تأكيد القوة والقدرة على السيطرة الأمريكية.
ومهما كان الأمر، وهذه هي المسألة المحورية، لا يمكن لمصير العراق أن ينفصل عن مصير المنطقة العربية برمتها. فإذا استمر الوضع العربي في التدهور لن يكون هناك أمل في أن ينجح العراقيون في السيطرة على استراتيجيات الهيمنة والتمزيق التي تستهدفهم من قبل الولايات المتحدة واسرائيل. لكن إذا نجج العالم العربي المكرسح في أن يقف على قدميه، وشرط ذلك إعادة إدخال المجتمعات العربية في الحياة السياسية ووقف الارهاب الرسمي المنظم الذي يمارس ضدها في سبيل ضمان الازدهار والانتعاش الأبدي لحفنة قليلة من اللصوص والطفيليات، فلن يستطيع العراق الخروج من قمقم الاحتلال ولكن الاحتلال هو الذي سيزيد من هامش مبادرته وسينجح في تعزيز موقفه في البلاد العربية الأخرى.

المبادرات الأمريكية لدمقرطة العالم العربي


كلما هدأ النقاش في العالم العربي حول موضوع: من أين يأتي الإصلاح الديمقراطي صدرت الإدارة الأمريكية على لسان أو قلم أحد مسؤوليها معلومات جديدة حول خطة متكاملة تزمع الولايات المتحدة تطبيقها في القريب العاجل لدفع موجة الديمقراطية والتنمية واحترام حقوق الانسان في المنطقة العربية. فبعد مبادرة الشراكة الشرق أوسطية الأمريكية التي تحدث عنها كولن باول في ديسمبر 2002 الذي رصد فيها 29 مليون دولار كدفعة أولى ومشروع دمقرطة الشرق الأوسط الذي نشره وليم بيرنز في منتصف عام 2003 ثم أول إعلان من جورج بوش الابن عن خطة للتغيير الديمقراطي في العراق والشرق الأوسط في مايو ثم في نوفمبر من العام نفسه، حيث ذكر بأن أمريكا التي دعمت الديمقراطية خلال ستين عاما ماضية قد غيرت من اختياراتها، ها هي وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية تتداول من جديد خطة متكاملة يقال أن الإدارة الأمريكية تستعد لنشرها وتطبيقها منذ الصيف القادم لنقل الشرق الاوسط والعالم العربي إلى مصاف الدول الديمقراطية كما حصل لليابان وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
في مواجهة هذا التركيز المتواصل للإدارة الأمريكية على مسألة التغيير والاصلاح الديمقراطي التي تشكل اليوم بؤرة الاهتمام في وسط الرأي العام العربي على مختلف تياراته العقائدية والسياسية وفي جميع قطاعاته يثور النقاش بين العرب حول من يدافع عن العرض الأمريكي ويقبل به أو يراهن عليه ومن يرفضه ويدعو إلى عدم الاعتقاد به والتمسك بالمقابل بمشاريع الاصلاح والتغيير الداخلي. وهكذا انقسم الرأي العام بالفعل بين فريقين متخاصمين. يقول أنصار الحل الأمريكي أن المجتمعات العربية قد أظهرت أنها غير قادرة على الخروج من المأزق الذي وصلت إليه وأنه لا مهرب لنا من اللجوء إلى الدعم الخارجي للخروج من الوضع المأساوي الذي نجد أنفسنا فيه. ومن الواضح أن الولايات المتحدة التي ساهمت في التحويل الديمقراطي للكتلة الشيوعية بأكملها تريد الآن أن تزيل الوضع الاستثنائي الذي فرضته على العالم العربي في الماضي ودعمت فيه الديكتاتورية ولا يمكن أن لا نستفيد من سياستها الراهنة الايجابية. وبالمقابل يعتقد الفريق الآخر أن مبادرات الدريمقراطية الأمريكية دعاوى فارغة تستخدمها فقط للتغطية على مشاريع السيطرة التي تعدها للمنطقة ولا شيء آخر، وأنه لا ينبغي على العرب القبول بالديمقراطية المفروضة وأن يعتمدوا على أنفسهم وقواهم الخاصة للوصول إلى الإصلاحات المنشودة مهما كان الثمن والحال.
وبداية أقول لسنا هنا في معرض رفض الديمقراطية سواء أجاءت من طرف الولايات المتحدة أو من طرف غيرها. فنحن نشكو من أن الولايات المتحدة والدول الصناعية تدعم ولا تزال تدعم الديكتاتوريات في العالم العربي. كما أن المجتمعات العربية لم تنتظر الولايات المتحدة لتدخل في معركة التحويل الديمقراطي في بلدانها. ولا أرى هناك معنى لوضع المسألة في إطار الاختيار. إن ما هو مطلوب اليوم من محللين ومثقفين معنيين بمستقبل العالم العربي هو إعطاء تقديرات واقعية ومنطقية لمدى جدية الالتزام الأمريكي بالديمقراطية إذا كان هناك إلتزام أو الكشف عن الطابع الدعائي لهذه المبادرات في سبيل تنوير الرأي العام وفي مقدمه قادته الذين يجدر بهم أن لا يأخذوا أحلامهم كواقع ولا يضيعوا الفرص التاريخية إذا وجدت أيضا.
وأقول بداية من منطلق تقدير الحالة هذا أنني لا أعتقد أن نشر الديمقراطية من الهموم الأساسية للولايات المتحدة أو لأي دولة أخرى. وقد أظهر التاريخ القريب المعروف أن الولايات المتحدة استخدمت سلاح الديمقراطية عندما كان هذا السلاح يتماشى مع مصالحها كما هو الحال في مواجهة الكتلة السوفييتية السابقة كما استخدمت سلاح الانقلابات والديكتاتوريات العسكرية والحكومات المطلقة الأبوية والقبلية عندما كان ذلك يتماشى أيضا مع هذه المصالح كما حصل في دول آسيوية وأمريكية لاتينية وعربية أو شرق أوسطية عديدة خلال العقود الماضية. وبالمثل لا أعتقد أنه يكفي الإشارة إلى أن المبادرات الديمقراطية الأمريكية تشكل جزءا من مشروع السيطرة الامبرطورية على الشرق الأوسط يتم البرهان على بطلانها ومعها دعاوى الدمقرطة الخارجية. إذ من الممكن كما رأينا ذلك في مثال اوروبة الشرقية وروسيا أن يتفق هدف السيطرة الامريكية مع هدف التحويل الديمقراطي. إن موقف الولايات المتحدة من الديمقراطية موقف براغماتي تابع بالفعل لمصالحها. وفي هذه الحالة لن تكون المسألة المهمة هي قبول المبادرات الخارجية للاصلاح أو الوقوف في وجهها ولكن معرفة ما هي بالفعل وجهة المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط للسنوات القادمة وإلى أي حد يلتقي تحقيق هذه المصالح مع غاية التحول الديمقراطي للنظم السياسية العربية. والسؤال الثاني الذي لا يمكن أن ينفصل عن الأول هو معرفة ما ذا نقصد وتقصد الولايات المتحدة بالديمقراطية؟ هل هو إقامة نظم سياسية تمثيليه تعكس بالفعل الإرادة الجمعية أو السيادة الشعبية في البلاد العربية وتقود إلى سيطرة المجتمعات على مصائرها التاريخية أم هو إقامة واجهات تمثيلية شكلية عبر انتخابات دورية كما هو قائم في العديد من الدول الأفريقية والأسيوية والأمريكية اللاتينية، أي إقامة نوع من التعددية التي تسمح للأفراد بحد أدنى من التعبير الحر عن الرأي ومن التنظيم والتنافس على مناصب المسؤولية تختلف كثيرا عما هو سائد من احتكار السلطة ومصادرة حق التعبير والتنظيم والمشاركة والمنافسة على مناصب المسؤولية من قبل فئات محدودة أصبحت سيطرتها الأحادية ترى كأنها عملية سطو مسلحة على العباد والبلاد ومواردهما الرئيسية.

في اعتقادي أن الولايات المتحدة ومن ورائها قوى أخرى من المعسكر الصناعي والأطلسي تفكر في الشرق الأوسط والعالم العربي من خلال أربع مصالح رئيسية: عدم ترك أهم احتياطيات النفط العالمية تحت سيطرة شعوب أو أنظمة عربية غير مضمونة لا في مواقفها ولا في امكانية استقرارها، تأمين كل فرص ووسائل الانتصار في الحرب ضد الارهاب الذي تعتقد أن ظاهرته متجذرة في الأرض العربية، تجريد المنطقة أو الدول العربية بالأحرى من أسلحة الدمار الشامل التي تملكها حتى لا تبقى خطرا كامنا على الدول الصناعية أو على إسرائيل وأخيرا توطين اسرائيل نهائيا وترسيخ جذورها في التربة الشرق أوسطية وتامين القبول بها والتعامل الطبيعي بينها وبين الشعوب العربية، ومن مسلتزمات ذلك الإضافية القبول بمشاريع اسرائيل التوسعية باعتبارها ضرورية لضمان مستقبل إسرائيل ومعاداة كل محاولة تكتل عربية تهدد بتغيير حيوسياسة المنطقة وتوازنات القوى الإقليمية. هذه الأهداف هي التي توجه السياسة الأمريكية أساسا وربما أكثر فأكثر السياسة الأطلسبة.
ليس من بين هذه الأهداف هدف واحد يسمح بالحديث عن الالتقاء بين الأجندة الأمريكية ومشروع نشر للديمقراطية في المنطقة. فالسيطرة على النفط لا يهدف إلى أمر آخر سوى منع الدول أو النظم العربية، تحت ضغط شعوبها، من استخدامه كأداة في الحرب أو الضغط على الدول الصناعية. وذكرى الحظر النفطي العربي عام 1973 هي التي تدفع الغربيين للتدخل المباشر اليوم وتبرره. وبالمثل من الصعب الاعتقاد بأن محاربة الارهاب تستدعى فتح المجال السياسي في العالم العربي بعد أن ساهمت في تكبيله وتقليص الحريات أو الضمانات الدستورية للحريات في موطن الديمقراطية الأمريكية نفسها. ولا أدري ما هي العلاقة التي يمكن أن تنشأ بين نزع أسلحة الدمار الشامل العربية ودمقرطة الحياة السياسية في الشرق الأوسط. أما في ما يتعلق باسرائيل فأنا على يقين بأن أنصار هذه الدولة في واشنطن يعتقدون بقوة بأن الرأي العام العربي رأي معاد للسامية وكاره لليهود وأن الديمقراطية لا يمكن أن تكون إلا الطريق الأسرع لسيطرة القوى الاسلامية المتعصبة والمعادية لليهود والغرب على السلطة في معظم إن لم يكن في جميع الأقطار العربية. هل يعني هذا إذن أن دعوة الولايات المتحدة إلى تطبيع الحياة السياسية والعودة إلى سيادة القانون والحريات العامة والديمقراطية في البلاد العربية هي دعوة فارغة وملغومة؟


لا أعتقد أن خطاب الإدارة الأمريكية الجديد حول التحويل الديمقراطي والاصلاح في البلاد العربية دعاية فارغة ولا خدعة لفظية لا تهدف إلا إلى ضمان تأييد العرب لمشاريعها الامبرطورية في احتلال العراق وتطبيع العلاقات العربية الاسرائيلية من دون تحقيق مطالب الدولة الفلسطينية والانسحاب من الأراضي المحتلة. وفي نظري أن مصدر الحديث عن مبادرات ديمقراطية للعالم العربي موجود في مكان آخر غير الدفاع المباشر عن المصالح المادية والسياسية والاستراتيجية التي تحدثنا عنها. إنه يكمن في الاقتناع الصحيح بأن النظم العربية قد أخفقت في تحقيق أي هدف من الاهداف التي لا بد منها لاستقرار الشعوب والمجتمعات والبلدان، سواء ما تعلق منها بالتنمية الاقتصادية أو العدالة الاجتماعية أو بناء الأنظمة السياسية الشرعية، وأن النتيجة الطبيعية لهذا الإخفاق هو تدهور شروط الحياة العربية وتفاقم البطالة والفقر ومن ورائهما تنامي التناقضات والنزاعات الداخلية وبالتالي انفجار أزمة تاريخية طويلة لا يمكن لأحد أن يتنبأ بمآلها ولا بعواقبها على المصالح الأمريكية والغربية والاسرائيلية عموما، بل وعلى استقرار الشرق الأوسط والقدرة على حكمه والسيطرة عليه. وعلى هامش هذه الأزمة الطاحنة والسائرة حتما نحو التفاقم مع توليد المزيد من التعصب والتوتر والاقتتال والعنف لا يبدو في المشهد السياسي أحد أعني فاعل جمعي يقف على رجليه أو يبدو كذلك ويقدر على التدخل لتجيير الأحداث ودفعها في اتجاه واضح على الأقل من وجهة نظره سوى القوى الاسلامية التي تمتح من معين المشاعر والاعتقادات والتقاليد الجمعية الدينية والمدنية معا. وأمام تفكك هذا النظام الشرق أوسطي ومخاطره الكبيرة على تدفق النفط الطبيعي وسلام وأمن إسرائيل وانتشار أسلحة الدمار الشامل إن لم يكن استخدامها من قبل مجموعات منظمة صغيرة واتساع دائرة ما يسمى اليوم بالارهاب لا يسع الولايات المتحدة ولا بلدان المعسكر الصناعي الأخرى التي تدعمها وتقف ورائها، حتى عندما تختلف معها في الخطط التكتيكية، إلا أن تتدخل مباشرة في عين المكان لتعيد ترتيب الأوضاع وتقطع الطريق على أي مفاجآت أو تطورات غير متوقعه ومهددة للمصالح الغربية.
هكذا يعقتد الأمريكيون والغربيون عموما أن سبب الإخفاق الخطير الذي تشهده المنطقة في جميع المستويات والذي يحمل تهديدات لا يمكن تجاهلها للمصالح الغربية هو سوء حكم وإدارة النخب العربية الحاكمة وأن من المستحيل درء مخاطر الإخفاق الشامل في المنطقة من وضع حد لما أصبح يبدو عمليات سطو جماعي مسلحة على موارد البلاد وسكانها أكثر مما يبدو سياسات مدنية وعقلانية مستمدة من حاجات بناء المجتمعات وضمان عمل المؤسسات وتكوين الدول الفاعلة. إن ما يهدف إليه الحديث الأمريكي وما يدعو إليه من إصلاح وديمقراطية هو تبني برنامج الاصلاح الذي أصبح برنامجا عربيا شعبيا لتبرئة نفسها من مسؤولية الوضع الكارثي القائم وانتزاع المبادرة في توجيه وقيادة المرحلة القادمة التي ستخلف مرحلة تفكك النظم العربية القائمة. وهكذا تبدو الولايات المتحدة التي كانت الداعم الأول لنظم الحكم اللاشعبية باسم الحفاظ على الاستقرار وكأنها الشريك الأول للشعوب العربية في السعي نحو الخروج من الأزمة. والمضمون الحقيقي لمشروعات الاصلاح الأمريكية هو لا أكثر ولا أقل من إعادة تشكيل النظم والنخب العربية بما يحقق استعادة زمام الأمور في منطقة استثنائية في موقعها وقيمتها الاستراتيجية، أي بما يضمن الحفاظ على المصالح الحيوية الأمريكية الأوروبية. ولا يمكن تحقيق ذلك في نظر التحالف الغربي إلا بوضع حد لسياسات الهدر والاستهتار والانفلات القانوني والإداري التي تشكل اليوم أكبر تهديد للاستقرار وبوقف مسار التدهور المعنوي والمادي والسياسي وإنقاذ الوضع الشرق أوسطي من وجهة نظر الولايات المتحدة وحلفائها من كوارث محققة. ولا شك أن الديمقراطية بما تعنيه من إعطاء حد أدنى من الحريات والتعددية للشعوب العربية وتأكيد معنى المسؤولية والمحاسبة السياسية تشكل اليوم أحد العناوين الأساسية إن لم تكن العنوان الرئيسي لأي برنامج إصلاح عربي.
لكن لا ينبغي أن نفهم من المشروع الأمريكي لنشر الديمقراطية في البلاد العربية إعادة السيادة للشعب والقبول بمطالبه وجعل السلطة العمومية ممثلة بالفعل لمصالحه وتوجهاته. فالولايات المتحدة لا تزال تنظر إلى الشعوب العربية على أنها شعوب بدائية ضعيفة التكوين الروحي والفكري والسياسي لا يمكن الإطمئنان لها أو السيطرة عليها. إن ما يهدف إليه هو بالأحرى وضع الأنظمة أو النخب العربية التي تدين ببقائها وتدعيمها للولايات المتحدة تحت الوصاية المباشرة للمعلم وحرمانها من التصرف بحرية بما أصبح يبدو لها، من بلاد وعباد وثروات وموارد وطنية، وكأنه من أملاكها الخاصة وحكرا قائما عليها. أي في الواقع وضع حد لعربدتها الداخلية الاستثنائية. وهو من قبيل وصاية الأب على الولد الجاهل والفاسد معا.
يطمح الحلفاء، والأمريكيون على رأسهم، أن يحقق لهم نظام الوصاية الجديد إشرافا أفضل على مسار التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في المنطقة والسيطرة المباشرة عليها بعد أن خرجت أو كادت تخرج في نظرهم عن سيطرة الفئات الحاكمة. فهذه العقلنة هي التي تضمن في نظرهم منع برميل البارود الذي هو العالم العربي برمته من الانفجار وتدمير كثير من المصالح حوله. كما يطمحون أيضا، من خلال إدخال درجات أكبر من الشفافية على النظم السياسية الجديدة أو المجددة، ضمان النفاذ بشكل أفضل إلى سلطة القرار والتحكم به عن قرب ومنع حصول تطورات خطيرة ، لايمكن التحكم بنتائجها، مثل تطوير اسلحة الدمار الشامل. وهم يطمحون كذلك إلى تقريب الطبقات الوسطى لإضفاء طابع من الاستقرار على النظام الجديد أو المجدد وذلك من خلال تأمين شكل من أشكال التعددية السياسية وضمان الحريات الفردية الأساسية. باختصار إنهم يريدون شراء المجتمعات العربية أو طبقاتها الوسطى ونخبها الرئيسية لضمان استمرار أطول واستقرار أكثر وأقوى مقابل الإبقاء على ما ينبغي تسميته نظام السيطرة المشتركة العربية الأمريكية. وبهذا المعنى قلت إن هدف ديمقراطيتهم الليبرالية الفردوية هو قطع الطريق على الديمقراطية الحقيقية التمثيلية التي تعترف بسيادة الشعب والمجتمع وتعبر عن طموحاته وأهدافه وآماله.
لكن في ما وراء وضع الوصاية الأمريكية المباشرة تشكل إعادة بناء وترسيخ قواعد النظام الشرق أوسطي شبه الاستعماري الذي يشكل جزءا تابعا للنظام الغربي منذ الحرب العالمية الثانية الوسيلة الوحيدة أيضا لقطع الطريق على أي تحول حقيقي نحو سيطرة الشعوب العربية على مقدراتها الحقيقية، أي نحو ديمقراطية تضمن تقرير المجتمعات لمصيرها فعلا من دون ضغوط ولا قيود ولا تدخلات أجنبية. إنها تعني الحفاظ على نظام التدخلات الأجنبية التي طبعت مصير الشرق العربي وحددت اتجاهات تطور نظمه وعمليات استتباع نخبه في الوقت نفسه خلال العقود الطويلة الماضية بعد انقضاء حقبة التحرر من السيطرة الاستعمارية.
ومع ذلك يمثل هذا الوضع تقدما بالمقارنة مع الوضع السابق الذي أطلقت فيه الولايات المتحدة يد الفئات الحاكمة في البلاد العربية طالما بقيت هذه الفئات منسجمة مع استراتيجياتها الإقليمية، سواء أعلنت تحالفها معها أم لا. فهو يعني حدا أفضل من تطبيق المعايير الدولية والمراقبة الخارجية وبالتالي نوعا ما من المحاسبة كما يعني حدا أدنى من احترام القانون والحقوق والحريات الفردية. والأهم من ذلك في نظري أن هذا النظام الذي يعاني من الانهيار والتفتت اليوم لن يستطيع أن يصلح ولا أن يستعيد الحياة. وسوف تنقلب أي إجراءات ديمقراطية مهما كانت ضعيفة على أصحابها. لن ينجح الأمريكيون في نظري في إعادة الحياة إلى نظام الشرق الأوسط الخنوع والخاضع والتابع لهم ولن يفيدهم ترقيعه في شيء. وهذا يعني أن الأمريكيين ووكلاءهم المباشرين وغير المباشرين يعيشون في مأزق سواء أنجحوا في فرض التجديد والاصلاح على النظم التي رعوها في العقود الماضية وانكشفت عورتها اليوم للعامة والخاصة أو لم ينجحوا واضطروا إلى التعامل مع ازمة النظم العربية المتفجرة بوسائل وطرائق أخرى، بما فيها ربما الحرب المستمرة.
من هنا، لا ينبغي التقليل أيضا من أثر التأكيد العالمي، والأمريكي منه بشكل خاص، على مأزق الأنظمة العربية وافتقارها للديمقراطية واحترام الانسان. فالواقع أن استقرار الاستبداد ذاته لم يحصل في البلاد العربية إلا بسبب الصمت والتغطية على اننهاكات الأنظمة العربية لجميع التزاماتها تجاه مواطنبها من قبل الدول الغربية، وبالتالي بسبب ثقة النخب الحاكمة بأنها منسجمة في سياساتها القمعية مع الاستراتيجية الأمريكية. ولذلك فهي تشعر اليوم بالضياع ولا تفهم شيئا مما يحصل حولها بسبب تغيير الولايات المتحدة خطابها وإظهارها ميولا مختلفة لمعالجة معضلات الأوضاع الشرق أوسطية. ولا شك أن حديث الإدارة الأمريكية عن المبادرات الديمقراطية يزعزع استقرار هذه الأنظمة أو بالأحرى يساهم في تعميق زعزعتها لأنه يحرمها من الغطاء السياسي الخارجي الأساسي والذي لا غنى لها عنه في استمرارها مع غياب التأييد أو الشرعية الشعبية والانتخابية. وهذا ما يفسر أنها بالرغم من كل ما حصل ومن كل المبادرات الأمريكية حول الديمقراطية والاصلاح لا تزال معظم النخب الحاكمة الحائرة والمنكوبة تتأمل خيرا وتراهن على الوقت لإقناع الولايات المتحدة بالتراجع عن خططها والعودة إلى رشدها، أي إلى التعاون والتفاهم مع النظم القائمة لقاء التنازلات العربية المطلوبة.
ومهما كان الأمر، ليس لدينا أي سبب لرفض أي تحولات ديمقراطية مهما كان الباعث لها. بل نحن الذين كنا ولا نزال نتهم الدول الغربية بخيانة مبادئها باستمرار ودعم الاستبداد والنظم اللاشعبية في المنطقة. ولا يمكن أن نطالبهم اليوم بالعودة عن خطابهم وتأكيد موقفهم التقليدي من جديد. لكننا نقول لهم أولا أن الحديث عن تعميم الديمقراطية في المنطقة لا يمكن أن يستقيم وأن يكون حقيقيا طالما لم تربط الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون مثل هذه المبادرات بايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية واليوم لقضية احتلال العراق. كما لا يمكن أن يستقيم ثانيا ما لم تغير الولايات المتحدة والغرب بشكل عام من نظرته لطبيعة مصالحه في المنطقة ومن اعتقاده بأن ضمان هذه المصالح لا يمكن أن يتحقق بالتفاهم مع شعوبها ولكن بإخضاعهم وتأمين السيطرة المباشرة عليهم، أي بحرمانهم من حقهم في المشاركة الفعلية في التعبير عن مصالحهم، سواء أجاء هذا الاعتقاد نتيجة الشك في المجتمعات الاسلامية وقدرتها على التعامل مع معايير الحضارة العصرية أو بسبب الخوف من أن يؤدي تسليمها مقاليد أمورها إلى صعود نخب إسلامية معادية للغرب في معظم البلاد العربية.
ليس هناك إذن ما يمكن أن يوحي بالثقة بأن المبادرة الأمريكية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط ليست مجرد وسيلة للتغطية على إرادة السيطرة أو التمديد لها في المنطقة ولحرف نظر الشعوب العربية عن المسائل الخطيرة العالقة بين العرب والأمريكيين وفي مقدمها المسألة الفلسطينية. وبالرغم من الحديث المكرور عن الاصلاح بل ربما بسببه فإن هناك شكوك كبيرة حول جديه الولايات المتحدة. ومن الممكن أن لا تكون جميع هذه المبادرات سوى وسيلة لذرا للرماد في العيون وللضغط على النظم العربية حتى تستجيب بشكل أكبر للمطالب الأمريكية. فإلى جانب الإرادة الضعيفة التي تظهرها واشنطن تجاه زبائنها من النظم العربية هناك من دون شك الحسابات المعقدة أيضا في التوفيق بين المصالح القريبة والبعيدة. ثم إنه لا شيء يؤكد أن لدى واشنطن القدرة، بالرغم من كل شيء، على مواجهة النخب التي أطلقت يدها خلال عقود طويلة في البلاد العربية والتي استشرست وأتقنت اللعب على كل الحبال واستخدام جميع وسائل المراوغة والتحايل والخديعة، بما فيها الحروب الأهلية، لقطع الطريق على أي تغيير يحد من نفوذها أو يهددها بالتخلي عن ممتلكاتها، أعني عن الدول التي تسيطر عليها كإقطاعات القرون الوسطى القديمة مع كل شعوبها ومواردها. وكلها مستعدة لتفجير هذه الدول ودفعها نحو الهاوية بكل الوسائل إذا كانت النتيجة المتوقعه لأي إصلاح إخراجها منها أو تقليم أظافرها.
والخوف كل الخوف أن تنجح المخاوف الأمريكية من الانفتاح السياسي والمراوغة التقليدية للنخب المتسلطة على الدول والبلدان في الدفع نحو توقيع صفقة جديدة، وهذا هو المرجح في نظري، بين الفئات الحاكمة والإدارة الأمريكية الراهنة أو القادمة تكون نتيجتها التضحية المشتركة بالديمقراطية، أي بالمصالح الشعبية، مقابل التزام الدول الصناعية بتقديم مساعدات كبيرة اقتصادية وأمنية للنظم الحالية وقبول الأخيرة بتنازلات كبيرة في مسائل الاستقلال والسيادة والهوية الوطنية والتمسك بحل عادل للمسألة الفلسطينية وبآفاق التنمية المستقلة والوحدة والتحرر من السيطرة والاحتلال الأجنبي. لا يمنع هذا بالتأكيد القيام ببعض الإصلاحات الشكلية لإقامة واجهة من التعددية السياسية العقيمة والحريات الفردية الفارغة لكنه يضمن إعادة بناء النظام الشرق أوسطي القديم وتجديد الشراكة التقليدية بين النخب الحاكمة والتحالف الغربي على الأسس ذاتها التي ضمنت في الماضي حرمان الشعوب العربية من الحرية والمشاركة والسيادة وبالتالي من التنمية، وبالتالي الاستمرار في الإحياء الاصطناعي لدول فارغة إلا من وظيفة الوكالة الخاصة.