من الواضح ان احتلال العراق يشكل ورطة بالنسبة للإدارة الأمريكية التي توقعت نصرا سريعا وحسما أسرع للوضع لكنها لا تكف عن مواجهة أوضاع تتعقد أكثر مع مرور الوقت. وبالرغم من مظاهر الاستمرار في استعراض القوة تدرك واشنطن أكثر فأكثر أن المخرج الوحيد الذي بقي لها هو السعي إلى تحقيق التفاهم مع الدول الأوروبية لاتخاذ قرارات جديدة في مجلس الأمن تسهل نقل السلطة إلى العراقيين وتخفف العبء عن الأمريكيين. إنها تتراجع شيئا فشيئا عن غطرستها الأولى وتقبل بالشراكة مع حلفائها الذين رفضت مشاركتهم في السابق.
بيد أن المخاطر على العراق لم تتضاءل ولن تتضاءل بسبب ذلك. فمن جهة أولى لا تزال لدى الولايات المتحدة القدرة على نشر الخراب والحروب الداخلية لتبرير بقائها العسكري والسياسي وقطع الطريق على استقلال ناجز للعراق. وهي تستطيع في هذا المجال أن تعتمد على الكثير من القوى الصغيرة المتطرفة كما تستطيع أن تعتمد على أجهزتها ووسائلها الخاصة لتحويل الحرب من حرب وطنية بالنسبة للعراقيين إلى حرب داخلية أهلية. ومما يضاعف المخاوف في هذا المجال الاختلاط الكبير الحاصل في وضع المقاومة الوطنية العراقية نفسها. فإذا كانت الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي تقف بشكل واضح ضد الاحتلال وتريد إخراجه من العراق، لا يختلف في ذلك السنة والشيعة، فإن الاختلافات التي بظهرها العراقيون بخصوص تحديد طرق هذه المقاومة وأساليبها تزيد من مخاطر الانقسام داخل الصف العراقي. لكن ما هو أهم من كل ذلك الغموض الذي يلف المقاومة المسلحة والطابع شبه الطائفي الذي تنزع إلى اتخاذه. فبالاضافة إلى أن هذه المقاومة لا تزال تفتقر للهوية الواضحة ولا تعلن عن أي أهداف واضحة بخصوص مستقبل العراق لا يزال من الصعب على المراقب التمييز بين أعمال المقاومة الوطنية الحقيقية والعمليات الاجرامية الكثيرة التي تستهدف المدنيين العراقيين وتخفي إرادة تفجير الحروب الداخلية. وللأسف لا يبدو أن هذه المقاومة تدرك حتى الآن مخاطر هذا الاختلاط والالتباس الحاصل وتقوم بما ينبغي القيام به لتمييز نفسها وعملياتها بصورة حاسمة عن الأجهزة المشبوهة وعمليات العنف الأعمى، كما أنها لا تظهر إدراكا كبيرا لضرورة وأهمية أن تتحمل هي أيضا المسؤولية في المشاركة في وضع حد للمجازر التي ترتكب في العراق والتي لا تستهدف الاحتلال بقدر ما تستهدف وحدة الشعب العراقي وفرصه في الخروج من الفوضى والخراب.
ومن جهة ثانية يشكل الخلاف حول مسألة ا لفيدرالية بين العرب والأكراد مصدر قلق آخر بشأن مستقبل عراق ما بعد الفاشية. فإذا كان من المكن تبرير مشروع االفيدرالية على أساس غير أقوامي كما تسعى إلى التأكيد عليه الأطراف العربية في إطار الاعتراف بالشروخ العميقة التي خلفها النظام الطغياني داخل المجتمع والعمل على تجاوز ضياع الثقة فيما بينها، فإن مشروع الفيدرالية القائمة على التقسيم الأقوامي أو العرقي كما تريد الأحزاب الكردية يخفي من دون شك إرادة الانفصال سواء أجاء ذلك مع إعلان قيام الدولة الكردية المستقلة أو من دونه. وإذا كان هذا هو الهدف فلتفتح المفاوضات منذ الآن ومن دون لف ودوران حول وضع المنطقة الكردية ومستقبل علاقاتها بالعراق بدل أن تدور المعركة في الظل ومن وراء ظهر الشعب العراقي وفي خفية عنه.
ومن المؤكد أن عدم توصل العراقيين بين سنة وشيعة وعربا وأكرادا وتركمان إلى تفاهم فيما بينهم سوف يقدم للولايات المتحدة فرصة ثمينة لتأجيل الاعتراف بسيادة العراق أو لفرض سيادة ناقصة عليه. وسوف يشجعهم من دون شك على تبني مواقف شبيهة بتلك التي لجأت إليها بريطانيا في حقبة ما بين الحربين العالميتين لتكريس احتلالها الدائم للعراق، أي تطبيق نوع من الوصاية غير المعلنة على عراق منقسم على نفسه يحكمه العراقيون أنفسهم من حيث المظهر فحسب في حين يبقى القرار الحقيقي في يد مندوب سام معين بالاسم أو من دون تعيين رسمي.
ومن جهة ثالثة، وفي حالة من الغياب الكامل للعالم العربي عن الأحداث الدولية والإقليمية التي تهزه يخشى أن تقود المقاومة العراقية إلى تحقيق أهداف غير التي تسعى إليها. فمن الممكن تماما أن يؤدي الضغط العسكري الكبير على قوى الاحتلال الأمريكي البريطاني إلى دفع الأمريكيين، للحد من تدهور الوضع السياسي والعسكري في العراق، إلى التقرب من جديد من الاوربيين الذين لا يطمحون إلى شيء آخر في العراق سوى المشاركة في الغنيمة وتجنب الاستبعاد، والتفاهم لاستصدار قرارات جديدة في الأمم المتحدة تعزز مواقفهم جميعا. ومن المؤكد أن مثل هذا التفاهم، بعكس ما يعتقده الساسة العرب، لن يكون إلا على حساب مصالح العرب وضدهم. فمثل هذا التفاهم الأمريكي الأوروبي هو القاعدة الأساسية لتعزيز السيطرة الأطلسية على المنطقة العربية.
كما أن من الممكن لاستمرار تدهور الموقف السياسي والعكسري الأمريكي في العراق أن يشجع بعض صقور واشنطن وهم كثر إلى تبني سياسة الهرب إلى الأمام وتوسيع دائرة الحرب لتشمل سورية، خاصة وأن مثل هذا الهرب يمكن أن يخدم أيضا خطط الحكومة اليمينية الاسرائيلية التي تسعى إلى الخروج من ورطة الحرب الفلسطينية. وكما أن من الممكن أن يساهم توسيع دائرة الحرب، بصرف النظر عن الفوضى التي سيثيرها، إلى التغطية على المأزق الأمريكي في العراق، من الممكن أن يقدم نقل الحرب إلى سورية وسيلة للتغطية على انسحاب حكومة شارون من غزة والضفة الغربية وما يعبر عنه هذا الانحساب من إخفاق في تحقيق أهداف الحرب الاسرائيلية الجارية لتصفية القضية الفلسطينية. ومما يزيد من مثل هذه المخاطر، هو أن أجندة الولايات المتحدة في سورية أو بالنسبة لسورية هي أجندة إسرائيلية أكثر حتى مما هي أمريكية. ومن الطبيعي أن يتفاقم الخطر على سورية عندما تتعرض حكومة شارون إلى هزة كبيرة وتحتاج كي تتجاوزها إلى عمل يعزز موقفها في الداخل وتجاه الفلسطينيين. والأمر يتوقف في الأشهر القادمة على نجاح هذه الحكومة في تحقيق إنسحابها من الأراضي من دون الحاجة إلى عمليات استعراضية للتغطية على مأزق التورط، من دون أمل في تحقيق أي هدف من أهدافها الأصلية، في حرب الدمار الفلسطينية.
وكما ذكرت في أحد مقالاتي الماضية أن الحرب التي تدور في العراق ليست حربا أمريكية عراقية فحسب ولكنها أيضا حرب اسرائيلية عربية. فتحت رداء الحرب الأمريكية كانت تل أبيب تخوض ولا تزال حربها الخاصة. وإذا كانت أحد أهداف الحرب الأمريكية ا لسيطرة على العراق، ومن ورائه تثبيت سيطرتها على الخليج ونفطه، فإن هدف الحرب الاسرائيلية منع العراق من الاستقرار وإذا أمكن دفعه نحو التمزق والتفتت. ولا أستبعد أن تكون العديد من العمليات الارهابية التي عرفتها المدن والمواقع الدينية العراقية والمؤسسات الدولية من صنع أيادي المخابرات الاسرائيلية.
ثم إن اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في ظروف تؤكد بشكل متزايد تصاعد شعبية المرشح الديمقراطي قد تدفع الإدارة الأمريكية الراهنة إلى التشدد أكثر في المنطقة العربية لتحسين صورة وسمعة الرئيس بوش لدى الرأي العام الذي يميل بشكل أكبر لصالح تأكيد القوة والقدرة على السيطرة الأمريكية.
ومهما كان الأمر، وهذه هي المسألة المحورية، لا يمكن لمصير العراق أن ينفصل عن مصير المنطقة العربية برمتها. فإذا استمر الوضع العربي في التدهور لن يكون هناك أمل في أن ينجح العراقيون في السيطرة على استراتيجيات الهيمنة والتمزيق التي تستهدفهم من قبل الولايات المتحدة واسرائيل. لكن إذا نجج العالم العربي المكرسح في أن يقف على قدميه، وشرط ذلك إعادة إدخال المجتمعات العربية في الحياة السياسية ووقف الارهاب الرسمي المنظم الذي يمارس ضدها في سبيل ضمان الازدهار والانتعاش الأبدي لحفنة قليلة من اللصوص والطفيليات، فلن يستطيع العراق الخروج من قمقم الاحتلال ولكن الاحتلال هو الذي سيزيد من هامش مبادرته وسينجح في تعزيز موقفه في البلاد العربية الأخرى.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire