samedi, février 28, 2004

بين الديمقراطية العربية والديمقراطية الأمريكية



مع انهيار الحركات القومية ووصول أـنظمتها بالمجتمعات العربية إلى طريق مسدود لا تستطيع هي نفسها أن تنكره، تتنامى في أوساط الرأي العام، وبشكل خاص الرأي العام الشبابي، والعالمي أيضا، نزعة عدائية تجاه البرامج والشعارات والأهداف التي استحوذت في الماضي القريب على عقول الناس وأفئدتهم لعقود طويلة. وينهال النقد بصورة عشوائية على كل البرنامج الوطني العربي الذي بلورته الحركات الشعبية منذ بدايات القرن العشرين في مواجهة الاحتلالات الغربية للأقطار العربية أولا ثم في مواجهة علاقات التبعية والاستعمار الجديد ثانيا. حتى إن البعض أصبح يتندم على خروج الاحتلال والاستعمار، بل لقد سمعت صديقا يردد ولو على سبيل المزاح الذي لا يخلو من الجدية إن ما نحتاج إليه هو الخلاص من الاستقلال.
والمشكلة ليست في نقد البرامج الوطنية ولكن في بروز نزعة عدمية وسوداوية تجاه الحقب السابقة لا تفرق بين أخطاء الزعماء وتهافت الطبقات السياسية وتضحيات الشعوب. فلا ينبغي للاحباط الهائل الذي تعيش فيه الشعوب العربية اليوم أن يدفع إلى مثل هذا الموقف التعميمي العدمي. ولا يمكن لمثل هذا الموقف أن يقود إلى تصحيح الحال بقدر ما يعمل على تعميق الظلمة وانعدام الوعي. إن من واجبنا أن نعيد النظر بماضينا من دون أدنى تردد. لكن لا ينبغي أن يكون ذلك في سبيل نفي هذا الماضي أو صبغه بالسواد. فرفض الماضي والتنكر له لا يفيدنا في فهم ما يحصل لنا ولا يساعدنا على فهم الأسباب التي تكمن وراء إخفاقنا وكيف ومن هو المسؤول عن هذا الإخفاق. أعني أنه لا يساعدنا على أن نميز بين سياسات أو اختيارات سياسية واستراتيجية خاطئة وسياسات ايجابية ينبغي بلورتها وتطويرها حتى نخرج من المأزق الذي نحن فيه. والسبب بالضبط هو أن شتم الماضي والتنكر له لا يعني نقده ولا تمحيصه ولكن بالعكس الاستمرار في العماء الذي قاد إلى الفشل والإخفاق،.ولا يكفي أن نجلد أنفسنا ونشتم تاريخنا ونحقر ثقافتنا حتى نكتشف طريق التجدد والخلاص،
والسؤال الذي ينبغي على جميع المتصدين لمثل هذا النقد أن يطرحوه هو التالي: هل ترجع الأوضاع المأساوية التي نعيشها اليوم إلى خطأ الاختيارات والأهداف التي حددتها لنفسها بعد الاستقلال الحركة او الحركات الوطنية العربية؟ هل كان من الخطأ مثلا تبني شعار الاستقلال عن الأجنبي، والتفكير الذي ساد خلال الخمسينات والستينات بالوحدة أو بالتقارب بين الدول العربية؟ وهل كان من الخطأ التفكير في تقليص الفوارق بين الطبقات وتطبيق معايير أفضل للعدالة الاجتماعية وتحرير الفلاحين وتطبيق برامج الاصلاح الزراعي وإدخال الفلاحين والعمال إلى الحياة السياسية؟ هل كان من الخطأ العمل على التعبئة الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الزاحف ؟ وهل كان من الخطأ البحث عن تحالفات استراتيجية أخرى غير تلك التي كانت معقودة مع الدول الغربية خلال حقبة الاستعمار، أو شراء الأسلحة السوفييتية وتكوين الجيوش الوطنية؟ وهل كان الموقف الصحيح يتطلب الصلح بأي ثمن مع اسرائيل والتفاهم مع الدول الغربية والتعاون معها كما تسعى إلى فعله النظم العربية اليوم؟ وهل هذا السعي وما يعنيه من تخل عن الاختيارات الوطنية العربية السابقة من قبل الأنظمة الراهنة هو عمل صحيح وهو المطلوب وأن ما كان قائما كان خطأ أم أن هناك طريقا آخر ممكنا للتعامل مع الأوضاع الراهنة؟

هذه الأسئلة مطروحة على العرب اليوم بقوة وبراهنية. والاجابة العقلانية عنها تشكل عاملا أساسيا للخروج من حالة التخبط والفوضى الفكرية والايديولوجية والضياع السياسي التي يعيشها الرأي العام العربي. فمن دون ذلك سوف يستمر الوضع القائم كما هو، ويستمر الجمهور العربي في رفض الماضي والحاضر معا جملة وتفصيلا . ولا شك أن هذا الرفض للواقع القائم رفض محق. لكنه لن يستطيع أن ينتقل من السلب إلى الايجاب أي من رفض الواقع إلى بناء رؤية عقلانية وسليمة لإعادة بنائه وإصلاح أحواله من دون مراجعة عقلانية وجدية لسياسات الماضي واختياراته الأساسية.
في اعتقاتدي كان للبرنامج الوطني في العالم النامي بأجمعة ثلاثة محاور عمل أساسية. الأولى تأكيد الهوية السياسية أو الوطنية، وعندنا الهوية العربية أو المصرية أو اللبنانية او السورية أو الجزائرية أو المغربية، في مواجهة الهويات أو التماهيات التقليدية الدينية والطائفية والعشائرية والجهوية، بل انعدام الهوية، ومن دونه لم يكن من الممكن بناء الدولة الحديثة ولا الدخول في منطق سياسة العصر وتنظيمه المدني. والثاني حل مسألة الريف العربي ودمج الفلاحين الذين كانوا يشكلون الأغلبية من السكان، لكن الأغلبية المهمشة والمنبوذة، في الحياة الوطنية، ومن ضمنها تحقيق عدالة اجتماعية أفضل. وهو شرط تكوين نسيج وطني والخروج من منطق القرون الوسطى القائم على التمييز في المراتب والمقامات وعلى إلغاء الفردية أو إغراقها في العصبيات الجماعية. والثالث هو التحديث الإداري والتصنيع الاقتصادي الذين لا بديل عنهما من أجل دمج البلدان العربية بدورة النمو الصناعي والاقتصادي العالمي وايجاد فرص العمل الضرورية لأجيال الشباب المتنامية.
وفي العالم العربي ولأسباب خاصة يمكن أن نضيف إلى هذا البرنامج محورين آخرين الأول هما مواجهة واقع الاستعمار الاسرائيلي الذي جاء ليصادر في فلسطين على نتائج حركة التحرر من الاستعمار ويفرض وقائع جديدة استيطانية وجيواستراتيجية كبيرة التأثير. والثاني هو مسألة ترتيب العلاقات بين الأقطار العربية وإدارة الإرث الثقافي والتاريخي والعاطفي المشترك، سواء أخذ هذا الترتيب صورة التكتل في إطار الجامعة العربية أو الطموح الأكثر جذرية ليناء دولة عربية واحدة أو اتحاد عربي. ومما زاد من قوة الدفع نحو شعار الوحدة وتشكيل تكتل عربي هو تصاعد قوة الدولة الاسرائيلية وحاجات الرد على تحديات حركة الاستيطان تحت حماية التحالف الذي انعقد بين مشروع الاستعمار الاسرائيلي في فلسطين ومشاربع السيطرة على النفط من قبل القوى الكبرى ونزوعها إلى الابقاء على العالم العربي في دائرة النفوذ والتبعية للغرب وتكريس علاقات الاستعمار الجديد في المنطقة بهدف التحكم الطويل المدى بمصادر الطاقة النفطية.
ليس الخطأ في البرنامج الوطني العربي ولا في محاوره المختلفة التي صاغتها في الواقع حركة الجماهير العربية نفسها خلال عقود طويلة من اختبار السلطة الاستعمارية والصراع معها. وليس تحقيق هذا البرنامج هو المسؤول عن الكارثة التي يعيشها العالم العربي اليوم المهدد بتجريده من سيادته واستقلاله وموارده معا. إن الخطأ هو في خيانة النخب العربية هذا البرنامج الوطني وفي عدم تحقيقه واستبداله بمشاريع سيطرة أقلوية تتمحور حول خدمة الفئات الحاكمة وحدها وقاعدتها الزبائنية بدل خدمة المجتمعات. إن الخطأ قائم في مصادرة هذه النخب والنظم التي أسستها لهذا البرنامج ومن ورائه لمصير المجتمعات ومصالحها.
وما نشهده اليوم ليس إفلاس البرنامج الوطني العربي ولا خطئه أـو لا معقوليته وعدم اتساقه، فهو لم ينفذ حتى جزئيا، ولكن إفلاس النخب العربية الحاكمة وسياساتها وبرامجها غير الوطنية وغير العقلانية وبؤسها الفكري والسياسي والأخلاقي. فليس من العبث التأكيد على حقوق الشعوب العربية في الاستقلال والسيادة ورفض الاستيطان وسلب الأرض ولا العمل على توزيع أفضل للثروة المادية والرمزية على السكان، سواء أجاء ذلك باسم الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية، ولا السعي لبناء هوية أو تعزيز الانتماء إلى دائرة ثقافية وسياسية عربية تستدعي التضامن والتكافل بين الشعوب ولا الانخراط في برامج التنمية والتصنيع. إن عدم تحقيق ذلك هو مصدر الخطأ والعبث لأنه لم يعن شيئا آخر سوى التضحية بالمصالح العربية الوطنية والقومية معا على مذبح المصالح الخاصة وأحيانا الشخصية.
ومن هنا لن يفيد التنكر لهذا الإرث الوطني العربي في تقدم الحركة الشعبية أو الديمقراطية أو التحديثية، وليس المطلوب تصفيته والتنكر للتضحيات الكبيرة التي قامت بها الأجيال العربية السابقة من أجل رسم طريق التحرر من التبعية وتحديث البنى الوطنية السياسية والمدنية خلال ما يقارب القرنين من الزمن. إن المطلوب، بالعكس من ذلك، محاسبة ومحاكمة المسؤولين عن التخلي عن هذا الإرث والتنكر للتضحيات التاريخية والاستهتار بالمصالح الشعبية الوطنية والعربية.
ذكرت كل ذلك لأقول إنه لا ينبغي أن نطرح مسألة الديمقراطية اليوم في مواجهة اختياراتنا الوطنية في فلسطين وفي مسائل الهوية العربية والتنمية والتصنيع والتكتل والاتحاد أو كبديل عنها، وإنما علينا بالعكس أن نعزز الالتفاف حول شعارها والانتماء لها وترسيخ جذورها باستيعاب هذا البرنامج الذي سقطت النخب البيرقراطية المستبدة، المدنية والعسكرية، في امتحان تحقيقه. ولن يكون للديمقراطية مستقبل من دون أن تنجح في تحقيق هذه المهام الوطنية والاجتماعية المرتبطة بهذا البرنامج . باختصار، لن يكون بإمكان العرب التحرر والارتقاء بمستوى حياة السكان المادية والأخلاقية والاندماج في المسيرة الحضارية العالمية من دون استكمال برنامج التحرر الوطني هذا بما يشمله من وضع حد للتسلط الاسرائيلي وحركة الاستيطان وتجاوز التفتت والتشرذم السياسي العربي الذي يعيق انتشار الابداعات وتنقل المبدعين والمنتجين وعناصر التقدم في المنطقة ويقسم الأسواق والشعوب ويزرع التوترات والانقسامات والنزاعات بين الأقطار العربية. ولن يكون من الممكن استكمال هذا البرنامج الذي تخلت عنه النخب الحاكمة وإعادة إطلاق حركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز التكافل والتضامن والعدالة الاجتماعية إلا بتجديد الحياة السياسية وتكوين نخب قيادية جديدة وتغيير موازين القوى الداخلية والإقليمية، وهو ما يتوجب على الحركة الديمقراطية العربية أن تحققه أو تثبت قدرتها على تحقيقه. وإلا فلن يكون لها مستقبل ولن تحظى بالشرعية التاريخية التي تحتاج إليها للبقاء والتنامي والرسوخ في التربة العربية. وسوف تستمر المجتمعات العربية في التخبط والضياع لعقود طويلة قادمة.
إن الذين يرون الديمقراطية بديلا للحركة الوطنية ونقيضا لها هم الليراليون اليمينيون أو رجال الأعمال والأسواق الحرة وحدهم. وهذا هو مشروع الديمقراطية الأمريكية المقترح للعالم العربي. ولسان حالهم يقول: بيعونا الاستقلال والنفط وفلسطين ونعطيكم الحريات الفردية.

ويخشى أنه إذا سيطرت على ذهن الأجيال الجديدة فكرة أن كل ما فكر به وعاش وضحى من أجله جيل الآباء كان خطأ ولا معنى له، وأن البحث عن العدالة في فلسطين والتكتل في إطار العالم العربي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز الهوية والاستقلال الثقافي والسياسي، ليس سوى وهم وعبث لا أمل فيه ومن الأسلم عدم التفكير فيه والتفرغ فقط للدفاع عن الحريات الفردية والحقوق الإنسانية والسعادة اليومية والاندماج في الثورة الاليكترونية والمعلوماتية، فستكون الولايات المتحدة وشار بيرل ورمسفيلد وبوش هم الرابحون ويكون المستقبل في المنطقة للديمقراطية الأمريكية بالفعل، أي للأمريكيين يحكمون ويتحكمون ويحلون محل النخب القديمة المنهارة. ولن يكون هناك عرب ولا من باب أولى ديمقراطية عربية ولكن مناطق مفتوحة يعبث بها خبراء السلاح والمال والشعوذة الإعلاماتية العربية و الغربية.

jeudi, février 26, 2004

أي استراتيجية لانقاذ الأمة العربية



هناك إجماع عربي اليوم بين جميع تيارات الفكر والسياسة المتنافسة أو المتضاربة، بل بين جميع قطاعات الرأي العام على مختلف مستوياتها وتوجهاته، على أمرين رئيسيين. الأول أن ما تعيشه المجتمعات العربية هو حالة من التقهقر والانهيار والبؤس يصل إلى درجة المحنة. والثاني أن أركان هذه المحنة وعناصرها الكبرى هي الاستبداد السياسي والإخفاق الاقتصادي والفراغ الثقافي والروحي، وما ينجم عن ذلك من تدهور في شروط الحياة المادية والفكرية والمعنوية وفساد للمباديء القانونية والأخلاقية وامتهان لكرامة الأفراد وحرياتهم وحقوقهم الأساسية وفي النتيجة وضع الفئات الحاكمة بالقوة والعنف يدها على موارد البلاد وتوظيفها العلني لخدمة مآربها السياسية والاجتماعية.
لكن إذا كان هناك إجماع عربي اليوم على تشخيص الداء الذي تعاني منه المجتمعات العربية إلا أن العرب لا يزالون مختلفين على أمرين رئيسيين يتعلقان بعلاج هذا الداء. الأول هو طبيعة النظام الأمثل لمواجهة المحنة الراهنة والخروج منها، هل هو النظام المستمد من مباديء الشريعة الدينية أم من مباديء العقل الوضعي، هل هو نظام الديمقراطية أم نظام الشورى، هل هو نظام الفردية الحرة والمواطنية المتساوية أم هو نظام الجماعة والتكافل الديني أو الجمعي، إلخ. والثاني هو طريق أو منهج العمل للخلاص من المحنة الراهنة.

وفي هذا المجال تتنازع الجمهور العربي ثلاثة برامج أو أجندات يشكل تضاربها وعدم القدرة على التنسيق في ما بينها مصدر التشتت الفكري والانقسام والصراع السياسي والضياع الاستراتيجي الذي تعيشه المجتمعات العربية. الأول هو برنامج الحرب الوطنية أو والحضارية والثاني هو برنامج الإصلاح أو إعادة بناء مؤسسات الدولة الوطنية والثالث هو برنامج التحويلات الديمقراطية.
ينطلق البرنامج الاول من الايمان بأن ما تعيشه الأمة العربية أو العربية الاسلامية اليوم هو حرب حضارية معلنة للتحكم بمصير المجتمعات العربية والاسلامية جميعا وربما للقضاء عليها، وأن المطلب الرئيسي اليوم لتغيير الأوضاع ووقف التدهور والانحطاط هو تأمين وسائل النجاح على هذه الجبهة الخارجية. ويشكل التيار الاسلامي الرديكالي رأس الحربة في الدفاع عن برنامج المواجهة الخارجية لكنه لا يقتصر عليها. فهو يجمع بين قطاعات واسعة من الحركات القومية التي فقدت الثقة بقياداتها التقليدية وبرامجها السابقة ونقلت ميدان معركتها من الصراع ضد القوى العميلة المحلية المتحالفة مع الأجنبي كما كانت تفعل في السابق إلى الصراع على الساحة الدولية مباشرة. وفي نظر هؤلاء تتلخص محنة المجتمعات العربية والوضع المأساوي الذي وصلت إليه في سيطرة القوى الأجنبية وبشكل خاص القوى الغربية المعادية على مقدرات الشعوب العربية، سواء بصورة مباشرة عن طريق الاحتلال كما هو الحال في فلسطين والعراق اليوم أو عبر التحالف مع الفئات الحاكمة المحلية، وتحكمها بمصير البلاد ومواردها. وليس هناك مخرج للمجتمعات العربية من هذه المحنة التي تعيش فيها إلا بالتخلص من هذه السيطرة بأشكالها المتعددة الثقافية والسياسية والاجتماعية والعسكرية.
إن الذي يوحد بين جميع قوى المقاومة الخارجية دفاعا عن الهوية والسيادة هو الاعتقاد إذن بأن المجتمعات العربية تعيش حالة مواجهة بل حالة حرب مع الدول الغربية الاستعمارية أو شبه الاستعمارية، وأن جميع الجهود ينبغي أن تنصب اليوم في معركة دحر السيطرة الغربية والتحرر منها. وشعار هذه القوى جميعا هو العمل على كسر شوكة الغرب والابتعاد عن كل ما يمكن أن يقسم صف العرب والمسلمين أو يفرق بينهم ويبعدهم عن المعركة الرئيسية هذه. ومن هنا يأخذ العمل على تعميق الانتماء والولاء لعالم الاسلام دينا وجماعة أهميته القصوى ليس عند الحركات الاسلامية فحسب، وهو أمر منتظر، ولكن حتى عند الحركات القومية التي كانت أميل إلى العلمانية. فهو يشكل في نظر قوى المقاومة جميعا اليوم المصدر الرئيسي للتعبئة الوطنية تماما كما يصبح اللقاء بين القوى الاسلامية الوطنية والقوى القومية مهمة رئيسية على جدول أعمال الحركة العربية الرامية إلى تعزيز الهوية والروح الاستقلالية.
لا ينفي أصحاب هذا البرنامج المشاكل الأخرى التي تعاني منها المجتمعات العربية ولا ينكرون أهمية التحرر من انظمة القهر أو حتى محاربتها والتخلص منها كما لا ينفون ضرورة القيام بإصلاحات داخلية ومؤسسية أساسية في الدول والمجتمعات ولكنهم لا يعتقدون أن لها اليوم الاولوية. أو بمعنى آخر إنهم يعتقدون أن المدخل إلى مثل هذه الاصلاحات وإلى تقويض أسس النظم التسلطية هو بالضبط الضرب المستمر على رأس الأفعى وأساس الشر الذي هو نظام التسلط الغربي العالمي الذي لا يشكل القهر في البلاد العربية إلا أحد إمتداداته ولايمثل الحاكمون فيه إلا صنائع له. وهذا هو نمط التفكير الذي قاد الحركات الاسلامية التي عملت في العقود الماضية على محور تحقيق الاصلاحات السياسية والاجتماعية الوطنية إلى التحول أكثر فأكثر، مع اكتشافها انسداد الطريق أمام هذه الاصلاحات، نحو العمليات الخارجية ونقلها المعركة إلى الساحات الدولية.
هذا هو السياق الذي يفسر تعاطف قطاعات سياسية أو عقائدية أو اجتماعية واسعة مع برنامج المقاومة السياسية والمسلحة ودفاعها عن أي نظام يتبنى شعارات العداء للغرب ويشهر به وبسيطرته الاستعمارية، حتى لو جاء ذلك في إطار دعائي ومن قبل أنظمة استبدادية فاسدة وجائرة. ومن هذا المنطلق أيضا يمكن أن نفهم نمط التفكير الذي جعل الكثير من الحركات الوطنية التي بدأت تتحول نحو الديمقراطية والعديد من الحركات الاسلامية التي تعرضت لقهر كبير تميل إلى أن تغفر للأنظمة الدموية منذ اللحظة التي تتعرض فيها للتهديدات الاسرائيلية أو الأمريكية.
هناك إذن بالتأكيد برنامج وطني يشغل بال قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والاسلامي ويعتبر أن جوهر العمل للاصلاح والخروج من المحنة التي تعيشها الأمة العربية والاسلامية يكمن في تركيز جميع الجهود على جبهة المواجهة مع السيطرة الامبريالية والصهيونية المجسدة اليوم في الاحتلالين الاسرائيلي والأمريكي للعراق. ولا يرتبط هذا البرنامج الذي يعبر عن نفسه عبر العداء للامبريالية الأمريكية وإسرائيل، وربما الحضارة الغربية عموما، بفلسفة واحدة سياسية أو دينية. إنه يجمع بين قطاعات من الرأي العام العربي متنوعة المذاهب والمشارب، قومية وإسلامية ويسارية معا. وتنبع قوة هذا البرنامج الوطني وثبات فاعليته وجاذبيته من الاعتقاد العميق الذي خلفه استهتار التحالف الغربي بالمصالح العربية عموما، وبشكل خاص في فلسطين، بأن لمنطقة العربية والاسلامية مستهدفة من قبل التحالف الغربي بسبب ما تنطوي عليه من مصادر الطاقة وفي سبيل حماية الاستقرار والأمن والتوسع الاسرائيلي، وأن إرادة السيطرة الغربية المتجسدة في السياسات العدوانية ضد العرب هي المسؤولة عن إخفاق التنمية وتعزيز نمط حكم الاستبداد وتدهور الأوضاع وفشل برامج الاصلاح والنهضة جميعا في البلاد العربية. بل أكثر من ذلك، أن استمرار هذه السيطرة يحرم المجتمعات من التحكم بمصيرها ويغلق عليها كل أبواب النجاة. وينجم عن ذلك أنه لا مخرج للعرب والمسلمين من المأزق الذي يجدون أنفسهم فيه إلا بتقويض أسس هذه السيطرة الغربية والأمريكية بشكل خاص، ليس في المنطقة العربية فحسب وإنما في العالم أجمع أيضا، طالما أن السيطرة الشرق أوسطية ما هي إلا امتداد للسيطرة العالمية. وهناك من يعتقد بالفعل أنه ما إن يتحقق تقويض هذه السيطرة أو إضعافها حتى تتقوض من تلقاء نفسها الأسس التي تقوم عليه نظم الاستبداد والتسلط القائمة في المنطقة وبالتالي حتى تنشأ فرص أفضل لقيام نظم أكثر تمثيلية وتعبيرا عن إرادة المجتمعات العربية والاسلامية.
لا ينبع إذن التمسك بهذا البرنامج الذي فات أوانه في معظم دول العالم الأخرى من تصورات وهمية أو تثبتات عقائدية متحجرة أو شوفينية قومية كما يعتقد الكثير من الباحثين الأجانب والعرب معهم اليوم، ولكنه يستند بقوة إلى واقع عنيد وعنيف من الصعب تجاهله أو إشاحة النظر عنه هو واقع الحرب الاستراتيجية المستمرة التي قادتها ولا تزال تقودها الدول الغربية منذ عقود ضد الشعوب العربية للتحكم بمصيرها ومواردها وفرض الأمر الواقع عليها، ومثالها ورمزها الرئيسي الحرب الاسرائيلية المدعمة من الخارج في فلسطين والرامية إلى تجريد الفلسطينيين من أراضيهم وقبول الدول الكبرى جميعا تقريبا بمشروع نظام التمييز العنصري الذي فرضته إسرائيل وتحاول تكريسه بالجدار العازل. فمن الآلام الناجمة عن العنف التي تستخدمه قوى السيطرة الخارجية تنبع مشاعر العداء والرفض القومي والديني للسياسات الغربية ويستمد برنامج المواجهة قوته وزخمه كما تؤمن حركات المقاومة الوطنية والاسلامية شعبيتها الواسعة ونفوذها في أوساط الملايين وتضمن ما يشبه الشرعية أو على الأقل التبرير شبه الأخلاقي لعمليات يذهب ضحيتها في فلسطين والعراق والعديد من الدول العربية الأخرى التي تحولت إلى ساحات مواجهة آلاف المدنيين.

وكما أن من الخطأ في اعتقادي تجاهل القلق الشعبي العميق من استمرار الضغوط الخارجية العسكرية والسياسية والثقافية على الرأي العام العربي، من الخطأ أيضا التقليل من الأهمية التي يتمتع بها برنامج المقاومة العربية للسيطرة الخارجية أو الاستهانة بالتعاطف الذي يحظى به. وربما كان برنامج المقاومة ولا يزال البرنامج الأقوى بين جميع الخيارات السياسية في أوساط الفئات الشعبية. وبالمثل أعتقد أنه من الخطأ الاستهانة بحجم النفوذ المعنوي الذي تتمتع به القوى التي تأخذ على عاتقها مهمة المواجهة الخارجية. خاصة وأنها تكاد تنفرد لوحدها، من دون القوى الرسمية أو القوى الديمقراطية في الرد على اعتداءات يعيش الرأي العام آثارها وصراعاتها يوما بيوم وبالصور الحية ويدفع فيها من دمه ومن خبزه اليومي ومن أمنه ومستقبل أبنائه.

فبقدر ما تبدو الحاجة ملحة وهائلة لمواجهة السيطرة الخارجية تبدو الساحة العربية والدولية مفتقرة إلى قوى جدية وذات صدقية قادرة على أن تتحمل أعباءها أو تأخذ على عاتقها جزءا من مهام تحقيقها. وهو ما يضفى غلى المقاومة الاسلامية الراهنة، بالرغم مما تتميز به غالبا من طابع جزئي ومشتت وارتجالي، قيمة وآثارا رمزية تتجاوز بكثير نتائجها الفعلية. فهي تحتل مسرحا هجرته القوى الأخرى الوطنية والديمقراطية، الأهلية والرسمية، منذ عقدين. فالقوى الرسمية، مثلها مثل أغلب الأحزاب والتجمعات الديمقراطية اليسارية والليبرالية أصبحت حساسة لمسائل إصلاح مؤسسات الدول القائمة وتحسين عملها وفاعليتها أكثر مما هي حساسة للتخلص من السيطرة أو الهيمنة العالمية وتغيير نظام العلاقات الدولية. فهل تملك هذه البرامج البديلة فرصا أكبر لإنقاذ الأمة العربية؟ هذا موضوع مقالات تالية.

برنامج الديمقراطية العربية



بالرغم من كل ما شهده العالم العربي في العقدين الأخيرين من محن كان المسبب الرئيسي فيها نظام الحكم المطلق واستبعاد أي مشاركة أو مشاورة شعبية، لا يزال الرأي العام مترددا جدا في تبني الديمقراطية لا من حيث هي هدف للتغيير ولكن أقل من ذلك من حيث هي مدخل ضروري للتغيير. ولا يزال الاعتقاد قويا لدى قطاعات واسعة من النخبة العربية التي فقدت الايمان بالشعارات القومية والاسلاموية القديمة إلى حد كبير بأن الديمقراطية ليست مسألة أساسية في علاج أوجاع البلاد العربية ولا يمكن أن تولى أجندتها موقع الأرجحية أو الأسبقية.
فقسم كبير من الرأي العام المثقف والسياسي الذي يميل إلى طروحات الاسلاميين أو يراهن على حركاتهم السياسية يميل إلى الاعتقاد بأنه لا حل ممكنا لمشاكل العرب المصيرية والداخلية من دون توجيه ضربة قوية للاستعمار ولسياسات الهمينة والسيطرة الأجنبية، والأمريكية بشكل خاص، على الأوطان العربية. ونسيان أسبقية هدف التصدي للعدوان يقود أو يمكن أن يقود في نظر هؤلاء إلى الوقوف في صف واحد مع القوى الخارجية ويهدد بقطع الطريق على أي تحولات أخرى في طريق الاصلاح، اقتصادية كانت أم سياسية أم ثقافية. المهم اليوم في منظور هذا الفريق توجيه جميع البنادق ضد العدو وتحويل جميع الكلمات والشعارات والخطوات إلى بنادق ورصاص يستهدف الوجود الأجنبي ويضربه. ويستدعي هذا الموقف من بين ما يستدعي تجاوز الخلافات العقائدية والسياسية والاجتماعية التي تفصل المجتمعات أو النخب الاجتماعية المهمشة والنخب الحاكمة، بل ربما دعم هذه النخب وتجاهل أخطائها طالما أظهرت استقلالها أو ساهمت ولو رمزيا في الوقوف في وجه القوى الأجنبية. وقسم كبير من أصحاب هذا الرأي يجرمون المعارضات العربية التي تتناول بالانتقاد السياسات الرسمية وتدعو الحكومات إلى الانفتاح والاعتراف بالتعددية واحترام حقوق الانسان وحرياته الأساسية. فليس الوقت وقت تحقيق مثل هذه الطلبات ولن يكون لهذه المطالبات الدائمة نتيجة أخرى غير تقسيم الرأي العام والتشويش على الموقف الشعبي والحيلولة دون نشوء الاجماع الوطني.
أما الفريق الثاني من الرأي العام المثقف والسياسي فهو يعتقد أن الأجندة الرئيسية التي ينبغي الأخذ بها اليوم هي أجندة إعادة بناء الدولة الوطنية و أو القومية وإصلاح الأوضاع الداخلية، وأن الديمقراطية ليست مدخلا حتميا لهذا الإصلاح ولا مهمة ذات أولوية. بل من الممكن أن تقود إلى عكس ما تهدف له. ومن هنا ينبغي أن تعطى الأولوية للاصلاح. إذ بقدر ما تفترض أجندة الصراع ضد الهيمنة الأجنبية الثقافية والسياسية والاستراتيجية أنه ليس من الممكن إصلاح النظم الوطنية المحلية والقضاء على الفساد والظلم والاستبداد من دون تغيير أساسي بل جذري في موازين القوى الدولية تسمح للعرب والمسلمين أن يفرضوا أنفسهم وينتزعوا اعتراف العالم بحقوقهم وكف يد العدوان عنهم، تفترض أجندة إصلاح الدولة ومكافحة الفساد الاقتصادي والإداري أنه من المستحيل قيام ديمقراطية من دون وجود بنية أساسية اقتصادية واجتماعية وإدارية سليمة وفعالة. وإن التحول نحو الديمقراطية يمكن أن يقود إلى انفجار المجتمعات وتفتتها إذا لم يرافقه تحسن مواز في إعادة بناء التوازنات الاقتصادية الرئيسية ورفع مستوى الدخل للفرد والارتقاء بمستوى الأداء الإداري والفني للنخب العلمية والتقنية والبيروقراطية.
وفي المقابل هناك فريق ثالث يعتقد أن الديمقراطية هي المدخل الحتمي والأول لأي تحولات ايجابية عربية سواء أكانت على مستوى العلاقات الدولية أو مستوى الإصلاحات الداخلية. وأن من المستحيل التقدم على جبهة الصراع الوطني من أجل التحرير وتأمين السيادة والاستقلال ولا على جبهة الاصلاح الداخلي والقضاء على الفساد والترهل والانكماش الاقتصادي من دون إحراز تقدم أول وأساسي في ميدان الحريات الفردية والمحاسبة والمراقبة الشعبية على عمل الحكومات والأجهزة الإدارية والعسكرية والأمنية.

والمشكلة في اعتقادي أن الكثير من المشاركين في هذا النقاش يعرضون طروحاتهم كما لو كانت مناقضة واحدتها للأخرى وليست مكملة لها. فالمجاهد الوطني أو الديني يعتقد أن الحديث في الديمقراطية هو تبن مباشر لطروحات وأجندة أعمال الدول الأجنبية المعادية للأمة العربية والاسلامية كما أن الحديث عن برنامج إصلاح الدولة هو إضفاء للشرعية على النظم القائمة الاستبدادية والطغيانية. فليس هناك في نظره أي أجندة ديمقراطية أو وطنية حقيقية أي موضوعية وتستحق الاهتمام بها وكل ما يقال في هذا الميدان هو من قبيل التلاعب بالألفاظ أو التأثر بالأفكار والقيم والتقاليد والنماذج الغربية الاستعمارية. والاصلاحي الوطني والقومي يعتقد بالمثل أن برنامج الصراع ضد الغرب والدول الاستعمارية لم يعد ذو أولويةوأن ما يقوم به الاسلاميون وبعض القوميين من حملات ضد الهيمنة والسيطرة الاجنبية السياسية والثقافية يعكس ضعف تفكيرهم وابتعادهم عن مشاكل العصر وواقع الاندماج التفاعل العالميين. كما أن هذا الفريق الاصلاحي لا يجد في أجندة الديمقراطية شيئا آخر سوى شعارا يستخدم في الصراع على السلطة أو أسلوبا ملتويا تستخدمه المعارضة الاسلامية لتعبئة الجماهير الشعبية والوصول إلى السلطة.
وفي المقابل يعتقد الديمقراطي الذي يجعل من التعددية وإطلاق الحريات الشخصية أس الإصلاحات المجتمعية كاملة أن الاستمرار في إعطاء الأولوية لبرنامج إصلاح الدولة والنظم القائمة بما في ذلك نظام العلاقات العربية العربية في سبيل تعزيز السيادة الوطنية والقومية، ليس إلا وسيلة لقطع الطريق على الإصلاحات الحقيقية وتمكين النخب الحاكمة من تمديد أجل سيطرتها ونفوذها بالرغم من الإخفاقات الكبيرة التي تكبدتها. أما أجندة الصراع ضد الغرب لتعديل ميزان القوى العالمي وإصلاح نظام العلاقات الدولية فهو لا يفيد إلا في تعميق عداء العالم لنا وزيادة ضغطه على المجتمعات العربية التي تتحول إن لم تكن قد تحولت في نظره إلى وكر للحركات الإرهابية المدانة من قبل جميع الأمم. وبمثل هذه الأجندة تستطيع قوى السيطرة الامبرطورية الأمريكية تبرير سياساتها العدوانية وتوحيد الصف العالمي ضد القوى العربية والاسلامية. فالديمقراطية لا تشكل المدخل الطبيعي والحتمي لأي إصلاح للدولة الوطنية وإعادة الصدقية للدولة الوطنية فحسب ولكنها تقرب بين المجتمعات العربية الاسلامية والمجتمعات الغربية الحديثة وتساعدنا على تجاوز العزلة التي وضعنا أنفسنا فيها وتمهيد الطريق إلى التحاور والتفاهم مع المنظومة الدولية التي تكاد تتفق على إدانة ثقافتنا وحضارتنا وتقف صفا واحدا ضدنا.


في نظري تشكل الديمقراطية المدخل لأي إصلاحات عربية حقيقية أو جدية. وكون الديمقراطية مدخلا يعني أنها ليست بحد ذاتها الحل الجاهز لجميع المشاكل والتحديات التي تواجه المجتمعات العربية. بل إنها لن تستقر وتصبح نهائية لا رجعة عنها ولن تتقدم هي نفسها في البلاد العربية ما لم تنجح في أن تحل، من خلال تحقيقها لبرنامجها الخاص المتمحور في المجتمعات العربية حول تفكيك النظم التسلطية وتوسيع دائرة الحريات والحقوق الفردية، مهام ثورة التحرر الوطني غير المكتملة في بلادنا بسبب قوة النفوذ الأجنبي المجسد بشكل رئيسي في الاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي والدعم المطلق له من قبل الدول الغربية وما تبع ذلك من مشاريع سيطرة إقليمية تشارك فيها الدول الكبرى منذ حلف بغداد حتى اليوم. كما لا يمكن أن تتطور وتتقدم وتستقطب الرأي العام العربي وتقنعه بصدقيتها من دون أن تستوعب في برنامجها ذاته مهام ثورة إصلاح الدولة الوطنية التي حولتها النظم التسلطية إلى مزرعة شخصية أو فئوية أو عائلية وإعادتها إلى المجتمعات أو جعلها دولة الشعب أو الامة بالمعنى الحقيقي للكلمة لا ناطقة باسمها لخدمة مصالح خصوصية. ومن دون ذلك سوف تبقى الديمقراطية حركة أقلية ثقافية وسياسية من دون جذور شعبية.

والنتيجة لن يكون تحرر الفرد أساسا لتحرر المجتمع واستقلاله بنفسه واندراجه في دورة الحضارة العالمية، وليس مناسبة لانهيار الدولة وتحلل الجماعة وتشرذمها وعودتها إلى عصبياتها الطائفية والأقوامية، إلا عندما تنجح الديمقراطية في أن تستوعب في برنامجها ذاته المهام المثلثة المطلوب تحقيقها في أي حركة خلاص عربي، مهام تحرير للفرد والمجتمع من الطغيانات السياسية والثقافية أولا ومهام الاصلاح الداخلي وإعادة بناء الدولة كمؤسسة وطنية عمومية وقانونية معا ثانيا ومهام تنظيم المقاومة ضد الاحتلال والوقوف في وجه مشاريع السيطرة والهيمنة الدولية ثالثا. هذا هو التحدي الذي يواجهه الرهان الديمقراطي العربي والذي لن يتحقق من دون أن يبين قدرته على رده.
ولا يمكن لهذا أن يحصل بصورة عفوية وتلقائية. إن تحقيق ذلك يستدعي العمل على محاور متعددة ومتوازية في الوقت نفسه. محور التعبئة الثقافية والسياسية لتهديم أسس تجديد علاقات السلطة المطلقة والتعسفية، وهو ما يشكل جوهر برنامج الديمقراطية التقليدية، ومحور توسيع دائرة التحالفات الوطنية في اتجاه جميع القوى الاصلاحية في سبيل إعادة بناء دولة العدالة والمساواة القانونية الذي يشكل جوهر البرامج الوطنية، ومحور العمل لتكوين قوة دولية أهلية من داخل الأطر والمجتمعات المدنية العالمية تقف في مواجهة مشاريع السيطرة الاستعمارية وتناضل جنبا إلى جنب مع الحركة الديمقراطية العربية لتقييد هذه السيطرة وكسر شوكتها.
بغياب مثل هذه الحركة الديمقراطية العاملة في الوقت نفسه على تحرير الفرد وإعادة بناء الدولة وتغيير نظام العلاقات الدولية لن يكون هناك مخرج من الأزمة الطاحنة التي تعصف بالمجتمعات العربية ولا بديل عن برنامج السلطات الراهنة القائم على استفراد المصالح الخاصة بالموارد الوطنية وتفكيك الدولة السابقة شبه الوطنية وشبه الاقطاعية وبيعها كقطع غيار في الأسواق المحلية والدولية والارتماء في أحضان القوى الخارجية والعمل لصالح استراتيجياتها الهيمنية.

في أصل الخلاف العربي الأمريكي على الاصلاح


كان من المنطقي، في مواجهة تدخل الدول الأجنبية في الشؤون الداخلية، أن ينطلق رفض المبادرات الخارجية من قوى المعارضة التي تدرك أن هذه المبادرات لا تهدف في النهاية إلى شيء آخر سوى إعادة بناء الأنظمة نفسها لكن على أسس جديدة أو بالأحرى على أسس معدلة تسمح بامتصاص التناقضات والتوترات التي أنتجتها في العقود الماضية، في الوقت الذي ينبغي فيه أن ينفتح باب تداول السلطة وتغيير النظم القائمة التي أثبتت إخفاقها في تحديث المجتمعات والدول العربية وفي حماية الاستقلال والموارد الوطنية. أما أن تكون المبادرة في رفض الاصلاحات التي تطالب بها الدول الأطلسية من قبل العواصم العربية فهو يشكل مفاجأة بكل المعايير. وليس هناك أي منطق يمكن أن تستخدمه هذه العواصم لرفض الاصلاحات الغربية المطلوبة. فلو كان الأمر هو رفض التدخل الخارجي بسببها ما الذي منع النظم ولا يزال يمنعها من القيام هي نفسها البارحة أو اليوم بالاصلاحات التي تتفق أو لا تتفق مع ما تدعو إليه العواصم الأجنبية ؟ فلو قامت الحكومات العربية بهذه الاصلاحات التي يطالب بها العالم اليوم، وقبل أي طرف آخر، الشعوب العربية، حتى لو كان ذلك بالطريقة التدريجية والأكثر بطئا ممكنا، لما اضطرت إلى أن تجد نفسها مفاجأة بالمبادرات الأجنبية التي تفرض عليها وتيرة تعتقد هي أنها أسرع مما تحتمل من دون أن تبين الوتيرة التي تريدها لهذه الاصلاحات ولا أن تحدد الاصلاحات التي تقبل بها.
ثم هل هناك تناقض فعلي بين المشاريع الأمريكية وتلك التي تدعي العروبة في مسألة الاصلاح؟ هل يختلف تحرير الاقتصاد الذي أخذت به الحكومات العربية جميعا وما يتبعه من مفاوضات للدخول في مناطق التجارة الحرة والانتساب لمنظمة التجارة العالمية عن التحرير الذي تطالب به الولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل لدى الحكومات العربية برامج لاصلاح التعليم والإدارة والقوانين التي تختص بتحسين شروط مساهمة المرأة في الحياة العمومية تختلف عن تلك التي تقترحها الدول الأجنبية. وهل تفترح هذه الدول بالفعل برامج إصلاحية مفصلة ودقيقة بحيث تحرم الحكومات العربية من أي هامش لوضع برامج تضمن من خلالها مصالح الدول والمجتمعات التي تحكمها؟
الواقع أن مشاريع الاصلاح الأجنبية لا تهدف إلى شيء آخر سوى ضمان استمرار الأنظمة وإنقاذها من خطر الانهيار بفعل التفسخ والفساد المستشري والمستمر الناجم عن الاستهانة بالمصالح العمومية من قبل الفئات الحاكمة و تداخل السلطات السياسية بالسلطات الاقتصادية وتغول أصحاب الولاء والنسب والحظوة على موارد الدولة والمصالح العمومية. فلا تطالب واشنطن أحدا بوضع المفاتيح على الباب والخروج لترك الحكم لفئات أخرى أكثر جدارة وإخلاصا للمصالح الوطنية. إنها تطلب من حكومات كانت هي نفسها قد أطلقت يدها في شعوبها وغضت النظر عن تجاوزاتها لعقود ستة متتالية على حد قول الرئيس الأمريكي ، بأن تعيد النظر بسياساتها وتعدل من أسلوبها في الحكم الذي قام ولا يزال على الاستبعاد الكامل للشعب من الحياة السياسية ووضعه تحت الوصاية الكاملة وقيادته بالأوامر العسكرية لدرجة تكاد تزول فيه، في العديد من المجتمعات العربية، مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة والقانون التي لا يمكن للمجتمعات أن تقوم وتستمر من دونها، أقول إن تعيد النظر بهذه السياسات حتي يمكن تجاوز الأزمة التاريخية العميقة والتغلب على مخاطر التطرف والارهاب والعنف الذي تختزنه الشعوب العربية بعد نصف قرن من الإذل والإهانات الداخلية والخارجية والقهر اليومي بالجملة وبالتفصيل.
أن ما تخشاه النظم العربية في المبادرات الاجنبية لا يتعلق بالاصلاحات الاقتصادية والإدارية والتعليمية. بل إن هذه النظم هي التي تطلب مساعدة الدول الأجنبية في منع التدهور الشامل في الأوضاع كما تطالبها بالتدخل لوقف الاعتداءات الاسرائيلية وكما كانت دائما تطالبها بالوقوف إلى جانبها ضد التطرف وحركات المعارضة الداخلية، بل تستعديها على المعارضات العربية الديمقراطية التي تقول عنها إنها أكثر عداءا للولايات المتحدة من النظم الحاكمة ذاتها. إنه يتعلق ببعض التعديلات السياسية البسيطة التي لا ترقى من قريب ولا من بعيد إلى مستوى إقامة نظم ديمقراطية بالفعل. ولو كان الامر كذلك لما كان من المفروض على الولايات المتحدة وأوروبا أن تتحدث عن إصلاح وليس الاصلاح من اختصاصها، ولكن كان عليها أن تسحب اعترافها الرسمي بالحكومات العربية وتطالبها بإجراء انتخابات حرة تحت إشراف الأمم المتحدة لفسح المجال أمام نشوء سلطة منبثقة عن الإرادة الشعبية ومعبرة عنها تقوم هي نفسها بالاصلاحات المطلوبة. لكن واشنطن تتصرف على أساس أنها شريك وحليف للحكومات العربية الراهنة وأنها مسؤولة عن هذه الحكومات وعن سياساتها وهي لا تخفي أنها تتصرف بدافع المسؤولية تجاه هذه الأنظمة التي حمت مصالحها خلال عقود طويله وفي سبيل إعادة بنائها وتأمينها.
إن ما تريده واشنطن وبروكسيل هو بكل بساطة إصلاحات سياسية تجميلية بسيطة إلى جانب الاصلاحات الاقتصادية والإدارية والتعليمية التي لا تمانع أي حكومة عربية فيها. لكن هذه الاصلاحات السياسية البسيطة التي تقوم على حد تعبير المبادرة الأمريكية على توسيع القاعدة الشعبية للنظم المغلقة ذات الطابع المافيوي، وإشراك الطبقة الوسطى في الحياة السياسية. لا تهدد النظم ولكنها تعززها وتدعمها في وجه الموجة العاتية للغضب الشعبي الذي عبر عن نفسه في الاندفاعة التي مثلتها منذ عقد الحركات الاسلامية المتطرفة والذي يعبر عن نفسه اليوم بالانتفاضات الشعبية المتفرقة وربما في المستقبل بانفجار عام. لكن، وهذا هو باب الصراع بين واشنطن راعية النظام الشرق أوسطي العام والخاص، ما ترفض النظم العربية هو أن تطال هذه الاصلاحات المسألة السياسية وتفتح الطريق بالتالي أمام احتمال تبديل بعض عناصر النخبة الحاكمة للحفاظ على النظام. فهذا هو الثمن الذي تعتقد الولايات المتحدة أنها مضطرة إلى دفعه كي تضمن الحد الأدنى من الاستمرار أو من عدم تفجر الأوضاع في المنطقة، وهو التضحية ببعض الشخصيات التي اعتمدت عليها وأخلصت لها لعقود طويلة سابقة. فهي تريد أن تعيد التأسيس لسيطرتها ونفوذها في العالم العربي من خلال تغيير جزء من الطواقم الحاكمة أو دفعها إلى تغيير سلوكها بحيث تخفف من احتكارها الخيالي للسلطة والثروة وتعترف للمجتمعات العربية بالحد الأدنى من معايير الحياة القانونية والسياسية والانسانية. وبالمقابل لا يعني رفض الاصلاح السياسي سوى تمسك النخب الحاكمة بامتيازاتها، وهو ما يبدو في مرآة الولايات المتحدة كما لو كان مطلبا عسيرا لأن هذه الامتيازات لم تعد تقوم كما كان الأمر في السابق وحتى الىن على حساب المصالح الشعبية ولكن أيضا على حساب المصالح الأمريكية الحيوية والاستراتيجية.
بالتأكيد لا يصدر موقف الولايات المتحدة هذا عن أي شعور بالعطف على الشعوب العربية وإنما عن حسابات المصالح القومية الأمريكية وحدها. فليس لدى واشنطن خيارات كثيرة كي تضمن العودة بالمنطقة إلى الحد الأدنى من الاستقرار وقطع الطريق على الانفجارات والتغييرات المفاجئة القادمة. فهي إما أن تضغط على الأنظمة القائمة كي تحد من شرهها وتترك بعض الفتات للمجتمعات المنكوبة مقابل الاستمرار في دعمها ورعايتها، أو تضغط على إسرائيل للوصول إلى تسوية سلمية مقبولة تؤهل المشرق للاندماج في دورة الاقتصاد العالمي والحصول على الاستثمارات الضرورية للبقاء أو تتخلى عن بعض مصالحها الحيوية التي تتطلب منها السيطرة المباشرة على المنطقة بأكملها وإخضاعها لجدول أعمالها القومي الاقتصادي والاستراتيجي. ومن الواضح أنه لا يوجد هناك سبب في نظر واشنطن للتضحية بمصالحها الاستراتيجية الخاصة أو بمصالح إسرائيل حليفتها الرسمية الرئيسية في المنطقة لحساب الجماعات العربية الحاكمة التي تكاد تظهر في مرآة الصحافة والدبلوماسية الغربية عموما أقرب إلى أن تكون عصابات متسلطة على شعوبها بالقوة والعنف منها إلى أن تكون حكومات تمثل رأيا عاما وتلتزم بالحد الأدنى من معايير القيادة السياسية والإدارة الصالحة والحكيمة.
إن ما ترفضه الحكومات العربية ليس التدخل في شؤونها. فهي لم تنجح في البقاء والاستمرار إلا بفضل هذا التدخل، وهي لا تكف أيضا عن المطالبة به ليل نهار لتحل مشاكلها الخاصة، وفي مقدمها مع إسرائيل وبين بعضها البعض. وما ترفضه هذه الحكومات ليس الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والتعليمية فهي تدرك أنها لن تستطيع الاستمرار في البقاء والحفاظ على المعدل ذاته من الإثراء الفاحش والابقاء على قوة البطش الأمنية المكلفة من دون المساعدات المالية والتقنية الغربية والأمريكية بشكل خاص. وهي لا تكف عن المطالبة بها والتفاوض من أجلها. إن ما ترفضه هو التنازل ليس عن الامتيازات المادية والقانونية التي راكمتها خلال عقود ماضية ولكن حتى عن امتيازات رمزية لصالح مجتمعات أصبحت تنظر إليها كعبيد ولا تقبل بأن توضع على مستوى واحد معها. إنها مستعدة للقبول بكل التنازلات مهما كانت مهينة للأمريكيين والأوروبيين وكل من تعتبرهم أسيادا مثلها، لكنها تعتقد أنها ستخسر ما ء وجهها وتفقد وجودها نفسه إذا قبلت ولو للحظة واحدة أن تعترف بشعوبها وتقبل بأن تعاملها كصاحبة إرادة ومسؤولية. وهذا هو جوهر المسألة الاصلاحية ومشكلة النظم القائمة الحقيقية.

mardi, février 17, 2004

أي استراتيجية خلاص للعالم العربي



هناك إجماع عربي اليوم بين جميع تيارات الفكر والسياسة المتنافسة أو المتضاربة، بل بين جميع قطاعات الرأي العام على مختلف مستوياتها وتوجهاته، على أمرين رئيسيين. الأول أن ما تعيشه المجتمعات العربية هو حالة من التقهقر والانهيار والبؤس يصل إلى درجة المحنة. والثاني أن أركان هذه المحنة وعناصرها الكبرى هي الاستبداد السياسي والإخفاق الاقتصادي والفراغ الثقافي والروحي، وما ينجم عن ذلك من تدهور في شروط الحياة المادية والفكرية والمعنوية وفساد للمباديء القانونية والأخلاقية وامتهان لكرامة الأفراد وحرياتهم وحقوقهم الأساسية وفي النتيجة وضع الفئات الحاكمة بالقوة والعنف يدها على موارد البلاد وتوظيفها العلني لخدمة مآربها السياسية والاجتماعية.
لكن إذا كان هناك إجماع عربي اليوم على تشخيص الداء الذي تعاني منه المجتمعات العربية إلا أن العرب لا يزالون مختلفين على أمرين رئيسيين يتعلقان بعلاج هذا الداء. الأول هو طبيعة النظام الأمثل لمواجهة المحنة الراهنة والخروج منها، هل هو النظام المستمد من مباديء الشريعة الدينية أم من مباديء العقل الوضعي، هل هو نظام الديمقراطية أم نظام الشورى، هل هو نظام الفردية الحرة والمواطنية المتساوية أم هو نظام الجماعة والتكافل الديني أو الجمعي، إلخ. والثاني هو طريق أو منهج العمل للخلاص من المحنة الراهنة.

وفي هذا المجال تتنازع الجمهور العربي ثلاثة برامج أو أجندات يشكل تضاربها وعدم القدرة على التنسيق في ما بينها مصدر التشتت الفكري والانقسام والصراع السياسي والضياع الاستراتيجي الذي تعيشه المجتمعات العربية. الأول هو برنامج الحرب الوطنية أو والحضارية والثاني هو برنامج الإصلاح أو إعادة بناء مؤسسات الدولة الوطنية والثالث هو برنامج التحويلات الديمقراطية.
ينطلق البرنامج الاول من الايمان بأن ما تعيشه الأمة العربية أو العربية الاسلامية اليوم هو حرب حضارية معلنة للتحكم بمصير المجتمعات العربية والاسلامية جميعا وربما للقضاء عليها، وأن المطلب الرئيسي اليوم لتغيير الأوضاع ووقف التدهور والانحطاط هو تأمين وسائل النجاح على هذه الجبهة الخارجية. ويشكل التيار الاسلامي الرديكالي رأس الحربة في الدفاع عن برنامج المواجهة الخارجية لكنه لا يقتصر عليها. فهو يجمع بين قطاعات واسعة من الحركات القومية التي فقدت الثقة بقياداتها التقليدية وبرامجها السابقة ونقلت ميدان معركتها من الصراع ضد القوى العميلة المحلية المتحالفة مع الأجنبي كما كانت تفعل في السابق إلى الصراع على الساحة الدولية مباشرة. وفي نظر هؤلاء تتلخص محنة المجتمعات العربية والوضع المأساوي الذي وصلت إليه في سيطرة القوى الأجنبية وبشكل خاص القوى الغربية المعادية على مقدرات الشعوب العربية، سواء بصورة مباشرة عن طريق الاحتلال كما هو الحال في فلسطين والعراق اليوم أو عبر التحالف مع الفئات الحاكمة المحلية، وتحكمها بمصير البلاد ومواردها. وليس هناك مخرج للمجتمعات العربية من هذه المحنة التي تعيش فيها إلا بالتخلص من هذه السيطرة بأشكالها المتعددة الثقافية والسياسية والاجتماعية والعسكرية.
إن الذي يوحد بين جميع قوى المقاومة الخارجية دفاعا عن الهوية والسيادة هو الاعتقاد إذن بأن المجتمعات العربية تعيش حالة مواجهة بل حالة حرب مع الدول الغربية الاستعمارية أو شبه الاستعمارية، وأن جميع الجهود ينبغي أن تنصب اليوم في معركة دحر السيطرة الغربية والتحرر منها. وشعار هذه القوى جميعا هو العمل على كسر شوكة الغرب والابتعاد عن كل ما يمكن أن يقسم صف العرب والمسلمين أو يفرق بينهم ويبعدهم عن المعركة الرئيسية هذه. ومن هنا يأخذ العمل على تعميق الانتماء والولاء لعالم الاسلام دينا وجماعة أهميته القصوى ليس عند الحركات الاسلامية فحسب، وهو أمر منتظر، ولكن حتى عند الحركات القومية التي كانت أميل إلى العلمانية. فهو يشكل في نظر قوى المقاومة جميعا اليوم المصدر الرئيسي للتعبئة الوطنية تماما كما يصبح اللقاء بين القوى الاسلامية الوطنية والقوى القومية مهمة رئيسية على جدول أعمال الحركة العربية الرامية إلى تعزيز الهوية والروح الاستقلالية.
لا ينفي أصحاب هذا البرنامج المشاكل الأخرى التي تعاني منها المجتمعات العربية ولا ينكرون أهمية التحرر من انظمة القهر أو حتى محاربتها والتخلص منها كما لا ينفون ضرورة القيام بإصلاحات داخلية ومؤسسية أساسية في الدول والمجتمعات ولكنهم لا يعتقدون أن لها اليوم الاولوية. أو بمعنى آخر إنهم يعتقدون أن المدخل إلى مثل هذه الاصلاحات وإلى تقويض أسس النظم التسلطية هو بالضبط الضرب المستمر على رأس الأفعى وأساس الشر الذي هو نظام التسلط الغربي العالمي الذي لا يشكل القهر في البلاد العربية إلا أحد إمتداداته ولايمثل الحاكمون فيه إلا صنائع له. وهذا هو نمط التفكير الذي قاد الحركات الاسلامية التي عملت في العقود الماضية على محور تحقيق الاصلاحات السياسية والاجتماعية الوطنية إلى التحول أكثر فأكثر، مع اكتشافها انسداد الطريق أمام هذه الاصلاحات، نحو العمليات الخارجية ونقلها المعركة إلى الساحات الدولية.
هذا هو السياق الذي يفسر تعاطف قطاعات سياسية أو عقائدية أو اجتماعية واسعة مع برنامج المقاومة السياسية والمسلحة ودفاعها عن أي نظام يتبنى شعارات العداء للغرب ويشهر به وبسيطرته الاستعمارية، حتى لو جاء ذلك في إطار دعائي ومن قبل أنظمة استبدادية فاسدة وجائرة. ومن هذا المنطلق أيضا يمكن أن نفهم نمط التفكير الذي جعل الكثير من الحركات الوطنية التي بدأت تتحول نحو الديمقراطية والعديد من الحركات الاسلامية التي تعرضت لقهر كبير تميل إلى أن تغفر للأنظمة الدموية منذ اللحظة التي تتعرض فيها للتهديدات الاسرائيلية أو الأمريكية.
هناك إذن بالتأكيد برنامج وطني يشغل بال قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والاسلامي ويعتبر أن جوهر العمل للاصلاح والخروج من المحنة التي تعيشها الأمة العربية والاسلامية يكمن في تركيز جميع الجهود على جبهة المواجهة مع السيطرة الامبريالية والصهيونية المجسدة اليوم في الاحتلالين الاسرائيلي والأمريكي للعراق. ولا يرتبط هذا البرنامج الذي يعبر عن نفسه عبر العداء للامبريالية الأمريكية وإسرائيل، وربما الحضارة الغربية عموما، بفلسفة واحدة سياسية أو دينية. إنه يجمع بين قطاعات من الرأي العام العربي متنوعة المذاهب والمشارب، قومية وإسلامية ويسارية معا. وتنبع قوة هذا البرنامج الوطني وثبات فاعليته وجاذبيته من الاعتقاد العميق الذي خلفه استهتار التحالف الغربي بالمصالح العربية عموما، وبشكل خاص في فلسطين، بأن لمنطقة العربية والاسلامية مستهدفة من قبل التحالف الغربي بسبب ما تنطوي عليه من مصادر الطاقة وفي سبيل حماية الاستقرار والأمن والتوسع الاسرائيلي، وأن إرادة السيطرة الغربية المتجسدة في السياسات العدوانية ضد العرب هي المسؤولة عن إخفاق التنمية وتعزيز نمط حكم الاستبداد وتدهور الأوضاع وفشل برامج الاصلاح والنهضة جميعا في البلاد العربية. بل أكثر من ذلك، أن استمرار هذه السيطرة يحرم المجتمعات من التحكم بمصيرها ويغلق عليها كل أبواب النجاة. وينجم عن ذلك أنه لا مخرج للعرب والمسلمين من المأزق الذي يجدون أنفسهم فيه إلا بتقويض أسس هذه السيطرة الغربية والأمريكية بشكل خاص، ليس في المنطقة العربية فحسب وإنما في العالم أجمع أيضا، طالما أن السيطرة الشرق أوسطية ما هي إلا امتداد للسيطرة العالمية. وهناك من يعتقد بالفعل أنه ما إن يتحقق تقويض هذه السيطرة أو إضعافها حتى تتقوض من تلقاء نفسها الأسس التي تقوم عليه نظم الاستبداد والتسلط القائمة في المنطقة وبالتالي حتى تنشأ فرص أفضل لقيام نظم أكثر تمثيلية وتعبيرا عن إرادة المجتمعات العربية والاسلامية.
لا ينبع إذن التمسك بهذا البرنامج الذي فات أوانه في معظم دول العالم الأخرى من تصورات وهمية أو تثبتات عقائدية متحجرة أو شوفينية قومية كما يعتقد الكثير من الباحثين الأجانب والعرب معهم اليوم، ولكنه يستند بقوة إلى واقع عنيد وعنيف من الصعب تجاهله أو إشاحة النظر عنه هو واقع الحرب الاستراتيجية المستمرة التي قادتها ولا تزال تقودها الدول الغربية منذ عقود ضد الشعوب العربية للتحكم بمصيرها ومواردها وفرض الأمر الواقع عليها، ومثالها ورمزها الرئيسي الحرب الاسرائيلية المدعمة من الخارج في فلسطين والرامية إلى تجريد الفلسطينيين من أراضيهم وقبول الدول الكبرى جميعا تقريبا بمشروع نظام التمييز العنصري الذي فرضته إسرائيل وتحاول تكريسه بالجدار العازل. فمن الآلام الناجمة عن العنف التي تستخدمه قوى السيطرة الخارجية تنبع مشاعر العداء والرفض القومي والديني للسياسات الغربية ويستمد برنامج المواجهة قوته وزخمه كما تؤمن حركات المقاومة الوطنية والاسلامية شعبيتها الواسعة ونفوذها في أوساط الملايين وتضمن ما يشبه الشرعية أو على الأقل التبرير شبه الأخلاقي لعمليات يذهب ضحيتها في فلسطين والعراق والعديد من الدول العربية الأخرى التي تحولت إلى ساحات مواجهة آلاف المدنيين.

وكما أن من الخطأ في اعتقادي تجاهل القلق الشعبي العميق من استمرار الضغوط الخارجية العسكرية والسياسية والثقافية على الرأي العام العربي، من الخطأ أيضا التقليل من الأهمية التي يتمتع بها برنامج المقاومة العربية للسيطرة الخارجية أو الاستهانة بالتعاطف الذي يحظى به. وربما كان برنامج المقاومة ولا يزال البرنامج الأقوى بين جميع الخيارات السياسية في أوساط الفئات الشعبية. وبالمثل أعتقد أنه من الخطأ الاستهانة بحجم النفوذ المعنوي الذي تتمتع به القوى التي تأخذ على عاتقها مهمة المواجهة الخارجية. خاصة وأنها تكاد تنفرد لوحدها، من دون القوى الرسمية أو القوى الديمقراطية في الرد على اعتداءات يعيش الرأي العام آثارها وصراعاتها يوما بيوم وبالصور الحية ويدفع فيها من دمه ومن خبزه اليومي ومن أمنه ومستقبل أبنائه.

فبقدر ما تبدو الحاجة ملحة وهائلة لمواجهة السيطرة الخارجية تبدو الساحة العربية والدولية مفتقرة إلى قوى جدية وذات صدقية قادرة على أن تتحمل أعباءها أو تأخذ على عاتقها جزءا من مهام تحقيقها. وهو ما يضفى غلى المقاومة الاسلامية الراهنة، بالرغم مما تتميز به غالبا من طابع جزئي ومشتت وارتجالي، قيمة وآثارا رمزية تتجاوز بكثير نتائجها الفعلية. فهي تحتل مسرحا هجرته القوى الأخرى الوطنية والديمقراطية، الأهلية والرسمية، منذ عقدين. فالقوى الرسمية، مثلها مثل أغلب الأحزاب والتجمعات الديمقراطية اليسارية والليبرالية أصبحت حساسة لمسائل إصلاح مؤسسات الدول القائمة وتحسين عملها وفاعليتها أكثر مما هي حساسة للتخلص من السيطرة أو الهيمنة العالمية وتغيير نظام العلاقات الدولية. فهل تملك هذه البرامج البديلة فرصا أكبر لإنقاذ الأمة العربية؟ هذا موضوع مقالات تالية.

في تناقضات برنامج الاصلاح العربي
من استراتيجية المقاومة إلى استراتيجية الاصلاح

برهان غليون


قلت في مقال سابق أن هناك ثلاث برامج متضاربة اليوم في الفضاء السياسي العربي. الأول هو البرنامج الذي يعتبر أن الأولوية ينبغي أن تعطى في العمل العام لمقاومة الهيمنة والسيطرة الغربية بشتى أشكالها. وقلت أيضا أن هناك بالتاكيد مشكلة فعلية وراء المواجهة العربية الاسلامية والغربية. ويقع الموقف من إسرائيل وسياساتها العدوانية في قلب هذه المشكلة. وإذا لم يكن هناك مشكلة في استمرار التركيز على هذه الأجندة الوطنية وعلى التناقض بين المصالح العربية والغربية كما يسعى البعض إلى الايحاء باسم الديمقراطية أو نهاية الحقبة الوطنية، فهناك من دون شك خطأ في طريقة معالجة هذه الأجندة،أي في الاستراتيجية التي صاغها من يتمسك بها في سبيل التخلص من السيطرة الأجنبية. فهي استراتيجية تقود إلى معركة لا يمكن حصرها ولا تحديد مكانها وزمانها ولا التحكم بانتشارها ولا قطف ثمارها في أي أجل منظور. بل ربما قادت، وهو ما يحصل بالفعل اليوم، إلى المزيد من الدمار والفوضى في المنطقة العربية نفسها. فخوض المعركة من منظور نحن أو الغرب يعني الحرب الدائمة التي تتماشى مع بعض تيارات الإدارة الأمريكية والغربية الداعية إلى حرب الحضارات والمواجهة مع عالم إسلامي تعتبره موطن العداء للغرب ومصدره. باختصار إن حل مسألة التناقض العميق الواضح بل والمركزي بالنسبة لمصير المنطقة العربية والاسلامية من منظور المواجهة العسكرية غير ممكن. ولا بد من إعادة النظر إلى مسألة هذا التناقض ومعالجته من منظور جديد آخر. أي إعادة طرح الصراع على أرضية مختلفة وفي إطار مختلف أيضا. وهو ما سنتحدث عنه في ما بعد. لكن من المؤكد أنه في غياب أي منظور آخر للعمل في هذا الميدان، تبدو هذه المنظمات وكأنها الوحيدة التي تحمل هم الوقوف في وجه الطغيان العسكري والسياسي والفكري الغربي الراهن وتتحمل مسؤولية مقاومته وكسر شوكته.

إلى جانب برنامج المقاومة الذي تتزعمه اليوم العديد من الحركات الإسلامية وبعض الحركات القومية العربية والذي يستمد قوته مما يحصل في فلسطين والعراق وغيرهما من الاماكن الإسلامية هناك في العالم العربي برنامج آخر هو برنامج الاصلاح الاقتصادي والإجتماعي والسياسي. يعتقد قطاع كبير من النخب الحاكمة وبعض ممثلي الطبقات الوسطى العربية أن خط المقاومة القومية والوطنية والدفاع عن السيادة والاستقلال قد أخفق تماما في تحقيق أهداف الأمة العربية وأن عصر المقاومة الوطنية قد انتهى على أي حال وأننا ندخل اليوم عصر العولمة الذي تختفي فيه الحواجز الدولية القومية والاقتصادية. وفي هذاالعصر يحتل تحسين شروط معيشة الناس وتحقيق حد أدنى من النمو الاقتصادي والوصول إلى درجة ما من ممارسة التعددية السياسية والحريات الفردية موقع الأولوية. ويختلف هنا الاصلاحيون بين فريقين. الفريق الأول يعتقد أن المطلوب هو تحقيق الإصلاح الاقتصادي والإداري الضروري لخلق الشروط اللازمة لرفع مستويات المعيشة وتخفيف التناقضات والتوترات الاجتماعية وتحديث الأجهزة الإدارية والأمنية قبل البدء بأي إصلاحات سياسية ديمقراطية. ومن دون ذلك لا يمكن ضمان أن لا يتحول الانفتاح السياسي وإطلاق الحريات الفردية إلى مناسبة لتفجر النسيج الاجتماعي وزيادة فرص التدخل الخارجي في الحياة الاجتماعية والسياسية. أما الفريق الثاني فيعتقد على العكس أن من غير الممكن النجاح في الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية من دون تغيير قواعد العمل السياسية وإدخال مباديء الديمقراطية في الحياة العربية.
وفي الحالتين تفترض أولوية الإصلاح تجميد المقاومة بل الخروج من موقف المواجهة والمجابهة مع الدول الغربية والسعي بجميع الوسائل لدفعها للتعاون معنا. فكما تتنافى أولوية الإصلاح الاقتصادي والإداري مع فتح الساحة السياسية والمخاطرة بتفجير الوحدة الوطنية وتعميق الصراعات الداخلية من دون نتيجة فهي تتنافى أيضا مع الاستمرار في خوض معركة الكفاح ضد السيطرة والهيمنة الخارجية. فالتحديث والتطوير والإصلاح الاقتصادي والإداري يعتمد بشكل رئيسي على التعاون الدولي وبشكل خاص مع الدول المسيطرة او الطامحة إلى السيطرة. ولا يمكن تحقيق أي تقدم فيه من دون تجنب المواجهات الخارجية ووضع حد للتوترات المرتبطة بها، أي من دون أقفال ملف النزاعات الخارجية والحروب.
هذا هو المنطق الذي دفع العديد من النظم العربية وفي مقدمها النظام المصري منذ السبعينات من القرن الماضي إلى الخروج من المواجهة العربية الاسرائيلية التي اعتبرتها وجها من وجوه المواجهة العربية الأمريكية كما شرحها الرئيس الراحل أنور السادات عندما قال إنه غير مستعد لمواجه أمريكا التي تقف وراء إسرائيل. فمنطق التنمية الاقتصادية يستدعي التعاون والتبادل الحر والاستثمار ولا يتفق مع منطق المواجهة والصراع والحرب سواء أكان إقليمية أو عالمية.
ومؤخرا اكتشف النظام الليبي الذي كان يتبنى صراحة استراتيجية المواجهة العالمية ويمول منظماتها ويدعو لها مأزق اختياراته القديمة وسعى إلى الخروج منها بصورة دراماتيكية من خلال تسليمه بتدمير برامج تسلحه الخاصة. وهو ما أدركه النظام السوري أيضا بعد تردد طويل بسبب احتلال اسرائيل لجزء من الأراضي السورية وصعوبة التحلل من الالتزامات الوطنية من دون أن يعني ذلك التسليم بضياع هذه الأراضي أو بقائها تحت الاحتلال.
وبصرف النظر عن سياسات الفئات العربية الحاكمة والطرق التي اتخذها انسحابها من المواجهة الوطنية او القومية التي كانت تعيش عليها حتى وقت قريب كمصدر للتعويض عن غياب الشرعية القانونية أو الديمقراطية، ليس برنامج الاصلاح الاقتصادي والإداري برنامجا مصطنعا أو وهميا ولكنه برنامج أصيل وحتمي. وهو يستجيب لمصالح تتجاوز مصالح الفئات الحاكمة التي تريد من خلاله أن تحافظ على بقائها وسيطرتها في ظروف تغير البيئة الدولية وزيادة التحديات الخارجية. ومن هنا تأمل هذه الفئات من تطبيق هذا الإصلاح في تجديد أسس شرعيتها أو بالأحرى في أن يقدم لها فرصة لايجاد شرعية مستمدة من النجاح في التنمية الاقتصادية وتحسين مستويات المعيشة بدل الشرعية القومية والوطنية البائدة. وهذا هو الوضع الذي سمح ببقاء النظام التونسي مابعد البورقيبي واستمراره حتى اليوم. وهو الوضع الذي يقدم كمثال ينبغي أن يحتذى وتحلم العديد من الفئات العربية الحاكمة أن تحتذي به كي تعيد تكريس سلطتها وتضفي عليها بعض الشرعية.
وإلى مثل هذا الخيار الإصلاحي تدفع أيضا المؤسسات الدولية المالية والاقتصادية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الحرة. وتدفع إليه كذلك الدول الصناعية. والتشجيع على تبنيه هو المقصود من برامج الشراكة التي أصبحت اليوم صيغا وشعارات سائدة لإعادة ترتيب العلاقات بين هذه الدول والبلدان الفقيرة والضعيفة. ومن هذه الشراكات التي تتنافس على استعادة المنطقة العربية إلى دائرة نفوذها الاقتصادي الشراكة الاوروبية المتوسطية والشراكة الأمريكية الشرق أوسطية التي اقترحها الرئيس بوش الابن في إطار دعوته لإقامة منطقة تجارة حرة بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة الأمريكية. ومنها أخيرا المبادرة المشتركة الأمريكية الأوروبية الاخيرة لنشر الديمقراطية فيما سمي منذ أشهر الشرق الاوسط الكبير.
وبالفعل، يتعارض خيار الاصلاح الاقتصادي والإداري تعارضا جذريا مع خيار المواجهة والحرب ضد الغرب والامريكيين بل أكثر فأكثر اليوم والاسرائيليين أيضا. وهو ما يفسر التفاهم الحقيقي والعميق الحاصل بين واشنطن والحكومات العربية حول الحرب ضد الارهاب والتفاهم ضد المنظمات الجهادية التي كانت تستخدم في السابق من قبل هذه الحكومات نفسها، بصورة غير مباشرة، كأداة للتهديد والضغط. وفي هذا السياق يمكن أيضا تفسير التخلي شبه الكامل للنظم العربية عن الحركة الوطنية الفلسطينية التي أصبحت تكافح وحدها في مواجهة القوة الاسرائيلية العاتية المدعمة سياسيا وإعلاميا ودبلوماسيا من قبل الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص. وهو ما يكمن وراء نجاحها في تطوير مشروعها الاستيطاني علنا ومن دون أي رد فعل عربي أو دولي وإقامة جدار عازل يقضي على أي أمل للفلسطينيين بالعيش في فلسطين كمجتمع او كناس أحرار.

هكذا يشكل برنامج الاصلاح استراتيجية كاملة ومتكاملة ولا يمكن له إلا أن يقود إلى التفاهم والتعاون الكامل مع الدول الصناعية بصرف النظر عن موقفها من أي قضية وطنية أخرى. ولذلك فهو يحمل في طياتها أيضا مشروع انقلاب كامل في السياسات والاستراتيجيات العربية التقليدية تجاه كل ما يتعلق بالخارج وبالمسائل ذات الطابع الوطني أو القومي. وهو يقود في العالم العربي اليوم بشكل واضح ومنهجي إلى تفكيك الجامعة العربية أو تمزيقها بوصفها إطارا لتحالف عربي قديم في سياق التخلي عن الغايات والأهداف والمصالح المشتركةوسعي كل دولة من دولها إلى إعادة بناء التحالفات الإقليمية بصورة معاكسة تماما لما كان سائدا من قبل. ونشهد اليوم كيف تلتحق كل دولة بالقوة الجاذبة التي تسيطر عليها أو التي تعتقد أن من الممكن أن تقدم لها الفائدة والمتفعة والحماية في إطار تطبيق برنامج إصلاحها الاقتصادي والاداري الخاص وانكفائها على نفسها في وجه الدول العربية الأخرى.

dimanche, février 15, 2004

العنف المنتج للفوضى والخراب



إذا استثنينا إسرائيل وقطاعات واسعة من الرأي العام الأمريكي المتأثرة بدعايتها أو الحاهلة بمجريات الامور في منطقتنا، من الصعب الوقوع على شخص أو فئة لا تعلن تعاطفها الكبير مع سورية في مواجهة التهديدات الأمريكية والاسرائيلية المتواصلة التي تتعرض لها منذ احتلال العراق في نيسان الماضي. ولا ينبع هذا التعاطف من العداء لسياسة السيطرة الأمريكية العالمية ولا من المخاطر التي تقود إليها سياسات اليمين الاسرائيلي التوسعية على السلام العالمي فحسب ولكن أيضا، وقبل ذلك من تأييد موقف الشعب السوري المتمسك بحقوقه في مواجهة التهديدات وبالرغم منها. فالرأي العام الدولي وعلى رأسه الرأي العام العربي يعتقد أن إخضاع سورية سوف يعني، في ما وراء نهاية الحقبة الوطنية العربية، تكريس السيطرة الاستعمارية أو شبه الاستعمارية الجديدة في المشرق العربي وما تعنيه من افلات تقرير مصير العرب من أيدهم ووضعه في يد الدول الأجنبية وبالتالي التهديد بخسارة عقود طويلة مقبلة من الضياع العربي والصراع داخل المجتمعات العربية لإعادة بناء الهوية والتوازنات الداخلية التي تسمح باستعادة الوحدة الداخلية والإرادة الذاتية وروح الحرية والاستقلال.

وفي إطار هذا التعاطف الدولي والعربي الواسع مع سورية تغاضت قطاعات كبيرة من الرأي العام الرسمي والشعبي ولا تزال عن المشاكل الكبيرة التي تطرحها سياسات احتكار السلطة والاحتفاظ بنظام الحكم السياسي القائم والذي لا يختلف في نظرها كثيرا عن الأنظمة الشمولية الأخرى. وليس ذلك بالتأكيد من باب التعلق بهذا النموذج من الحكم ولا من باب المحبة لأولئك الذين يستفيدون منه ولكن في سبيل تجنب أي نزاعات سياسية داخلية يمكن أن تدفع نحو زعزعة الاستقرار وتشكل ثغرة تغري التحالف الامريكي الاسرائيلي بتوجيه المزيد من الضغوط والتهديدات لسورية.
لكن في مقابل ذلك لم تظهر السلطات السورية أي حساسية خاصة تجاه ما يتطلبه الحفاظ على هذا الاستقرار وقطع الطريق على المناورات المعادية. ولم يستمر الجمود السياسي التقليدي، بما يعنيه من غياب أي حوار مع المجتمع وقواه المختلفة، السياسية أو المدنية أو الفكرية وانعدام أي مبادرات جدية لكسر مناخ الفرقة والقطيعة القائمة بين السلطة والرأي العام السوري فحسب، ولكن هذه السلطات سارت في الطريق المعاكس لما يقتضيه منطق التعاون الوطني من أجل الصمود في وجه التهديدات وسياسات الإخضاع والتركيع المذلة لسورية والبلاد العربية معا. وبدل السعي إلى فتح الحوار في الداخل كما حصل في السعودية أو في مصر وفي العديد من البلدان العربية الأخرى لتعزيز التفاهم الداخلي وتمتين الموقف السوري في مواجهة الضغوط الخارجية اختارت السلطة سياسة على النقيض تماما، أعني التضييق المتزايد على الرأي العام الداخلي والتراجع عن النذر اليسير من التسامح الذي أبدته تجاه بعض المثقفين في التعبير عن آرائهم السياسية في الصحافة الأجنبية مع السعي بجميع الوسائل إلى التفاهم مع القوى الخارجية التي توجه لها التهديدات، أي السلام في الخارج والحرب في الداخل. وهكذا وضعت نفسها أيضا في موقف محير وغير مفهوم. فهي في الوقت الذي تستخدم فيه قفازات الحرير في تعاملها مع الأعداء الخارجيين تستخدم قانون الطواريء والمحاكم العسكرية والملاحقات الأمنية اليومية ضد المواطنين القلقين على مصير وطنهم والحريصين على أمنه وسلامته ورد الأذى عنه. وهي في الوقت الذي توسط فيه جميع الدول الصديقة وغير الصديقة لفتح المفاوضات مع اسرائيل لا تترك فرصة تفوتها من أجل إشعار الجمهور الواسع بدونيته وتجريده من أي قيمة أو كرامة أو اعتبار وابراز أن مصيره معلق في قبضتها وأنه ملك لها تستطيع أن تفعل به ما تشاء متى تشاء.
هناك بالتأكيد خوف كبير من أن تقود الانفتاحات السياسية إلى تفجير أجواء من الحرية يصعب السيطرة عليها في ما بعد أو أن تتجاوز مقدرة أجهزة الأمن على ضبطها. وهو ما يمكن أن يخلق ظرفا يفرض على النظام، في ما بعد، القبول بشكل أو آخر من أشكال التعددية حتى لا نتحدث لا عن المشاركة ولا عن الديمقراطية. وجميع المتعاطفين مع سورية وهم كثر، في أوساط الأنظمة والرأي العام معا، يأخذون هذا بالاعتبار ولا يؤمنون كثيرا بأن من الممكن الذهاب بعيدا في عملية التحويل الديمقراطي في سورية والعالم العربي من دون ايجاد المناخ الملائم في الوقت نفسه لفتح مسار التنمية الاقتصادية وايجاد حلول معقولة ومقبولة للنزاعات الاقليمية وفي مقدمها النزاع العربي الاسرائيلي ومأساة الشعب الفلسطيني اليومية. لكن في المقابل لا أحد يفهم ويقبل، وهو ما سمعته من العديد من الشخصيات الأجنبية والعربية التي دعمت ولا تزال تدعم سورية والنظام السوري لتحقيق مشاريع الاصلاح التي تعتبر أنها أساسية لوقف المزيد من تدهور الاوضاع السورية والاقليمية معا ومواجهة حالة الفوضى والخراب العام، أقول لا أحد من هؤلاء يفهم أو يقبل أن يعني مفهوم الاستقرار والطمأنينة أو التغلب على الخوف وضع لوح من الجليد على الحياة الفكرية والسياسية لشعب كامل ومنعه حتى من ممارسة حقوقه المدنية الأساسية. ونحن لا نتحدث هنا عن الديمقراطية في الواقع ولكن عن احترام الحد الأدنى من القانون ومن الحريات المدنية التي تعني أنه لا يحق للسلطة أن تلقي القبض على من تشاء لأسباب غير معقولة مثل مشاركته في ندوة فكرية أو حضوره لها، أو بسبب انضمامه إلى جمعية أهلية للدفاع عن البيئة، وإذا حصل وإلقي القبض عليه أن لا يحاكم في محاكم عسكرية أو استثنائية لا تقبل الالتزام بأي شروط موضوعية للمحاكمة القانونية.
وكما يقول أصدقاء سورية والحريصون على استقرارها، من الممكن أن تجلب مثل هذه السياسة الأمنية المفرطة في استخدام القهر والعنف الطمأنينة للسلطة وعناصرها المختلفة التي تزداد مخاوفها بقدر ما تتعرض للضغوط والتهديدات الخارجية وكذلك بقدر ما تزرع هذه التهديدات والضغوط الانقسام في ما بينها. لكن هذه السياسة التي تعطي لأجهزة السلطة الانطباع بأن كل شيء خاضع وخانع وتحت السيطرة تنقل الخوف والرعب والقلق والذعر إلى داخل المجتمع وبشكل خاص إلى قلب نخبه الأكثر وعيا وحساسية واهتماما بالشأن العام. وكما هو الحال عند البشر جميعا، يشكل الخوف والقلق واليأس التربة الخصبة لكل الأفكار والحركات المغامرة والمتطرفة واللاعقلانية. ومن هنا يمكن لسياسة المبالغة في طلب الأمن والاستقرار، أي لاستسهال استخدام سلاح العنف المادي أو القانوني وتحويل أي تعبير عن الرأي أو مشاركة في ندوة أو محاضرة أو النية في تشكيل جمعية أهلية أو الطموح للمشاركة في الحياة السياسية من خارج إطار الحزب الحاكم كما هو الحال اليوم، أن تكون هي السبب الرئيسي في زعزعة الاستقرار وتفجير الأزمات العميقة الراكدة أو المتأججة تحت الرماد. ولا ينبغي للسلطات السياسية أن تركن إلى مظاهر الخنوع والخضوع والصمت الراهن، فقد تكون خادعة وغشاشة.
لن يأتي الخطر بالضرورة من ناحية الطبقات الوسطى والمثقفين الذين لم يكفوا خلال السنين الثلاث الماضية عن التعبير عن تمسكهم ببرنامج اصلاح وتحولات ديمقراطية تدريجية وسلمية ولكن من ناحية شرائح اجتماعية واسعة لا يسيطر عليها لا فكريا ولا سياسيا أحد من الفئات الحاكمة أو من نخب المعارضة، بما فيها النخب الاسلامية. فالتنكيل اليومي والمستمر بما تنظر إليه السلطات على أنه أقليات بسيطة من المعارضة والمثقفين المعزولين عن الجمهور الواسع يخلق مناخا محبطا عند جميع أبناء البلاد وينزع الصدقية عن السلطة والحياة السياسية بأكملها. وبشكل عام إن الذي يمنع الجمهور الواسع والمحبط معا من الحركة هو عدم ثقة أفراده بأنفسهم وقدراتهم وخوفهم من عالم السياسية بكل ما يشتمل عليه من خطابات منمقة ومناهج عمل ووسائل تنظيم مدققة، عند فئات الحكم والمعارضة معا. لكن بقدر ما يفسد المناخ العام ويزيد الشعور لدى هؤلاء باستنفاد النظام السياسي بأجمعه، حكومة ومعارضة، لأوراقه واهنلاك السياسة نفسها، أو انسداد طريق الاصلاحات بالسياسة وعن طريقها، يزدادا لديهم الشعور بانعدام القيادة والضياع وبالتالي الخوف من المستقبل ويحرك لديهم غرائز طبيعية للدفاع عن النفس والخروج من حالة العطالة والسكون. وليس هناك شك في أن السنوات الثلاث الماضية التي شهدت إطلاق فكرة ومشروع إصلاح الأوضاع السورية قد أثبتت للجميع بأن النخب الاجتماعية غير قادرة على الوصول إلى نتيجة ولا إلى أي حد من التفاهم وأن نظام السياسة أو منطقها قد استنفد آغراضه ووصل إلى طريق مسدود ولم يبق هناك شيء لا دولة ولا قانون يستحقان الذكر وبالتالي الاحترام.
حان الوقت لوقف لعبة التدمير الجماعي المتبادل وحان الوقت كي يدرك المسؤولون وأصحاب المصالح الرئيسية في النظام، والآن في البلاد، أنه لا شيء يبقى كما كان، وأن الدفاع عن النظام الذي بدأ بناؤه منذ أكثر من أربعين عاما، كما هو من دون أي تغيير أو تنازل أو مشاركة، مع ما عناه من تركيز الثروة والسلطة والجاه في يد فئات صغيرة وتهميش شعب كامل، لم يعد بالإمكان. فما نجح البعض بتحقيقه عن طريق القوة والسيف في ظرف داخلي وخارجي استثنائي يصعب اليوم الدفاع عنه وبالأحرى ايجاد مبررات استمراره. وأي مسعى لضمان هذا الاستمرار بالقوة والاستخدام الموسع للعنف سيكون له مفعول معاكس تماما ولا يمكن أن يقود إلا إلى دفع الجمهور إلى المزيد من الانفصال عن النظام وإلى نمو روح المقاومة والتمرد والانفجار. وأعتقد أن استخدام العنف السياسي والقانوني قد استنفد أغراضه تماما وأنه لم يعد هناك خيار آخر سوى المخاطرة بمستقبل البلاد أو فتح النقاش حول اسس النظام الجديد الذي يضمن وحدة السوريين وولاءهم ويقطع الطريق على التفكك والانهيار الذي قاد إليه في كل مكان الإصرار على التفرد بالقول والسلطة والقرار.
إن السوريين جميعا مدعوون إلى المشاركة في حمل المسؤولية لتجنيب البلاد هذا الاحتمال. لكن الدور الأكبر يقع على كاهل التيارات الاصلاحية داخل النظام. فهي التي تملك زمام المبادرة لإطلاق ديناميكية بعكس الاتجاه السائد اليوم. وهي تشكل الأغلبية الصامتة والمستعملة داخل الحزب الحاكم وليس لديها في الواقع ما تخسره من العودة إلى نظام الحياة القانونية والسياسية الطبيعية سوى ربما السمعة السيئة التي ارتبطت ولا تزال بمنطق الولاء والاستزلام والتضحية بروح الكرامة والعدالة والمساواة الانسانية. وربما كانت الإعدادات الراهنة لمؤتمر الحزب القادم هي فرصتها المثالية كي تظهر انتماءاتها الحقيقية وتميز نفسها عن فئات المصالح الشخصية والمافيوية، أعني كي تعلن رفضها الإذعان للأمر الواقع وتقول نعم للحرية والعدالة والمساواة والأخوة في سورية مستقلة حرة وديمقراطية خالية من التعسف والسجون والمعتقلات.
.

mercredi, février 04, 2004

الاصلاح والديمقراطية والحكومة التمثيلية



قلت في مقال سابق أن برنامج الاصلاح العربي الذي تبناه العديد من النظم العربية يعاني اليوم، بسبب غياب حكومات تمثيلية مستندة إلى إرادة شعبية واضحة وقوية، من انسدادات ومآزق عديدة لن يكون من الممكن تجاوزها ولا التحكم بها من قبل دعاة الإصلاح حتى لو وجدت الرغبة والإرادة الفعلية عند القيادات الحالية. والسبب في ذلك أن الإصلاح يحتاج اليوم في البلاد العربية أكثر منه في أي مكان آخر، إلى اتخاذ قرارات صعبة تمس مصالح ثابتة وقوية ومستقرة منذ عقود طويلة كما يحمل مخاطر كبيرة داخلية وخارجية. وأول هذه القرارات هي مواجهة الفساد المستشري في الحكم والإدارة وتضييق الخناق على أولئك الذين جعلوا من الموارد العامة موارد شخصية. ومنها أيضا معالجة التناقض الحقيقي بين متطلبات الإصلاح والتنمية وترتيب البيوت الداخلية من جهة ومتطلبات مواجهة الضغوط والتهديدات والتدخلات الخارجية. وهو ما يعني خوض معركتين في الوقت نفسه وعلى جبهتين متنافرتين تماما والتوفيق الصعب بين أهداف الاستقرار السياسي والاستراتيجي الضروري لتوطين الاستثمارات وجذبها وأهداف الحفاظ على الحد الأدنى من استقلالية الحركة والقرار واتساق السياسات التنموية عبر خطط يحتاج تطبيقها إلى فترات زمنية طويلة نسبيا. وكما يتطلب مشروع الاصلاح والتنمية تركيز الجهود الرئيسية على توفير شروط الاستثمار يحتاج الاستمرار والاستقرار السيطرة على اللعبة الإقليمية واحتواء التقلبات الخارجية الاقليمية والدولية. وهو ما يطرح مسألة الأسلوب الأنجع للتعامل مع حالة الحرب المعلنة أو الكامنة مع المعسكر الأمريكي الاسرائيلي. ولا تهدف الضغوط و التهديدات الاسرائيلية والأمريكية المستمرة للعديد من الدول العربية المطالبة بالاصلاح إلى شيء آخر سوى زعزعة الاستقرار لتقويض نظمها وإجهاض مشاريع الاصلاح المنشود فيها. وكما يبدو لي أن من الصعب على الحكومات العربية أن تعطي الأولوية للتنمية وتنسى التهديدات الاسرائيلية التي تقوض شرعيتها يبدو لي أنه من الصعب على هذه الحكومات أيضا أن تغض الطرف عن هذه التهديدات وتتصرف كما لو أنها غير موجودة وتعطي الأولوية لمشاريع الاصلاح الداخلية. فالتركيز على المسألة الوطنية يزيد من التوترات الإقليمية ويساهم في زعزعة الاستقرار وبالتالي إعاقة مسيرة الاصلاح والتنمية في حين أن التركيز على مسائل التنمية والاصلاح وتجاهل التهديدات الخارجية يجعل الحكومات تبدو في نظر شعوبها وكأنها تعد نفسها للاستسلام والتسليم بالمشاريع الاستعمارية.
والمأزق الثاني هو الناشيء عن التناقض بين حاجات الاصلاح إلى مكافحة حقيقية وسريعة للفساد أوعلى الأٌقل إلى تقليص انتشاره من جهة وحاجات النظام في بقائه لاستمرار الاعتماد على الولاءات الحزبية والعائلية والزبائنية عموما. وقد دلت السنوات الماضية على أن الفئات الفاسدة كانت أكثر قدرة على فهم منطق النظام والاستفادة منه لتضاعف من نشاطها في العديد من البلاد العربية بدل أن تحد منها. بل ربما أدى الحديث عن الحرب ضد الفساد مع غياب إرادة العمل الجدي وعدم توفير الشروط السياسية والاجتماعية والقانونية الضرورية لتحقيقها قد دفع إلى تفاقم الظاهرة أكثر من قبل. وربما ساد شعور قوي لدى أصحاب المصالح من بيرقراطيين فاسدين ومحاسيب وأزلام للنظم بأن هذه هي الفرصة الأخيرة لتكوين رساميل أسطورية أو لتعزيز المتراكم منها. وفي عديد الحالات قامت شبكات المصالح الخاصة، في سبيل قطع الطريق على إرادة الاصلاح الضعيفة والمترددة، بالسيطرة على الدولة وتحييد مؤسساتها تماما وإلغائها او شلها ومعها جميع القواعد والمعايير القانونية والأعراف الإدارية الطبيعية التي لا يمكن لدولة أن تقوم وتستمر من دونها. وهكذا لم يعد هناك وجود حقيقي للدولة بوصفها مؤسسة عمومية وتحولت إلى غلاف أو غلالة خفيفة لا تكاد تخفي ما يتلاعب بها من زعامات تعمل بمنطق الولاء وعصابات لا وجه لها تعمل لحسابها وبالتفاهم معها.
إن حكومة ديمقراطية تمثيلية مسلحة بدعم شعبي حقيقي هي وحدها التي تستطيع أن تتخذ القرارات الحاسمة من دون أن تخاف من نتائجها وتحدد الاولويات وتوفق بينها من دون أن تتهم بالعمالة الأجنبية أو بالمزاودة الوطنية على حساب مصالح المجتمعات وحياتها. واعتمادا على الصفة التمثيلية والصدقية التي تحظى بها بوصفها بالفعل حكومات لا يمكن التشكيك بشرعيتها، تستطيع هذه الحكومات وحدها أن توقف منطق الابتزاز المدمر بالاصلاح والديمقراطية الذي أصبحت القوى الأجنبية، وفي طليعتها الولايات المتحدة وإسرائيل، تستخدمه لتفرض على الحكومات الراهنة تنازلات لا تمس سيادة الدول وصورتها الخارجية فحسب وإنما سيادتها الداخلية ذاتها. ولم يبق إلا أن توظف مندوبا ساميا في كل دولة عربية لضمان أمنها ومصالحها في الحرب ضد الارهاب ومن أجل الديمقراطية والتنمية واحترام المرأة وغير ذلك من النقاط الموضوعة على برنامج التغيير من الخارج.
ولذلك يبدو لي أن ما تطالب به النظم القائمة أو أغلبها من الاحتفاظ بسلطة مركزية قوية، حتى من دون أـن تكون تعسفية خاضعة لقانون الطواريء والأحكام العرفية، لا يمكن أن يفيد في هذه المرحلة الدولة ولا أن يعزز مكانتها أو أن يزيد من قدرتها على المناورة الخارجية والداخلية. إنه يساهم بشكل أكبر في إخضاعها وتركيعها من قبل القوى الخارجية كما يعطي فرصة جديدة لمجموعة المصالح الخاصة التي تسيطر عليها باسم الولاءات الحزبية أو العائلية أو العشائرية أو المحسوبية للاستمرار في نهبها المتواصل للموارد العامة. ومن هنا لا يعني التمسك باحتكار السلطة وشموليتها ورفضها الخضوع لقاعدة القانون نشوء دولة قوية بل سلطة وطنية متماسكة ولكن العكس تماما: دولة مرعوبة مفتقرة للإرادة والقوة معا وسلطة مفككة تنخرها نزاعات المصالح الفئوية الزبائنية التي تنهش فيها. وفي ما وراء المظاهر الخادعة، ليس ما نراه أمامنا سوى تلاشي الدولة من حيث هي حضور فعلي وحي للمؤسسات التي تتحكم بالعلاقات الشخصية وتخضعها لمنطق موضوعي يساوي بين الأفراد وينظم علاقاتهم على أسس قانونية لحساب النظام الذي يقوم على مباديء حزبية أو تحزبية تلغي بنيته الوطنية وتجعله إطارا لتآلف المصالح العشائرية والعائلية والزبائنية.
ومن هنا لا أعتقد بأهمية النقد الذي غالبا ما توجهه المعارضات العربية للنظم القائمة وتركز فيه على تحكم السلطة التنفيذية بالسلطات التشريعية والقضائية وإخضاعها لها. و ليس من الصحيح في نظري أن المشكلة كامنة في قوة السلطة التنفيذية للدولة. الصحيح أن سلطة الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية معا معدومة لصالح سلطة ممثلي المصالح التي تتقاسم موارد الدول وصلاحياتها، وهم متمركزون داخل الأجهزة الأمنية والحزبية والنقابية التي تتصرف كميليشيات مستقلة عن الدولة وغير خاضعة لقانونها، مثل ما هم متمركزين خارجها وبمحازاتها. فهذه هي القوى التي تستفيد من تركيز سلطة الدولة وليس الأمة أو الشعب عموما، ولصالح هذه النخب ولخدمة أهدافها يعمل إلغاء التعددية والحياة السياسية من البلاد وليس لصالح الدولة. فالمشكلة لا تنبع هنا من وجود دولة قوية قادرة على مركزة القرار والمبادرة السريعة ولكن في غياب الدولة ومصادرة سلطتها المركزية جدا والقاسية جدا من قبل جماعات المصالح ولتحقيق أهداف ومشاريع خاصة متناقضة تماما مع مصالح بناء الدولة والحفاظ على الامة معا.
إن الابقاء على نظام السلطة المطلقة الاحتكارية والتعسفية بدل أن يعزز قوة الدولة ويساهم في ايجاد قرار مركزي يساهم في نجاح الاصلاح والسياسات التنموية، يزيد هنا، بعكس ما يدعي أنصار الابقاء على نظام الأمر الواقع، من تغول أصحاب المصالح الخاصة والضيقة على الدولة ويكرس تحييد المؤسسات وتهميشها. و.بمعنى ثان إن الاصلاح يحتاج، قبل أي شيء آخر، لتحرير الدولة من سيطرة المصالح العصبوية التي تنخرها وجعلها دولة مؤسسية وقانونية أولا، تفكر بمنطق وطني وتعمل لصالح المواطنين جميعا وتتحلى بروح المسؤولية وبرؤية شمولية للمصالح العامة والبعيدة. ولا يمكن لهذا أن يحصل من دون العودة إلى المجتمع عبر آليات التمثيل الديمقراطية التي تشكل في هذه المرحلة الانتقالية الوسيلة الوحيدة لتحرير الدولة أو إعادة بنائها

الديمقراطية الأمريكية وإعادة بناء علاقات السيطرة شبه الاستعمارية


لا أعتقد أن خطاب الإدارة الأمريكية الجديد حول التحويل الديمقراطي والاصلاح في البلاد العربية دعاية فارغة ولا خدعة لفظية لا تهدف إلا إلى ضمان تأييد العرب لمشاريعها الامبرطورية في احتلال العراق وتطبيع العلاقات العربية الاسرائيلية من دون تحقيق مطالب الدولة الفلسطينية والانسحاب من الأراضي المحتلة. وفي نظري أن الباعث على الحديث عن مبادرات ديمقراطية للعالم العربي موجود في مكان آخر غير الدفاع المباشر عن المصالح المادية والسياسية والاستراتيجية التي تحدثنا عنها. إنه يكمن في الاقتناع الصحيح بأن النظم العربية قد أخفقت في تحقيق أي هدف من الاهداف التي لا بد منها لاستقرار الشعوب والمجتمعات والبلدان، سواء ما تعلق منها بالتنمية الاقتصادية أو العدالة الاجتماعية أو بناء الأنظمة السياسية الشرعية، وأن النتيجة الطبيعية لهذا الإخفاق هو تدهور شروط الحياة العربية وتفاقم البطالة والفقر ومن ورائهما تنامي التناقضات والنزاعات الداخلية وبالتالي انفجار أزمة تاريخية طويلة لا يمكن لأحد أن يتنبأ بمآلها ولا بعواقبها على المصالح الأمريكية والغربية والاسرائيلية عموما، بل وعلى استقرار الشرق الأوسط والقدرة على حكمه والسيطرة عليه. وعلى هامش هذه الأزمة الطاحنة والسائرة حتما نحو التفاقم مع توليد المزيد من التعصب والتوتر والاقتتال والعنف لا يبدو في المشهد السياسي أحد، أعني فاعل جمعي يقف على رجليه أو يبدو كذلك ويقدر على التدخل لتثمير الأحداث ودفعها في اتجاه واضح على الأقل من وجهة نظره سوى القوى الاسلامية التي تمتح من معين المشاعر والاعتقادات والتقاليد الجمعية الدينية والمدنية معا. وأمام تفكك هذا النظام الشرق أوسطي ومخاطره الكبيرة على تدفق النفط الطبيعي وسلام وأمن إسرائيل وانتشار أسلحة الدمار الشامل إن لم يكن استخدامها من قبل مجموعات منظمة صغيرة واتساع دائرة ما يسمى اليوم بالارهاب لا يسع الولايات المتحدة ولا بلدان المعسكر الصناعي الأخرى التي تدعمها وتقف ورائها، حتى عندما تختلف معها في الخطط التكتيكية، إلا أن تتدخل مباشرة في عين المكان لتعيد ترتيب الأوضاع وتقطع الطريق على أي مفاجآت أو تطورات غير متوقعه ومهددة للمصالح الغربية.
هكذا يعقتد الأمريكيون والغربيون عموما أن سبب الإخفاق الخطير الذي تشهده المنطقة في جميع المستويات والذي يحمل تهديدات لا يمكن تجاهلها للمصالح الغربية هو سوء حكم وإدارة النخب العربية الحاكمة وأن من المستحيل درء مخاطر الإخفاق الشامل في المنطقة من وضع حد لما أصبح يبدو عمليات سطو جماعي مسلحة على موارد البلاد وسكانها أكثر مما يبدو سياسات مدنية وعقلانية مستمدة من حاجات بناء المجتمعات وضمان عمل المؤسسات وتكوين الدول الفاعلة. إن ما تهدف إليه واشنطن من الحديث عن الديمقراطية هو القفز علىى برنامج الاصلاح الذي أصبح برنامجا عربيا شعبيا والتظاهر بتبنيه لتبرئة نفسها من مسؤولية الوضع الكارثي القائم وانتزاع المبادرة في توجيه وقيادة المرحلة القادمة التي ستخلف مرحلة تفكك النظم العربية القائمة. وهكذا تريد الولايات المتحدة التي كانت الداعم الأول لنظم الحكم اللاشعبية باسم الحفاظ على الاستقرار أن تظهر بمظهر الشريك الأول للشعوب العربية في السعي نحو الخروج من الأزمة. والمضمون الحقيقي لمشروعات الاصلاح الأمريكية هو لا أكثر ولا أقل من إعادة تشكيل النظم والنخب العربية بما يحقق استعادة زمام الأمور في منطقة استثنائية في موقعها وقيمتها الاستراتيجية، أي بما يضمن الحفاظ على المصالح الحيوية الأمريكية الأوروبية. ولا يمكن تحقيق ذلك في نظر التحالف الغربي إلا بوضع حد لسياسات الهدر والاستهتار والانفلات القانوني والإداري التي تشكل اليوم أكبر تهديد للاستقرار وبوقف مسار التدهور المعنوي والمادي والسياسي وإنقاذ الوضع الشرق أوسطي من وجهة نظر الولايات المتحدة وحلفائها من كوارث محققة. ولا شك أن الديمقراطية بما تعنيه من الاعتراف بحد أدنى من الحريات والتعددية للشعوب العربية وتأكيد معنى المسؤولية والمحاسبة السياسية تشكل اليوم أحد العناوين الأساسية إن لم تكن العنوان الرئيسي لأي برنامج إصلاح عربي.
لكن لا ينبغي أن نفهم من المشروع الأمريكي لنشر الديمقراطية في البلاد العربية إعادة السيادة للشعب والقبول بمطالبه وجعل السلطة العمومية ممثلة بالفعل لمصالحه وتوجهاته. فالولايات المتحدة لا تزال تنظر إلى الشعوب العربية على أنها شعوب بدائية ضعيفة التكوين الروحي والفكري والسياسي لا يمكن الإطمئنان لها أو السيطرة عليها. إن ما يهدف إليه هو بالأحرى وضع الأنظمة أو النخب العربية التي تدين ببقائها وتدعيمها للولايات المتحدة تحت الوصاية المباشرة للمعلم وحرمانها من التصرف بحرية بما أصبح يبدو لها، من بلاد وعباد وثروات وموارد وطنية، وكأنه من أملاكها الخاصة وحكرا قائما عليها. أي في الواقع وضع حد لعربدتها الداخلية الاستثنائية. وهو من قبيل وصاية الأب على الولد الجاهل والفاسد والقاصر معا.

يطمح الحلفاء، والأمريكيون على رأسهم، أن يحقق لهم نظام الوصاية الجديد الذي يزمعون فرضه على العالم العربي إشرافا أفضل على مسار التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في المنطقة والقيادة شبه المباشرة لها بعد أن خرجت أو كادت تخرج في نظرهم عن السيطرة. فالاصلاحات السياسية والاقتصادية والإدارية هي التي تضمن في نظرهم منع برميل البارود الذي هو العالم العربي برمته من الانفجار وتدمير كثير من المصالح حوله. كما يطمحون أيضا، من خلال إدخال درجات أكبر من الشفافية على النظم السياسية الجديدة أو المجددة، ضمان النفاذ بشكل أفضل إلى سلطة القرار والتحكم به عن قرب ومنع حصول تطورات خطيرة لا يمكن التحكم بنتائجها، مثل تطوير اسلحة الدمار الشامل. وهم يطمحون كذلك إلى تقريب الطبقات الوسطى لإضفاء طابع من الاستقرار على النظام الجديد أو المجدد وذلك من خلال تأمين شكل من أشكال التعددية السياسية وضمان الحريات الفردية الأساسية. باختصار إنهم يريدون شراء المجتمعات العربية أو طبقاتها الوسطى ونخبها الرئيسية لضمان استمرار أطول واستقرار أكثر وأقوى مقابل الإبقاء على ما ينبغي تسميته نظام السيطرة المشتركة العربية الأمريكية. وبهذا المعنى قلت إن هدف ديمقراطيتهم الليبرالية الفردوية هو قطع الطريق على الديمقراطية الحقيقية التمثيلية التي تعترف بسيادة الشعب والمجتمع وتعبر عن طموحاته وأهدافه وآماله الجمعية.
لكن في ما وراء وضع الوصاية الأمريكية المباشرة تشكل إعادة بناء وترسيخ قواعد النظام الشرق أوسطي شبه الاستعماري الذي يشكل جزءا تابعا للنظام الغربي منذ الحرب العالمية الثانية الوسيلة الوحيدة أيضا لقطع الطريق على أي تحول حقيقي نحو سيطرة الشعوب العربية على مقدراتها الحقيقية، أي نحو ديمقراطية تضمن تقرير المجتمعات لمصيرها فعلا من دون ضغوط ولا قيود ولا تدخلات أجنبية. إنها تعني الحفاظ على نظام التدخلات الأجنبية التي طبعت مصير الشرق العربي وحددت اتجاهات تطور نظمه وعمليات استتباع نخبه في الوقت نفسه خلال العقود الطويلة الماضية بعد انقضاء حقبة التحرر من السيطرة الاستعمارية.
ومع ذلك يمثل هذا الوضع تقدما بالمقارنة مع الوضع السابق الذي أطلقت فيه الولايات المتحدة يد الفئات الحاكمة في البلاد العربية طالما بقيت هذه الفئات منسجمة مع استراتيجياتها الإقليمية، سواء أعلنت تحالفها معها أم لا. فهو يعني حدا أفضل من تطبيق المعايير الدولية والمراقبة الخارجية وبالتالي نوعا ما من المحاسبة كما يعني حدا أدنى من احترام القانون والحقوق والحريات الفردية. والأهم من ذلك في نظري أن هذا النظام الذي يعاني من الانهيار والتفتت اليوم لن لن يمكن إصلاحه لا من قبل الولايات المتحدة ولا من قبل غيرها. وسوف تنقلب أي إجراءات ديمقراطية مهما كانت ضعيفة على أصحابها. لن ينجح الأمريكيون في نظري في إعادة الحياة إلى نظام الشرق الأوسط الخنوع والخاضع والتابع لهم ولن يفيدهم ترقيعه في شيء. وهذا يعني أن الأمريكيين ووكلاءهم المباشرين وغير المباشرين يعيشون في مأزق سواء أنجحوا في فرض التجديد والاصلاح على النظم التي رعوها في العقود الماضية وانكشفت عورتها اليوم للعامة والخاصة أو لم ينجحوا واضطروا إلى التعامل مع ازمة النظم العربية المتفجرة بوسائل وطرائق أخرى، بما فيها ربما الحرب المستمرة.
من هنا، لا ينبغي التقليل أيضا من أثر التأكيد العالمي، والأمريكي منه بشكل خاص، على مأزق الأنظمة العربية وافتقارها للديمقراطية واحترام الانسان. فالواقع أن استقرار الاستبداد ذاته لم يحصل في البلاد العربية إلا بسبب الصمت والتغطية على اننهاكات الأنظمة العربية لجميع التزاماتها تجاه مواطنبها من قبل الدول الغربية، وبالتالي بسبب ثقة النخب الحاكمة بأنها منسجمة في سياساتها القمعية مع الاستراتيجية الأوروبية الأمريكية. ولذلك فهي تشعر اليوم بالضياع ولا تفهم شيئا مما يحصل حولها بعد تغيير الولايات المتحدة خطابها وإظهارها ميولا مختلفة لمعالجة معضلات الأوضاع الشرق أوسطية. ولا شك أن حديث الإدارة الأمريكية عن المبادرات الديمقراطية يزعزع استقرار هذه الأنظمة أو بالأحرى يساهم في تعميق زعزعتها لأنه يحرمها من الغطاء السياسي الخارجي الأساسي والذي لا غنى لها عنه في استمرارها للتعويض عن غياب التأييد أو الشرعية الشعبية والانتخابية. وهذا ما يفسر أنها بالرغم من كل ما حصل ومن كل المبادرات الأمريكية حول الديمقراطية والاصلاح لا تزال معظم النخب الحاكمة الحائرة والمنكوبة تتأمل خيرا وتراهن على الوقت لإقناع الولايات المتحدة بالتراجع عن خططها والعودة إلى رشدها، أي إلى التعاون والتفاهم مع النظم القائمة لقاء التنازلات العربية المطلوبة.
ومهما كان الأمر، ليس لدينا أي سبب لرفض أي تحولات ديمقراطية مهما كان الباعث لها. بل نحن الذين كنا ولا نزال نتهم الدول الغربية بخيانة مبادئها باستمرار ودعم الاستبداد والنظم اللاشعبية في المنطقة. ولا يمكن أن نطالبهم اليوم بالعودة عن خطابهم وتأكيد موقفهم التقليدي من جديد. لكننا نقول لهم أولا أن الحديث عن تعميم الديمقراطية في المنطقة لا يمكن أن يستقيم وأن يكون حقيقيا طالما لم تربط الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون مثل هذه المبادرات بايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية واليوم لقضية احتلال العراق. كما لا يمكن أن يستقيم ثانيا ما لم تغير الولايات المتحدة والغرب بشكل عام من نظرتهما لطبيعة مصالحهما في المنطقة ومن اعتقادهما بأن ضمان هذه المصالح لا يمكن أن يتحقق بالتفاهم مع شعوبها ولكن بإخضاعهم وتأمين السيطرة المباشرة عليهم، أي بحرمانهم من حقهم في المشاركة الفعلية في التعبير عن مصالحهم، سواء أجاء هذا الاعتقاد نتيجة الشك في المجتمعات الاسلامية وقدرتها على التعامل مع معايير الحضارة العصرية أو بسبب الخوف من أن يؤدي تسليمها مقاليد أمورها إلى صعود نخب إسلامية معادية للغرب في معظم البلاد العربية.
ليس هناك إذن ما يمكن أن يوحي بالثقة بأن المبادرة الأمريكية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط ليست مجرد وسيلة للتغطية على إرادة السيطرة أو التمديد لها في المنطقة ولحرف نظر الشعوب العربية عن المسائل الخطيرة العالقة بين العرب والأمريكيين وفي مقدمها المسألة الفلسطينية. وبالرغم من الحديث المكرور عن الاصلاح بل ربما بسببه فإن هناك شكوكا كبيرة حول جديه الولايات المتحدة. ومن الممكن أن لا تكون جميع هذه المبادرات سوى وسيلة لذر اللرماد في العيون وللضغط على النظم العربية حتى تستجيب بشكل أكبر للمطالب الأمريكية. فإلى جانب الإرادة الضعيفة التي تظهرها واشنطن تجاه زبائنها من النظم العربية هناك من دون شك الحسابات المعقدة أيضا في التوفيق بين المصالح القريبة والبعيدة. ثم إنه لا شيء يؤكد أن لدى واشنطن القدرة، بالرغم من كل شيء، على مواجهة النخب التي أطلقت يدها خلال عقود طويلة في البلاد العربية والتي استشرست وأتقنت اللعب على كل الحبال واستخدام جميع وسائل المراوغة والتحايل والخديعة، بما فيها الحروب الأهلية، لقطع الطريق على أي تغيير يحد من نفوذها أو يهددها بالتخلي عن ممتلكاتها، أعني عن الدول التي تسيطر عليها كإقطاعات القرون الوسطى القديمة مع كل شعوبها ومواردها. وكلها مستعدة لتفجير هذه الدول ودفعها نحو الهاوية بكل الوسائل إذا كانت النتيجة المتوقعه لأي إصلاح إخراجها من جنتها وحرمانها من ثمراتها بل تقليم أظافرها.
والخوف كل الخوف أن تنجح المخاوف الأمريكية من الانفتاح السياسي والمراوغة التقليدية للنخب المتسلطة على الدول والبلدان في الدفع نحو توقيع صفقة جديدة، وهذا هو المرجح في نظري، بين الفئات الحاكمة والإدارة الأمريكية الراهنة أو القادمة تكون نتيجتها التضحية المشتركة بالديمقراطية، أي بالمصالح الشعبية، مقابل التزام الدول الصناعية بتقديم مساعدات كبيرة اقتصادية وأمنية للنظم الحالية وقبول الأخيرة بتنازلات كبيرة في مسائل الاستقلال والسيادة والهوية الوطنية والتمسك بحل عادل للمسألة الفلسطينية وبآفاق التنمية المستقلة والوحدة والتحرر من السيطرة والاحتلال الأجنبيين. لا يمنع هذا بالتأكيد القيام ببعض الإصلاحات الشكلية لإقامة واجهة من التعددية السياسية العقيمة والحريات الفردية الفارغة لكنه يضمن إعادة بناء النظام الشرق أوسطي القديم وتجديد الشراكة التقليدية بين النخب الحاكمة والتحالف الغربي على الأسس ذاتها التي ضمنت في الماضي حرمان الشعوب العربية من الحرية والمشاركة والسيادة وبالتالي من التنمية، أي الاستمرار في الإحياء الاصطناعي لدول فارغة من أي مضمون سوى التغطية على المصالح الخاصة والعمل كوكالات للشركات والدول الأجنبية.