jeudi, février 26, 2004

في أصل الخلاف العربي الأمريكي على الاصلاح


كان من المنطقي، في مواجهة تدخل الدول الأجنبية في الشؤون الداخلية، أن ينطلق رفض المبادرات الخارجية من قوى المعارضة التي تدرك أن هذه المبادرات لا تهدف في النهاية إلى شيء آخر سوى إعادة بناء الأنظمة نفسها لكن على أسس جديدة أو بالأحرى على أسس معدلة تسمح بامتصاص التناقضات والتوترات التي أنتجتها في العقود الماضية، في الوقت الذي ينبغي فيه أن ينفتح باب تداول السلطة وتغيير النظم القائمة التي أثبتت إخفاقها في تحديث المجتمعات والدول العربية وفي حماية الاستقلال والموارد الوطنية. أما أن تكون المبادرة في رفض الاصلاحات التي تطالب بها الدول الأطلسية من قبل العواصم العربية فهو يشكل مفاجأة بكل المعايير. وليس هناك أي منطق يمكن أن تستخدمه هذه العواصم لرفض الاصلاحات الغربية المطلوبة. فلو كان الأمر هو رفض التدخل الخارجي بسببها ما الذي منع النظم ولا يزال يمنعها من القيام هي نفسها البارحة أو اليوم بالاصلاحات التي تتفق أو لا تتفق مع ما تدعو إليه العواصم الأجنبية ؟ فلو قامت الحكومات العربية بهذه الاصلاحات التي يطالب بها العالم اليوم، وقبل أي طرف آخر، الشعوب العربية، حتى لو كان ذلك بالطريقة التدريجية والأكثر بطئا ممكنا، لما اضطرت إلى أن تجد نفسها مفاجأة بالمبادرات الأجنبية التي تفرض عليها وتيرة تعتقد هي أنها أسرع مما تحتمل من دون أن تبين الوتيرة التي تريدها لهذه الاصلاحات ولا أن تحدد الاصلاحات التي تقبل بها.
ثم هل هناك تناقض فعلي بين المشاريع الأمريكية وتلك التي تدعي العروبة في مسألة الاصلاح؟ هل يختلف تحرير الاقتصاد الذي أخذت به الحكومات العربية جميعا وما يتبعه من مفاوضات للدخول في مناطق التجارة الحرة والانتساب لمنظمة التجارة العالمية عن التحرير الذي تطالب به الولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل لدى الحكومات العربية برامج لاصلاح التعليم والإدارة والقوانين التي تختص بتحسين شروط مساهمة المرأة في الحياة العمومية تختلف عن تلك التي تقترحها الدول الأجنبية. وهل تفترح هذه الدول بالفعل برامج إصلاحية مفصلة ودقيقة بحيث تحرم الحكومات العربية من أي هامش لوضع برامج تضمن من خلالها مصالح الدول والمجتمعات التي تحكمها؟
الواقع أن مشاريع الاصلاح الأجنبية لا تهدف إلى شيء آخر سوى ضمان استمرار الأنظمة وإنقاذها من خطر الانهيار بفعل التفسخ والفساد المستشري والمستمر الناجم عن الاستهانة بالمصالح العمومية من قبل الفئات الحاكمة و تداخل السلطات السياسية بالسلطات الاقتصادية وتغول أصحاب الولاء والنسب والحظوة على موارد الدولة والمصالح العمومية. فلا تطالب واشنطن أحدا بوضع المفاتيح على الباب والخروج لترك الحكم لفئات أخرى أكثر جدارة وإخلاصا للمصالح الوطنية. إنها تطلب من حكومات كانت هي نفسها قد أطلقت يدها في شعوبها وغضت النظر عن تجاوزاتها لعقود ستة متتالية على حد قول الرئيس الأمريكي ، بأن تعيد النظر بسياساتها وتعدل من أسلوبها في الحكم الذي قام ولا يزال على الاستبعاد الكامل للشعب من الحياة السياسية ووضعه تحت الوصاية الكاملة وقيادته بالأوامر العسكرية لدرجة تكاد تزول فيه، في العديد من المجتمعات العربية، مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة والقانون التي لا يمكن للمجتمعات أن تقوم وتستمر من دونها، أقول إن تعيد النظر بهذه السياسات حتي يمكن تجاوز الأزمة التاريخية العميقة والتغلب على مخاطر التطرف والارهاب والعنف الذي تختزنه الشعوب العربية بعد نصف قرن من الإذل والإهانات الداخلية والخارجية والقهر اليومي بالجملة وبالتفصيل.
أن ما تخشاه النظم العربية في المبادرات الاجنبية لا يتعلق بالاصلاحات الاقتصادية والإدارية والتعليمية. بل إن هذه النظم هي التي تطلب مساعدة الدول الأجنبية في منع التدهور الشامل في الأوضاع كما تطالبها بالتدخل لوقف الاعتداءات الاسرائيلية وكما كانت دائما تطالبها بالوقوف إلى جانبها ضد التطرف وحركات المعارضة الداخلية، بل تستعديها على المعارضات العربية الديمقراطية التي تقول عنها إنها أكثر عداءا للولايات المتحدة من النظم الحاكمة ذاتها. إنه يتعلق ببعض التعديلات السياسية البسيطة التي لا ترقى من قريب ولا من بعيد إلى مستوى إقامة نظم ديمقراطية بالفعل. ولو كان الامر كذلك لما كان من المفروض على الولايات المتحدة وأوروبا أن تتحدث عن إصلاح وليس الاصلاح من اختصاصها، ولكن كان عليها أن تسحب اعترافها الرسمي بالحكومات العربية وتطالبها بإجراء انتخابات حرة تحت إشراف الأمم المتحدة لفسح المجال أمام نشوء سلطة منبثقة عن الإرادة الشعبية ومعبرة عنها تقوم هي نفسها بالاصلاحات المطلوبة. لكن واشنطن تتصرف على أساس أنها شريك وحليف للحكومات العربية الراهنة وأنها مسؤولة عن هذه الحكومات وعن سياساتها وهي لا تخفي أنها تتصرف بدافع المسؤولية تجاه هذه الأنظمة التي حمت مصالحها خلال عقود طويله وفي سبيل إعادة بنائها وتأمينها.
إن ما تريده واشنطن وبروكسيل هو بكل بساطة إصلاحات سياسية تجميلية بسيطة إلى جانب الاصلاحات الاقتصادية والإدارية والتعليمية التي لا تمانع أي حكومة عربية فيها. لكن هذه الاصلاحات السياسية البسيطة التي تقوم على حد تعبير المبادرة الأمريكية على توسيع القاعدة الشعبية للنظم المغلقة ذات الطابع المافيوي، وإشراك الطبقة الوسطى في الحياة السياسية. لا تهدد النظم ولكنها تعززها وتدعمها في وجه الموجة العاتية للغضب الشعبي الذي عبر عن نفسه في الاندفاعة التي مثلتها منذ عقد الحركات الاسلامية المتطرفة والذي يعبر عن نفسه اليوم بالانتفاضات الشعبية المتفرقة وربما في المستقبل بانفجار عام. لكن، وهذا هو باب الصراع بين واشنطن راعية النظام الشرق أوسطي العام والخاص، ما ترفض النظم العربية هو أن تطال هذه الاصلاحات المسألة السياسية وتفتح الطريق بالتالي أمام احتمال تبديل بعض عناصر النخبة الحاكمة للحفاظ على النظام. فهذا هو الثمن الذي تعتقد الولايات المتحدة أنها مضطرة إلى دفعه كي تضمن الحد الأدنى من الاستمرار أو من عدم تفجر الأوضاع في المنطقة، وهو التضحية ببعض الشخصيات التي اعتمدت عليها وأخلصت لها لعقود طويلة سابقة. فهي تريد أن تعيد التأسيس لسيطرتها ونفوذها في العالم العربي من خلال تغيير جزء من الطواقم الحاكمة أو دفعها إلى تغيير سلوكها بحيث تخفف من احتكارها الخيالي للسلطة والثروة وتعترف للمجتمعات العربية بالحد الأدنى من معايير الحياة القانونية والسياسية والانسانية. وبالمقابل لا يعني رفض الاصلاح السياسي سوى تمسك النخب الحاكمة بامتيازاتها، وهو ما يبدو في مرآة الولايات المتحدة كما لو كان مطلبا عسيرا لأن هذه الامتيازات لم تعد تقوم كما كان الأمر في السابق وحتى الىن على حساب المصالح الشعبية ولكن أيضا على حساب المصالح الأمريكية الحيوية والاستراتيجية.
بالتأكيد لا يصدر موقف الولايات المتحدة هذا عن أي شعور بالعطف على الشعوب العربية وإنما عن حسابات المصالح القومية الأمريكية وحدها. فليس لدى واشنطن خيارات كثيرة كي تضمن العودة بالمنطقة إلى الحد الأدنى من الاستقرار وقطع الطريق على الانفجارات والتغييرات المفاجئة القادمة. فهي إما أن تضغط على الأنظمة القائمة كي تحد من شرهها وتترك بعض الفتات للمجتمعات المنكوبة مقابل الاستمرار في دعمها ورعايتها، أو تضغط على إسرائيل للوصول إلى تسوية سلمية مقبولة تؤهل المشرق للاندماج في دورة الاقتصاد العالمي والحصول على الاستثمارات الضرورية للبقاء أو تتخلى عن بعض مصالحها الحيوية التي تتطلب منها السيطرة المباشرة على المنطقة بأكملها وإخضاعها لجدول أعمالها القومي الاقتصادي والاستراتيجي. ومن الواضح أنه لا يوجد هناك سبب في نظر واشنطن للتضحية بمصالحها الاستراتيجية الخاصة أو بمصالح إسرائيل حليفتها الرسمية الرئيسية في المنطقة لحساب الجماعات العربية الحاكمة التي تكاد تظهر في مرآة الصحافة والدبلوماسية الغربية عموما أقرب إلى أن تكون عصابات متسلطة على شعوبها بالقوة والعنف منها إلى أن تكون حكومات تمثل رأيا عاما وتلتزم بالحد الأدنى من معايير القيادة السياسية والإدارة الصالحة والحكيمة.
إن ما ترفضه الحكومات العربية ليس التدخل في شؤونها. فهي لم تنجح في البقاء والاستمرار إلا بفضل هذا التدخل، وهي لا تكف أيضا عن المطالبة به ليل نهار لتحل مشاكلها الخاصة، وفي مقدمها مع إسرائيل وبين بعضها البعض. وما ترفضه هذه الحكومات ليس الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والتعليمية فهي تدرك أنها لن تستطيع الاستمرار في البقاء والحفاظ على المعدل ذاته من الإثراء الفاحش والابقاء على قوة البطش الأمنية المكلفة من دون المساعدات المالية والتقنية الغربية والأمريكية بشكل خاص. وهي لا تكف عن المطالبة بها والتفاوض من أجلها. إن ما ترفضه هو التنازل ليس عن الامتيازات المادية والقانونية التي راكمتها خلال عقود ماضية ولكن حتى عن امتيازات رمزية لصالح مجتمعات أصبحت تنظر إليها كعبيد ولا تقبل بأن توضع على مستوى واحد معها. إنها مستعدة للقبول بكل التنازلات مهما كانت مهينة للأمريكيين والأوروبيين وكل من تعتبرهم أسيادا مثلها، لكنها تعتقد أنها ستخسر ما ء وجهها وتفقد وجودها نفسه إذا قبلت ولو للحظة واحدة أن تعترف بشعوبها وتقبل بأن تعاملها كصاحبة إرادة ومسؤولية. وهذا هو جوهر المسألة الاصلاحية ومشكلة النظم القائمة الحقيقية.

Aucun commentaire: